بالرغم من أن براءة الاختراع الأولى لهذا المنتج تعود لعام 1975م، إلا أن المنظار الملبوس على الرأس (Head-Mounted Display) أو المنظار الغمري (Immersive Display) قد شهد إعادة انبعاث خلال السنوات الماضية، والفضل يعود لشركة غوغل.. ولاستثمارات صناعة الألعاب الإلكترونية كذلك.
ولا بدَّ هنا من أن نفرِّق بين نوعين من المناظير على الأقل، كلاهما يعتمد على التقنيات الملبوسة. فنظارات غوغل الشهيرة تعتمد على إسقاط الصورة، التي يفترض أن نشاهدها عبر الشاشة التقليدية، على كرة العين مباشرة، بحيث تغدو النصوص والصور متكاملة مع المشهد الطبيعي من حولنا. ونظارات غوغل ستسمح لك بأن تقابل زيداً أو عمراً من الناس لتظهر لك -ولك وحدك- مربعات حول هذا الشخص تحدد لك بياناته الشخصية والمهنية ومدخلات حساب فيسبوك الخاص به ومدى ازدحام جدوله اليومي إلى آخر ما سيسمح هو بعرضه للعامة ضمن بيئة تفاعلية متكاملة اسمها (إنترنت الأشياء) يغدو الناس فيها وتغدو بياناتهم عناصر إنترنتية قابلة للزيارة والاستكشاف.
التقنية الثانية لا تتكامل مع البيئة المحيطة.. بل تغمرك بعينيك وكافة حواسك في بيئة صناعية مستقلة عن الواقع. ونظاراتها غير زجاجية ولا شفافة، بل هي أقرب للخوذات التي تبتلع وجه مرتديها لتخلق وهماً بالغ الدقة والإقناع. وهي -كما أسلفنا- تشهد انتعاشاً منقطع النظير بفضل تسخيرها في تجارة الألعاب الإلكترونية، من دون أن يوقف ذلك مدّها في تطبيقات أخرى أكثر جدية.
واقع افتراضي.. أم افتراض واقعي؟
شهد مصطلح «الواقع الافتراضي – Virtual Reality» رواجاً كبيراً إبان التسعينيات. وكان ذلك بفضل التطور الكبير في تقنيات تصغير الشاشات في ذلك الوقت. وتعتمد هذه التقنية على تصميم شاشات تُلبس أمام الوجه مباشرة لتعرض رسومات ذات أبعاد ثلاثية تحاكي الواقع لكنها لا تتصل به مباشرة. بحيث يسعك وأنت في الرياض أن تمشي في شوارع ريو دي جانيرو.. أو حتى على سطح القمر. ولا مانع من تعزيز هذا الوهم الإلكتروني بالصوت والرائحة الإلكترونيين كذلك!
وبطبيعة الحال، فإن كل ما تم تقديمه في هذه الصدد في التسعينيات هو محض هراء تقني اليوم! فتطبيقات الواقع الافتراضي الحالية تخلق بيئات رقمية وهمية شديدة المقاربة للحقيقة وذات جودة أعلى بأضعاف مضاعفة. ويعود الفضل في ذلك إلى تقدم تقنيات الرسوميات الحاسوبية، وإلى تطور اعتمادنا على التقنية الرقمية كذلك. لأن خوذات الواقع الافتراضي اليوم باتت مربوطة بشبكة الإنترنت -الأمر الذي لم يكن مؤكداً تماماً قبل عقدين- وبهذا فهي متصلة بمخزن لا نهائي من المعلومات وبيانات حقيقية عن الأفراد والطقس واللهجات وصور وفِديوهات محدّثة آنياً وستسهم في جعل التجربة الافتراضية أكثر واقعية.
قد يبدو من المزري أن ثمة تقنية معقدة وواعدة تشهد رواجاً عبر سوق الألعاب الإلكترونية بالذات. لكن هذا الرأي سيخالفه مليار ونصف المليار إنسان يمارسون ألعاب الفِديو الإلكترونية، وستتزعزع نظرتنا الفوقية أكثر إذا عرفنا أن سوق ألعاب الواقع الافتراضي وحدها يتوقع لها أن تكسر حاجز المليار دولار بحلول العام 2018م.
أكثر من مجرد ألعاب
ولاستخدامات الشاشات الملبوسة أبعاد عدة أخرى، في مجالات الصناعة، والطب، وعسكرياً بطبيعة الحال.
فلأن هذه الشاشات هي في الواقع حواسيب مدمجة يمكن ربطها سلكياً أو لاسلكياً بأجهزة ومستشعرات أخرى عبر الإنترنت، يمكننا أن نتخيل كافة أنواع القراءات الممكنة، التي يتم عرضها أمام ناظري مرتدي إحدى هذه العدسات وفقاً للحاجة.
في مجال الطب مثلاً، فإن الطبيب قد يمارس جراحته عن بُعد. بمعنى أن الصور ستنتقل له عبر القارات إلى خوذته الملبوسة. سيتم نقل حركة أصابعه الخبيرة بواسطة مستشعرات بالغة الحساسية (يرتديها كالقفازات حول أصابعه) لتنتقل إشارات هذه الحركة عبر القارات أيضاً إلى أصابع روبوت آلي سيمارس العملية بالنيابة.
وبالنسبة للطبيب أيضاً، فستوفر له خوذة الواقع الافتراضي مشهداً واقعياً للحالة الجراحية بالفعل مدعمة بقراءات جانبية لها علاقة بالعلامات الحيوية (النبض والضغط إلخ) فضلاً عن مراجع تفاعلية ستساعده أكثر على اتخاذ القرار الصحيح.
في المجالين الهندسي أو الصناعي، فإن هذه الخوذات ستكون كمراقيب أشعة إكس التي ستسمح لمرتديها بمعاينة هياكل المباني أو المركبات الحيوية -مايكروسكوبياً- مع عرض نتائج التحاليل آنياً على الشاشة الملبوسة نفسها والمربوطة حاسوبياً ببرامج الأوتوكاد والماتلاب وسواها. حينها سيكون المهندس كالخبير الذي سيستعين بكل هذه القيم المضافة كي يتخذ القرار الأفضل في الوقت الأقصر.
أمنياً، فقد بتنا نشاهد بوادر الخوذات المدعمة بمناظير الرؤية الليلية، ومراقيب المتابعة الحرارية لأجساد الخصوم، فضلاً عن توفير قراءات تكتيكية للبيئة المحيطة على شكل خريطة ثلاثية الأبعاد تحذر من مواقع الألغام والكمائن المفترضة وتقترح أقصر الطرق لتطويق المنطقة أو الوصول للهدف.
كل هذا التقدم في عوالم الشاشات الملبوسة موعود بالمزيد من الدعم من ظهور طرق أكثر فعالية لعرض وتبادل المادة البصرية على أسطح أكثر وضوحاً ومرونة.. وأكثر قابلية للتمدد كذلك طالما يدور كلام أكثر عن إمكانية الاستعاضة عن الواجهات الزجاجية للسيارات والطائرات بشاشات تفاعلية ذكية قد لا تسمح برؤية العالم الخارجي، لكنها ستمنح قائد المركبة البصيرة اللازمة للتقدم عبره بأمان.