ثمة عبارة شهيرة للأديب الروسي الكبير دوستويفسكي ينسب فيها الريادة بين الأدباء الروس إلى نيكولاي غوغول صاحب رواية «المعطف»، يقول فيها «لقد خرجنا جميعاً من معطف غوغول». وإذا كان لمعطف غوغول هذا الأثر الكبير على الأدباء الروس الذين أبهرونا بروائعهم الخالدة، فإن ثمة معطفاً آخر كان له أثرٌ بالغ كذلك على كتَّاب من مختلف الجنسيات والثقافات أدهشونا منذ القِدم بنمط كتابتهم المختلف وما زالوا يفعلون حتى اليوم.
المعطف المقصود هنا هو المعطف الأبيض الذي يرمز لمهنة الطب، التي لم يكتفِ ممارسوها بمداواة المرضى، بل إن فريقاً منهم تجاوز ذلك الأمر ليمسك بالقلم بدلاً من المشرط الجراحي، وليخطّ سطوراً من الإبداع الأدبي بدلاً من أن يكتب وصفة الدواء لمرضاه.
تناول كثيرٌ من الكتّاب ظاهرةَ الأدباء الأطباء بالدراسة، بل إن بعض أولئك الأطباء أنفسهم علَّق على جمعه بين المهنتين، فنجد الكاتب والطبيب أنطون تشيخوف يشبّه الجمعَ بين الأدب والطب بالزوجة والحبيبة قائلاً: «الطب زوجتي والأدب حبيبتي». في حين تتفق معظم آراء الأطباء الأدباء على أن سبب ممارستهم للكتابة هو المواقف الإنسانية الصادمة التي يعايشونها يومياً، ومواجهة الموت بشكل متكرر والأحداث المصاحبة له، ما يجعلهم في حالة استثارة عاطفية وأمام معرض حي للصور والشخصيات والأحداث الإنسانية الصادقة والمؤثرة في الوقت نفسه.
نكهة خلط
التفكير العلمي والسرد الأدبي
لكن بعيداً عن المسار العاطفي والتقليدي في تناول الظاهرة، فإن ثمة نوعاً خاصاً من التجديد نجده لدى عيّنة من الكتَّاب الأطباء، خصوصاً أولئك الذين تمسكوا بمهنتهم ومارسوها بشكل جدي إلى جوار احترافهم للكتابة الأدبية وتميّزهم فيها. ثمة نكهةٌ خاصةٌ وجديدة يمكن تمييزها في تلك الكتابات دون عناء كبير، فهي إلى جوار نزوعها إلى اللغة السلسة والمباشرة، وبُعدها عن التعقيد اللغوي والشعري، فإنها في جزءٍ كبيرٍ منها تحمل كثيراً من أسلوب التفكير العلمي الذي يختلط بالسرد الأدبي فينتج تلك النكهة المميزة التي تأخذ الكتابة إلى أرض جديدة غير مطروقة في كل مرة. والتفكير العلمي المقصود هنا لا يعني بالضرورة أدب الخيال العلمي بشكله المعروف بل هو معنى أوسع وأكثر شمولاً، ولتقريب الفكرة أكثر فلا بأس من ضرب الأمثلة.
أحد الأمثلة المفضَّلة التي توضِّح معنى التفكير العلمي في قالب السرد الأدبي هي كتابات السير آرثر كونان دويل (1859 – 1930م). فالسير آرثر طبيب وباحث وسياسي وصاحب عدة مؤلفات في مجالات متعددة، لكن شهرته التي طبقت الآفاق كانت مدينةً لشخصيةٍ خياليةٍ من ابتكاره، شخصيةٍ خرجت من رواياته وقصصه القصيرة وتمردت عليه حتى باتت لها هويتها المستقلة عن مؤلفها ومعجبيها الذين يملأون أركان المعمورة. إنها شخصيةُ المحققِ الذكيِّ دقيقِ الملاحظة، المغرور والساخر والمستفز دائماً: شيرلوك هولمز. هذه الشخصية المثيرة للجدل تميزت فوق كل تلك الصفات بالقدرة على التحليل والملاحظة والبحث الدقيق وجمع الصور المتناثرة، مهما كانت بسيطة وتافهة لتكوين صورة نهائية تفكك العقدة وتحل لغز الجريمة الذي عجز الجميع عن حله، بطريقة بسيطة مدهشة وفاتنة في الوقت نفسه، تلك الطريقة التي يصفها هولمز لصديقه واطسن بقوله: «يا صديقي، استبعد الخرافة، استبعد المستحيل، ومهما بدا لك الباقي غريباً فهو الحقيقة».
معظم روايات كرايتون أشبه ما تكون بأحجيةٍ علميةٍ لاينقصها الخيال والخيال الجامح جداً في معظم الأوقات
تلك الطريقة المميزة التي يستخدمها هولمز هي نفسها الطريقة العلمية التي يستخدمها الأطباء في تشخيص مرضاهم، فهم يجمعون الملاحظات التي يشاهدونها على المريض، ويُجرون التحاليل ويستبعدون كل ما هو منافٍ للحقائق التي بين أيديهم حتى ينتهوا إلى التشخيص المناسب. وما فعله السير آرثر هو أنه نقل تلك الطريقة من ردهات المستشفيات إلى عالم الأدب، بل إنه صرَّح بأنه استوحى شخصيةَ شيرلوك هولمز من أحد أساتذته في كلية الطب، وكتب له رسالة شخصية ينسب له الفضل في ابتكاره لشخصية المحقق الشهير.
ومن دويل إلى كرايتون
مثالٌ آخر أكثر معاصرةً مارس الأسلوب العلمي في الكتابة الأدبية ونقل عالم السرد إلى أرضية جديدة تماماً وأكثر تعقيداً، هو الكاتب والطبيب مايكل كرايتون (1942 – 2008م).
بدأ كرايتون الكتابة في سن مبكرة ونشر كثيراً من المؤلفات بأسماء مستعارة قبل أن ينال حظه من الشهرة والمال مع ذيوع رواياته ذات الطابع الغريب والمعقَّد في الحبكة والصياغة. معظم روايات كرايتون أشبه ما تكون بأحجيةٍ علميةٍ لا ينقصها الخيال والخيال الجامح جداً في معظم الأوقات.
فمن سلالة بكتيريا قادمة من الفضاء الخارجي كما في رواية «سلالة أندروميدا» إلى كائن شرير تخلّص منه أهل المستقبل بإرساله إلينا في ماضيهم كما في «الجسم الكروي»، مروراً بإحياء عالم الديناصورات في «الحديقة الجوراسية»، أو مواجهة خطر جيل جديد من الروبوتات الصغيرة التي لها القدرة على التكاثر والتطور وشحن نفسها بالطاقة عبر استخلاصها من البروتينات الحيوانية في روايته «الفريسة». في كل تلك الروايات وغيرها لا يتخلى كرايتون عن الحبكة التقليدية ورسم الشخصيات ووصف المواقع ومسرح الأحداث ولا عن البُعد الفلسفي والإنساني، لكنه يضعه وسط كمٍّ هائل من المعلومات والنظريات، بل والرسومات التوضيحية والمراجع العلمية كذلك. فيجعلك ومن خلال القراءة تستنبط الحدث التالي بمنطقية المعطيات التي وضعها بين يديك، وكأنما تقرأ ورقة بحثية متخصصة. ومهما بدا الأمر غريباً وجامحاً، فإنك ستجده منطقياً وستجد نفسك تتساءل السؤال الشهير نفسه في كل مرة: ماذا لو حدث هذا بالفعل في المستقبل القريب؟ أي مصيرٍ ستواجهه البشرية ما لم تُوقف جشعَها المستمر وولعَها بتدمير الذات؟
سواءً أكان المنطق العلمي الذي يمارسه الأطباء يتسرب في كتاباتهم على شكل مهارات بسيطة في الاستنتاج والبحث أو عبر نمط معقد في كتابة رواية أقرب إلى البحث العملي الصارم، إلا أن ما يجمع بين الاثنين هو احتفاظهما بالميزة الأساسية للأدب وهي الإمتاع.
فمعظم روايات الأطباء ذات «المنطق العلمي»، إن صح التعبير، تتميز بتلك السلاسة والقدرة على الإمتاع ربما بفضل ما تحويه من تحدٍّ واستفزازٍ لقدرات القارئ الذهنية أو للأجواء والمناخات الجديدة التي تطرقها.
تلك القدرة على الإمتاع جعلتها موضعَ جذبٍ لصنّاع السينما والمسلسلات، إذ قلَّ أن تجد رواية من هذا الطراز إلا وتحولت إلى منتج بصري ناجح يسهم في نشر البهجة إلى آفاق أرحب.