عبْر مدونات سردية وشعرية وفنية عديدة كان الشتاء متناً قرائياً باذخاً وفسحةً متاحة للتأمل. وليس غريباً قولنا إنه يشكِّل عند بعض منا، نوعاً من الحنين الجميل في النفس الكاتبة والقارئة على حد سواء، وفي شرقنا العربي بخاصة، إذ تشكّل قراءة كتاب ما، شعراً أو رواية، قرب موقد، في ركن منعزل من المنزل، ترفاً برجوازياً عند البعض. ونرى كيف يحرص مصممو المباني الحديثة في بلادنا الحارة، على إبراز الموقد في صالات الاستقبال وإسباغ هيئة القِدم عليه، من خلال الحجر والملاط. صورة النار وتقافز ألسنة اللهب وطقطقة الحطب وانبعاث الدفء عوالم تبعث في الروح الإنسانية إحساساً يخلُّ بحركة الجسم والنفس معاً، ويحرّك فيها مكامن الحُب والأُلفة والشعور بالطمأنينة، ويصعّد من درجات التذوق والإحساس بالجَمال، إذ ليس في الأرض روحٌ لا تنجذب إلى الممالك هذه. وبمعنى ما، فإنَّ نفوسنا -نحن أبناء المدن القاريّة، قليلة المطر- إنما تتحرق شوقاً للشتاء وعوالمه.
يعزو نُقَّاد الشعر حزن بدر شاكر السياب، الشاعر، في (أنشودة المطر): “…أتعلمينَ أيَّ حزنٍ يبعثُ المطر!!” إلى الطبيعة الطينية الموحلة في الجنوب العراقي، في الوقت الذي يجزم الفيزيائيون فيه على أنَّ المطر طاقة فضلى في تطهير وتنظيف الأمكنة والهالات البشرية، وأنه يعمل على تنشيط الألوان، الأزرق بخاصة، الذي يُعدُّ مصدر الهدوء وتبلور الأفكار.
ومعلوم أنَّ الناس تنشرح صدورها لقدوم الشتاء، ومشهد المطر عبر نافذة الزجاج لهو مما يحرص كلُّ ذي همٍّ كتابي وقرائي على معاينته ويتوق لرؤيته العامة، أيضاً. أما إذا اجتمع الموقد والمطر والكتاب في لحظة إنسانية، فذلك مما تهفو النفوس له، وتشتد الحاجة فيه إلى التفكير والقراءة والكتابة والرسم وسماع الموسيقى. هل كان شتاء أوروبا واحداً من أسباب غزارة وأهمية نتاجها الإبداعي، أظنُّ، أنْ، نعم.
وفي العودة إلى فنون الروي، نجد أنَّ الموقد مكان سردي والنار حكاية عن هرم وشيخوخة الأشجار وانبعاث الرماد خاتمة ومغادرة، محفوفة بالأحلام والأخيلة إلى السرير. لذا، كانت حكاية الجدّات المتن الروائي الأول، وهي الحرف الشعري الأول، الذي يُضمره الطفل ويتمنى قوله الحالمُ، وما حبّات المطر التي تتسّاقط خلف الكوخ والريح التي تُعوّل في البرية وعواء الذئاب في الغابة إلا الخلفية الجميلة للحكاية الأولى تلك، للقصيدة الأولى، هلّا خرجت جنيات شكسبير من غير ذلك؟ ألم يقل بدر: “ونار أوقدتْ في ليلةِ القرِّ الشتائية/ يدندنُ حولها القصّاصُ يُحكي أنَّ جنّيه..” ليس بيننا من لم يسمع في مهده حكاية شتوية، حكاية نسجتها امرأة له، وتخللها برد ومطر وظلام ونباح كلاب .. أجئنا للعالم من قرية أو من مدينة، فإننا سنكون بحاجة إلى حكاية شتوية دائماً.
كثيراً ما تطالعنا صور الشعراء والكتَّاب والفلاسفة بخلفيات موقدية (من الموقد) هنالك نار تستعر صامتة، وفي جانب من المكان نجد الحطب، أغصان لأشجار صفّت بعناية، وغالباً ما تقع أعيننا على كتاب هبط من أرفف المكتبة، وتُصفِحَ بأناة، ولا نعدم الحائط من احتوائه على لوحة شتوية، غابة ماطرة أو عربة موحلة بحصان يتصبب عرقاً. الشتاء في الأمكنة كلها، في شرق وغرب الأرض معنى من معاني الكتابة والتذوق الجمالي. تحرص اللوحة الفنية ذات الأجواء الماطرة على ألاَّ تمنحنا صورة نهائية، إذ غالباً ما تحجب المظلات وجوه النساء والرجال، هي تزحزح قناعتنا بالوقت، فلا ظلال ظاهرة ولا مسافات معلنة.. وقد تتماهى العلاقات داخل اللوحة أو خارجها فلا يُرى منها إلا أخيلة بذراعين تتقاطعان بعيداً، في طريق ستظل إلى الأبد بلا ملامح معلنة.