اليوم، تحيط بنا المعلومات من كل جانب، تمطرنا أجهزتنا بوابل منها، نبحر في شبكة معلوماتية مثل المحيط الهادر، ضاقت أجهزتنا بالمعلومات التي نوجدها كل يوم وكل ثانية، حتى رفعناها إلى سحب معلوماتية مترعة، بالمعلومات طوَّرنا سلعاً وخدمات مبتكرة وبنينا على دعائمها اقتصادات ضخمة سمَّيناها باقتصادات المعرفة. لكن حصر طبيعة «المعلومات» في كونها عملة نتبادلها عبر الأجهزة ومن خلال الشبكات الاجتماعية فيه إجحاف تاريخي بحقها. فالمعلومات مفهوم عميق يتغلغل في شتَّى المجالات العلمية، بدءاً من علم المعلوماتية إلى علم الأحياء مروراً بالفيزياء. فكيف نشأ (علم المعلومات) وكيف أثَّر في تطور كل هذه العلوم؟ ولماذا ينادي كبار علماء الفيزياء النظرية اليوم بالاعتراف بالمعلومات كمكوِّن جوهري في بناء الكون يسبق وجود المادة والطاقة.
في أربعينيات القرن الماضي كان أحد أنبغ علماء الرياضيات ويدعى كلود شانون، يجري أبحاثاً لاكتشاف طرق أكثر فاعلية لنقل المعلومات وتشفيرها عبر وسائط النقل. وأثناء ذلك، تنبَّه هذا الباحث الشاب إلى أن مفتاح حل المشكلة التي يبحث فيها يكمن في الإجابة عن سؤال بديهي واحد وهو: ما المعلومات؟ سؤال قد يبدو بديهياً. لكن، وفقاً للمنهج العلمي، تضعنا مثل هذه التساؤلات على أول الطريق المؤدي للفتوحات المعرفية غير المسبوقة. تساءل شانون عن معنى المعلومة في أبسط صورها، ما هي المعلومة المجردة؟ بعد إزالة كل ما هو متعلِّق بها من مكمّلات مثل اللغة والبنية النحوية والمعاني والدلالات وغيرها من الإضافات الثانوية؟ هل من الممكن إيجاد معادلة نقيس بها كمية المعلومات التي تحتويها أي رسالة؟
في لحظة من لحظات العبقرية، توصل شانون إلى فكرة بسيطة مفادها أن الهدف من أي رسالة هو إزالة الالتباس لدى الطرف المستقبِل للرسالة، فكلما زاد محتوى الرسالة من المعلومات قلَّت درجة الالتباس بدرجة أكبر عند متلقيها. وبذلك فإن المعلومة الصحيحة ما هي إلا مرشح للالتباس لدى الطرف الآخر، وعليه استنتج شانون أنه لو تمكن من وضع صيغة رياضية لقياس درجة الالتباس ومعدل تغيره؛ سيتمكن بالتالي من تقدير كمية المعلومات التي تحتويها أي رسالة. لأن العلاقة بين المعلومات والالتباس تكاملية. منطلقاً من هذه الفكرة استخدم شانون نظرية الاحتمالات وعامل رياضي معروف يعرف بـ «عامل المفاجأة».
عامل المفاجأة هذا هو ببساطة قيمة نقدِّر بها مقدار «المفاجأة» لاحتمال وقوع حدث ما. ويكون هذا العامل في أعلى قيمه في حال كان احتمال وقوع هذا الحدث ضعيفاً والعكس صحيح. فعلى سبيل المثال، إن لعامل المفاجأة في شروق الشمس في بداية النهار قيمة متدنية للغاية لأن احتمال شروق الشمس وقتها يكون %100 ولا يمثِّل وقوعه أي مفاجأة. بينما احتمال عدم شروق الشمس هو احتمال ضعيف جداً لذلك لو حدث ولم تشرق الشمس يوماً في الوقت المعهود، فإن ذلك يحمل مفاجأة كبرى، وبالتالي ترتفع قيمة عامل المفاجأة لأعلى درجة ممكنة. وباستخدام عامل المفاجأة هذا ونظرية الاحتمالات لحساب احتمالات توقع كل حرف من أحرف الرسالة، توصل شانون إلى صيغة المعادلة الرياضية التي يمكن استخدامها لحساب كمية المعلومات في أي رسالة، ووضع وحدة لقياس المعلومات سماها بالخانة الثنائية (binary digit) واختصاراً الـ «bit».
من الحوسبة إلى علم الأحياء
بعد فراغه من وضع معادلته الشهيرة تلك، تردَّد شانون في الاسم الذي يطلقه عليها، فاستشار صديقه عالِم الرياضيات المعروف جون فون نيومان الذي أشار عليه بأن يسميها (الإنتروبية)، فهي تقيس العشوائية، والأهم أنها صعبة الفهم، وقلائل هم الذين سيستطيعون استيعابها تماماً. أخذ شانون بنصيحة صديقه وأصبحت معادلته تعرف بالإنتروبية المعلوماتية أو إنتروبية شانون. وعليه، فالرسائل التي تحمل في طياتها معلومات أكثر، تكون قيمة إنتروبية شانون الخاصة بها منخفضة، لأنها تحتوي على نظام أكبر وعشوائية أقل، في حين أنه كلما كانت الرسالة عشوائية أكثر ولا تحمل محتوى معلوماتياً، ترتفع قيمة إنتروبيتها. لأن الإنتروبية تعبِّر عن الفوضى إن صح التعبير. وتوصف الورقة البحثية التي نشر فيها شانون نتيجة بحثه هذا عن الإنتروبية المعلوماتية بأنها أهم ورقة في تاريخ العلوم، لكونها أسست فرعاً جديداً من العلوم قائماً بذاته، وهو ما أصبح يُعرف بعلم المعلوماتية. وعمل كلود شانون مع نابغين آخرين من معاصريه مثل آلان تورينغ وجون فون نيومان، وكان لأعمالهم مجتمعة أكبر الأثر في بداية عصر الثورة الرقمية.
بعد مرور أقل من عقدين على صياغة إنتروبية شانون ومفهوم البت «bit»، شهدت الأوساط العلمية كشفاً آخر لا يقل أهمية في مجال علم الأحياء عندما اكتشف واتسون وكريك وروزاليندا فرانكلين في عام 1953م، بنية جزيء الحمض النووي الريبوسومي. فتوَّج هذا الاكتشاف محاولات بدأت منذ القرن التاسع عشر عندما كان غريغور مندل يقضي وقته بين حبات الفاصوليا وهو يبحث عن طبيعة الصفات الوراثية وكيفية انتقالها من جيل إلى التالي، وباكتشاف بنية هذا الجزيء، تمكنّا أخيراً من معرفة طبيعة «المعلومات الوراثية»، وبالتحديد كيف تمكِّن بنية هذا الجزيء الكائنات الحية من حمل ونسخ وتوارث هذه المعلومات.
يُعد اكتشاف بنية جزيء الحمض النووي الريبوسومي أحد أعظم الاكتشافات في تاريخ العلوم. فبعد مرور قرابة الخمسين عاماً عليه، تمكن العلماء من قراءة الجينوم البشري كاملاً في العام 2000م. ومنذ ذلك الحين، أصبح علم الأحياء لأول مرة علماً قائماً يعتمد بشكل كبير على المعلومات، لأننا أدركنا الحجم الهائل من المعلومات التي تعتمد عليها الكائنات الحية. ويدرس علماء الأحياء اليوم العمليات البيولوجية داخل الخلايا الحية على أنها عمليات معالجة بيانات، تماماً كتلك العمليات التي تحصل داخل معالجات الحواسيب، وتعتمد في استمراريتها بشكل صحيح على آلية دقيقة جداً لقراءة تلك البيانات المشفرة في كروموزومات الخلايا الحية. والأهم من ذلك، إنها تشبه إلى حد كبير المعلومات الرقمية: شفرة منفصلة مكونة من أربعة أحرف فقط تُكتب بها كل تلك الرسائل التي تصف هذا التنوع الحيوي الهائل الذي نراه من حبة الأرز البسيطة إلى أعقد الكائنات الحية: نحن البشر!
ثورة في فهم الكون
على الرغم من كل التراكمات المعرفية التي حصدناها عن المعلومات، وتغلغلها في معظم مجالات العلوم، إلا أن فهمنا لها لا يزال قاصراً، تماماً كما كان الحال عليه في عصر كان يُسمى بعصر المحركات البخارية في الوقت الذي كانت معرفة الإنسانية بمفهوم الحرارة التي تعتمد عليها المحركات البخارية قاصرة بل خاطئة تماماً. يخبرنا تاريخ العلوم أن هناك نوعين من التعريفات لفهم طبيعة الأشياء، أولهما ما يسمى بالتعريف العملي، وهو عندما نمتلك المعرفة اللازمة لفهم ظاهرة ما عن طريق الملاحظة والقياس، وهذا هو التعريف الذي توصَّل إليه شانون عن المعلومات حيث استطاع أن يحتسب كميتها ويعرّف وحدة لقياسها. أما التعريف الثاني والأشمل فهو ما يعرف بالتعريف المفاهيمي، عندما تتعمق معرفتنا فنفهم الظواهر بطبيعتها المجردة. وعادة ما يستغرق ذلك زمناً ليس بالقصير. فقد قضى العلماء قرابة مائتين وخمسين عاماً قبل أن يتوصلوا للتعريف المفاهيمي للحرارة، عندما تيقّنا أن الحرارة ليست مادة، بل ظاهرة ديناميكية تعبِّر عن متوسط سرعة الجزيئات، وأنها لا تفنى ولا تستحدث بل تتحوَّل من شكل لآخر. وبالنسبة للمعلومات، ما زلنا حتى الآن في المرحلة الأولى من المعرفة، ولم نتمكن من الوصول إلى التعريف المفاهيمي الأعمق للمعلومات.
بالعودة إلى تاريخ العلوم، كان المفهوم السائد منذ القِدَم هو أن القوانين الفيزيائية هي الحقيقة الثابتة والأزلية التي نتعرَّف من خلالها إلى طبيعة هذا الكون. وعليه، فإن المادة والطاقة والمعلومات عنهما ما هي إلا تعبيرات عن هذه القوانين الفيزيائية. فقانون الجاذبية وسرعة الضوء وكتلة الإلكترون كلها قوانين وظواهر طبيعية ثابتة، ومهمة الفيزيائيين تكمن فقط في اكتشاف هذه القوانين ووصفها من خلال المعادلات الرياضية الصارمة وبموضوعية تامة. إلَّا أن مجموعة من أهم فيزيائييي القرن الحادي والعشرين يرون أن هناك ما يستدعي أن ينقلب هذا المفهوم رأساً على عقب. فأطروحات متعددة باتت اليوم تنادي بحتمية حدوث انقلاب في فهمنا للمعلومات وطبيعة دورها في بناء الكون من أدقّ ذراته إلى أفسح مجرَّاته، وترجِّح احتمالية كونها هي المكون الرئيس الذي تنبع منه كل القوانين الفيزيائية بل هي الأساس في وجود الطاقة والمادة!
إن مناقشة مفاهيم تحوي قدراً كبيراً من اللاموضوعية كهذه، ليس بالأمر الهين على الفيزيائيين. فالمعلومات مفهوم محاط بغلاف من اللاموضوعية، لأن جزءاً من أي معلومة يكمن دائماً في عقل المراقب أو المتلقي للمعلومة مقترناً بالسياق الذي تُقدَّم من خلاله. ولتقريب الفكرة أكثر، تخيَّل أني قمت بإعطاء المعلومة المتمثلة في هذا الرقم: 299792458، بالنسبة لبعض القرّاء قد لا يمثل هذا الرقم أي معنى، لكنه بالنسبة لقارئ ذي خلفية فيزيائية يمثل سرعة الضوء مقيسة بالمتر في الثانية. وعدم القدرة على تحديد الظواهر بأقصى قدر من الموضوعية هي حالة ينفر الفيزيائيون منها بشدة، لأن فيها خروجاً عن الإطار الفلسفي للعلم الذي تمحور منذ قرون حول ضرورة ألا يُعنى العلم سوى بالظواهر الطبيعية التي يمكن دراستها بموضوعية تامة.
المعلومة كوحدة لقياس العالم
إن أول من ربط مفهوم المعلومات بالفيزياء كان النمساوي لودفيج بولتزمان حيث وصف الإنتروبية الفيزيائية بأنها مقياس للعشوائية في أي نظام مغلق، وبماهية «المعلومات» التي نعرفها عن هذا النظام. ولم يذهب أبعد من ذلك. لكن أول من نادى بضرورة مراجعة موقف العلم من المعلومات كمفهوم، والذي ناقش هذه الفكرة وجعلها متداولة داخل وخارج الأوساط العلمية، هو عميد الفيزيائيين الأمريكيين وتلميذ آينشتاين: الفيزيائي المخضرم جون آرشيبالد ويلر.
في الستينيات، تنبه ويلر إلى علاقة تربط بين الديناميكا الحرارية وإنتروبية شانون. فالديناميكا الحرارية تُعنى بمقدار الفوضى في أي نظام فيزيائي مغلق، أو بمعنى أدق، عدد الطرق التي من الممكن أن ترتب جزيئات هذا النظام نفسها بها. وبالتالي فإن إنتروبية شانون المعلوماتية لهذا النظام تمثِّل كمية المعلومات اللازمة لوصف كل هذه الطرق. وبالنسبة لويلر، فهذا دليل على أن دور المعلومات يمتد في عمق الفيزياء، فيصف هذا في مقالته «it-from-bit»: «كل مكونات الطبيعة الأولية، كل جسيم، وكل مجال فيزيائي، وكل مجال طاقة وحتى فضاء الكون نفسه يستمد معناه ووظيفته بل وحتى وجوده كنتيجة لاختيار إحدى الإجابتين: نعم أو لا! ما يتسق والنظام الثنائي الذي تبنته معلوماتية شانون والقائم على الحالتين 0 و1. فهناك حقيقة في عمق هذا الكون تنبع منها كل تفاصيل هذه المكونات الفيزيائية التي نلمسها ونعيشها: إن هذا الكون مبني في الأساس على المعلومات».
لكن هناك من ذهب أبعد من هذا، مثل الفيزيائي الألماني الأصل رولف لانداور، الذي رأس معامل أبحاث آي بي إم لسنين طويلة، عندما لفت الانتباه إلى أن المعلومات عادة ما توجد مشفرة في وسيط فيزيائي – ذاكرة كمبيوتر مثلاً – وأنه لمسح أصغر وحدة ممكنة من المعلومات – بتة واحدة – من الوسيط الفيزيائي الذي يحتويها فإنه ينتج عن ذلك كمية من الطاقة الحرارية ترفع من قيمة الإنتروبية الفيزيائية بقيمة محددة ثابتة قام باستنتاجها وسمي هذا المبدأ بمبدأ لانداور. بناءً على مبدأ لانداور هذا، فإن المعلومات يمكن اعتبارها قيمة فيزيائية ملموسة وليست مجرد مفهوم. وهذه القيمة مثل الطاقة لا تفنى بل تتحول من شكل لآخر.
يقول الفيزيائي فلاتكو فيدرال عن قوانين الفيزياء الكمية التي نصف من خلالها الكون في أبسط صوره وأكثرها أوّلية، إنها في جوهرها ليست سوى قوانين معلوماتية تنتج عنها ظواهر طبيعية ملموسة. فمثلاً قانون الريبة الذي عرفنا من خلاله أننا لا نستطيع معرفة مكان الجسيم وسرعته في وقت واحد، لأننا لو عرفنا مكانه بدقة تختفي قيمة سرعته، هذا القانون الذي حيَّر العلماء والفلاسفة لعقود، يجد تفسيراً بسيطاً لو أخذنا في الاعتبار مفهوم المعلومات كمكون أولي للقوانين الطبيعية: هو ليس إلا انعكاساً لمحدودية كمية المعلومات المتوافرة عن حالة الجسيم. ويضيف فيدرال أن أي محاولة نريد بها وصف الكون في صورته الأولية، ومهما كانت النظرية التي اعتمدناها وانطلقنا منها سواء نظرية المادة والحقول أو نظرية الأوتار أو حتى نظرية الأكوان المتعددة، فنحن بلا شك نتحدث في الأساس عن معلومات وطرق مختلفة لمعالجتها ومشاركتها.
المعلوماتيون: الفلاسفة الجدد
كون المؤشرات تزداد على ترجيح قدرة المعلومات على تفسير قوانين فيزياء الكم، وإيجاد إطار فلسفي تستطيع النظرية الكمية أن تستند إليه، حفَّز كثير من العلماء على التعمق في البحث فيه. لكن الفيزيائي النمساوي المخضرم آنتون زيلينجر كان أحد الفيزيائيين الذين ارتادوا هذا الطريق من الاتجاه المعاكس، حيث بدأ من الإطار الفلسفي وتوصل لنظرية المعلومات. ويعتقد زيلينجر كغيره من العلماء أن أي نظرية علمية بغض النظر عن مدى نجاحها في تفسير الواقع تظل مفتقدة للقبول على نطاق واسع إلى أن يتم توفير غطاء فلسفي لها. ويضرب مثالاً على ذلك معادلات آينشتاين الرياضية في النسبية الخاصة التي كان معظمها معروفاً قبل آينشتاين بزمن طويل لكنها لم يؤخذ بها كنظرية مسلَّم بها إلا عندما وضعها آينشتاين ضمن إطار النظرية النسبية الخاصة.
وبالنسبة للفيزياء الكمية فالوضع معكوس، الكل يؤمن بصحة النظرية ويشير إليها كواحدة من أنجح النظريات العلمية في تاريخ البشرية، إلا أننا لم نستطع حتى الآن استيعابها في إطار فلسفي. عليه قرر زيلينجر أن النظرية الكمية تحتاج إلى قاعدة فلسفية تحتويها وتحل هذه المعضلة التي حيَّرت العلماء لوقت طويل. بعد سنين وأبحاث طويلة قضاها زيلينجر في دراسة التفسيرات المختلفة لفيزياء الكم، نشر في عام 1996م بحثاً بعنوان «المبدأ التأسيسي للفيزياء الكمية» الذي تضمَّن توصله للقانون التالي: «النظام الابتدائي يحمل بتة واحدة من المعلومات». وهذا القانون المغرق في البساطة لدرجة مخادعة يرتكز على مبدأ طالما نادى به الفيزيائي نيلز بور في جداله مع آينشتاين حول ماهية طبيعة الكون المحسوس. كان بور ينادي بضرورة الاعتراف بأن القوانين الفيزيائية وخاصة الكميّة لا تصف حقيقة الكون، بل تصف لنا ما يمكننا لمسه وملاحظته عنه. ففعلياً نحن مثلاً لا نرى الذرَّة على حقيقتها لكننا نجمع معلومات عنها ونضعها في معادلات رياضية تمكننا من التنبؤ بمعلومات أخرى عنها. وعليه فإن أي وصف لا يعترف بالدور الذي تلعبه المعلومات في دراستنا للكون يظل وصفاً بعيداً عن الواقع. في حين لو اعترفنا بأن المعلومات وليس المادة ولا الطاقة هي أكثر مكونات الفيزياء الكمية ابتدائية فإن ذلك يقودنا إلى السؤال: ما هو أكثر مكونات المعلومات ابتدائية؟ المكون الذي يقبع في عمق فيزياء الكم ولا يمكن اختزاله أكثر؟ زيلينجر يسمي هذه المكونات بالفرضيات. وهي المكونات نفسها التي وصفها جون ويلر بالأسئلة ذات الإجابات البسيطة: نعم أم لا.
إن الجسيمات الأولية التي نعدها المكونات الأساسية للذرَّات تُعد أنظمة معقَّدة نوعاً ما، لأننا لا نستطيع الإجابة مثلاً عن سؤال حول قطبية فوتون ما بنعم أو لا. لأن الإجابة تتطلب أكثر من سؤال حتى نصل إلى الجواب، ومن هنا تتضح الصورة أكثر حول المعلومات ووحدتها الأساسية «البت» بوصفها المكون الأولي الذي لا يمكن اختزاله أكثر.
يقول الفيزيائي الروسي الأصل وأستاذ المعلوماتية بجامعة جورج واشنطن سيمون بيركوفيتش إن معرفتنا بكمية المعلومات الهائلة التي تحتاجها الكائنات الحية لاستمرار الحياة تجبرنا على إعادة النظر في طبيعة المشكلة الكبرى التي تؤرِّق علماء الحياة، حيث عادة ما يسألون عن كيفية نشوء الحياة، في حين أن السؤال الأجدر أن ينشغلوا به من وجهة نظر بيركوفيتش هو: كيف تستمر الحياة؟ التي اتضح لنا خلال العقود الأخيرة من القرن أن المعضلة في أساسها هي مشكلة معالجة بيانات أكثر منها مشكلة التعرف إلى التفاعلات الفيزيائية والكيميائية داخل الخلايا الحية وتحديدها. ويضيف أن التوصل للمعادلة السحرية التي توحِّد بين شقي الفيزياء الكلاسيكية والكمية وتضعهما في إطار موحَّد لن ينتج عنه التصور النهائي لطبيعة الكون، لأن أي نموذج لا يدعم دور المعلومات الحيوية أيضاً لا يمكن اعتباره نموذجاً صحيحاً للكون. فالنموذج النهائي والشامل للكون لا بد وأن يُبنى على بنية تحتية معلوماتية تساند الحياة والكون الفيزيائي الذي يحتضنها في وقت واحد!
هل من الصعب تخيل أن المعلومات هي فعلاً لغة الكون، بكل ذراته، كائناته، طاقاته ومجراته، ترسم المسارات التي تجري فيها أفلاكه وتحدِّد ما نستطيع معرفته عن سرعة أدق جسيماته؟ هل هو مفهوم قديم كان ماثلاً أمامنا من خلال مفاهيم دينية مثل اللوح المحفوظ والقلم الذي سبق الخلق وكتب كل ما سيجري؟ ألم يكن هذا واضحاً من مقولة «في البدء كانت الكلمة»؟ إن كان للكون لغة فمن كتبها؟ وهذا يدل على أن المعرفة الإنسانية المادية تتقدَّم بالاتجاه الصحيح، لأن التقدم العلمي الصحيح عادة ما يجلب معه أسئلة تفوق تلك التي أجابها.