تنضم رواية العمامة والقبعة ، آخر أعمال الروائي العربي المعروف صُنع الله إبراهيم، إلى مجموعة الروايات والأعمال الأدبية التي تتناول الحوار ما بين الشرق والغرب وصدامهما، من خلال أحداث، نصفها حقيقي والآخر متخيل، تجري في مصر إبان الحملة الفرنسية عليها في أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التالي.
أشرف إحسان فقيه يقدِّم قراءاته لهذه الرواية، ويختار لنا فصلاً معبِّراً عن مناخها العام.
قد لا تكون العمامة والقبعة أعظم روايات صنع الله إبراهيم، الذي يُعد أحد أشهر الروائيين العرب وأكثرهم إثارة للجدل؛ لكنها تظل عملاً جديراً بالقراءة والتأمل لمؤلف طالما أجاد اتخاذ وجهات مغايرة وجديدة.
فهذا القاص الذي ترك آثاره على المشهدين الثقافي والسياسي عبر أعمال من قبيل شَرَف و اللَّجنة ، والذي برع في استنبات القيمة التاريخية من السيرة الذاتية في التلصُّص و أمريكانلي/أمريْ كانَ لِي .. وكان قبل هذا وذاك سبّاقاً في الترويج للقيمة العلمية ولأدب المغامرات في كتاباته القديمة الموجَّهة للناشئة كما القرّاء المحترفين، يعود في روايته العمامة والقبعة الصادرة طبعتها الأولى في 2008م عن دار المستقبل العربي ليمزج كل صنوف القصّ الواردة أعلاه وأكثر.
الشرق والغرب يتصادمان مجدداً
تدور أحداث الرواية في مصر إبان الحملة الفرنسية (1798-1802م). وكما يوحي العنوان، يوظف المؤلف هذه المرحلة التاريخية ليخوض في تفاصيل العلاقة بين الشرق والغرب كمسألة ملحّة وأثيرة لدى المثقف العربي الذي تتجاذبه نوازع الصراع الحضاري. ولعلنا نذكر أن نفس التيمة كانت هي محور رواية بهاء طاهر واحة الغروب التي نال عليها جائزة بوكر العربية في نسختها الأولى سنة 2008م.
لأول وهلة، تبدو العمامة والقبعة رواية بسيطة ومباشرة بشكل مدهش. فالمؤلف اختار أن ينقل لنا الأحداث مستخدماً ضمير المتكلم -الذي برع فيه دوماً- ومتحدثاً بلسان بطل رفض أن يعطيه اسماً. والسرد الروائي يتوالى على هيئة يوميات بقلم هذا البطل الذي يعايش تفاصيل الحياة تحت الاحتلال.
لكن التأمل في الكتاب، بُنية ومادة، يستحضر كشوفاً مثيرة بخصوص الأفكار التي بذرها إبراهيم في ثنايا عمله. فبدءاً من الغلاف، يضعنا المؤلف في جَوّ المرحلة والعمل. وبالرغم من أن الحملة الفرنسية قد وقعت في أواخر القرن الثامن عشر، إلا أن التصميم الفني للغلاف ليس مستقى بأكمله من الطراز الكلاسيكي الذي طغى على الفن الأوروبي في ذلك الزمن، ولا هو مستوحى تماماً من النمط الفني الشرقي أو المملوكي الذي ساد مصر في تلك الفترة، بل هو مزيج من هذا وذاك وضمن إطار حداثي واضح أيضاً. هذا الكولاج من الرسائل البصرية سيولِّد لدى المتلقي حالة ارتباك وقد يبدو له كاريكاتورياً.. وهو المطلوب بالضبط! لأنه يعبّر عن أزمة الصدام بين الحضارات في صيغتها الأسوأ، وما ينتجه الاحتلال من توالف قسري وممسوخ بين الأذواق.
تصميم الغلاف هذا والمُهدى للمؤلف من الفنان محيي الدين اللباد، حافل أيضاً بالمرجعية التاريخية والعلمية التي تتجلى عبر الرواية بأسرها، والتي هي سمة أكيدة في مجمل أعمال صنع الله إبراهيم. الرسوم على الغلاف مقتطفة من أعمال لرسامِين فرنسيين: سينيه وغيرين وتارديو. وحروف الطباعة التي كُتب بها العنوان واسم المؤلف كلها صُممت أيام الحملة الفرنسية وجرى استخدامها وقتها في طباعة بيانات نابليون وأوامره.
قراءة في التاريخ الذي لم يُكتب
تبدأ اليوميات/الرواية بتاريخ 22 يوليو 1798م، بخبر هزيمة جيش المماليك في إنبابة كما يورده البطل راوي الأحداث. ومثل كل الأعمال الإبداعية القائمة على وقائع تاريخية، تتمازج الأحداث الحقيقية مع تلك التي ابتكرها المؤلف لتشكل رؤيته ورسالته. الكيفية التي صاغ بها صنع الله إبراهيم شخصية بطله جاءت مدهشة. فهو من جهة مجرد فتى عادي ساقته الأقدار إلى أن يكون شاهد عيان على تفاصيل المرحلة. ومن جهة أخرى، فهو فتى محظوظ لأنه -كما قرر المؤلف- تلميذ ملازم لمعلمه الذي ليس إلا واحداً من أبرز رجالات تلك الفترة: عبد الرحمن الجبرتي، المؤرخ المصري الكبير الذي عاصر الحملة الفرنسية ووصفها بدقة في كتابه عجائب الآثار في التراجم والأخبار والمعروف اختصاراً بـ تاريخ الجبرتي .
إن ابتكار المؤلف لشخصية خيالية لتعيش في ظل أخرى حقيقية، ونسجه أحداثاً على هذا المنوال، أتاح له أن يسترسل في التعليق على الأحداث الحقيقية وأن يعيد سردها من زوايا مختلفة وبشكل أكثر حيادية دون التقيد بالصيغة الرسمية للتاريخ. وتوليفة شخص البطل سمحت لنا بالتنقل عبر عوالم ثلاثة متضاربة ومتداخلة: عالم النخبة الحاكمة التقليدية من مماليك وعثمانيين، عالم المستعمر الفرنسي الوافد، وعالم المواطن المصري المتورط بين هذين الكيانين.
وأكثر من ذلك، فإن البطل وعبر ثلاثة أعوام من التدوين الدقيق لأحداث حياته تحت الاستعمار، متأثراً في ذلك بأستاذه، ترك لنا عبر الرواية تاريخاً موازياً لذلك الذي وصلنا عبر الجبرتي. بل ان الرواية بأسرها تضعنا أمام سؤال كبير ومخيف حول تاريخنا المدون: عن مدى دقته ومصداقيته وعن كنه المنتصرين الذين كتبوا صيغته النهائية؟
فعبد الرحمن الجبرتي, مثلاً, كان عضواً في الديوان الوطني الذي أنشأه الفرنسيون كبرلمان صوري ونُظر إليه من قبل البعض على أنه عميل وخائن. وثمة من يرى بأن تدويناته التي نشرها تحت عنوان مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس كانت تهدف إلى استرضاء العثمانيين الذين عادوا إلى حكم مصر بعد جلاء الحملة. وهو الرأي الذي يؤيده صنع الله إبراهيم في روايته.
طرح جديد لأسئلة قديمة
غير أن العمامة والقبعة لا تقدِّم أية إجابات نهائية للأسئلة العالقة. إنها على العكس تمارس إسقاطاً مباشراً لوقائع الماضي على الحاضر، وتكشف لنا من خلال يوميات بطلها، كيف أن الدهشة والخوف اللذين أثارهما (الآخر) وحضارته المغايرة قبل أكثر من قرنين من الزمان ما زالتا موجودتين ومسيطرتين، مثلما يعاملنا هذا الآخر الأجنبي بذات الفوقية المشوبة بالانبهار والغرائبية حتى الآن.
في عين التاريخ، كانت حملة نابليون على مصر وغزوته لفلسطين محض فشل عسكري. لكن الحملة نفسها مهَّدت لموجة من الحراك الثقافي والإداري الذي كرَّس مكانة مصر الريادية في المنطقة خلال المرحلة التالية. هزيمة المماليك المدوية في معركة الأهرام كانت أول صفعة نبَّهت الشرق إلى عمق الهوة العلمية والتكنولوجية بينه وبين الغرب.
هكذا يجادل كثير من المؤرخين بخصوص الحسنات المفترضة للحملة الفرنسية. الفرنسيون كانوا أول من جلب المطبعة الحديثة وأول من فهم اللغة الهيروغليفية. الجيش الفرنسي تبعه فريق كامل من علماء الطبيعة والآثار والمترجمين الذين رسموا الخرائط ودرسوا النبات والحيوان ودونوا طبائع الناس على نحو غير مسبوق بتاتاً في تاريخ المنطقة. هذه الجهود وإن كانت مبذولة في الأساس لتثبيت قدم الاحتلال، إلا أنها واجهت السكان الأصليين بصدمة حضارية كبرى. ووضعتهم أمام معضلة إنسانية كبرى. فهم من جهة قد استبدلوا حكم المماليك وقسوتهم باحتلال الفرنسيين الذين لم يكونوا دوماً أكثر رأفة.. وهم مع رفضهم للمستعمر الجديد، كانوا مبهورين بمنظومته الحضارية وبمفهوم التقنية الحديثة الذي يعرفونه لأول مرة وعاينوا تأثيره الباهر على أرض المعركة.
المستعمر من جهته يعميه انتصاره الكاسح، فيتمادى في الاستخفاف بخصمه على نحو يستجلب عليه سخريته وازدراءه. قائد الحملة نابليون بونابرت يدخل القاهرة لابساً الجبة والقفطان ويخاطب المصريين متزلفاً، وزاعماً أن مهمته تكمن في تخليصهم من بطش المماليك، مبدياً استعداده لاعتناق الإسلام. وفي الوقت الذي ينشر فيه جنوده الرعب عبر دروب القاهرة، يدور حوار مطول بينه وبين شيوخ الأزهر لإيجاد مخرج من مأزق (الختان) الذي يواجه هذا المسلم الجديد!
على هذه الخلفيات تتوالى يوميات البطل في سرد رشيق حافل بالتفاصيل والعِبر التراكمية. وقد قام صنع الله إبراهيم بمهمته ببراعة متناهية هنا. ويتجلَّى ذلك في طريقته في وصف الأجواء، واعتماده لغة ذلك العصر بمفرداتها وأساليبها كما نقلها عن الوثائق القديمة.
على أن الرواية تتجاوز محض السرد التاريخي. فالقيم الحقيقية التي تتبدى فيها ملكة قاص من عيار صنع الله إبراهيم هي قيم بشرية. وصف نوازع النفس وتفاعلات العلاقات بين الناس في هذا المرجل الكبير.. مصريون وفرنسيس ومماليك، مسلمون وأقباط وغيرهم، أسياد وتابعون، رجال ونساء في خضم الحرب والحب والمصالح المشتركة والمتنافرة معاً. في العمامة والقبعة ، وعبر شخص البطل، نعيش دوامة التناقضات في أقسى صورها وأكثرها واقعية أيضاً. الأزمة الكبرى في التعايش مع المستعمر وكرهه في نفس الوقت، وتصوير هذا الانقلاب اللحظي وتذبذب النفس على نحو خفي حتى على البطل نفسه. براغماتية النخبة المثقفة وتساوقها مع كل طارئ، وجدية المستعمر في حماية رعيته الجديدة من ظلمها لنفسها.. من التجار الذين يستغلون الأزمة ليكدسوا السلع، ومن الطبقة النافذة التي لا يعنيها إلا أن تحمي نفوذها، وأن تركب موجة الوطنية طالما هي مواتية لمصالحها. التناقض الذي يعيشه الفرنسيون أنفسهم والخارجون لتوهم من ثورة دامية نادت بالحرية والإخاء والمساواة ليلقوا أنفسهم مجرد محتلين وقتلة يخدمون طموحات قنصلهم بونابرت. هناك أيضاً الفوضى الأخلاقية التي يشيعها قدوم الأجنبي وتمكنه.. والتي تمثل هاجساً أكبر لكل مناوئي التعايش بين الحضارات حتى الساعة. هذه كانت محورية في الرواية.. هي وعلاقة الحب التي تجمع بين البطل وواحدة من أفراد المحتل.
حتى حد بعيد، يسعنا أن نقول إن صنع الله إبراهيم يستحضر في روايته خيالات الماضي وأحداثه ليعقد محاكمتين اثنتين في الحاضر: محاكمة للشخصية العربية التي لا تزال تواقة للنهضة وبعيدة عنها، ومحاكمة ثانية لروح الإمبريالية ولثقافة العَولَمة المعاصرة الساعية في أصلها إلى الهيمنة على مقدرات الشعوب، والتي مثلت مغامرة نابليون في الشرق إحدى مظاهرها المبكرة. وهي محاكمة تظل فصولها معقودة حتى مع انتهاء فصول الرواية.
يتعمد المؤلف أن يذكِّرنا بكم هي معقَّدة تلك القضايا وموغلة في القدم والمصالح المتقاطعة. إنه في روايته هذه يتركنا معلَّقين بين حقيقتين متضاربتين وأساسيتين: كم نحن مختلفون ومتنافرون بحكم الأعراق والمعتقدات والمصالح، وكم نحن متشابهون ومتقاربون بحكم انتمائنا لذات الجنس البشري ووقوعنا تحت رحمة العواطف والفِطَر ذاتها. إننا.. وكما يشير عنوان الرواية.. نرتدي كلنا أغطية الرأس. بعضنا يسميها عمامة .. وعند البعض الآخر فهي محض قُبعة .
صُنع الله إبراهيم
كاتب وروائي مصري. ولد في القاهرة في 1937م. صدرت له منذ 1964م أعمال عدة منها ذات و تلك الرائحة و نجمة أغسطس و بيروت بيروت و اللجنة و وردة و أمريكانلي . كما جاءت روايته شرف ضمن قائمة (أفضل 100 رواية عربية) الصادرة عن (اتحاد الكتّاب العرب). أثار ضجة كبرى عام 2003م حين أعلن رفضه استلام (جائزة الرواية العربية) التي يمنحها (المجلس الأعلى للثقافة) بمصر، وذلك في لحظة تقديمها له.
مقتطفات
العمامة والقبعة
فصول من الرواية
الأحد 11 نوفمبر
استمرت حوادث الاعتداءات على الفرنساوية في القليوبية والجيزة والبحيرة ودمياط والمنصورة. وأحرق الفرنساوية القرى التي تسببت في هذه الاعتداءات. أما في المدينة فقد قلعوا أبواب الدروب والحارات الصغيرة غير النافذة وكسروها، ورفعوا أخشابها على العربات إلى حيث أعمالهم بالنواحي والجهات، وباعوا بعضها حطباً للوقود، وكذلك ما بها من الحديد وغيره.
وخرجت جنودهم لقمع الفتنة في السويس بعد أن استولوا على جمال السقائين فشح الماء وبلغت القربة عشرة بارات.
واليوم ألصقوا أوراقاً بالأسواق والشوارع بها كلام على لسان المشايخ سجلت منه العبارات التالية: نعرِّف أهل مصر المحروسة من طرف الجعيدية، وأشرار الناس، حركوا الشرور بين الرعية وبين العساكر الفرنساوية، بعدما كانوا أصحاباً وأحباباً… وسكنت الفتنة بسبب شفاعتنا عند أمير الجيوش بونابارته، وارتفعت هذه البلية، لأنه رجل كامل العقل عنده رحمة وشفقة على المسلمين، ومحبة إلى الفقراء والمساكين، ولولاه لكانت العساكر أحرقت جميع المدينة… إن الله سبحانه وتعالى يؤتي ملكه من يشاء، ويحكم ما يريد… ونصيحتنا لكم ألا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، واشتغلوا بأسباب معايشكم وأمور دينكم، وادفعوا الخراج الذي عليكم، والدين النصيحة والسلام
الخميس 15 نوفمبر
اكتشفت أن أستاذي أوجز الحديث في أوراقه عن المشايخ المقتولين بالقلعة ولم يذكر أسماءهم.
الأحد 18 نوفمبر
عند عودتي من الخارج اليوم وأنا أرتعش من البرد القارص لم أتمكن من فتح باب غرفتي بالمفتاح. ناديت على جعفر ففشل هو أيضاً في فتحه.
أحضرنا القفّال فرطب المفتاح بلعابه وهزه كي يحرك الأسنان التي تقفله. لم تنجح المحاولة فانتزع القفل الخشبي بالكمّاشة وركب قفلاً جديداً.
أغلقت باب حجرتي بعد انصرافه. كنت أترك أوراقي دائماً تحت وسادتي مرتبة حسب التاريخ. استخرجتها فوجدت صفحاتها مختلطة. كنت مرتاباً في أن جعفر يفتش حاجياتي. لا يعرف القراءة لكن ربما أخذ الأوراق إلى الشيخ. وربما كان من فتش غرفتي هو خليل أو الشيخ نفسه.
اقتربت من الحائط وشببت على أصابع قدمي. أزلت الأتربة من شق بين الأحجار. طويت الأوراق ودسستها في الشق. لن يتمكن جعفر من بلوغها بسبب قصر قامته. لكن الشيخ قد يطولها. ثم أن الشق لا يتسع لمزيد من الأوراق.
استعدتها ووقفت أجول ببصري في الغرفة. لم يكن هناك ما يسمح بالغرض. ووقع نظري على الصندوق الخشبي الذي يضم أغراضي والكسوة التي يصرفها لي الشيخ. انحنيت فوقه وقلبته. كانت هناك مسافة مقدار ثلاثة قراريط بين قاعه والأرض. وكانت المسافة تتسع لأوراقي. أوشكت أن أضعها ثم فكرت في عمليات الكنس والمسح. فربما حرك الخدم الصندوق من مكانه أو دلقوا ماء في الأرض.
خرجت إلى الحوش. لم تكن هناك بادرة على وجود أحد. فتشت في أركان الإسطبل حتى عثرت على أربعة مسامير. التقط حجراً من ركن الحوش وعدت إلى غرفتي. أغلقت بابها. قلبت الصندوق ودققت مسمارين في كل جانب على مسافة قيراط من الأرض. ثم دسست الأوراق بين المسامير وقاع الصندوق. وهززته حتى تأكدت من ثبات الخبيئة. ثم أعدته إلى مكانه.
بالليل وأنا على أهبة النوم تخيلت أن الأوراق تراكمت بحيث صارت كتاباً يحمل اسمي.
الجمعة 30 نوفمبر
ذهبت إلى أستاذي قبل العصر إلى الأزبكية حيث تجمع الناس والكثير من الإفرنج. وكان الفرنساوية قد أعلنوا عن تطيير مركب تسير في الهواء بحكمة مصنوعة، ويجلس فيها أنفار من الناس، ويسافرون في الهواء إلى البلاد البعيدة لكشف الأخبار، وإرسال المراسلات.
شهدنا قماشاً على عمود قائم، وهو ملون أحمر وأبيض وأزرق على مثل دائرة الغربال، في وسطه مسرجة بها فتيلة مغموسة ببعض الأدهان، وتلك المسرجة مصلوبة بسلوك من حديد منها إلى الدائرة، وهي مشدودة ببكر وأحبال، وأطراف الأحبال بأيدي أناس قائمين بأسطحة البيوت القريبة منها.
وبعد نحو ساعة أوقدوا الفتيلة، فصعد دخانها إلى القماش وملأه فانتفخ وصار مثل الكرة التي ارتفعت عن الأرض، فقطعوا تلك الحبال فصعدت إلى الجو مع الهواء، ومشت هنيهة لطيفة، ثم سقطت طارتها بالفتيلة، وسقط أيضاً ذلك القماش.
فلما حصل لها ذلك انكسف طبعهم لسقوطها، ولم يتبين صحة ما قالوه. وقال أستاذي في سخرية إنها مثل الطيارة التي يعملها الفراشون بالمواسم والأفراح.
السبت أول ديسمبر
أرسلني أستاذي لأعاين التعديلات التي أدخلها الفرنساوية على شوارع المدينة. وجدت أنهم أحدثوا طريقاً جديدة فيما بين باب الحديد وباب العدوي حيث معامل الفواخير، وردموا جسراً ممتداً ممهداً مستطيلاً يبتدئ من الحد المذكور، وينتهي إلى جهة المذبح خارج الحسينية، وأزالوا ما يتخلل بين ذلك من الأبنية والغيطان والأشجار والتلول. ومدوا طريقاً من الأزبكية إلى جهة قبة النصر المعروفة جهة العادلية على خط مستقيم.
كان العمل ما زال جارياً في بعض الأماكن. ولاحظت أنهم يستعينون في الأشغال وسرعة العمل بالآلات القريبة المأخذ، السهلة التناول. كانوا يجعلون بدل الغلقان والقصاع عربات صغيرة، ويداها خشبيتان ممتدتان من خلف، يملأها الفاعل تراباً أو طيناً أو أحجاراً، بحيث تسع مقدار خمسة غلقان، ثم يقبض بيديه على اليدين، ويدفعها أمامه فتجري على عجلتها بأدنى مساعدة إلى محل العمل، فيميلها بإحدى يديه ويفرغ ما فيها من غير تعب ولا مشقة.
تحدثت إلى الفعلة فقالوا إنهم لا يعملون بالسخرة بل يأخذون أجرتهم المعتادة، ويصرفونهم من بعد الظهيرة.
مضيت إلى الأزبكية ووجدت أنهم هدموا الأماكن المقابلة لبيت سارى عسكر حتى جعلوها رحبة متسعة. وردموا مكانها بالأتربة الممهدة على خط معتدل من الجهتين مبتدئ من حد بيته إلى قنطرة المغربي الواقعة بين باب الخرق وباب الشعرية. وصار جسراً عظيماً ممتداً ممهداً مستوياً على خط مستقيم من الأزبكية إلى بولاق، وينقسم بقرب بولاق قسمين: قسم إلى طريق أبي العلا، وقسم يذهب إلى جهة التبانجة وساحل النيل، وحفروا في جانبي ذلك الجسر من أوله إلى منتهاه خندقين، غرسوا بجانبيه أشجاراً وسيسباناً.
ولاحظت أن بعض الإفرنج يسيرون على أقدامهم نحو جهة غيط النوبي القريبة فتبعتهم. ورأيتهم يتوقفون أمام قصر أحد البكوات فيبرزون أوراقاً مخصوصة أو يدفعون أموالاً ويدخلون. كانت للقصر حديقة واسعة من أشجار البرتقال والليمون والأشجار المعطرة علقت فوقها القناديل. وانبعثت منها موسيقى تعزفها فرقة عسكرية.
تتابع وصول الضباط والقادة ومعهم نساؤهم وجواريهم الشركسيّات والجورجيات والزنجيات. وعدد من الحواة والمغنيات والراقصات من أبناء البلد. كما وفد أيضاً كبار النصارى والشوام والأروام.
وقفت أتأملهم متمنياً لو كنت برفقتهم. وأخيراً انصرفت.
الأحد 2 ديسمبر
اصطحبني أستاذي إلى سويقة السباعين، يسارجهة الموسكي، ومنها إلى حارة الناصرية وقبل أن نصل إلى شارع الكومي انحرفنا في الدرب الجديد. ترجلنا عن ركائبنا أمام البيت الذي أفرده الفرنساوية لأهل المعرفة، والعلوم الرياضية، والكتية والحسّاب، وهو في الأصل بيت قاسم بك الذي كان الآن يقاتلهم في الصعيد.
ربطنا البغلة والحمار بجوار ركائب عديدة. فقد كان هناك عدد من المشايخ من أعضاء الديوان. رأيت الشيخ الشرقاوي بملابسه الفخمة ولحيته الكبيرة البيضاء المشقوقة وأنفه الطويل وعمامته الدائرية الهائلة. والشيخ المهدي بعمة مماثلة أصغر حجماً ولحية صغيرة يغلب عليها اللون الأسود. والشيخ البكري بعمامته السوداء الدائرية والفيومي الذي لف رأسه بشال من الكشمير الأبيض ذي حافة مزركشة.
رحَّب بنا الفرنساوية وصحبونا إلى الداخل. وقال لنا المدير فورييه إن لجنة العلوم والفنون تضم 151 عضواً يسكنون ويعملون في حجرات القصر والبيوت المجاورة له.
ولجنا بناءً رائعاً ثم قاعة هائلة عالية السقف تحفل جدرانها بخزائن الكتب الخشبية. قم خرجنا إلى بستان به بركة ومزارع وسواقٍ ونافورات وطرق ممهدة للمشاة تحف بجانبيها التكاعيب وكراسي للجلوس وكنيفات لقضاء الحاجة. وكانت الحديقة تتألف من طبقات يعلو بعضها بعضاً وتصعد المياه إلى أعلاها عن طريق أنابيب خاصة وعند كل مصب لهذه المياه مكان للجلوس. وقال لي أستاذي إن قاسم بك كان قد أباح للناس التنزه في رياضها وسمّاها حديقة الصفصاف والآس لمن يريد الحظ والائتناس .
ووجدنا أن الفرنساوية أحدثوا حديقة للحيوان وأخرى للطيور وخصصوا جانباً من الأرض للتجارب الزراعية. وجانباً آخر لمرصد ومطبعة ومجموعة آثار وورشة تصنع بها أجهزة جراحية وبراجل وعدسات تلسكوبية وميكروسكوبية وأدوات رسم ومساحة وأصباغ للطباعة وشفرات سيوف وقبعات.
دخلنا المرصد وقدمونا إلى توت الفلكي وتلامذته. وشاهدنا الآلات الفلكية الغريبة المتقنة الصنعة، وآلات الارتفاعات العجيبة التركيب الغالية الثمن، وبها نظارات وثقوب ينفذ النظر منها إلى المرئي، وإذا انحل تركيبها وضعت في ظرف صغير. وكذلك نظارات للنظر في الكواكب وأرصادها، وأنواع الساعات الغالية الثمن التي تسير بثواني الدقائق وغير ذلك.
انتقلنا إلى بيت حسن كاشف جركس، اليوناني الأصل، الذي شيده وزخرفه وصرف عليه أموالاً عظيمة من مظالم العباد. وقد أفردوه لصناعة الحكمة والطب الكيماوي، وفيه آلات تقاطير عجيبة، وآلات لاستخراج وتقاطير المياه، والأملاح المستخرجة من الأعشاب والنباتات، وحول الجدران قوارير وأوان من الزجاج البلوري المختلف الأشكال والهيئات على الرفوف، وبداخلها أنواع المستخرجات.
وبدأوا يعرضون علينا أعاجيبهم. فأخذ أحدهم زجاجة فيها بعض المياه فصب منها شيئاً في كأس، ثم صب عليها شيئاً من زجاجة أخرى، فعلا الماءان وصعد منهما دخان ملون حتى اقطع وجف ما في الكأس، وصار حجراً أصفر. ثم فعل ذلك بمياه أخرى، فجمد حجراً أزرق، وبثالثة فجمد حجراً أحمر ياقوتياً.
وأخذ آخر شيئاً قليلاً جداً من غبار أبيض ووضعه على السندال وضربه بالمطرقة بلطف، فخرج له صوت هائل كصوت البنب انزعجنا منه فضحكوا منا.
وأداروا زجاجة بفلكة مستديرة، فتولد من حركتها شرر يطير، ويظهر له صوت وطقطقة. وإذا لمس شخص الزجاجة الدائرة ارتج بدنه وارتعد جسمه وطقطقت عظام أكتافه وسواعده في الحال برجة سريعة، ومن لمس هذا اللامس أو شيئاً من ثيابه أو شيئاً متصلاً به، حصل له ذلك.
هز أستاذي رأسه قائلاً: كلها أمور غريبة، ينتج منها نتائج لا يسعها عقول أمثالنا.
سأله فورييه: ماذا قلت؟
ترجمت له ما قاله أستاذي. تطاع إلي طويلاً ثم قال: أنت تعرف الفرنسية؟
قلت: قليلاً
قال: نحن في حاجة إلى شبان من أمثالك يعرفون اللغات. ما رأيك في أن تأتينا كل يوم للمعاونة في تنظيم الكتب العربية بالمكتبة. ونخصص لك أجراً على ذلك (…)