أصبح وجود المياه المعبأة في محلات البقالة أمراً بديهياً وطبيعياً، حتى أنه ما عاد يثير أي سؤال في ذهن المتسوق، علماً بأن السؤال الذي تطرحه هذه القناني البلاستيكية التي تباع بأسعار زهيدة هو أكبر وأخطر من بساطة مظهرها: كيف يمكن بيع الماء وهو يجري مشاعاً للجميع من الينابيع إلى الأنهار التي لا تعد ولا تحصى.. وأكثر من ذلك، هل يجوز أخلاقياً بيع الماء، وهو هبة من الله لكل كائن حي؟
في بحثه عن الأجوبة، يقودنا تامر محمود إلى جذور هذه الصناعة المتنامية عالمياً، والجذور تبدو منغرسة عميقاً في قضية ذات طابع بيئي أولاً وأخيراً.
قد تبدو أسعار المياه المعبأة زهيدة بالمقارنة مع باقي السلع الغذائية، حتى أن الكثيرين لا يحسبون حسابها. ولكن الواقع هو أنها اليوم حكر على المحظوظين القادرين على الوصول إليها، ودفع أثمانها، استناداً إلى أرقام الهيئات التابعة للأمم المتحدة.
تقول هذه الأرقام إن 5.1 مليون إنسان يموتون سنوياً من جرَّاء إصابتهم بأمراض انتقلت إليهم من خلال مياه الشرب (وهذا الرقم في ازدياد مستمر). وتشير دراسات أخرى، على سبيل المثال، إلى أن 90 في المئة من المياه المبتذلة في إفريقيا يجري تصريفها في الأنهار من دون معالجة، مما تسبب في تلوث 75 في المئة من أنهار القارة، ووفاة مليوني طفل سنوياً. وجدير بالذكر أن عدد الأطفال الذين قضوا، على مستوى العالم، بسبب شرب مياه ملوثة، قد فاق عدد قتلاهم من جرَّاء النزاعات المسلحة منذ الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم.
الاستهتار..
بين الحروب والاستهلاك
فعلى الرغم من أن كمية المياه العذبة، التي يفترض نظرياً أن تكون صالحة للشرب لا تزيد على 3 في المئة من مجمل المياه التي تغطي سطح الأرض (لأن 97 في المئة منها مالحة)، فإن استهتار الإنسان يخفض كمية المياه العذبة باستمرار.
ففي النزاعات المسلحة هناك فاتورة كبيرة من المياه تدفع من دون ضجيج إعلامي كبير. إذ أدت النزاعات التي نشبت في يوغوسلافيا السابقة إلى تلويث مياه نهر الدانوب. وخلال حرب الخليج الأولى تعرضت سدود العراق الثمانية للقصف، ودمرت أربع مضخات رئيسة للمياه من أصل سبع و31 منشأة لتوزيع مياه الشرب ومعالجة مياه الصرف الصحي، مما أدى إلى تحويل مياه الصرف الصحي إلى نهر دجلة. والمثل الثالث وليس الأخير، يأتينا من رواندا. فخلال الإبادة الجماعية التي عرفتها تلك البلاد أدى إلقاء آلاف الجثث في الآبار والأنهار إلى تلوث مصادر المياه، وهلاك الآلاف إما عطشاً وإما من جرَّاء شربهم لهذه المياه الملوثة.
وبعيداً عن العبث المباشر، أدى الاستهلاك الكبير (الجائز أو الجائر) إلى نفاد مخزونات المياه الجوفية كما هو حال مناطق شاسعة من أستراليا، وبعض أنحاء الشرق الأوسط. وفي أمريكا، تتوقع «وكالة حماية البيئة» أن تعاني ست وثلاثون ولاية أمريكية من نقص في المياه بحلول العام 2013م، أي بعد سنوات أربع فقط، مع احتمال وصول النقص إلى مستوى «القحط» في شرق البلاد وجنوبها. إذ ليس لدى ولاية نيو مكسيكو احتياطي من الماء يكفيها لأكثر من السنوات العشر المقبلة، في حين تستورد ولاية أريزونا الصحراوية اليوم وبالفعل كل ما تشربه.
والأدهى مما سبق هو ما تتوقعه الأمم المتحدة على صعيد العالم بأسره، ومفاده أنه بحلول العام 2025م، ستحل هذه الكارثة المفزعة باثنين من كل ثلاثة أشخاص في العالم. وتستند هذه التوقعات المخيفة إلى جملة ملاحظات حول واقع المياه العذبة حالياً في عدد من بقاع العالم، ونذكر منها على سبيل الأمثلة ما يأتي:
•
في روسيا أصبح 75 في المئة من المياه السطحية و30 في المئة من المياه الجوفية ملوثاً، إلى درجة تجعله غير صالح للاستهلاك البشري.
•
من أصل أكبر خمسين نهراً في أوروبا، هناك خمسة أنهر فقط لا تزال تحتفظ بنقاء مائها.
•
بحيرات إفريقيا البالغ عددها 677 بحيرة، أصبحت كلها ملوثة.
•
بحيرة تشاد تقلَّصت بمقدار 90 في المئة بسبب الجفاف.
•
في إيطاليا، جف وادي نهر البو الذي كان يتكفل بري ثلث الزراعة في إيطاليا.
•
في الصين تلوث نحو 80 في المئة من أنهار البلاد إلى مستوى انعدام الحياة المائية في معظمها.
•
في باكستان، يحظى 25 في المئة فقط من السكان بمياه نظيفة.
وإضافة إلى تلوث مواطن المياه العذبة، يواجه توزيع مياه الشرب في المدن مشكلة على صعيد آخر. فإذا كانت محطات التصفية والتكرير قادرة على معالجة بعض جوانب التلوث، وإعادة المياه صالحة للشرب، فإن معظم مدن العالم التي بنت شبكات سحب المياه قبل أكثر من خمسين عاماً باتت تعاني من أضرار في هذه الشبكات التي تآكلها الصدأ، فصارت مصدراً لتسرب المياه منها، وتسلل الأوساخ والجراثيم إليها، بحيث ما عادت المياه التي تصل إلى المنازل آمنة للشرب، وصار استعمالها يقتصر على الغسل والتنظيف وري المزروعات.
وفي السباق ما بين نمو المدن (وخاصة في العالم الثالث) من جهة، وقدرات الجهات الحكومية على إنشاء ما يكفي من محطات التكرير وتحديث شبكات سحب المياه إلى المنازل، يبدو أن الهوة لا تزال تزداد اتساعاً. فتكاثرت مصانع تعبئة المياه في قناني بلاستيكية تراوحت في أحجامها ما بين ربع الليتر أو أقل، وعشرين ليتراً.. وظهرت خدمات التوصيل إلى المنازل. ويشير نمو هذه الصناعة وتطور خدماتها إلى أن مستقبلها مضمون العوائد خلال المستقبل المنظور وربما حتى ما بعده.
لماذا اللجوء إلى المياه المعبأة؟
تتعدد الأجوبة عن هذا السؤال، غير أن أكثرها شيوعاً هو ما يقول: «نشربها لأنها نقية وخالية من الأحياء الدقيقة المسببة للأمراض». ولكن السؤال هو ما إذا كان هذا القول دقيق بالقدر الكافي ويمكن تعميمه.
ففي عام 2000م، أجرت دراسة جامعية مقارنة بين 57 عينة «من زجاجات المياه المعبأة» وبين مياه الصنبور العادية بولاية كليفلاند. فأتت نتائج الدراسة كما يلي: احتوت دزينة على الأقل من المياه المعبأة التي شملها التحليل على عشرة أضعاف المحتوى البكتيري الموجود بعينة مياه الصنبور العادية. (تجدر الإشارة هنا إلى احتمال ضَعف التمثيل البكتيري ابتداءً بعينات المياه المعبأة، ثم تكاثرها بهذا الشكل فيما بعد نتيجةً لوجود بيئة دافئة خصبة لتكاثر هذه الكائنات الدقيقة بالعبوات المغلقة).
وفي دراسة أخرى أجريت في العام نفسه، وجد «مجلس حماية المصادر الطبيعية» (NRDC) أن العد البكتيري في عينات بعض العلامات التجارية المنتِجة لهذه المياه، بلغ حداً يتجاوز المقبول به.
وفي عام 2004م، عمدت «الجمعية الأمريكية لعلوم البكتيريا» (The American society of Microbiology)، إلى اختبار 68 نوعاً مختلفاً من المياه المعدنية المطروحة بالسـوق الأمريكية، لتجد أن 40 في المئة من العينات التي درستها تحتوي إما على بكتيريا أو فطريات، فيما مثلت 21 عيِّنة من العينات المفحوصة بيئة معززة للتكاثر البكتيري معملياً.
وتجدر الإشارة هنا أيضاً إلى أنه ليس بالضرورة أن يشكِّل هذا المحتوى البكتيري خطراً على صحة الإنسان، فقد يكون وقد لا يكون. فقد استوفت العينات المفحوصة جميعاً المعايير التي رصدتها الحكومة الأمريكية. أي أنك لن تمرض من شرب هذه المياه.
ولكن، عندما يمرض جمعٌ من الناس لتلوثٍ بمياه الصنبور يعلمُ الآخرون بذلك. أما بالنسبة للأمر مع المياه المعبأة، فمنظومة الإعلام أكثر تعتيماً أو ميوعة في التعامل معه. إذ لم يسبق أن سُجلت حالات إصابة مرضية من جراء شرب مياه معبأة بالولايات المتحدة، وإن أوردت السجلات مئات الحالات التي سحبت فيها شركات مياه معبأة عبواتها من الأسواق الأمريكية. وهناك وفرة زاخرة من التقارير عن ارتباط حالات مرضية بشرب مياه معبأة بإفريقيا وآسيا والقارة الأوروبية. فإمـا أننا عوفينا بالكلية، وإما أن الأمر نفسه حدث بالولايات المتحدة ولم يعرف به الناس أو لم يمكن القطع بالعلاقة بين ظهور الحالات المرضية وبين شرب المياه المعبأة. بل وحتى إن حدث وسُحبت العبوات من الأسواق، فغالباً ما تصل وسائل الإعلام متأخرة.
يقول التقرير الذي أصـدرته مؤسـسة الرقـابة الدولية أو (worldwide watch): قد يُعاد سحب العبوات في أغلب الأحوال بعد مرور 15 شهراً من إنتاج وطرح وبيع المياه المسببة للمشكلات بالأسواق. ربما، يكون الكلام طيباً ومطمئناً، ولكن إن كنت تظن أنك طبقاً لما تقرأه على لاصق زجاجات مياه الشرب المعبأة بصورها المبهرة، أنك تشرب مياه طبيعية نقية، أتتك دون مخالطة من منبعها البكر، فستصاب بالإحباط..! تسأل لماذا؟ حسناً إليك الجواب.
نقاء المياه..
موضع سؤال
تشير الاختبارات أحياناً، إلى وجود ملوثات بعبواتٍ مرت عليها فترة من تاريخ الإنتاج (قد تطول لعامين). هذه الملوثات يشار إليها بالحرفين اللاتينيين «ND» أي لم يتم اكتشافها (Not detected) بالحد الأدنى من الفحوصات التي أجرتها الشركات المنتجة. وهذه الملوثات لم تأت من المياه ذاتها، وإنما أتت من العبوات البلاستيكية التي تحويها. حيث تصنع أغلب عبوات المياه المعبأة من مادة البولي إيثيلين تيريفاثاليت أو (polyethylene terephathalate) المعروفة بـ «PET» اختصاراً. هذه المادة عبارة عن أحد البوليميرات المشتقة من البترول، أضيفت إليها مواد أخرى لإكسابها المرونة واللون والمتانة. وفي عام 2006م، اكتشف ويليام شايتوك عالم الكيمياء الجيولوجية بجامعة هايدبيرج أن عنصر «الإثمد» أو (Antimony)، يدخل كعامل حفز بعمليات تصنيع العنصر السابق PET، وتبين له أنه يختلط بمياه الشرب الموجودة داخل العبوات. أما تناول جرعات صغيرة من هذا العنصر فتسبب الإصابة بالدوار وفتور النشاط الوظيفي، وأما إن كانت الجرعات كبيرة، فتسبب الغثيان والقيء وربما الوفاة…!.
تجدر الإشارة هنا إلى ضآلة مقادير PET التي اكتشفها شايتوك أولاً مقارنة بالتي حددتها المعايير الحكومية، لكن هذه المقادير تزايدت بتطاول الفترة التي مكثتها المياه بالعبوات. حيث احتوت العبوات بُعيد الانتهاء من تعبئتها على 160 جزءاً في التريليون (في حين تسمح الولايات المتحدة بوجود 6000 جزء في التريليون بماء الصنبور). لكن المقدار المذكور لم يبق ثابتاً، إذ تضاعف بعد مرور ثلاثة شهور، ثم تضاعف مرة أخرى في غضون ثلاثة أشهر أخرى (مع بقائها لذلك الحين أدنى من المعيار المقبول). ولقد عثر علماء أمريكيون على 38 مادة كيميائية في عبوات 10 من شركات تعبئة المياه، ومن ضمنها مياه الشركات التي تعبئ مياه الصنبور العادية وتبيعها بالأسواق. حيث أظهرت الاختبارات التي أجرتها مجموعة العمل البيئي، وهي منظمة مقرها واشنطن، أن قناني المياه المعبأة، من أشهر الماركات، تحتوي على أنواع من الملوثات من ضمنها مواد كيميائية تسبب السرطان بنسبة تزيد ثلاث مرات على المستوى الذي حددته سلطات ولاية كاليفورنيا الصحية.
وقالت المنظمة التي تضم علماء وخبراء طالبوا بوضع ضوابط صارمة للمراقبة على المنتجات بتقرير لها صدر في 15 أكتوبر الماضي، إن هذه النتائج تدحض الرأي السائد بين أفراد الجمهور بكون المياه المعبأة أنقى من مياه الصنبور. كما أظهرت الاختبارات وجود أنواع من بكتيريا كولاي المعوية، وآثار من الكافيين، ومن الأسيتامينوفين وهو عقار مخفف للألم، ومن السماد العضوي، والمذيبات، والمواد الكيميائية المستعملة في صناعة البلاستيك، وعنصر السترونيوم المشع. علما بأن هؤلاء البحاثة قد استمروا في إجراء هذه الاختبارات على مدار عامين، وشملت قناني المياه المعبأة التي تم ابتياعُها من شتى الولايات الأمريكية ككاليفورنيا وكارولينا الشمالية وفرجينيا وماريلاند وديلاوير.
وقد قال الدكتور ديفيد كاربنتر مدير معهد الصحة والبيئة في جامعة نيويورك بألبانيا الذي شارك بالدراسة، أن أخطر الملوثات تمثلت في مركبات الترايهالوميثان (trihalomethanes). وهي مركبات قد تسبب أمراض السرطان وفقاً لما تشير له الأبحاث، مضيفاً أن مسـتوياتها التي وُجدت بقناني المياه المعبأة كانت غير مقبولة.
كان هذا باختصار حال المياه المعبأة (مُكوِناً وعبوةً) في واحدة من أرقى دول العالم وأحرصها على سلامة مواطنيها وصحتهم، تُرىَ ما هو حال المياه المعبأة بالوطن العربي؟
لنبدأ بمصر. حيث كشف سعيد الألفي، رئيس الجمعية المصرية لحماية المستهلك، عن دراسة أجرتها الجمعية بالتعاون مع وزارة الصحة لفحص عينات لواحد وعشرين نوعاً من مياه الشرب المعبأة، خلصت إلى وجود محتوىً بكتيري بالعبوات، وإلى وجود مخالفة للبيانات المدونة على سبعة أنواع أخرى للمكونات الفعلية للمياه بداخلها مع بقاء صلاحيتها. كـان ذلك بالعام 2007م، فما حال 2008م؟. في هذا العام الأخير، أحال رشيد محمد رشيد وزير التجارة والصناعة المصري أربع شركات للمياه الطبيعية المعبأة إلى النيابة العامة للتحقيق معها بشأن عدم صلاحية منتجاتها للاستهلاك، وذلك فى تصعيد جديد لأزمة المياه المعبأة التي نشبت بين الشركات العاملة بالسوق والحكومة المصرية. وقال رشيد في تصريح له إن قرار إحالة الشركات الأربع إلى النيابة العامة جاء بناءً على تحليل العينات التي أثبتت عدم صلاحية الشركات الأربع وأوقفت خطوط إنتاجها. كما أصدر الوزير المصري قراراً بإلزام جميع المنشآت الصناعية المنتجة للمياه الطبيعية المعبأة بتطبيق أعلى نظام عالمي لجودة وسلامة المياه وهو «الهاسب» المستخدم عالمياً والمتوافق مع مواصفات هيئة دستور الأغذية الدولية.
وفي السعودية، قال الدكتور صالح عبدالله كابلي وكيل كلية العلوم للدراسات العليا والبحث العلمي إن المياه بالمملكة تعبأ بقنانٍ بلاستيكية يعاد استخدامها أكثر مـن مرة، وهو ما يجعلها أكثر خطورة، وتجرى عليها دراسات معمقة لتحديد مدى هذه الخطورة وطبيعة التلوث الحاصل. وكانت دراسة علمية منشورة، مبنية على تحليل 82 عيِّنة أجراها الدكتور أسعد ابن بكر مفتي، قد كشفت عن وجود بعض العينات غير الصالحة للاستهلاك. في حين أكدت دراسة أخرى قدَّمها مدير إدارة حماية البيئة في الهيئة الملكية بينبع، الدكتور أحمد بن سعيد باجحلان في ملتقى أبحاث المدينة المنورة الأول الذي عقد العام الماضي، أن نسبة تسرب مادة «الستايرين» (وهي مادة تتسرب من البلاستيك المستخدم في تعبئة مياه الشرب وتتفاعل مع المياه نفسها) قد تجاوزت المعايير والمواصفات التي وضعتها كل من الهيئة الملكية ومنظمة الصحة العالمية.
الإنصاف..
يقضي بالاعتراف
ولكن لو تركنا جانباً بعض الحالات القصوى في عدم نقاء المياه المعبأة، أو الغش في صناعتها التي تحمل الصفة الجرمية، فإن الإنصاف يقضي بالاعتراف بأنها عموماً تبقى أفضل من مياه الصنبور، خاصة في بعض بلدان العالم الثالث حيث تنعدم الرقابة الدقيقة، وأفضل بكثير من المياه الجارية من الينابيع والأنهار، لأن هذه تتطلب فحصاً دورياً يضمن نقاءها وصلاحيتها المهددة في أي وقت.
ويقول أنصار المياه المعبأة (وهم على حق) أنه لو توافرت لبلد مثل زيمبابوي كمية كافية من المياه المعبأة، لما تفشَّى فيه وباء الكوليرا بالشكل المأساوي الذي ضرب آلاف الناس هناك قبل أشهر معدودة.
كلفة التعبئة
بالانتقال إلى كلفة المياه المعبأة، نشير إلى أن تصنيع قنينة واحدة وتعبئتها يتطلب من الماء ما بين ضعفي وثلاثة أضعاف مقدار المياه الموجودة بداخلها. وإضافة إلى هذا الهدر في الماء لتعبئة ماء آخر، تتطلب هذه الصناعة استهلاكاً كبيراً من الموارد الطبيعية الأخرى، وأهمها النفط. ففي عام 2006م وحده، تطلَّب تصنيع عبوات المياه البلاستيكية في الولايات المتحدة الأمريكية إنتاج مليون طن من مادة PET، وهذا ما استهلك سبعة عشر مليون برميل من النفط.
ومقابل كل قنينة مياه نستهلكها، نكون قد استهلكنا بشكل غير مباشر ما يعادل ربعها من البترول، ما بين اللازم منه لتصنيع العبوة، واللازم للنقل والشحن.
إلى ذلك نضيف أن إنتاج طن واحد من مادة PET، يؤدي إلى انبعاث ثلاثة أطنان من ثاني أكسيد الكربون في الهواء. الأمر الذي يضع هذه الصناعة تحت مجهر المراقبة (خاصة بعد اتفاقية كيوتو). وطبقاً لـ «مؤسسة السياسات الاقتصادية» (EPI) ينتج العالم حالياً نحو 2.7 مليون طن سنوياً من البلاستيك المستخدم في التعبئة. أما بعد شرب المياه، فتنتقل هذه الكمية من البلاستيك إلى جوف التربة حيث تستغرق عملية تحللها ما بين 400 و1000 سنة. فهل تساوي زجاجات الماء المعلب هذا الثمن؟
لتلافي المشكلة..
وليس لحلها
«نعم».. يقول الكثيرون وهم يتطلعون إلى الاحتمالات المتوافرة حولهم في حياتهم اليومية. فالماء المعلَّب هو أفضل الموجود في متناول أيديهم، أو أهون الشرور.. فهو حل لمشكلة اليوم.. ولكن، مما تقدم، لا يبدو الماء المعلَّب حلاً لمشكلات المستقبل. إذ ليس هناك ما يبشِّر بأن فقراء العالم سيصبحون بعد سنوات قادرين على تحمل تكلفته التي سترتفع باستمرار. وإذا استمر الإنسان في تلويث مصادر المياه على النحو الحالي، فلا شيء يضمن بقاء ينابيع نظيفة لتعبئة المياه مستقبلاً. وبالتالي، يمكن اختصار واقع المياه المعبأة على أنه حل مؤقت لتلافي مواجهة مشكلة ملحة. أما أساس المشكلة فلا حل له غير الحل النظري البسيط: حماية الأنهار والمياه الجوفية من التلوث. والأمر ممكن. قد يكون للأمر تكلفة مادية باهظة، ولكن عوائده ستكون ولا شك أكبر. ليس على الصعيد الاقتصادي فقط، بل أيضاً على الصعيد البيئي، وقبله على الصعيد الأخلاقي.
فالحصول على الماء مجاناً حق من حقوق الإنسان الأولية، لأنه شرط طبيعي للحياة، وهو هبة من الله لهذا الإنسان. والمشكلة التي نواجهها اليوم في العالم بأسره على هذا الصعيد، تعود في أساسها إلى التنكر لهذا الحق، وإلى عبث البعض بالأنهار وبالمياه الجوفية مستهتراً بها، ومعتدياً بذلك على حق الآخرين في الحياة من خلال اعتدائه على مياه الشرب. ويصبح لزاماً عليه وعلى الآخرين أن يشتروا الماء.. إذ إن سوء التصرف البيئي هو ما أدى إلى ظهور مثل هذا الحل المؤقت المثير للجدل أخلاقياً، لمشكلة لا حل عملياً لها في الوقت الراهن.