الثقافة والأدب

اللوحة التي ينتظرها الإطار
لماذا لا نحب معظم هذه المعارض؟

  • 66b
  • 67a
  • 67b
  • 67c
  • 67d
  • 69a
  • 69b
  • 69c
  • 64a
  • 65a
  • 66a

لماذا تبقى معارض الفن التشكيلي في البلاد العربية في آخر مرتبة على صعيد استقطاب الجمهور ومتذوقي الفن والمثقفين؟ ولماذا يعتبر المعرض الفني ناجحاً إذا استقطب مئة زائر في حين أن الحفلة الموسيقية يجب أن تستقطب الآلاف لكي تعتبر ناجحة؟
وهل تترك هذه المعارض التشكيلية التي تقام أينما كان في مدننا وعواصمنا في نفوس الذواقة والمثقفين (ولا نقول العامة) الأثر الذي تتركه الفنون ومجالات الإبداع الأخرى؟ عبود عطية يجيب.

في بيت كل منا «لوحة» واحدة على الأقل معلَّقة على حائط غرفة الجلوس، «لوحة» بالمعنى الواسع للكلمة، أي أنها يمكن أن تكون لوحة زيتية أصلية، أو نسخة مطبوعة عنها، كما أن موضوعها يمكنه أن يتنوع بشكل يستحيل حصره.

ومن هذه الملاحظة البديهية حتى حدود السذاجة، ننطلق إلى طرح قضية بالغة الأهمية، لا بل مشكلة من أصعب المشكلات لأنها بين طرفين: أولهما قد لا تكون له مصلحة في حلها، والثاني لا يشعر بالحاجة إلى الحل. فما هي أبعاد هذه المشكلة وأين بدأت؟

قبل الغوص في التفاصيل، نشير إلى أننا هنا بصدد الحديث فقط عن فن اللوحة سواء كانت تتضمن رسماً أم خطاً، وسواءً أكانت زيتية أم مائية أم بأية مادة أخرى، أي ما شاعت تسميته بالفن التشكيلي، وهي تسمية لا نعتمدها هنا لأن التشكيل (من إعطاء الشكل لأمر لا شكل له) يشمل عرفاً جملة فنون أخرى مثل النحت الذي هو خارج موضوعنا تماماً.

جذور مشكلتنا مع اللوحة
المعروف أن فن اللوحة، أي هذا الرسم، الملون عادةً، والمؤطّر الذي يعلَّق على الجدار هو فن أوروبي المنشأ. ظهر في القرن الرابع عشر واكتملت شخصيته الوظيفية في القرن التالي. إنه عمل فني مستقل تماماً عن محيطه، يمكن نقله من مكان إلى آخر من دون أن يخسر شيئاً من محتواه. وهو مختلف تماماً عن فن الرسم عند الحضارات الأخرى، ومن بينها الحضارة الإسلامية التي جاء فيها هذا الفن على صفحات الكتب، وارتبط دائماً بالكتاب، بحيث أن نزع هذا الرسم من الكتاب وتأطيره ليعلق على الحائط، يفقده تماماً قيمته الأساسية ويحوله إلى مجرد قطعة تزيينية. وهذا الفارق ما بين اللوحة الأوروبية والرسم الإسلامي لا يعني أبداً فارقاً في المستوى، بل اختلافاً في وظيفة كل منهما.

بدءاً من الربع الأخير من القرن التاسع عشر ظهر في البلاد العربية فنانون راحوا يرسمون على النمط الأوروبي: لوحات. وقد احتفل لبنان ومصر بذكرى مرور مئة سنة على هذا التطور، وأصدروا لهذه الغاية الكتب «الموسوعية» التي تتحدث عن أعلام هذا الفن خلال قرن من الزمان. وتزامن هذا التطور مع تطور آخر على مستوى العمارة والإسكان، فصار الملايين منا يسكنون في بيوت ذات تنظيم داخلي مستوحى من الطرز الأوروبية، وصارت الجدران في بيوتنا قابلة لأن نعلِّق عليها هذا الفن الجديد، إن لم نقل أنها تبدو من دونه وكأنها عارية موحشة وتشير إلى نقص مزعج في تأثيث البيت.

ولولا ظهور هذه الحاجة، النفسية قبل أن تكون تزيينية، إلى اللوحة، لما كانت هناك أية مشكلة في «اللوحة العربية المعاصرة»، إذ لكان بإمكاننا الاكتفاء بنعت الرسامين في بلادنا بأنهم ينتجون شيئاً إما لأنفسهم، أو للتصدير.. ولكن الملاحظة البديهية التي سقناها في بداية المقال حول وجود اللوحات في بيوتنا، تكشف عمق المشكلة، إذ إن معظم هذه اللوحات ليس من «مدرسة» الرسم العربي المعاصر. فهو إما نسخة (أحياناً مطبوعة) للوحة مبتذلة، أو مجرد «شيء» يتماشى بألوانه مع ديكور الغرفة.. وفي هذا المجال لا تختلف بيوت الطبقة الوسطى عن بيوت الطبقة العليا، الاختلاف فقط هو في أثمان اللوحات المعلَّقة هنا أو هناك. ولكن، لنترك مسألة الاقتناء جانباً، طالما أنها مرتبطة بالقدرات المادية، ولنتطلع إلى «الاهتمام».. فإلى أي حد تثير اللوحة العربية المعاصرة اهتمام الإنسان العربي المعاصر؟

السؤال الفاضح
لو أننا خيَّرنا اليوم أي إنسان عربي (مثقفاً كان أم أمياً) ما بين أغنيات أم كلثوم مثلاً ولوحات أكبر رسام عربي على الإطلاق، وقلنا له إننا سنلغي أحدهما من الوجود، لقال خذوا كل اللوحات العربية واتركوا أم كلثوم. وسيعطي الجواب نفسه لو كان خياره ما بين ديوان المتنبي وكل موجودات متحف الفن المعاصر في أكبر عاصمة عربية. الأمر الذي يؤكد فوراً أن اللوحة
لا تزال بعيدة عن احتلال مكانها في النسيج الثقافي العربي الأصيل.

وهل تجوز المقارنة؟ يسأل المدافعون عن اللوحة. نعم، تجوز. إذ لو أننا خيَّرنا أوروبياً ما بين إلغاء لوحات ليوناردو دي فنشي أو موسيقى بيتهوفن، لما استطاع أن يختار. إذ يرى أن الاثنين يحتلان الأهمية نفسها في ثقافته، وهي الأهمية نفسها التي تحتلها الرواية، والمسرحية وغير ذلك وصولاً إلى السينما. واستطراداً، نحيل المشككين إلى دراسة الناقد الفرنسي إتيان سوريو «تراسل الفنون» التي تذكر على وجود صلة قربى ما بين مختلف الفنون من الشعر إلى الرسم مروراً بالعمارة والنحت والموسيقى.

مشكلة اللوحة العربية هي أنها حيناً على صلة قربى واهية جداً بباقي الفنون، وأحياناً لا علاقة لها،
لا بباقي الفنون المجاورة ولا حتى بالمجتمع الذي تزعم الانتماء إليه. فتبدو وكأنها وصلتنا على متن طائرة آتية من بلاد بعيدة، وستمكث في الفندق بعيداً عن بيوتنا، ولن نعرف متى غادرت أو ستغادر لأننا لن نفتقدها كثيراً.

المعرض النموذجي
يطيب لبعض المثقفين، وخاصة الذين هم على تماس مع «الفنون التشكيلية»، الحديث موسمياً عن نشاط الحركة أو ركودها، وفقاً لعدد المعارض المقامة هنا أو هناك. ولكن ما حقيقة هذه الحركة؟

لو تركنا جانباً بعض الحالات الاستثنائية، لأمكننا رسم صورة (كذا) المعرض الفني الذي يقام في إطار هذا الموسم أو ذاك في مدينتنا العربية.

يتألف هذا المعرض من افتتاح يحضره نحو مئة شخص، نِصْفهم من معارف الفنان، ونِصْفهم من معارف الصالة. أما في الأيام التالية فتبدو قاعة المعرض خاوية إلا من «واحد أتى قبل الظهر، وثلاثة بعد الظهر..» وبعد عشرة أيام يجمع الفنان اللوحات التي لم تبع، ليأخذها إلى بيته، ويبدأ بتصفح الجرائد والمجلات بحثاً عن رأي النقاد، فيعثر على مقالة أو مقالتين.. بعضها يتضمن مديحاً متوقعاً لأن كاتبها هو صديق، وبعضها غير مفهوم ولم يعرف الفنان نفسه عما يتحدث الناقد..!

فهل هذه هي وظيفة الفن، أي فن أصيل كان؟ وهل يمكن لأي عمل فني أن يرضى بمثل هذا الحجم المتواضع من تفاعل محيطة معه؟

أسوأ أشكال الهروب من المواجهة
إن أسوأ مشكلات الهروب من مواجهة أزمة اللوحة المعاصرة، هو في إلقاء المسؤولية عن عزلتها وإشاحة الناس بنظرهم عنها على الجمهور الذي «يحتاج إلى تربية فنية» كما يقول بعض المثقفين، من دون الاعتماد على أي أساس في هذا الاقتراح.

فاللوحة شيء يُقرأ بالعين، وإذا لم يكن الجمهور يعاني من ضعف نظر فهو قادر على الرؤية والاستمتاع باللوحة تماماً، وإن كان بعض اللوحات يحتاج فعلاً إلى شرح، فمعظمها لا يحتاج إلى ذلك، فقبل التربية الضرورية للخبرة، المطلوب هو أن تصل اللوحة إلى نفس القارئ وأن تحرك وجدانه، تماماً كما يتحرك أمام أية أغنية أو قصيدة، أو حتى تلك اللوحات «الرخيصة فنياً» التي يعلقها في بيته. وهذه المرحلة الأولية من التفاعل مع المشاهد، هو ما عجزت اللوحة العربية عن تحقيقه بشكل جماعي وعام.

ثم إذا افترضنا جدلاً أن المسألة مسألة تربية فنية، فما الذي يضمن تجاوب الجماهير وتفاعلهم الإيجابي في حال تربيتهم فنياً، مع ما هو معروض أمامهم اليوم؟ ألا تتضمن هذه التربية خطر تحول هذه الجماهير من اللامبالاة إلى التطلب ثم العدوانية التي تجرد سوق اللوحة الحالي من بضائع كثيرة هي رائجة اليوم (إعلامياً وتجارياً على الأقل) لأن جماهيرها (أو زبائنها) لا يتمتعون بتربية فنية..؟

الكرة في ملعب الرسام أولاً
يسمح لنا تاريخ اللوحة الأوروبية باستخلاص الملاحظات الأساسية حول ما سمح لها بأن تدخل النسيج الثقافي في بلادها، وأن تحتل المكانة التي تحتلها اليوم. فلكي تخاطب اللوحة وجدان المشاهد وترقى إلى مصاف الأعمال الفنية الأخرى التي تتألف منها ثقافة مجتمع معين يجب أن تتسم بثلاث صفات متكاملة لا يمكنها الاستغناء عن أي منها، وهذه الصفات هي:

1 – 
احتواؤها على «خطاب» (بالمعنى الواسع للكلمة) مستمد من قيم المجتمع الذي ينتمي إليه الفنان، أو من اهتماماته وهمومه وتطلعاته ونظرته الجديدة إلى الكون.
2 – 
الابتكار، وهو ليس بالضرورة ابتكار للموضوع، بل للنمط الشكلي في التعبير عنه.
3 – 
الإتقان، وهو حسن تنفيذ اللوحة تقنياً وجمالياً.

ولو وضعنا جانباً بعض المتطفلين والمرتزقة من عالم الفن (وهم بالمناسبة ليسوا قليلي العدد)، وتطلعنا إلى الفنانين الحقيقيين، لوجدنا أن هناك فعلاً البعض ممن يجمع في معظم الأحيان هذه العناصر الثلاثة في لوحاته، ولكن هؤلاء يبقون أقل عدداً مما هو مطلوب للحديث عن لوحة عربية معاصرة، أو عن ملء الفراغ الكبير الحاصل.

فأكثرية اللوحات العربية المعاصرة تفتقر إلى واحد، وأحياناً إلى اثنين من هذه العناصر الثلاثة التي يجب أن تحملها. ولعل المشكلة الأكثر شيوعاً هي في انتقاء الخطاب. فعلى سبيل المثال، عندما عرض كازيمير ماليفيتش لوحته الرائدة في التجريد الهندسي «مربع أبيض على خلفية بيضاء» عام 1914م، كان يتوجه بخطاب محدد حول علم الجمال إلى جمهور متسائل حول الشأن نفسه، بعد سلسلة من الأسئلة التي بدأت في عصر النهضة ووجدت أجوبة متتالية في الكلاسيكية ثم النيوكلاسيكية ثم الرومنطيقية ثم الانطباعية ثم التكعيبية… وعندما يتبنى رسام عربي مذهب ماليفيتش في الرسم التجريدي فهو يفترض (خطأً بالطبع) أن جمهوره يسأل السؤال نفسه، وقد حظي بالأجوبة السابقة التي حظي بها الأوروبي.. ولهذا فإن «الحداثة» العربية في الفن هي في الواقع اسم مُضَلِّل لواقع «الغربة».. ليس صعباً على الرسام العربي أن يعثر على خطاب. يكفيه لذلك أن يتطلع إلى الإنسان الذي يتوجه إليه بلوحته، ليستطلع ما الذي يمكن أن يخاطب به وجدانه، واهتماماته وتطلعاته.

وفي أحيان أخرى، ينتقي الفنان خطاباً مباشراً ومثيراً لاهتمام مجتمعه، مثل القضايا الوطنية والإنسانية المؤثرة.. معتقداً أن وضوح الخطاب (كما هو حال معظم اللوحات الوطنية – السياسية) يعفيه من ضرورة الابتكار، والأمر غير صحيح، أو من إتقان التنفيذ جمالياً، فيشيح الجمهور بنظره عنها، لأنه لا يجد في هذه اللوحة ما يعجز النصر المكتوب عن التعبير عنه.

وفي ملعب النقاد أيضاً
منذ ولادة فن اللوحة الأوروبية، كان الناقد يراقبها ويلتصق بها كظلها. وحتى القرن التاسع عشر كان الزبائن هم نقاد اللوحات، فيشترطون على الفنان الألوان التي يجب استعمالها، والمقاييس وأين يجب أن يكون الضوء .. إلخ. ومع ظهور الصحافة وسعي الفنانين إلى الاستقلال عن كبار الزبائن والتوجه إلى المجتمع ككل، ظهر النقاد بالمعنى الذي نعرفه اليوم. ومهمتهم ردم الهوة بين الفنان ولوحته من جهة والجمهور الذي يتوجه إليه هذا الفنان، سواء أكان ذلك من خلال «الاكتفاء بشرح» مضمون العمل الفني من دون التعليق عليه كما فرضت بعض الأيديولوجيات مثل النازية في ألمانيا، أم من خلال التعليق والحكم على نجاح العمل الفني والترويج له، كما هو الحال في المجتمعات الليبرالية، التي كتب لها الانتصار النهائي في هذا المجال.

ولو تطلعنا إلى عالم النقد التشكيلي في البلاد العربية، لوجدنا أنه (بالرغم من وجود استثناءات معدودة تستحق الاحترام)، يتألف من حشد هائل العدد لا يغيب عن أية مجلة ثقافية، ولا حتى عن الصحف اليومية. ولكن حشد النقاد هذا يبدو عديم الفاعلية على صعيد تقريب اللوحة من الجمهور.

فحتى لو أسقطنا من حسابنا «الشللية» حيث يروج الناقد لأعمال صديقه الرسام بشكل يفتقر إلى الصدقية، نجد أن معظم النقد المنشور في الجرائد والمجلات هو إما مجرد وصف بالنص لماهية أعمال هذا الفنان (ولو كان ذلك ممكناً أو ذا قيمة لكان على الفنان أن يكتب لوحته لا أن يرسمها)، وإما كلاماً غير مفهوم يجمع في عالم النقد الفني مفردات من علم النفس والاجتماع والفلسفة في جمل لا قيمة لها ولا معنى ولا تعود إلا إلى رغبة الناقد في الظهور بمظهر المتعمق القادر على رؤية ما لا يستطيع أي كان أن يراه.

فمن المذهل أن يكون النقد الفني الذي يتخذ من وسائل الإعلام ميداناً له، أن يبقى «القطاع الإعلامي» الأقل تأثيراً على جمهوره، خاصةً وأننا في عصر يقر بسطوة الإعلام التي لا مثيل لها في مجالات التوعية والترويج والإقناع والتحريض.

يدافع النقاد عن شحوب حضورهم في وسائل الإعلام بالقول إنهم يتعاملون مع مادة غير شعبية، أي أنهم يحيلون القضية على الرسام الذي يحيلها بدوره على الجمهور الذي لم يتلق تربية فنية.. علماً بأن هذا الجمهور وإن كان على استعداد لأن يتقبل من الفنان والناقد ما يقدمانه إليه من جميل ومفيد، فهو لا يصر عليهما بأي شيء، فهناك سوق كبير يعرض نسخاً للوحات مستوردة ونسخاً، وملصقات، وأشياء كثيرة، قادرة على أن تعبئ الفراغ على جدار غرفة المجلس، كما تعرض عليه محلات الأسطوانات والمكتبات آلاف الأغنيات ودواوين الشعر والروايات لسد الفراغ في ذهنه وإشباع حاجاته النفسية والوجدانية.

أضف تعليق

التعليقات