إضافة إلى كونه ركناً من أركان الدين، فإن لصوم شهر رمضان المبارك وقعاً كبيراً على الحياة اليومية بكل ما فيها من تفاصيل، وقعاً تتأكد إيجابيته بتبادل التهنئات بحلول الشهر الفضيل، مصحوبة بإحساس عميق بالبهجة.
فما هو سر هذا الشعور بالرضا الذي يطغى على الصائم وسط التحوُّلات التي تطرأ على نمط حياته اليومية؟
الدراسات العلمية الحديثة تفسِّر كثيراً من أسباب هذه البهجة وتؤكِّد حقيقتها وعمقها.
لأن الصوم يعني الامتناع عن الأكل والشرب وملذات حسية أخرى، وهي ما يسميها علم النفس الحديث بالدوافع الأولية للسلوك (Primary Drives)، أي إنها دوافع قويّة ومؤثّرة جداً في توجيه سلوك الإنسان بحيث يصعب مقاومتها، فقد يعتقد البعض في النظرة السطحية للأمور أن هذا الحرمان سيصبح عبئاً على الفرد، ويغيِّر من سلوكه بشكل سلبي، ولكن ما يحدث فعلياً هو العكس تماماً.
فقد أظهرت دراسة أجراها «المكتب الوطني للأبحاث الاقتصادية» في الولايات المتحدة الأمريكية، حول الممارسات الدينية للشعوب، واستناداً إلى بيانات «المسح العالمي للقيم» أو (World Values Survey)، وجود علاقة فريدة بين صوم رمضان ومستوى الشعور بالسعادة والرضا عند المسلمين. إذ أعرب أغلب المسلمين عن سعادتهم وارتياحهم نفسياً خلال صوم شهر رمضان المبارك. ويعود ذلك إلى عدة عوامل تحدث خلال هذا الشهر بكل ما يحمله من شعائر دينية وصفاء روحي، إضافة إلى ما يطبع به العلاقات الاجتماعية والإنسانية.
دور التواصل الاجتماعي
فمن الناحية النفسية الاجتماعية، يمكن اعتبار صيام شهر رمضان مجالاً لتغيير رتابة النمط اليومي للحياة الذي تعوّد عليه الناس لمدة أحد عشر شهراً. إذ إنّ الصوم يمثِّل تغييراً كبيراً في أسلوب حياة الفرد والمجتمع. فشهر رمضان يُنشِّط روح التواصل الاجتماعي بين الأسر والأصدقاء على الخصوص، ومن ثمّ يساعد على تمتين الروابط الاجتماعية بين الصائمين. ففيه يزداد تبادل الزيارات والدعوات بين العائلات والأصدقاء إلى موائد الإفطار والسحور.فيأكل الضيوف ومضيفوهم نفس الطعام ويشربون نفس الشراب. كما أنهم غالباً ما يقيمون الصلاة جماعة ويسهرون مع بعضهم بعضاً. فالأمسيات والليالي تصبح هي زمن التفاعل الاجتماعي المكثّف، والقيام بالشعائر الدينية والاحتفالات العائلية والمجتمعية، بينما يميل نمط حياة الصائمين في النهار إلى الهدوء.
معظم البلدان الإسلامية تعدّل أوقات العمل اليومي بشكل يبقي على التوازن بين ما يستهلكه الجسم نهاراً من طاقته المختزنة وقدرته على أداء الأعمال المختلفة
وكما هو الأمر في كثير من المجتمعات المعاصرة، فإن العائلات المسلمة لا تفلح دائماً في جمع شمل كل أفرادها لتناول الطعام على مائدة واحدة. أما في شهر رمضان فيصبح لقاء كل أفراد الأسرة حول مائدة أكل وشرب واحدة حقيقة يومية. فهذا اللقاء العائلي الكامل المتكرِّر لا بد له من أن يقوِّي وحدة الأسرة، ويدعم روح التضامن والتقارب والانسجام بين أفرادها. أوَلَيس ذلك تأثيراً إيجابياً يعيد رتق العلاقات العائلية الحديثة التي أصابها كثير من التمزق بفعل الحياة الحديثة؟
إن لهذه الزيادة في التفاعل الاجتماعي، إن كان على المستوى الأسري الضيِّق أو على المستوى المجتمعي الأوسع، دوراً في الإحساس بالرضا والسعادة، وحتى على مستوى الصحة البدنية. فقد أكدت الدراسات النفسية أن الحياة العائلية هي أكبر مصدر للرضا والسعادة، وأن رأس المال الاجتماعي هو التآلف والتكاتف الأسري، وأن أساس السعادة النفسية هي إحساس الفرد بانتمائه إلى أسرة. كما أن التفاعل الاجتماعي يعزِّز الشعور بالانتماء إلى المجموعة الأوسع، ويوفر الجذور التي تساعد على تحديد الهوية الفردية، الأمر الكفيل بتبديل نظرة المرء إلى الحياة لتصبح أكثر إيجابية وإشراقاً. كما أن الاختلاط الاجتماعي وممارسة الفرائض الدينية كصلاة التراويح، مثلاً، التي تكثر في هذا الشهر الفضيل توفر مجالاً للخروج من العزلة الاجتماعية التي فرضتها علينا التكنولوجيا الحديثة، وفرصة للابتعاد عن شاشة هذا الكمبيوتر المحمول أو ذلك الهاتف الخليوي الذي أصبح لا يفارق أعيننا.
الصدقة تسعد مانحها
وشهر رمضان هو شهر الصدقات وإخراج الزكاة والرحمة بالفقراء، يكثر فيه عمل الخير ومساعدة المحتاجين. وتبرز فيه مظاهر التكافل والتراحم، فترى الناس وهم يتسابقون في فعل الخير ليصبحوا أكثر تقارباً ومودة ورحمة. وينتشر هذا الفعل الكريم في معظم الدول الإسلامية، وقد تطوَّر إلى أن صار هناك ما يسمى بحقائب الخير التي تحتوي مواد غذائية تكفي الأسر طوال الشهر، وتصل إلى بيوت الأسر الفقيرة المتعفِّفة ودور الأيتام عن طريق شباب متطوعين. كما تشهد المؤسسات المختلفة، وعلى وجه الخصوص المستشفيات ودور العناية نشاطاً غير اعتيادي وهي تتلقى تبرعات المحسنين. فالكل يُخرج من أمواله قدر الاستطاعة، والكل يتسابق لينضم إلى فرق توزيع الخير على الناس. والتكافل هنا يخرج من دائرة الحسابات الاقتصادية إلى القيمة المعنوية والروحية، ويعيد صياغة العلاقة بين الناس، ميسورين وفقراء.
إن هذا وحده كفيل بتعزيز التضامن والتكافل الاجتماعي، ونشر الفرحة في القلوب، وليس فقط قلوب من وصله جانبٌ من المساعدة. إذ قدَّمت البحوث في علم الأعصاب وعلم النفس دليلاً علمياً قاطعاً على أن مساعدة الآخرين تحقِّق السعادة. فوفق بحث بعنوان «مسح رأس المال الاجتماعي»، أشرف عليه باحثون من جامعة هارفارد، تبيَّن أن أولئك الذين قدَّموا مساعدات إلى الآخرين، سواءً بالوقت أو الجهد أو المال، ازداد لديهم احتمال الشعور بالسعادة أكثر بـ 42 في المئة من أولئك الذين لم يعطوا أي شيء. وقد حدَّد علماء النفس حالة نموذجية من النشوة التي أبلغ عنها أولئك الذين يعملون في النشاط الخيري، أطلقوا عليها اسم «نشوة المساعد» أو «Helper’s High»، التي تقوم على النظرية القائلة إن العطاء ينتج الأندورفين في الدماغ، وهو الهرمون المسؤول عن إعطاء الشعور بالسعادة. وقد أظهرت الأبحاث في المعاهد الوطنية للصحة العامة أن المنطقة نفسها من الدماغ التي يتم تفعيلها استجابةً إلى الطعام (أو أي نوع آخر من المتعة) أظهرت حركة ناشطة، عندما فكَّر المشاركون في الدراسة بإعطاء المال لإحدى الجمعيات الخيرية. وقد تطابقت هذه النتائج مع دراسة أخرى أُجريت في جامعة إيموري الأمريكية، كشفت أن المساعدة المعنوية للآخرين فعّلت الجزء نفسه من الدماغ، مثل تقديم المساعدات المادية.
وفي الصحة السعادة
ومن الناحية الصحية، يؤكد الطب الحديث بأدلة قاطعة أن للصوم منافع كثيرة، إن كان على الصحة النفسية أو الجسدية. فالصوم يسمح للجسم بتنقية نفسه من بقايا الأكل والشرب أثناء راحة المعدة في النهار. ويستجيب الدماغ للصيام من خلال ما يسمى بعملية الالتهام الذاتي. وهي تشير إلى عملية مهمة تمكّن الجسم من التخلص من السموم وإزالتها من الخلايا العصبية. وقد أظهرت البحوث التي أجريت مؤخراً زيادة الالتهام الذاتي في الفئران بعد تقييد المواد الغذائية التي تصل إليها على المدى القصير. وهذا أمر ذو أهمية كبرى بالنسبة لعلم الأعصاب. إذ ترتبط مستويات أدنى من الالتهام الذاتي مع زيادة التنكس العصبي، وبالتالي فإن زيادة الالتهام الذاتي من خلال الصوم قد تبطئ تطور الاضطرابات العصبية.
أظهرت دراسة أجراها «المكتب الوطني للأبحاث الاقتصادية» في الولايات المتحدة الأمريكية وجود علاقة فريدة بين صوم رمضان ومستوى الشعور بالسعادة والرضا عند المسلمين
ومن ناحية أخرى، أظهرت دراسة أمريكية أجريت في عام 2009م أن الصيام يخفِّف أعراض الاكتئاب، ويخفِّف درجات القلق في نسبة تصل إلى %80 من المرضى. كما يسهم في تحسن كبير في نوعية النوم. فعندما ننقطع عن الطعام، تطلق أجسامنا المواد الكيميائية المساعدة على حماية أدمغتنا من أي آثار سلبية. كما يمكن لهذه المواد الكيميائية أن تضعنا، على المدى الطويل في مزاج جيد. فخلال فترة الصوم، يبدأ الجسم بالتكيف مع الجوع عن طريق الإفراج عن كميات هائلة من الكاتيكولامينات بما في ذلك الأدرينالين والدوبامين، وهرمونات الستيرويد المسؤولة عن تنظيم الجهاز المناعي وأيض الجلوكوز. وكل ذلك كفيل بأن يُشعر الإنسان بكمية أكبر من السعادة والنشاط.
وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أن معظم البلدان الإسلامية تعدّل أوقات العمل اليومي بشكل يبقي على التوازن بين ما يستهلكه الجسم نهاراً من طاقته المختزنة وقدرته على أداء الأعمال المختلفة، وخاصة الجسمانية المتعبة منها. وإضافة إلى هذا الدور الصحي المهم، يلعب تغير أوقات العمل دوراً في نشر الإحساس بالنضارة الناجمة عن كسر الإيقاع الرتيب المتكرر على مدى باقي أشهر السنة.
ومع كل ما يحمله هذا الشهر من مفاهيم ومعانٍ نبيلة ترسم ثقافة الخير والتسامح والمحبة، ومع كل هذه الفوائد والتغييرات الإيجابية التي يحدثها في حياتنا لا عجب أن يعبِّر المسلمون عن فرحتهم بقدوم هذا الشهر الفضيل ولا بد من أن يتشوقوا لقدومه كل سنة آملين أن يضيء حياتهم بمزيد من السعادة والرحمة.