تلعب القيادات الشابَّة في عالمنا اليوم دوراً متعاظماً في كافة المجالات، وبات الاهتمام بتطوير الكفاءات القيادية واستثمار المتوفّر منها شأناً بالغ الأهمية، لما يرتجى منه على مستوى الإدارة والإنتاج. ولذا، جمعت القافلة نخبة من أصحاب الخبرة والدراية بهذا الموضوع في جلسة نقاش عقدتها مؤخراً، تمحورت حول سبل إعداد القيادات الشابَّة في المملكة وتنميتها وتطويرها، وما يواجه ذلك من تحديات على ضوء التجارب المحلية والعالمية، وقد أدار هذه الجلسة الأستاذ في الخدمة الاجتماعية بجامعة الملك سعود، د. حسين محمد الحكمي
بدأت الجلسة بكلمة من مديرها رحَّب فيها بالمشاركين الذين وصفهم بأنهم أصحاب خبرات وتجارب علمية وعملية ومشاريع واقعية في موضوع القيادات الشابَّة، وقد عرض الدكتور الحكمي لموضوع الجلسة مشيراً إلى أن موضوع القيادة “بات شأناً مهماً وحساساً جداً، ويمثِّل مطلباً أساسياً وركيزة ثابتة في المرحلة الانتقالية التي نمرُّ بها في المملكة سواءً على مستوى الدولة، أو على مستوى المجتمع أيضاً. كما أنَّ الحراك الكبير الذي يحدث في منطقتنا، وعلى مستوى العالم يُلحُّ علينا في طرح هذا الموضوع”، بعد ذلك طرح على الحاضرين أسئلته: “من هو القائد المناسب؟ وكيف نستطيع تأهليه للقيادة؟ وما المنهجيات والطرق التي يمكن أن تساعدنا في الوصول إلى قيادات شابَّة، واستثمارها، وصناعة نماذج مميّزة ولامعة؟
وفي السياق نفسه، أضاف الدكتور الغامدي ملاحظة مفادها أن تطوير القيادات وتطوير القيادة مفهومان مختلفان جداً. فالأول يتصل بالأشخاص، والثاني يتصل بالإجراءات والثقافة داخل المنظمات.
فتطوير القيادة في المنظمات هو تطوير للأنظمة في المؤسسة التي تدعم القيادات، وتهيئة لبيئة عمل تخلق القادة، وآليات عمل ومنهجيات تصنعهم على المدى الطويل، أما تطوير القادة فهو يركِّز على التطوير الفردي، ورفع كفاءات الموظفين، وغالباً ما يكون قصير الأمد. هذا هو الفرق بين تطوير القيادات وتطوير القيادة.
وعلى مستوى العالم، فإن جميع المنظمات والدول باختلاف أنواعها تعرف أن اختيار القادة، واكتشافها ليس عملاً سهلاً على الإطلاق. إذ يحدث أحياناً أن بعض الأشخاص يبدون سماتهم القيادية، لكنهم يفشلون عند أول اختبار حقيقي في مواقعهم القيادية، وهذا يؤشر على مدى صعوبة اكتشاف وصناعة القادة، وتأثرها بالمتغيرات المختلفة.
الصفة القيادية
أهي فطرية أم مكتسبة؟
وبدأت الجلسة تغوص عميقاً في الموضوع المطروح على البحث، بتساؤل من فاطمة الشريف إن كان القائد يولد قائداً؟ أم نستطيع بناءه أو صناعته؟ هل مهارة القيادة صفة شخصية تولد مع فرد ما؟ أم أنها قابلها للاكتساب؟
وتستطرد قائلة: “إذا كانت صفة القيادة فطرية لدى الإنسان، فهذا يعني أن محاولات تطويرها أياً كانت لن تكون فعّالة ولا صالحة مع شخص ولد وهو يفتقد صفة القيادة. ولن يستطيع التدريب والتأهيل الذي يتلقَّاه، ولا الخبرات والتجارب التي يتعــرَّض لها أن تحوِّله إلى قائد!!
د. عبدالله رفود السفياني
النظريات التي نستوردها من الخارج وخصوصاً في الإدارة والعلوم الإنسانية، هي نظريات نابعة من مجتمعات لها ثقافتها، وفلسفتها في الحياة، ولذلك فهي تنجح عندهم، وهذا لا يعني بالضرورة أن تنجح عندنا في حال لم نقولبها حسب حاجاتنا وثقافتنا وتقاليدنا الاجتماعية
د. إبراهيم محمد الغامدي
تطوير القيادات وتطوير القيادة مفهومان مختلفان جداً. فالأول يتصل بالأشخاص، والثاني يتصل بالإجراءات والثقافة داخل المنظمات
وأضافت: هل هناك آلية لاكتشاف النواة الأساسية في أي شخص التي تؤهِّله لأن يكون قائداً؟ كي لا نهدر الوقت ولا الموارد على مساعي تحويل شخص معيَّن أو عدة أشخاص إلى قادة، وهم ليسوا مستعدين أصلاً ليكونوا كذلك! وقبل ذلك: هل هناك اختبار لاكتشاف السمات القيادية لدى شخص معيَّن، من أجل توفير الحاضنة المناسبـة والبيئة التي تساعده على أن يتحوَّل إلى قائد حقيقي؟”. ويجيب الدكتور الحكمي قائلاً: بأن هناك مهارات وقدرات تؤهِّل بعض الأشخاص لأن يكونوا قادة بشكل عام، أو في جانـب محدَّد كالجانب العسكــري، أو التقني، أو الرياضي، أو السياسـي، أو غير ذلك من الاهتمامات والمجالات.
ويضيف: “أذكر هنا قصة الخليفة عمر بن الخطاب، -رضي الله عنه-، عندما كان يمشي في طرق المدينة فرأى أطفالاً يلعبون، وكان شديد المهابة كما هو معروف. فلما رآه الأطفال تفرَّقوا، إلا واحداً منهم لفت نظره، فقال: يا غلام لِمَ لَمْ تهرب مع مَنْ هرب؟ قال: أيها الأمير، لست ظالماً فأخشى ظلمك، ولست مذنباً فأخشى عقابك، والطريق يسعني ويسعك. وكان هذا عبدالله بن الزبير.
وفي هذه القصة علامات كثيرة، منها أن هذا الطفل الصغير أصبح قائداً معروفاً فيما بعد، وكان يمتلك أساس القيادة منذ طفولته”.
المشاركون في جلسة القيادات الشابة
– د. عبدالله بن رفود السفياني، عضو مجلس الشورى
– د. إبراهيم محمد الغامدي، متخصِّص في القيادة الأصيلة وتطوير القادة والمستشار في تنمية الموارد البشرية بوزارة التعليم
– م. علي الغبيشي، خبير في تطوير الحلول التقنية والمحتوى الإلكتروني
– فاطمة محمد الشريف، مدير عام ميديا فيجن للعلاقات العامة
– هشام الثنيّان، مدير عام خدمة العملاء في وزارة الخدمة المدنية
– هلا رياض الهجن، مديرة جودة المبيعات في مايكروسوفت العربية
– هنوف العجمي، مديرة المشاريع الخاصة في هيئة الإعلام المرئي والمسموع
– فهد الأحمري، كاتب في صحيفة الوطن
– زكي أبو المكارم، مختص ومحاضر في التغذية الإكلينيكية
المدرسة وأدوات صناعة القائد
ولكن، إذا كانت بعض الصفات القيادية تولد مع الطفل أو تتشكَّل في شخصيته خلال طفولته فأي دور يمكن للتربية، وللمدرسة تحديداً، أن تلعبه في تنمية هذه الصفات؟
وهنا يشير مدير الجلسة إلى وجود اتهام للمدارس بأنها تقتل الصفات القيادية لدى الطلاب، التي جاؤوا بها من منازلهم وأسرهم، موجّهاً سؤاله عن الأسباب إلى زكي أبو المكارم الذي قال:
م. علي الغبيشي
إن واحدة من الأشياء التي نحتاجها نحن هي أدوات صناعة القائد، وأدوات صناعة الحاضنات المعنية بصناعة القيادات
زكي أبو المكارم
أتصور بأن المدرسة ليست وحدها مكان إعداد القادة، بل هي جزء تعليمي تدريبي من منظومة متكاملة، تضم إلى المدرسة الأسرة والمجتمع بشكل عام
“أتصوَّر أنَّ المدرسة ليست وحدها في هذا الأمر، بل هي جزء تعليمي تدريبي من منظومة متكاملة، تضم إلى المدرسة الأسرة والمجتمع بشكل عام. وكل معرفة ومهارة تُبنى من خلال هذه المحاور وغيرها. والقيادة واحدة من المعارف التي تتأثَّر بكل هذه المنظومة، وبالتالي، إذا كانت المدرسة لا تنمِّي في الطالب روح القيادة، والصفات القيادية، ولا الأسرة كذلك .. فإنها سوف تموت في داخله”.
وتحدَّث في هذا الجانب أيضاً علي الغبيشي الذي أشار إلى أن هناك ندرة في القيادات وأيضاً في جهود البحث عنها، وإلى وجود حاجة لحاضنات تبني القيادات ومفاهيمها، و(كشّافين) للبحث والكشف عن القيادات. وأجاب عن بعض أسئلة الشريف بقوله: “لا شك في أن القيادة تتشكَّل من جانب فطري وجانب مكتســب. وهناك اختبــارات ومقاييــس للقيادة تحدِّد سماتها”.
وأضاف: “إن واحدة من الأشياء التي نحتاجها نحن هي أدوات صناعة القائد، وخلق الحاضنات المعنية بصناعة القيادات”.
تجربة المملكة في هذا المجال
وهنا تحدَّث هشام الثنيان ليؤكد أن استكشاف المهارات القيادية وتطويرها ليس غريباً تماماً عن المملكة، وتطرَّق إلى تجربة انطلقـت من وزارة الخدمة المدنية نظراً لطبيعة اختصاصاتها. حيث بدأ في شهر فبراير الماضي مشروع “تطوير قيادات الخدمة المدنية”.
وأورد الثنيان بعض تفاصيل هذه التجربة بقوله: “كان الهدف من هذه التجربة بعيّنة محدَّدة من موظفي وزارة الخدمة المدنية، يُتوقَّع لهم أن يكونوا قيادات حقيقية فعّالة، بغض النظر عن طبيعة أعمالهم، وعما إذا كانوا على رأس أعمال قيادية إدارية أم لا. فلربما توفرت لدى بعض هؤلاء روح القيادة، ولكن الفرصة لم تتهيأ لهم ليتولوا مناصب قيادية أو إدارات عامة” وسوف تُطبّق هذه التجربة على مستوى كل الأجهزة الحكومية.
هلا الهجن
أعرف أن هناك بعض الجهات الحكومية والأشخاص الذين نفَّذوا برامج لصناعة وتطوير القيادات؛ لكنها في الأخير لم تتجاوز كونها صرف مبالغ من غير طائل أو نتائج حقيقية ملموسة
هنوف العجمي
يخضع القياديون في القطاعات الخاصة إلى مؤشرات أداء معينة، وتعليمات واضحة ومرنة تجعلهم مبدعين كقادة، ومنتجين أكثر من أمثالهم في القطاعات الحكومية
ولما سأل مدير الجلسة ما إذا كان الهدف من المشروع تعيين قيادات وترشيحهم لمناصب قيادية، أم فقط اكتشافهم، أجاب الثنيان: المشروع جاء لتطوير القيادات إجمالاً، سواء القادة الموجودين الذين تنقصهم بعض المهارات، أو الأشخاص المهيئين لتسلّم مناصب قيادية، يجب أن يكونوا على جاهزية تامة لها.
وعلّق الغبيشي على ذلك بقوله إن هذه التجربة هي تجربة جديدة على مستوى الأجهزة الحكومية. ولكن بعض الجهات الخاصة في المملكة كانت سبَّاقة إلى اختبار تحديد القدرات الإدارية، وتعيين قياداتها بناءً على هذا الاختبار منذ ما قبل سنوات أربع.
غير أن هلا الهجن، أبدت تحفظها على الإغراق في التفاؤل بنتائج مثل هذه التجارب على المستوى العملي أو التطبيقي، بقولها: “أعرف أن هناك بعض الجهات الحكومية وغيرها الذين نفَّذوا برامج لصناعة وتطوير القيادات، لكنها في الأخير لم تأتِ بنتائج حقيقية ملموسة.
وأضافت أن هذه البرامج والمنهجيات يجب أن تخرج بمخرجات فعلية، وأن يكون من أدوارها توظيف القادة في مناصب حقيقية. كما أن اختيار الأشخاص المرشحين للقيادة بناءً على شهاداتهم يحمل إجحافاً بالنسبة إلى الآخرين، كما أنه يمثل عودة إلى النهج القديم الذي لا يلتفت إلى عنصر الجدارة والكفاءة المرتكزة على الخبرات والتجـــارب، بل يقتصــر تطلعـه على الشهادة وتقدير المؤهِّل.
نظريات القيادة واختباراتها
بين “العالمية” و”المحلية”
ردّ خلال الورشة الدكتور عبدالله السفياني ضعف النتائج الناجمة عن هذه التجارب إلى عامل ثقافي أعمق من الاختبارات المقنَّنة والثقة فيها، مشيراً إلى أن هذا العامل يكمن في سيطرة العادات والتقاليد التي تعيق وتعرقل في كثير من الأحيان عمل القيادات وقال: “إن النظريات التي نستوردها من الخارج خصوصاً في الإدارة والعلوم الإنسانية، هي نظريات نابعة من مجتمعات لها ثقافتها، ولها فلسفتها في الحياة، ولذلك فهي تنجح لديهم بشكـل منقطع النظير لأنَّ المجتمع يدفع بها للنجاح.
أما بالنسبة لنا، فعندما نستنسخها ونزرعها في جسمنا الثقافي فإنها لا تكاد تنجح، وقد نقع في أخطاء. والسبب ليس في أنّ النظرية خاطئة، بل في البيئة التي تطبق فيها، فبيئتهم تختلف عن بيئتنا، مما يعني أن تلك النظريات لم نوفر لها بيئة اجتماعية وثقافية تضمن نجاحها.
ففي موضوع القيادة، فإن تلك النظريات التي تُدرّس في الغرب هي خاصة بمجتمعات ذات نظم سياسية واجتماعية خاصة بها. فعند القائد شيء من الحرية والحماية والسلطة، ويستطيع أن يمارس قراراته بعيداً عن أي ضغط غير الضغط القانوني الذي يجب أن يلتزم به.
أما نحن فلدينا قيادات كانت يمكنها أن تكون مثالية، لكنها لا تستطيع ممارسة حياتها الإدارية بشكل صحيح بسبب نظامنا الاجتماعي. وقد مررت شخصياً بأكثر من تجربة تؤكد ذلك. فقد عملت مع قادة على مستويات عالية، ووجدت أن بعضهم لا يستطيع أن يتخذ قراراً وهو على رأس إدارة ما، ويكون السبب هو الضغط الاجتماعي الذي يتعرَّض له”.
وأضاف: “هناك إشكالية أيضاً تتعلَّق بالأخلاق. فقد يكون الشخص قائداً، وخضع لكل الاختبارات والمقاييس والبرامج التي تُهيئه للقيادة الاحترافية المنتجة، لكنه فاسد أخلاقياً، فلا يستطيع بسبب ذلك أن ينجح في مجال القيادة.
هشام الثنيان
استكشاف المهارات القيادية وتطويرها ليس غريباً تماماً عن المملكة، مثالاً على ذلك مشروع “تطوير قيادات الخدمة المدنية” الذي انطلق في شهر فبراير الماضي كتجربة رائدة من وزارة الخدمة المدنية
ففي عالمنا النامي، لا تكمن المشكلة في انعدام القادة، أو صعوبة اكتشافهم، ولكنها بيئية تربوية اجتماعية بالدرجة الأولى. ولذلك، نرى أنه على مرّ تاريخنا القديم والحديث، كان شيوخ القبائل وقادة المعارك ومشاهير العرب قادة فطريين، وحقَّقوا الصعب والمستحيل، لأنهم عاشوا في بيئات ساعدتهم على ذلك، ولم يتعلَّموا، أو يخضعوا لبرامج تأهيلية، واختبارات ومقاييس تكتشفهم”.
وهذا بطبيعة الحال لا يعني إهمال تأهيل القيادات فهذا مهم وضروري، ولكن يجــب أن يكون هناك تأهيل تربوي وأخلاقي للمجتمع لتتمكن القيادات من أداء دورها.
وختم السفياني مداخلته بالتساؤل: “كيف نعيد تأهيل المجتمع من جديد حتى يكون واعياً، وقادراً على إفراز القيادة واحترامها واحترام القانون؟ كيف نصنع الحراك الاجتماعي الذي يفرز القيادة؟ ويجيب بأننا نحتاج إلى نمط جديد من التربية التي تعيش حالة من النقد، بحيث تطوِّر المجتمع، فنشهد تطوراً جديداً وأخلاقاً جديدة وحياة غير التي كنّا نعيشها”.
وعندما عقب على ذلك الدكتور الحكمي بقوله: “للمجتمع عندنا مكونات عديدة، منها: الأسرة، والمدرسة، والمسجد، ووسائل الإعلام، والناس أنفسهم، وكلها عوامل تؤثِّر في مؤازرة القائد، أو في تراجعه عن دوره الحقيقي. فهل هناك ما يمكن تغييره حتى نمكِّن القائد من النجاح في عمله؟
أجاب السفياني: “ما ذكرته سابقاً لا يعني أن الموضوع نفق مظلم لا ضوء فيه!..
فهناك أعمال جميلة، وحراك صحي، والأمل كبير بولادة قيادات جديدة، لكن أمامنا مراحل كثيرة، ويجب أن نحدِّد مشكلاتنا بدقة حتى نستطيع معالجتها”
فرق بين القطاعين الخاص والحكومي؟
وفي إطار تقييم الواقع الفعلي على الأرض، رأت هنوف العجمي أن القيادات في القطاع الخاص هي أفضل حالاً منها في القطاع الحكومي.
وقالت: “أعتقد أن ذلك يرجع إلى ما يُفرض على أولئك القياديين في القطاعات الخاصة من مؤشرات أداء معيَّنة، وتعليمات واضحة تجعلهم مبدعين كقادة، ومنتجين أكثر من أمثالهم في القطاعات الحكومية. فالقائد في القطاعات الخاصة غالباً ما يكون محكوماً بقواعد وأنظمة صارمة تجبره على أداء عمله كقائد، وتطوير نفسه كقائد، قادر على صنع قادة آخرين، وتطويرهم. فهو ملزم بتحقيق الهدف الذي عُيِّن في المنصب من أجله. إضافة إلى وجود حوافز واضحـة في القطاع الخاص تساعد القائد على المضيّ قُدماً”.
ووافقت هلا الهجن على صحة هذه الملاحظة، قائلة: “إن القطاع الخاص هو الذي يولِّد قادة حقيقيين. ونحن في “رؤية المملكة 2030″ ومع وجود قادة جُدد، لاحظنا أن أغلبهم قَدِمَ من القطاع الخاص، ولكن دون تعميم”.
فاطمة الشريف
هل القائد يولد قائداً أم نستطيع صناعته؟ هل مهارة القيادة صفة شخصية تولد مع فرد ما؟ أم أنها قابلها للاكتساب؟
غير أن الهجن نبّهت إلى أنَّ “ليس كل قائد ناجح في القطاع الخاص سينجح حكماً في القطاع الحكومي”. ولفتت إلى أنّ القطاع الثالث (وهو القطاع الخيري) أصبح يستقطب قادة من القطاعين الخاص والحكومي، إيماناً منه بقدراتهم ونجاحاتهم. ورأت أنَّ في ذلك ما يؤكد ما سبقت الإشارة إليه، وهو أن القيــادة تَعلُّـــم، وأن للبيئــة تأثيـراً فعلياً على صناعة القادة”.
وعقّبت الشريف على ذلك بقولها: “أعتقد أن نجاح القيادات في بيئات العمل الخاصة لا يعود إلى المحفّزات، مثل المكافآت الخاصة و”البونص” والتدريب الخاص وغير ذلك، مما هو مُتاح للموظفين العاديين الناجحين في أعمالهم، وإنما لأسباب أخرى لعل أهمها الفرق بين المدير الناجح وبين القائد في القطاع الخاص. وفضلاً عن ذلك، فإنَّ القطاع الخاص يتميَّز بهامش أوسع في حرية الحركة ولديه إمكانية أكبر للتصرف مما عليه الحال في القطاع الحكومي. فالبيئة قابلة لصناعة القائد القادر على اتخاذ القرار، وعلى التفكير بالطريقة التي يراها مناسبة، وعلى صناعة منجز جديد. بخلاف القطاع الحكومي الذي يكون فيه القائد المبتكر المبدع المتميز محاصراً بروتيَّن معين، وبنظام إداري لا يحيد عنه”.
وتعقيباً على ذلك، أوضح الثنيان أنّ أعمال الحكومة “تُعد أعمالاً خدمية بالدرجة الأولى، والمدير فيها ليس مطالباً بتحقيق أهداف مالية ربحية، ولذا فإن المحاسبية والمسؤولية والتطوير والاحتياج لاكتساب كثير من المهارات أقل بكثير من أعمال القطاع الخاص. أيضاً فإنَّ الدورات التدريبية التطويرية في القطاع الحكومي كان يُنظر لها على أنها تكريم أو مكافأة، وليست حاجة مُلِحَّة إلى التطور والتقدُّم، طبعاً هذا واقع التفكير في السابق.
أما اليوم فإنَّ القيادات التي استقطبت من القطاع الخاص تتحمّل مسؤولية كبيرة في تطوير الموظف الحكومي، ومن ثم تكوين قيادات حكومية على المستوى نفسه الموجود في القطاع الخاص. فرؤية 2030 تتضمَّن تصحيحاً لحال الموظف الحكومي. وهذا لا يعني أن الحكومة تستنسخ القطاع الخاص أو تتحوَّل له، وإنما يتوجب على الأجهزة الحكومية أن تكون في وضع منافس، ولذا، لن يكون هناك في المستقبل فرق بين قطاع خاص أو غير خاص”.
دور البيئة وعوامل أخرى
في نشوء القيادات
أما الدكتور الغامدي فرأى أن التساؤل حول ما إذا كان القائد يولد أم يُصنع هو جدل باقٍ منذ الأزل. وقال: “لدي رؤية متوازنة في هذا الشأن من خلال ما توصلت إليه من دراسات وأبحاث. فالقائد في الغالب يولد بحدٍ أدنى من الصفات الفطرية التي لا بد أن تتوافر فيه ليكون قائداً، وفي الوقت نفسه، لو كان هذا الحد الأدنى من الصفات متوافراً لديه، ولكنه مر بظروف صعبة لم تُهيِّئه للقيادة، فإنه لن يكون قائداً. هذا هو التوازن المطلوب في هذا الموضوع.
أما فيما يتعلق بتطوير المهارات القيادية، فهناك منهجيات وأساليب كثيرة ومتعدِّدة. ولدينا في المملكة العربية السعودية ممارسات على مستوى عالٍ جداً، مثل مركز أرامكو السعودية لتطوير وصناعة القادة، الذي تجاوز التطوير والصناعة إلى الإبداع وابتكار الأساليب التي تبحث وتصنع قادة حقيقيين في الشركة”.
وأضاف: “يبقى الفيصل في هذا الموضوع هو القدرات الفردية. فلن يكون الإنسان قائداً إذا لم تكن لديه القدرة على قيادة ذاته. إذ من المستحيل أن يتولى شخص ما ليس لديه القدرة على التحكم في وقته، أو في شخصيته، قيادة مجموعة أشخاص، أو منظمة بأكملها. فالقيادة تبدأ فعلياً بقيادة الذات، والتحكم بالنفس والأشياء التي يملكها الفرد القيادي، ثم ينتقل إلى المستوى الثاني وهو قيادة الفريق والتخطيط له وإدارته وإدارة الاتصال الجيد.
نجاح القيادات في بيئات العمل الخاصة لا يعود إلى المحفّزات مثل المكافآت الخاصة و”البونص” والتدريب الخاص فقط، فالقطاع الخاص يتميَّز بهامش من حرية الحركة والتصرف أكبر مما هو الحال في القطاع الحكومي. والبيئة قابلة لصناعة القائد القادر على اتخاذ القرار، وعلى التفكير بالطريقة التي يراها مناسبة، وعلى صناعة منجز جديد. بخلاف القطاع الحكومي الذي يكون فيه القائد المبتكر والمتميز محاصراً بروتين معيَّن، وبنظام إداري لا يحيد عنه
ولما أعاد الدكتور الحكمي الإشارة إلى ما يمكن للتعليم أن يؤديه في هذا المجال، قال الغامدي: “إن التعليم يتحمَّل مسؤولية كبيرة في هذا الصدد. لكن القيادة ليست نصاً يمكن تحفيظه للطلاب، أو منهجاً يمكن تدريسه، وإنما هي سلوك ونشاطات يتم اكتسابها. ولذا فإنَّ المُعلم يُعدُّ صراحة القائد الأول في نظر الطالب، وهو القدوة المبكّرة. ومن المهم أن يُصدّر المعلِّمون السمات الإيجابية إلى الطلاب، حتى تُغذِّي روح القيادة فيهم، وتحرِّك كوامن العمل القيادي لدى من يتحلَّون بسماته”.
بين المبــادرات الإنتاجية وصناعة القيادات، أي الحاجتين هي الأكثر إلحاحاً؟
في الدقائق الأخيرة من الجلسة، أعربت العجمي عن إحساسها “بوجود ضغوط على الأشخاص لكي يصبحوا قادة. وكأنه إذا لم يُصبح المرء قائــداً، فمعنى ذلك أنه غير منتج وغير ناجح. وهذا ليس صحيحاً”. ورأت أنه من الأسلـم تحفيز الإنتاجية أكثر من الحصول على منصـــب معيَّن. الأمر الذي أبدى الغبيشي موافقته عليه.
القائد يولد بحدٍّ أدنى من الصفات الفطرية التي لا بد أن تتوافر فيه ليكون قائداً، وفي الوقت نفسه، لو كان هذا الحد الأدنى من الصفات متوافراً لديه، ولكنه مرَّ بظروف لم تُهيِّئه للقيادة، فإن صفاته هذه لن تكون ذات قيمة، بل وسيخسرها مع مرور الوقت
وبعد أن تحدَّث الغبيشي عن تجربته في التأهيل القيادي عندما كان مديراً عاماً لتقنية المعلومات في وزارة التعليم، ومديراً عاماً للفروع والمعلومات، قال إن تلك التجربة “أكدت أن علينا الدفع بدعم المبادرات والإنتاجية. فنحن نحتاج إلى المبادرين أكثر من القادة –على الأقل في الوقت الراهن- ونحتاج إلى الإبداع، وهذا جليُّ في الأجهزة الحكومية، كما في القطاع الخاص. لأنَّ هناك تقارباً ملموســاً متزايداً بين القطاعات الحكومية والقطاعات الخاصة من حيث التنظيمات الإدارية، والتأهيل القيادي. وهذا ما تسعى إليه الحكومة حالياً، ويظهر من خلال ورش التحول الوطني”.
توصيات الجلسة
ويقول الغبيشي: “كتوصية، نحتاج أن نسأل أنفسنا عن عدد برامج التأهيل القيادي الموجودة في الحكومة وفي القطاع الخاص، بحيث يكون هناك مسح لهذه البرامج، واستطلاعات ميدانية؛ نظراً لأهميتها، ولوجود اختبارات وأساليــب حديثـــة متعدِّدة تُظهر الفروقات في المعرفة الإنسانية المتصلة بإعداد القيادات وصناعتها، ومنهجية التعاقب الإداري والوظيفي.
ومن الضروي في هذا الصدد، دراسة تجارب التطوير القيادي الوطنية، مثل مركز أرامكو السعودية، والمركز الناشئ تحت مظلة وزارة الخدمة المدنية بالشراكة مع معهد الإدارة العامة، ومشاريع مؤسسة مسك الخيرية، ومركز الملك سلمان للشباب، وجمعيات خيرية أخرى لديها برامج متخصصة في هذا الإطار. فإذا دُرست هذه البرامج التي تُعدُّ ثروة وطنية بشكل عام، من أجل البحث عن برامج مشتركة لتطوير القيادات، فإننا سوف نصل إلى معايير وطنية تسهم في تأهيل القائد السعودي، وأختم بضرورة تأسيس مراكز أبحاث تختص بدراسات علم القيادة”.
مشروع “تطوير قيادات الخدمة المدنية” في وزارة الخدمة المدنية
المرحلة الأولى:
• اختيار عيِّنة من الموظفين من حملة الماجستير وحملة دبلوم ما بعد البكالوريوس
• اختبار قياس المهارات المختلفة في وقت زمني محدِّد
• اختبار آخر لقياس الميول والاتجاهات
المرحلة الثانية:
• اختبار يقيّم فيه الأشخاص السبعة الذين اجتازوا المرحلة الأولى
• تحليل شخصية الموظف، واتجاهاته وميوله المهنية والقيادية
المرحلة الثالثة:
• اختبار لمدة يوم كامل مكوَّن من 3 فقرات:
• دراسة حالة جماعية
• مقابلة شخصية خاصة
• دراسة تحليلية كاملة عن كل قائد من هؤلاء القادة الجُدد
النتيجة: خطة عمل مقترحة لكل قائد يؤدي إلى التطوَّر بشكل صحيح