«السعادة إتقان فن الاختزال، أن تقوم بفرز ما بإمكانك أن تتخلص منه، وما يلزمك لما بقي من سفر، آنذاك تكتشف أن معظم الأشياء التي تحيط بها نفسك غير ضرورية، بل هي حِمل يثقلك». بهذه المقولة، اختصرت أحلام مستغانمي الكاتبة والروائية الجزائرية كثيراً عن فن الاختزال. ويمكن اعتبار المسرح بأنه تطبيقٌ لفن الاختزال، فالاختزال في المسرح يكون في نصّ العرض المسرحي الذي يجب أن يُقال ويُنفَّذ على خشبة المسرح، أو من خلال العملية الإخراجية، ولكن الممثل كما يشير أغلب المسرحيين في العالم هو أساس العرض المسرحي.
في البدء، الممثل هو من يمارس فن الاختزال عملياً، عندما يتوفر لدى المخرج في طاقم العمل التمثيلي ممثلٌ يجيد فن الاختزال، فباستطاعته أن يختصر مدة العرض ويُرحِّل هذا الزمن المختصر إلى عناصر أكثر أهمية. أتحدث هنا من زاوية نظر إخراجية. فاختصار مدة العرض المسرحي في العموم يُعد من الاتجاهات الحديثة لدراما المسرح، يتماشى في خطٍ موازٍ مع إيقاع العصر السريع.
إن العملية التمثيلية بالنسبة للممثل هي عبارة عن تطبيق عملي لمقولة أحلام مستغانمي، فهناك عديد من الأشياء التي يستطيع أن يختزلها إذا استطاع ان يقرأ شخصيته المسرحية بحرفية تامة. يحتاج الممثل عند تسلُّمه الدور المنوط به إلى تحليل هذا الدور، ليكون على وعي تام بما يستطيع أن يختزله من الشخصية في ظل وجود عديد من التفاصيل في النص الذي بين يديه. وبوسع الممثل الفطن أن يختزل كثيراً من تلك التفاصيل ويستخرج من النص ما يودّ المؤلف قوله من خلال الشخصية، وهذه الخطوة لا تتم طبعاً دون إجراء تفاهمات مستمرة مع المخرج.
ينبغي على الممثل تحديد الأهداف الرئيسة للدور التي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أولاً، هدف الشخصية داخل النص، وما المراد من وجودها داخل المشاهد التي تظهر بها، ثم تحديد الهدف العام من وجود الشخصية داخل المسرحية كاملة، وأخيراً دراسة الحالة النفسية للشخصية المراد تشخيصها لكل المشاهد التي تظهر بها الشخصية. عند تحديد هذه الأهداف واختزالها سيكون بوسع الممثل أن يقبض على الشخصية المسرحية تماماً ويؤديها على أفضل وجه. ولعل أحد وجوه الاختزال المنوطة بالممثل تلك العلاقات القائمة بين الشخصيات داخل النص المسرحي. هذه العلاقات يختزلها الممثل بتعاونه مع الممثلين الآخرين في المسرحية لكشف طبيعة العلاقة ما بين كافة الشخصيات، خصوصاً إذا كانت هناك شخصيات محورية في العمل إلى جانب شخصيات مساندة. لذلك، دائماً ما يحرص طاقم العمل التمثيلي على أن تؤدى العلاقات ما بين الشخصيات على أكمل وجه.
ملمح آخر من ملامح الاختزال لدى الممثل المسرحي يكمن في تعابير الوجه وحركة الجسد. عند أداء الشخصية، تدرس هذه الجوانب بعناية فائقة من قِبل الممثل، لأن هناك أشياء يستطيع أن يختزلها إما بتعبيرٍ بسيط للوجه أو بحركة جسد معينة، تُغني عن كثير من الكلمات. وبالطبع، يمكن للممثل أيضاً، وبالتعاون مع المخرج، أن يختزل كثيراً من الحركة لشخصية على خشبة المسرح عندما يؤدي دوره. ولعل إلمام الممثل بأدواته وتمكنه منها، مثل إمكانيات الصوت وقوة الذاكرة والتعامل مع مكونات العمل المسرحي الأخرى من ديكور وإضاءة ومؤثرات صوتية، هو ما يمنحه الثقة والقدرة على اختزال ما يريد داخل النص المسرحي أو العملية الإخراجية، وكل هذا لا يتحقق إلا بوجود العديد من البروفات للعرض المسرحي قبل أن يرى النور على خشبة المسرح كنِتاج نهائي.
أخيراً، يقول الكاتب المسرحي المغربي الدكتور عبدالكريم برشيد: «أخطر العوالم التي لم تكتشف حتى الآن هو الإنسان، الإنسان غابات كثيفة وغريبة، فيه عديد من الجُزر وهو أرخبيل معقد جداً، وبالتالي فالإنسان بذاته يختزل الإنسانية.. المسرح هو أساساً فن الاختزال».
تتبلور شخصية الممثل، في حياته الفعلية ومعايشته مع العرض المسرحي، داخل بروفات العمل المسرحي وعند عروضه الأولية أيضاً. لذلك فهو يجنّد كافة جهوده داخل البروفات لتقديم الأجمل والأمثل على خشبة المسرح، ولأن فن الاختزال أحدها، يمكننا أن نقول إن الممثل المسرحي حياة مختزلة.