خلال شهر كامل، عاش العالم بأسره على إيقاع كرة القدم، فكانت الملاعب الألمانية قبلة أنظار العالم وقلوبه أيضاً.
شهر كامل من الشغف الذي كان ينطلق تكراراً من ملعب ما في ألمانيا، لينتشر بسرعة الضوء في العالم بأسره، بدءاً ببيوت الصفيح في أفقر دول العالم الثالث وصولاً إلى قصور الأثرياء في الدول الغنية وقادتها، ليلهب العواطف ويثير الحماسة ويسيل دموع الفرح أو الخيبة.
المونديال.. هذا المهرجان العالمي الذي يتكرر كل سنوات أربع، بات منذ زمن طويل أكبر من أن يختصر بوصفه بطولة العالم لكرة القدم. وهو اليوم، كما تجلّى في ألمانيا، أو بالأحرى في العالم بأسره انطلاقاً من ألمانيا، يكتسب اهتماماً عالمياً أكبر بكثير من أن تحصر دلالاته وآثاره في الملاعب.
إنه مولّد طاقة تحرِّك دفعة واحدة جملة أمور لا رابط بينها تبدأ بالعواطف الحميمة في نفس الفرد، وتنتهي بالسياسات الاقتصادية للدول وكبار المستثمرين مروراً بالثقافة والصناعة.
واليوم، وبعودة الهدوء إلى الملاعب بانتظار المونديال المقبل، يأخذنا محمد العمودي، وديع عبدالنور، وعبود عطية في جولة تتضمن قراءات لبعض أوجه «حضارة المونديال»، منها ما يعزِّز انطباعات سابقة، ومنها ما هو خاص بمونديال 2006م، ومنها ما يحاول أن يستشرف مستقبل هذه الرياضة التي أصبحت فعلاً بحجم العالم نفسه.
مهرجان الاجتهاد والبراعة
والقوة المسالمة والانتماء إلى العالم الحي
بأي شيء يمكن تشبيه المونديال؟
والجواب: ما من شيء يشبه المونديال، ولا حتى الألعاب الأولمبية. فعلى الرغم من أن كل دول العالم تشارك في الألعاب الأولمبية، في حين أن اثنتين وثلاثين دولة فقط تتمثل في المونديال، يستقطب هذا الأخير اهتماماً عالمياً ومتابعة محمومة لا تعرف الألعاب الأولمبية إلا جزءاً يسيراً منها، وغالباً في إطار الاستعراض الثقافي الضخم عند افتتاحها فقط.
إذ ارتقى مونديال 2006م بمفاهيم الانتماء والمشاركة، الراسخين أصلاً، إلى مستويات غير مسبوقة، لا في المناسبات الرياضية، ولا في أي نشاط إنساني عالمي آخر. وبسبب ضخامة مستلزمات الاستجابة لهذا الالتفاف العالمي حول نشاط رياضي واحد، أصبح تنظيمه واستضافته صناعة بحد ذاتها، لا تقدر على القيام بأعبائها (ومن ثم جني ثمارها) غير الدول ذوات الاقتصادات الكبرى.
فمن أين يبدأ تفسير أحجية المونديال التي تتضمن مئة سؤال وسؤال؟
المشاركة.. نعرف كيف بدأت
أما الحجم فمسألة أخرى
يظهر الإعلان التلفزيوني الذي وزَّعه الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) لمناسبة مونديال 2006م، شاباً وحيداً على أحد المدرَّجات يصيح ويقفز حماساً، ومن ثم يلتفت حواليه خائباً ليرى أنه بمفرده. ومن ثم يختتم الإعلان بالتساؤل: «ما نفع كرة القدم من دون مشاركة؟».
هذا الإعلان هو في الواقع خطاب يلخّص جزءاً كبيراً من الأحجية ويجيب عنها. فروح المشاركة هي التي غذّت هذه اللعبة، ومن ثم عادت لتتغذى منها، بحيث إن المتفرج بات عنصراً مكملاً للثلاثية التي تقوم عليها كرة القدم: الكرة، واللاعب، والجمهور.
يُروى أنه في العام 1868م، وبعدما كانت كرة القدم قد عُرفت جيداً في إنجلترا وبعض دول العالم كالصين، التي كانت لها كرة قدم مختلفة لا يجب فيها أن تمسّ الكرة الأرض، اجتمع بعض أبناء الأرستقراطيين الإنجليز في مكتبة بودليان التابعة لجامعة أوكسفورد، ووضعوا أول كتيب يضم قوانين كرة القدم التي تتحدر منها اللعبة بقوانينها الحالية. وفي غضون أعوام قليلة، باتت كرة القدم تستقطب جمهوراً معيناً. لكن أبناء الطبقة العمالية في لا نكشاير عدّلوا هذه القوانين «وعاثوا فيها فساداً». وفجأة بلغ جمهور مباراة كرة القدم 50 ألف متفرج جاءوا لتشجيع فريق ضد فريق آخر، فكانت أولى بذور عصبية المدرَّجات والملاعب وحالات الشغب والتشفي..
وخلال قرن ونصف قرن من الزمان نمت هذه البذور لتصبح غابة من العواطف والانفعالات تغطي العالم بأسره، تعزِّزها وسائل الإعلام الفضائية والنقل المباشر وشروحات المعلقين الذين أصبحوا صنفاً مستقلاً من الإعلاميين لا يقل أهمية -في موسم المونديال- عن كبار نجوم الصحافة والسياسة. ففي تعليقه على مونديال 2006م، قال رئيس الاتحاد الدولي، السويسري جوزف بلاتر، إنه «لم يحدث من قبل أن نُظِّم مثل هذا الحدث بهذا الشكل العالمي وتلك المشاعر المتدفقة». وعلى مدى شهر كامل كانت وسائل الإعلام تتناقل أخبار طرائف عجية وغريبة حول هوس العالم بالمونديال.
فقبل أيام من انطلاق المباريات، أثار مندوب زامبيا لوف ميتسا في منظمة التجارة العالمية قضية المونديال لافتاً إلى أنه «من الحيوي جداً أن تنهي المنظمة اجتماعاتها قبل الساعة الرابعة عصراً خلال شهر المونديال كي يتسنّى لممثلي الوفود مشاهدتها عبر التلفزيون». ولقي اقتراحه إجماعاً سريعاً. أما المدير العام للمنظمة باسكال لامي فقد كانت له وجهة نظر أخرى، إذ أعلن أنه يفضّل التوصل إلى اتفاق على الخطوط الرئيسة لإبرام اتفاق عالمي شامل لتحرير التجارة في إطار مفاوضات الدوحة قبل بدء المباريات «لأنها يمكن أن تأخذ حيزاً من تركيز الوفود».
الجاذبية.. بعضها في نسيج اللعبة
والواقع أن قسماً كبيراً من جاذبية كرة القدم يعود إلى شكل اللعبة نفسها. فمبدأها بسيط للغاية. ولكن إيصال الكرة إلى شباك الفريق الخصم أصبح بالرغم من بساطته الخالدة يتطلب تضافر عوامل في غاية التعقيد وعلى مستوى من الضخامة والتنوع بحيث بات توافرها في فريق معين إنجازاً عالمياً.
البراعة في المناورة التي تتطلَّب وضع خطط واستراتيجيات صارت اختصاصاً لا يبرع فيه غير حفنة من الأفراد يُسمّون المدربين، والقوة الجسمانية التي تتطلَّب اجتهاداً وصقلاً تتضافر عليه التمارين والطب والتغذية لصياغة جبال من العضلات وعظام من الإسمنت، والشحن العاطفي والنفسي تضامناً داخل الفريق الواحد ضد الخصم، وسرعة البديهة في استغلال الفرص لخطف الكرة، أو لتحقيق هدف، أو لإنقاذ المرمى من كرة تطير بسرعة الصاروخ.
فعندما يتابع المشاهد مباراة في كرة القدم، فإنما يتابع عملياً استعراضاً لمجموعة من الصفات المصنفة ضمن «الفضائل» في الوجدان الإنساني عموماً: الصحة الممتازة الممثلة برجال أشداء يتحدَّون الجاذبية، يتناطحون ويرتطمون ببعضهم وكأن أجسامهم من فولاذ، والذكاء، والاجتهاد، والإصرار على تحقيق النجاح والتفوق، وكل ذلك في إطار وإن تميَّز بالسيادة المطلقة للقوة فإن هذه القوة تبقى سلمية ونقيضاً للأشكال القبيحة من القوة وممارساتها التي تنقلها إلينا وسائل الإعلام يومياً من كل أصقاع الأرض بما فيه من حروب وجرائم ومظالم.
إلى ذلك تمثّل هذه اللعبة قدرة الإنسان على تجاوز العادي، من خلال سيطرته على الكرة وتوجيهها حيثما شاء وكيفما يريد بقدمه أو رأسه اللذين لم يخلقا لهذه المهمة. وفي هذا إبداع يختلف عن بقية الرياضات، والمتابع يدرك هذا، وإن لم يستطع أن يعبّر عنه بوضوح. كما أن قلة الأهداف التي يمكن تحقيقها في لعبة كرة القدم مقارنة برياضات أخرى ككرة السلة أو اليد، فإنها تزيد من حدة المنافسة، وبالتالي من انفعال المتابع لها.
ترويج الآمال أم الأوهام.. لا فرق
ولا يمكن للحديث عن جاذبية اللعبة بحد ذاتها أن يكتمل من دون الإشارة إلى عامل «الأمل».. أمل الضعيف في أن يصبح قوياً، وأمل الفقير في أن يصبح ثرياً، وأمل المستفرد في أن يصبح جزءاً من المجموعة الكبرى.
يمكن للبعض أن يرى هذا الأمل أقرب إلى «الوهم»، بدليل أن لائحة أبطال المونديال تكاد تعد على أصابع اليد الواحدة: البرازيل وألمانيا والأرجنتين وإنجلترا وفرنسا والأوروغواي وإيطاليا. وكان «بناء» المنتخبات القادرة على الفوز بكأس العالم صار صناعة لا تقوى على توافر مقوماتها إلا حفنة معدودة من الدول. أما غالبية الناس فتقدم قراءة أخرى.
ففي حين أن نتائج الألعاب الأولمبية تعكس تفوق الدول الصناعية الكبرى، فتخطف الولايات المتحدة الأمريكية حصة الأسد من الميداليات، ويتبعها في ذلك ألمانيا وروسيا وأستراليا.. فإن هذه السيطرة تختل تماماً في ميزان كرة القدم. فها هي غانا الإفريقية تهزم الولايات المتحدة بهدف مقابل لا شيء.
وقبل أكثر من عشرين سنة، توقع بيليه أن تفوز دولة إفريقية بكأس العالم في مطلع الألفية الثانية. لم تتحقق هذه التوقعات، غير أن مدلولاتها كانت صحيحة إلى حد بعيد. فالمنتخبان النيجيري والكاميروني، مثلاً، أحرزا انتصارات مؤثرة في كأس العالم. ويلقي كثيرون باللوم على سوء الإدارة في بعض الدول الإفريقية بالإضافة إلى عوامل أخرى تنظيمية وثقافية، في كونها سبب تأخر تحقيق توقعات بيليه.
ولكن نجوم كرة القدم من أبناء أمريكا اللاتينية هم الذين يعزِّزون الآمال والتفاؤل بالقدرة على النجاح على الصعيد الفردي الذي يخاطب الطموحات القابعة في نفس كل إنسان. فمعظم هؤلاء النجوم العالميين ولدوا وترعرعوا في الأحياء الشعبية الفقيرة. ألم يدغدغ مارادونا أحلام فقراء العالم بأسره عندما روى أنه بدأ مسيرته من خلال اللعب مع فتيان حارته بعبوات المشروبات الغازية الفارغة بدلاً من الكرة لفقرهم؟
«رحلة النجاح» كما تمثلها كرة القدم تبدأ بحلم صغير بالبطولة والإنجاز والفخر، يرعاه الصبي في داخله، وربما كان فتيان الدول الفقيرة أكثر تمسكاً بهذا الحلم من غيرهم، حتى في الدول التي لم يقترب منتخبها من المونديال. فالكل يذكر المظاهرات الصاخبة التي قامت في بنغلاديش ضد قرار «الفيفا» باستبعاد مارادونا من مونديال 1994م نتيجة لاستخدامه المنشطات.
كروية العالم وقريته
يروي أحد المقيمين العرب في المملكة العربية السعودية أنه كان يتابع مباراة البرتغال وإنجلترا على التلفزيون السويسري الناطق بالفرنسية. ولأن الرجل من مشجعي البرتغال، ولمس انحيازاً من المعلق إلى جانب إنجلترا، انتقل إلى متابعة المباراة على التلفزيون السويسري الناطق بالإيطالية كي يشاهد المباراة من دون أن يفهم كلام المعلِّق تلافياً للغيظ الذي لم يعد يتحمله.. وتلفتنا القراءة المتأنية لهذه الرواية الصغيرة إلى أمرين كبيرين.
أولهما أن هذا المتابع العربي (مثل أي متابع آخر) يتورط عاطفياً وبسرعة تأييداً لفريق ضد آخر من دون أن تكون له أية ذرة صلة بأي منهما، ويصل التورط والشحن العاطفي إلى درجة العجز عن تحمّل الموقف الآخر.
أما الأمر الثاني فيكمن في الخلطة الفريدة من نوعها والتي تتضمن جنسية المشاهد (مصري) ومكان المتابعة (السعودية) ووسيلة المتابعة (التلفزيون السويسري الناطق بالفرنسية، والذي يقدم أيضاً فرصة المتابعة بالإيطالية)، والمباراة المتابَعة (البرتغال وإنجلترا). ومثل هذه الخلطة لا يمكنها أن تظهر بمثل هذا الوضوح إلا في بطولة العالم لكرة القدم.. الكرة التي حوّلت العالم بأسره إلى قرية.
لا أحد ينكر ما لوسائل الاتصالات والنقل التلفزيوني المباشر من دور في هذا المجال. حتى أن الكثيرين يرون أن مشاهدة المباراة على التلفزيون لا تقل إثارة عن مشاهدتها على أرض الملعب، ويدعم هؤلاء رأيهم بالإشارة إلى متابعة الكاميرا للكرة عن كثب، وإعادة بث صور الأهداف ببطء وما شابه. ولكن لا بد من الاعتراف بأن شخصية هذه اللعبة هي التي تجعل من النقل التلفزيوني صالحاً لخدمتها وليس العكس. بدليل أن رياضة الغولف مثلاً غير صالحة بتاتاً لأي نقل مباشر.
عندما أقيم كأس العالم الأول في الأوروغواي سنة 1930م، حضر مبارياته حوالي 430,000 شخص. أما مونديال 2006م فقد حضره على الملاعب نحو 3 ملايين نسمة وتابعه على شاشات التلفزيون أكثر من مليارين.
إن تطور وسائل الاتصال والنقل التلفزيوني يمكنه أن يفسِّر رقم المليارين. ولكنه لا يفسِّر الشحن العاطفي الذي أحس به كل واحد من هؤلاء المليارين.
ما يفسِّر ذلك هو حاجة الإنسان للانتماء. هذه الحاجة التي ازدادت إلحاحاً بعدما عزَّزت الحداثة فردية الإنسان المعاصر، حتى تحولت إلى عنوان مشكلة، لا يمكن مواجهتها إلا بالمشاركة.
المشاركة على صعيد الفريق اللاعب نفسه الذي لا أمل بالفوز إلا بالتعاون الكامل بين كل لاعبيه.. والمشاركة من الجمهور التي أصبحت تلعب دوراً حتى في حسم النتائج، بدليل أن الفريق اللاعب على أرضه وبين جمهوره المشجع يبدو دائماً مرشحاً للفوز.
بين العولمة وتفجُّر المشاعر القومية
ما سقناه سابقاً عن قروية العالم لمناسبة المونديال قد يبدو لوهلة منسجماً مع ما يذهب إليه بعض المنظرين الذين يرون في «العولمة» صَهراً للثقافات المختلفة وتمييعاً للحدود الفاصلة ما بينها. ولكن المراقبة السريرية الأولية لنوعية الانفعاليات العاطفية المصاحبة لمباريات المونديال تؤكد أن سببها إفرازات الغدد القومية للجماهير.
فالمونديال مهرجان للأعلام الوطنية.. الأعلام المرفوعة بكل المقاييس، والمطبوعة على الملابس، والتي تعطي ألوانها للملابس وحتى صباغ الوجه والشعر. ومن الأمثلة التي يمكن ذكرها في هذا المجال أن أحد مُصنِّعي الأعلام في وبرتال في ألمانيا يقول إنه فوجئ خلال المونديال الأخير بطلبية عاجلة لتأمين مئة ألف علم ألماني في أقل من 12 ساعة!
فالمدرَّجات صارت (وربما كانت منذ أن وجدت) منابر للتعبير عن العواطف القومية المتقدمة. وقد تتجاوز في بعض الأحيان حدود التعبير عن الولاء إلى الهوية إلى إشهار العداء السياسي للفريق الآخر. ففي مباراة الأرجنتين وبريطانيا في تصفيات كأس العالم 2002م، كانت الجماهير الإنجليزية تهتف بأهزوجة تقول في أحد مقاطعها: «أين قواتكم البحرية؟ في قاع البحر بالتأكيد!» في إشارة واضحة إلى حرب الفوكلاند التي هزمت فيها بريطانيا الأرجنتين.
وتتدرَّج مستويات الولاء والتشجيع من الأقرب إلى الأبعد على الصعد القومية والثقافية والاقتصادية وصولاً إلى التأثر بأطياف العوامل السياسية الشاحبة. وحالنا في البلاد العربية خير مثال.
فناهيك عن التشجيع المطلق من السعوديين والتونسيين لمنتخبيهم الوطنيين، كان تشجيع العرب المقيمين في السعودية للمنتخب السعودي مماثلاً في زخمه لتشجيع السعوديين. حتى أن أحدهم أقرّ بعد المباراة مع تونس أنه أحس بتأنيب الضمير في وقت لاحق لـ «الحقد» الذي أحسّ به ضد المنتخب التونسي عندما حقق هدف التعادل مع السعودية، ومرد توبيخ الضمير هو أن «التونسيين عرب مثلنا مثلهم».. أما العرب خارج السعودية وتونس فتحدثوا عن «الكرة العربية».. وهكذا تدريجاً حتى الوصول مثلاً إلى تشجيع الدول الإفريقية «لأنها فقيرة»، أو أي فريق يلعب ضد «فريق دولة استعمارية كريهة» وما إلى ذلك.
ولعل أفضل ما يسمح بقراءة واضحة من هذه الزاوية هو الفارق بين كرة القدم في مواسمها العادية والمونديال. فعلى مدى سنوات أربع، تتخاطف الأندية (الأوروبية بشكل خاص) مهارات اللاعبين من دول العالم الثالث. تدفع لهم الملايين مقابل الانضمام إليها، فتبدو بطولات الأندية في أوروبا الشمالية من خلال أسماء نجومها وكأنها بطولات إفريقية – أمريكية لاتينية.
وفي بعض دول العالم الثالث كالسنغال مثلاً، مدارس كثيرة تعد صغار اللاعبين للوصول إلى العالمية. وبعد أن تبرز الموهبة، وبالالتزام والعمل الشاق، يتحول اللاعب من هاوٍ إلى محترف لا يقوى على دفع أتعابه سوى الأغنياء.
وهكذا، خلال المباراة الافتتاحية لكأس العالم 2002م بين فرنسا والسنغال، كان معظم لاعبي المنتخب السنغالي من اللاعبين المحترفين في الأندية الفرنسية، وهم بذلك كانوا أكثر «فرنسية» من المنتخب الفرنسي نفسه، الذي كان يضم كثيراً من اللاعبين الفرنسيين المحترفين في صفوف الأندية البريطانية،
فخلال المونديال، على كل الأندية أن تعيد أبطالها إلى أوطانهم ليلعبوا تحت رايتها. وهذه الرايات هي التي تعطي المونديال نكهته العالمية المميزة عن البطولات الأخرى.
اثنتان وثلاثون دولة فقط تشارك في المونديال على ملاعبه، وأكثر من مئة وستين تشارك من خارج الملاعب. ولعل التفسير الوحيد الذي يمكنه أن يوفق في الجمع بين التفاف العالم بأسره حول نقطة واحدة ممثلة في الملعب، والإحساس بالانتماء المشترك إلى حدث واحد من جهة وتفجُّر المشاعر الوطنية من جهة أخرى، هو القول بأن المونديال يبدو اليوم أكثر من أي وقت مضى، ومن خلال تعاظم مقاييس عناصره، المناسبة والميدان العالمي الأبرز لتعلن فيه شعوب الأرض قاطبة رغبتها في التواصل مع بعضها وحاجتها الماسة إلى هذا التواصل من دون التخلي عن هوياتها وخصوصياتها. إنه العطش إلى الحضور والمشاركة والانتماء إلى الجماعة الإنسانية الكبرى.
وما هذه الكرة البيضاء الصغيرة التي تشد أبصار الإنسانية برمتها على مدى شهر كامل، إلا عنوان هذا الطموح والمسعى، أو على الأقل.. الأمل.
فقراء العالم
يشترون إنتاجهم.. غالياً
من ضمن الأرقام القياسية التي تحطمت في مونديال 2006م، كان بيع حقوق نقل المباريات تلفزيونياً بمبلغ وصل في حصيلته النهائية إلى 1.11 مليار يورو. ولأن الشركات الناقلة ليست جمعيات خيرية، كان عليها أن تبيع بالمفرق ما اشترته بالجملة.
السعوديون والمقيمون في السعودية كانوا من المحظوظين عندما أمر خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز ببث مباريات المنتخب السعودي على القنوات الأرضية لكي يتمكن الجميع من متابعتها مجاناً، بعدما كادوا أن يحرموا حتى من هذا الحق الذي هو بالنسبة إلى الكثيرين بأهمية الماء والخبز.. ولكن، وحتى في المملكة، حيث مستوى الدخل والمعيشة أعلى مما هو عليه في كثير من دول العالم، وجد الكثيرون صعوبة في دفع قيمة الاشتراك في القنوات التي تنقل المونديال. فكيف هو الحال في باقي دول العالم؟.
كيف الحال في ضواحي مدن أمريكا اللاتينية التي أعطت كرة القدم بيليه ومارادونا ورونالدو ورونالدينيو.. وأسهمت في صناعة مجد كرة القدم؟ وكيف هو الحال في إفريقيا التي وهبت هذه الرياضة من أبنائها حتى لم يعد بين الأندية الكبرى ما يخلو من عدد من اللاعبين الأبطال السُّمر، ولا المنتخبات أيضاً التي جنّست بلدانها الأبطال من ذوي الأصول الإفريقية.
وحتى آسيا البعيدة تقليدياً عن كرة القدم.. ألا يسلّم الجميع بأن متابعة الفقراء فيها لكرة القدم يضفي على هذه اللعبة زخماً وقيمة ويجعلها عالمية شاملة فعلاً؟
كرة القدم هي من ضنع فقراء العالم. ولكن هذه الصناعة وقعت في أيدي الأغنياء. وبلغ حجمها (بمصاريفها ومتطلباتها) مستويات مثيرة للقلق.
قد يكون من حق «الفيفا» أن يبيع حقوق البث التلفزيوني، وأن يسعى إلى زيادة مداخيله. ولكن ما بين المبدأ والتطبيق كما رأيناه في المونديال الأخير تبرز الإشكالية، أخلاقياً على الأقل.
ولعل القسم الأكبر من هذه الإشكالية يقع على عاتق الشركات الناقلة نفسها. فوسائل الإعلام المرئية التي تمطرنا يومياً ومجاناً بوابل من أخبار المصائب والكوارث الطبيعية والحروب، تطلب منا مالاً لكي تسمح لنا بمشاهدة شيء جميل يسعدنا أن نشاهده!!
فما هو الاتجاه المستقبلي لهذا الأمر؟ على الاتحاد الدولي والدول المنظمة والشركات الناقلة أن تتدبر حلاً. والحل لا يمكن أن يكون إلا بعقلنة اقتصاد كرة القدم» وتخفيض الأرقام.. كل الأرقام. وإلا هناك حل آخر سيفرض نفسه رغم الجميع: تطوير وسائل قرصنة البث الفضائي وتخفيض أسعارها.. المنخفضة أصلاً.
مـع المعلِّقين العـرب فـي «مونديال» 2006
بعضهم يزيد متعة المشاهد، وبعضهم يتطفَّل عليه
قبل نحو نصف قرن، كان عشاق كرة القدم العرب يتابعون بطولات العالم عبر الصحافة المطبوعة فيلاحقون أخبار النتائج أولاً بأول، وتحليلات المعلِّقين الدوليين، التي تنشر بعض الصحف العربية مقتطفات موجزة منها، مع بعض الصور أحياناً.
وكان القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية، على الأرجح، أول إذاعة باللغة العربية تبث وصفاً حياً لبعض المباريات المهمة، منذ أن فجّرت ألمانيا مفاجأة الحصول على لقبها المونديالي الأول في سويسرا عام 1954م. ولعل مونديال العام 1962م، الذي أقيم في تشيلي، كان الأول، الذي حظي فيه المتفرجون العرب، في بعض البلدان العربية، بنقل حي لبعض مبارياته المهمة، من خلال التلفزيون، بالأبيض والأسود.
وليس من باب الحنين فقط تُذكر خصوصية التعليق الإذاعي على مباريات المونديال، قبل انتشار البث التلفزيوني بشكل متدرج في البلاد العربية. ففي تلك الفترة، لمع نجم المعلِّقَين الرياضيَين موسى بشوتي وأكرم صالح، متابعين تجربة الوصف الإذاعي المثير لمباريات كرة القدم، الذي كان قد دشنه المعلقون المصريون، وأشهرهم الكابتن لطيف. وتميز ذلك العصر بحتمية أن يكون المعلق الإذاعي على مباريات كرة القدم (في المونديال وسواه) عاشقاً لكرة القدم، ومرجعاً أكاديمياً في تاريخها وفنونها وأسرارها، حتى ينقل إلى المستمع الذي يتابع فقط من خلال حاسة السمع كل الانفعالات الجياشة التي تزخر بها المباريات المهمة بالذات، وكل فنون اللعب القائم.
وقبل التطرق إلى التغيير الكامل الذي فرضه البث التلفزيوني على فنون التعليق على المباريات، لا بد من الإشارة إلى أن التعليق الصوتي في عصر البث الإذاعي كان العنصر الوحيد الذي يربط المستمع المتابع بمجريات المباراة، أما في عصر البث التلفزيوني فإن تعليق المعلقين قد تراجع إلى الصف الثاني، وأصبح العنصر الأول الذي يشد المشاهد هو الصورة الملونة، التي تصنعها عشرات الكاميرات، وكل واحدة منها تلاحق المشهد من زاوية محددة. يضاف إلى ذلك، احتمال الإعادة الفورية لأي مشهد كروي مثير، لزيادة الاستمتاع بالمشهد أولاً، ولزيادة الدقة في ملاحقة الخطأ أو احتمال الخطأ، إلى درجة أصبح معها بوسع المشاهد، بفضل هذه التقنيات، أن يصدر حكماً مباشراً على حكم المباراة، إذا كان قد أخطأ في قراره أم أصاب.
وهكذا، وبفضل كل هذه التطورات، أصبح دور المعلق التلفزيوني، محصوراً في مجال خدمة المشهد البصري والسمعي، الذي توصله التقنيات مباشرة من الملعب إلى المشاهد، بمعلومات إضافية، بعضها آنٍ، له علاقة مباشرة بأحداث المباراة المنقولة، مثل التعريف السريع باسم اللاعب الذي أطلق الكرة، واسم اللاعب الذي تلقاها، أو لفت المشاهد (خاصة الهاوي قليل الدراية بأسرار كرة القدم)، إلى جماليات نقلة كروية متقنة، أو إلى تصرف مفعم بالروح الرياضية لأحد اللاعبين، أو تصرف يفتقر إلى الروح الرياضية للاعب آخر، وما شابه ذلك.
كذلك، أصبح للمعلق الرياضي دور آخر، يتعلق بخلفيات المباراة التي ينقلها، وخلفيات الفريقين المتواجهين، وكيفية وصولهما إلى دورة المونديال الحالية. غير أنه يلاحظ في انقسام دور المعلق بين ما هو مباشر، وما هو غير مباشر من معلومات خلفية، تساعد في فهم أجواء المباراة، أن هذه المعلومات غالباً ما تكون مجمعة في كراسات وبيانات الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) بحيث تكون هذه البيانات كاملة وشاملة ودقيقة إلى درجة لا تترك أحياناً للمعلق مزيداً من فرص الاجتهاد الشخصي.
لكن كون رياضة كرة القدم نشاطاً إنسانياً يستقطب الحماسة والعواطف يبقي مساحة واسعة للعلاقة الإنسانية بين المعلق في الملعب (أو الاستوديو) والمشاهد في بيته. ذلك أن بيانات وإحصاءات الاتحاد الدولي لكرة القدم موضوعة بين أيدي جميع المهتمين وليس المعلِّقين فقط. كما أن المعلومات الهائلة الموزعة على شبكات الإنترنت، قد فتحت أبوابها على مصراعيها، أمام أي معلق مجتهد ليستزيد من المعلومات التفصيلية، أضعاف ما تزوده به البيانات والإحصاءات الرسمية للفيفا.
ومع ذلك، فإن دور المذيع يتجاوز كم المعلومات الخلفية ودقتها، إلى حرارة العلاقة الإنسانية بينه وبين المشاهد، وإلى خفة ظله واتزانه وموضوعيته وسرعة بديهته، وإلى إمساكه بالميزان الذي يحدد بدقة شديدة كمية ما يبثه من المعلومات الكثيفة المتراكمة أمامه، والوقت المناسب لذلك.
فبعض المعلِّقين، الأقل كفاءة وخبرة من سواهم، يصابون بهوس أمام نبع المعلومات الموجود أمامهم، فينطلقون إلى سرد المعلومات بطريقة فيها أولاً ميل واضح إلى استعراض العضلات المفضوح، علماً بأن معظم هذه المعلومات (وأحياناً كلها) موضوع بين يدي المعلق، لم يبذل في جمعه أي جهد. كما أن عيباً آخر قد يبدو في سوء تصرف بعض المعلِّقين بالمعلومات المكدسة أمامهم، وهو عدم امتلاك الميزان، الذي يحدِّد العلاقة ما بين أحداث المباراة الجارية، وبين بعض المعلومات التاريخية، فبعض هذه المعلومات يكون على علاقة دقيقة بأحداث المباراة الجارية على أرض الملعب، فيأتي ذكرها مكملاً لأحداث المباراة، فيزيد على متعة المشاهد، متعة إضافية وحماسة واطلاعاً. والبعض الآخر من هذه المعلومات الخلفية، يكون بعيداً عن أجواء المباراة، فيأتي إقحامه مكدراً لمزاج المشاهد. لكن هذين العيبين بالذات، لا يقع فيهما إلا ضعاف المعلِّقين، وقليلي الخبرة والثقافة بينهم.
موضوعية المعلِّقين
من المسائل التي يمكن أيضاً أن تجعل المشاهد يميِّز ما بين معلق وآخر، الموضوعية في الوصف. فإذا استثنينا المنتخبين العربيين المشاركين في مونديال 2006م، فلا شك في أن لكل معلق عربي موقفاً يجعله يميل إلى تفضيل منتخب على آخر. نلاحظ مثلاً في هذا المجال كثرة عشاق منتخب البرازيل بين الجماهير العربية، والمعلقين العرب، وخبراء استوديوهات التحليل التي أصبحت بالمناسبة، جزءاً لا يتجزأ من تقاليد نقل المباريات، في فترة ما قبل النقل بقليل، وما بعده مباشرة.
إن انحياز هذا المعلق أو ذاك، إلى هذا المنتخب أو ذاك، هو أمر إنساني طبيعي، لا ضير فيه ولا عيب، غير أن العيب يظهر عندما يسيطر انحياز معلق لمنتخب على حساب المنتخب المنافس له في المباراة التي يذيعها.
وشاهدنا في مونديال هذا العام نوعاً من الانحياز أكثر غرابة من ذلك النوع التقليدي الذي أشرنا إليه، فقد كان أحد المعلقين يتخذ في كل مباراة يكلف بالتعليق عليها، موقفاً مسبقاً يؤيد فيه سلفاً الفريق الذي يعتقد أنه الأقرب إلى الفوز، فيحصر فيه كل مهارات اللعب وجمالياته، وينفي ذلك عن المنتخب المنافس. وكم تكون حيرة هذا المعلق كبيرة وخيبته أكبر، عندما تجري رياح المباراة بما لا تشتهي سفنه، فيضطر أحياناً للتراجع وتبديل لهجته، أو التخفيف منها، أو مناقضتها، بشكل مثير للشفقة.
والحقيقة أننا مع الاستمتاع الشديد بعدد من المعلِّقين الممتازين، المثقفين ثقافة كروية واضحة، الخفيفي الظل، الحريصين على الموضوعية، شاهدنا في بعض المباريات معلقين، نرجِّح أن هناك بين المشاهدين نسبة غير قليلة تتمتع بثقافة كروية أوسع منهم وأدق. وهذه ظاهرة نعتقد أن من واجب الشركات التلفزيونية التي تملك حق نقل مباريات المونديال التنبه لها.
تبقى الإشارة إلى مسألة لهجات المعلِّقين. فإلى جانب اللهجة المصرية المألوفة عربياً منذ زمن طويل، امتاز المعلقون الخليجيون، إلى جانب احتفاظهم الطبيعي بلهجاتهم المحلية، بتطعيم تعليقاتهم باللغة الفصحى، الأمر الذي جعلها قريبة من آذان بلاد الشام والمغرب العربي.
كما أن لهجات المغرب العربي، وإن لم تعد غريبة على أهل المشرق والخليج كما كانت سابقاً، فإن التونسية تبقى الأقرب لما فيها من ملامح مشتركة مع الشامية. أما المعلقون من المغرب فما زالوا يحتاجون إلى ضبط السرعة الشديدة التي تتميز بها لهجتهم المحلية الجميلة، لأن هذه السرعة، عندما تنطلق بعفوية أهلنا في المغرب يصبح فيها شيء من صعوبة المتابعة لكل التفاصيل، بالنسبة إلى المشاهدين المشارقة.
على أية حال، فكما أن مشاركة المنتخبات العربية في أعراس المونديال، ما زالت في حدودها الدنيا، رغم المشاركة المتكررة لكثير من المنتخبات العربية، منذ العام 1934م، وحتى العام الحالي، فإن تجربة العرب في مجال البث التلفزيوني لمهرجانات المونديال، ما زالت أطرى عوداً من تجربة المنتخبات الكروية، مما يدفعنا إلى أن نأمل بتحسن مضطرد في مستوى منتخباتنا الوطنية، ومستوى معلقينا ومحللينا الرياضيين.