انطلاقاً من قراءتها لمقال الأستاذ عبدالعزيز عثمان التويجري في جريدة الحياة حول مشروع النهوض باللغة العربية ، تذهب ضياء سليم العلي هنا في منحى قلَّما سلكه الذين تناولوا قضايا اللغة العربية في عصرنا، فتسبر أعماق ماهية اللغة وخصوصية اللسان العربي، قبل رسم تصورها لوظيفة اللغة العربية في حياتنا المعاصرة وما يجعل تأدية هذه الوظيفة أمراً ممكناً.
الكلام في اللغة العربية حديث ذو شجون. والموضوع أثاره في بالي مقال قرأته للأستاذ عبدالعزيز عثمان التويجري، المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم (إيسيسكو) في جريدة الحياة بتاريخ 28/11/2008م وكان بعنوان مشروع النهوض باللغة العربية… مشروع أمة جاء فيه ما يحمل بارقة أمل، وما يدلل على مستوى الوعي بهذه المسألة والرغبة في البحث عن حلول واقعية:
إن النهوض باللغة العربية من النواحي كافة يجب أن يتصدَّر أولويات العمل العربي المشترك على جميع المستويات. ولا أقول العمل العربي الثقافي التعليمي فحسب، بل أقول العمل العربي العام على مختلف الأصعدة، لأن النهوض باللغة ليس مسألة ثقافية، ولا هي مسألة تربوية تعليمية فحسب، وإنما هي مع ذلك مسألة السيادة والأمن والاستقرار والمصير .
يقول وهو يحدد، من هذا المنطلق، دور المثقفين في هذا المشروع الوطني القومي بصفتهم الفئة المعنية بإعادة إنتاج القيم ومفهوم الهوية مع التأكيد على الدور المميز للغة في الفضاء السياسي والثقافي للأمة:
لا تزال اللغة العربية موضوع اهتمام المثقفين الغيورين وفي طليعة قضايا الأمن القومي في الوطن العربي، بالمفهوم الشامل للأمن الذي ينصرف إلى الحفاظ على المقومات والخصوصيات والهوية العربية الإسلامية والقيم الثابتة التي تضمن استقرار المجتمع وحماية سيادة الدولة وتأمين مستقبل الأجيال الصاعدة. إن اللغة العربية هي وعاء ثقافتنا وعنوان هويتنا، والمحافظة عليها تعدّ محافظة على الذات وعلى الوجود .
فكيف نفهم نحن، من جهتنا، العلاقة بين اللغة وواقع الثقافة العربية في عصرنا الراهن؟ وكيف نستطيع تحديد موقعنا في هذا الفضاء المتموج، غير محدد المعالم، الذي يعج بقيم ومفاهيم ومصطلحات غريبة وفضفاضة من الصعب علينا غربلتها والاحاطة بها؟
عود إلى بدء
اللغة، تسمي الأشياء، وتمنحها وجوداً بالعلاقة مع من يسميها، لأننا بتسميتنا لها نبتعد عنها مسافة، ونحدد طبيعة علاقتنا بها، وبالعالم الذي ننتمي إليه. إنها وسيلة انفصال بقدر ما هي وسيلة اتصال. إنها النظام في الفوضى، والخروج من العماء إلى النور. إنها الوعي بالذات والعالم وبما تعنيه لنا الأشياء والموجودات المحيطة بنا. وبما أن لكل لغة نظاماً، ومحتوى، وفضاء، وهوية، لذلك هي رحم وانتماء. هي أم وأمة.
اعتقد الإنسان في الماضي، وهو لا يزال يعتقد على الدوام، بقدرته على الفعل والتأثير في الوجود عن طريق اللغة (الطقوس، الكتابة، الشعر، الغناء، الخطابة…) وكان يظن بأنه مبدع الكلمات، وأنه من يسمي الأشياء، وأن إدراكه لمدلولات المعاني يمنحه القوة والسيطرة عليها. فاللغة هي سلطة إذن، وهي السلطان الذي يمارس سحره على العقول، والقدرة الذهنية التي تمنح للقوة المادية شرعية وثباتاً. ليست اللغة إذن مجرد وسيلة للاتصال، وليست الغاية منها، كما يبدو، فقط تجريد المعاني الضرورية للاتصال بعالم الغيب المتعالي من خلال ترميز الواقع والنزوع به نحو الأعلى والأسمى، لأن العلاقة بين المادي والمعنوي شديدة الالتصاق، ولأنها جزء من المفاهيم التي نتصارع عليها ومن أجلها.
خصوصية اللسان العربي
نعيش اليوم في عصر يكثر فيه الحديث عن أزمة اللغة العربية. وهناك من يدعي بأنها قادرة على الإحاطة بعلوم العصر، وهناك من يحلو له الحديث عن جمودها وتحجرها، في الوقت الذي تطالعنا فيه دراسات تبين أوجه التغيير التي طرأت على اللغة العربية وتحكم عليها بأنها في طور الابتعاد عن اللغة الفصحى الأم.
لا شك عندي في أن أكثر ما يطبع وينشر حالياً من إنتاج أدبي معاصر مكتوب باللغة العربية الفصحى، هو بالفعل أقرب إلى الفكر الغربي الحديث منه إلى العربية.
لا تتحدد خصوصية اللسان العربي فقط بالشكل اللغوي الصرفي والنحوي والإيقاعي الذي نطق به أجدادنا، لأننا نتوصل من خلال الاستقراء أنهم نطقوا في البداية بأشكال مختلفة. فاللسان هو المنظومة التي تتيح لنا التعبير والتواصل عبر الكلمات والجمل وتركيبات الجمل. وأما اللغة، فهي الاستخدام الذي قاموا به لهذا اللسان بالعلاقة مع العالم والآخر ومع المخزون الداخلي الوجداني لذاتهم الأصيلة. منشأ اللغة العربية كان في فراغ الصحراء، في امتدادها وانكشافها أمام الرؤية وشدة سطوعها. والبيئة بسيطة قاحلة وجافة ولا حدود لها. الحياة فيها قاسية وشروط العيش تستدعي الترحال الدائم. لا ملك، لا متاع، لا تزويق للعالم. شرط الحياة هو التخفف من الأحمال والسرعة في الحركة. توليد الطاقة من المخزون وتخزين المعرفة في الكلام. وكانت اللغة العربية هي السجل، وهي التاريخ، وهي الذات الوحيدة الباقية التي عبرت تلك البيئة ذات الشخصية المحددة، لأن اللغة هي ما استطاع العربي انتشاله عبر تاريخ طويل من الغزو والدمار والجوع والسبي والتطاحن العشائري والمعاناة بكل أشكالها. فكانت هذه اللغة البديعة أثمن ما انتشلته إنسانية العربي من تجربته الطويلة، وعبَّر من خلالها عن توقه إلى العدل والحكمة والجمال، صاغها في معانٍ وألفاظ عكست شخصيته ومثاله، وكذلك بيئته وفضاءه اللامترامي، فجاءت لغة وضوح وبيان.
مشكلة العربي أنه ملزم بالحقيقة، سواء بلغته أم بدينه. إذا تكلم أفصح، وإذا أبان أوضح. هكذا يجب أن يكون: اعلم أن العلوم البشرية خزانتها النفس الإنسانية بما جعل الله فيها من الإدراك الذي يفيدها ذلك الفكر المحصل لها ذلك بالتصور للحقائق أولاً، ثم بإثبات العوارض الذاتية لها أو نفيها عنها ثانياً، إما بغير وسط أو بوسط، حتى يستنتج الفكر بذلك مطالبه التي يعني بإثباتها أو نفيها. فإذا استقرت من ذلك صورة علمية في الضمير فلا بد من بيانها لآخر: إما على وجه التعليم، أو على وجه المفاوضة، تصقل الأفكار في تصحيحها. وذلك البيان إنما يكون بالعبارة، وهي الكلام المركَّب من الألفاظ النطقية التي خلقها الله في عضو اللسان مركَّبة من الحروف، وهي كيفيات الأصوات المقطعة بعضلة اللهاة واللسان ليتبين بها ضمائر المتكلمين بعضهم لبعض في مخاطباتهم وهذه رتبة أولى في البيان عما في الضمائر، وإن كان معظمها وأشرفها العلوم، فهي شاملة لكل ما يندرج في الضمير من خبر أو إنشاء على العموم.
وبعد هذه الرتبة الأولى من البيان رتبة ثانية يؤدي بها ما في الضمير، لمن توارى أو غاب شخصه وبعُد، أو لمن يأتي بعد ولم يعاصره ولا لقيه. وهذا البيان منحصر في الكتابة، وهي رقوم باليد تدل أشكالها وصورها بالتواضع على الألفاظ النطقية حروفاً بحروف وكلمات بكلمات. فصار البيان فيها على ما في الضمير بواسطة الكلام المنطقي. فلهذا، كانت في الرتبة الثانية واحدة فسمي هذا البيان. يدل على ما في الضمائر من العلوم والمعارف، فهو أشرفها . (مقدمة ابن خلدون). كذلك هي لغة البيان، إنها إخراج الباطن إلى الظاهر، وكل أدوات المعرفة في الثقافة العربية ترتكز إلى اللغة، وكل الحقيقة تدور حولها لأن البيان هو جوهر الوعي، والفصاحة هي أعلى مقام في التقدير.
واقع اللغة العربية
يقف العربي اليوم، على أعتاب قرن جديد، وهو عار من تاريخه. يحمل على أكتافه تراثاً ضخماً من العلوم التي انقطعت الصلة المعرفية بينه وبينها، بينما يواجه أمامه سداً هائلاً من العلوم الحديثة المكتوبة بلغات
لا تخصه، وهو غالباً لا يتقن استعمالها. يقف أمام الحقيقة بدون لغة يفكِّر بها ومن خلالها، وبدون فضاء محدد ينتمي إليه بكليته وهويته ووجدانه وانفعاله الحميم. إن كونية المبادىء لا تغني عن خصوصية الخواص والتركيب، ودور العلم في الحياة هو إبلاغ الإنسان عن أحواله بقدر ما هو إفصاح له عن حقيقة العالم من حوله. لذا، فإن البحث عن وطن حقيقي في هذه اللغة الأم التي نكتب بها اليوم بات من الأولويات. الكتابة تحولت في عصرنا الحاضر إلى أداة للترويج لرموز سياسية واجتماعية لا تخوم لها ولا هوية محددة. توسيع وعي الكاتب وإحساسه بالأخوة والتضامن مع غيره من البشر وكونية بعض المبادىء الإنسانية يجب ألا تقودنا إلى التعويم وفقدان الشعور بالخصوصية والتميز. وعلى الكتابة الحديثة أن تعيد تقييم تجربتها بالعلاقة مع التراث والتاريخ، ومع البيئة والثقافة المحلية، ولا أقصد بأن تكون مجرد آلة تصوير للواقع، أو أداة جلد وانتقاد مستمر للعيوب والنواقص، ولا أن تكون مجرد احتفال فولكلوري طقسي ببعض أوجه الثقافة المحلية. لغة الكتابة يجب أن تكون وجهتها البحث عن الإنسان المطمور والمهمش فينا، بقيمه ومفاهيمه وأخلاقه وتمرده وخشيته وذائقته الجمالية والانفعالية وذاكرته الواعية واللاواعية، لأنه وجهتنا، ومن يجب أن نساعده على النهوض والوقوف على قدميه واستعادة دوره الذي تخلى عنه قسراً وقهراً. من هذه الزاوية يجب أن تقاس قيمة الكتابة، بمستوى تضامنها مع الإنسان العربي في معاناته وقلقه، وبمستوى قدرتها على رصد همومه وتطلعاته، ومعرفة كيف يمكن لها أن تصوغ أحلامه شعراً ونثراً وإبداعاً. وإذا لم تكن هذه اللغة قادرة على أن تخلق فينا الانخطاف والشوق الذي يوسع حدود الذات ويملؤنا بالحنين ويبعث الحياة في الأوصال الميتة، فلن تنجح في أداء مهمتها.
إن الخروج إلى الحرية لا يكون إلا بتوسيع معرفة الإنسان الوجودية بكنه ذاته، معرفة جمالية، حسية وحدسية، علمية ومادية، والتي لن نتمكن من الوصول إليها بدون أداة اللغة التي يجب أن تلبي حاجات الوجود العصرية دون أن تفقد صلتها بامتدادها التاريخي والأخلاقي الوجداني. فالحياة ليست بدعة، ولا هي تقليد ميت، بل ضرورات وحاجات، وهي عبور متواصل نحو الداخل وعود دائم إلى البدايات ووقوف على الطلل وكشف مستمر لتجارب لا تتوقف ولا تستكين، ومعجزة الكلام الحر أنه ينص وينص، دون حاجة إلى تفسير أو دليل ، لأنه من لغة بيان.