هل حدث لك يوماً أن استضفت في أحد المجالس أو الديوانيات، ولحظت أن رؤوس الحاضرين تتلاقى وهي تتساءل بهمس يظهر على العيون والأيدي، من هو هذا الشخص الغريب؟ إلى من ينتمي؟ وكيف أصبح -هكذا- فرداً منا يحتفل بمناسباتنا، ويشاركنا رؤيتنا، ويخاطبنا وكأنه ابننا أو أخونا؟
أقول إن هذا يحدث دائماً، ولا يزال يحدث. وقد توجد فروق طفيفة بين من يسرفون في عبارات الترحيب وبين من يقتّرون؟ لكن الحقيقة الراسخة، أن هناك غربة وعصبية وتنافراً بين بعض أبناء الوطن الواحد، وهناك التصنيفات الاجتماعية الجاهزة التي تقيم الحواجز بين الناس، وهناك الأرضية الثقافية التي تسمح لهذه المفاهيم المتطرفة أن تتواجد وتتحكم..!
«القبيلة» في حياتنا -على الأخص- موضوع شديد التشابك والتعقيد، وربما لم أتقدَّم لطرحه، كمسألة تستحق التأمل والبحث، لولا أن مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، قد خصص آخر جلساته الجدلية لبحث موضوع «القبيلة والمناطقية والتصنيفات الفكرية»، وهو ما يعني أن هناك عنصراً يمكن أن يؤثر على تماسك الوحدة الوطنية، ويؤثر على اندماج المواطن في بنية الدولة ومؤسساتها، ويحول دون أن يكون صاحب إسهام فاعل في صناعة حاضرها ومستقبلها، والأخطر أن يصبح الولاء القبلي أو الطائفي أو المناطقي أكثر من الولاء الوطني، ولعل هذا ما جعل بعض أوراق العمل التي قدمت في المؤتمر أشد جرأة وتحليلاً وعمقاً مما توقعناه من هذا النوع من اللقاءات.
ولكيلا يشرد ذهن القارئ بعيداً، فإننا نقول إن القبيلة في جزيرتنا العربية بل وفي منطقة الشرق الأوسط بكاملها هي مكون ثقافي واجتماعي ووجودي عميق، وهو يتغلب أحياناً على غيره من المسلمات الاجتماعية، ويتسلل إلى مشاعر الناس وعواطفهم بل ويشكِّل أحياناً ضامناً حياتياً واقتصادياً، بل وهوية تعكس المجموعة القيمية والنظرة للحياة والآخر، بل إن هناك مفكرين اعتبروا أن الشعر العربي، وخاصة الفصيح منه، والذي ساد لأكثر من عشرة قرون في قلب الجزيرة لم يتجاوز التعبير عن قيم الجماعة التي تركز على نغمات الفخر والخيلاء، وأن الشعر النبطي الذي نردِّده اليوم ما زال يشيع ذلك الضرب من التفكير والدلالات.
ونحن اليوم لا نستطيع حقاً أن ندين مفهوم القبيلة، في المطلق، فهو لم ينشأ ويتكون لأنه كان طارئاً عارضاً، بل لأنه كان الرابط العميق الذي يوحِّد الناس في صحاري مترامية، ويمنحهم المظلة الآمنة للعيش المشترك في كيان اجتماعي آمن وفي مواجهة الأعداء حين يصبحون خطراً داهماً على العيش والوجود والكرامة.
لقد اعتبر «ابن خلدون» أن العصبية تبدو وكأنها العنصر الضروري والكافي للربط بين وجهي العمران في تكونه وتفككه، فالدافع الذي يحوِّل القبيلة من حياة بدوية إلى حضرية، والعنصر الذي يضمن لها الحياة والحماية والسلطة إنما هو كامن في «العصبية» التي يمكن تفسيرها على أنها الحالة الذهنية العاطفية التي تظهر في العلاقات والسلوكيات التي تقسم بها مجموعة من البشر.
لكننا في الحقيقة لا نعيش عصر «ابن خلدون»، ولا نطمح لأن تكون القبيلة والعصبة هي رموز قوتنا الاجتماعية. إننا ننتمي إلى عصر جديد تتهدم فيه الواجهات العنصرية والعصبية والقبلية والمذهبية في العالم المحيط بنا، وتقوم على أنقاضها مقومات المجتمع المدني والمؤسسات، وتسود فيها روح الأنظمة والقوانين ويتساوى أمامها الأفراد والجماعات، ويصبح السبق الحقيقي للمقتدرين علمياً وتقنياً وبحثياً وإبداعياً، بعيداً عن أرض القبيلة وتحالفاتها وأطيافها.
وهذا ما بدا واضحاً في التقرير الختامي للحوار الفكري الثالث، فقد اعتبر أن المجتمع السعودي مجتمع متنوع ومتعدد، ويجب استثمار هذا التباين في تعزيز الوحدة الوطنية وخدمة التنمية بما يضمن بناء مستقبل وطني حضاري موحَّد، بل إن المملكة مكوَّنة من مجتمع متنوع وقبائل متعددة، وهي حقيقة يمكن أن تكون عنصر قوة ودعماً للوحدة الوطنية على أساس المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات.
وأعتقد أن روح القبيلة لن تتراجع في حياتنا دون أن تتحمل مؤسسات الدولة نصيبها في كبح جماح هذه الظاهرة، وتفعيل منطق الكفاءة والإبداع والإنجاز، وثانياً: إعادة رسم دور المؤسسات التعليمية والتربوية فدورها استراتيجي وهو يبدأ من تعلم أبجديات اللغة والحياة والمعرفة وينتهي بتخطي المرحلة الجامعية وتسلم قيادة المؤسسات. وثالثاً: المؤسسة الاجتماعية الأم، وهم الأهل وأفراد العائلة، ففي هذه البؤرة الصغيرة يتم تثبيت وتعميق القيم والمفاهيم الاجتماعية الإيجابية أو إعادتها إلى الخندق الضيق، خندق القبيلة ورؤاها المتعصبة، ومخاصمة مؤسسات المجتمع المدني التي تسود العالم اليوم.
ولعل أكثر ما يثير الانتباه هو أن نسبة ليست قليلة من شبابنا وصغارنا لا يزالون أسرى هذه المفاهيم القبلية السلبية، فمحيطهم الاجتماعي لا يزال يغذيهم بهذه المفاهيم التي تكرِّس مفهوم القطيعة وتقلِّل من شأن المواطنة. وبعض هؤلاء الشباب والشابات يحملون هذه الروح الإقصائية إلى خارج وطنهم أي حيث يدرسون، ويبحثون أو يعملون، أو يحاولون صناعة وطن جديد.
والمأمول هو أن يعود هؤلاء غداً بشهاداتهم المرموقة من أكاديميات العالم، وأن يسندها وعي وطني شامل يكرِّس اللحمة الوطنية، ويعزز قيمة المساواة الكاملة بينهم وبين أبناء وبنات جيلهم، وأن يحل العقل العلمي والمنهجي والتنظيمي محل قيم القبيلة والعصبة.
حين نصل إلى تلك المنطقة، نقول إننا نقترب من مشارف المجتمع المدني الذي نطمح إلى صنعه جميعاً…