هل تكفي عبارة «جميع الحقوق محفوظة» لحفظ حقوق أصحاب الملكيات الفكرية؟ الجواب المبدأي سيكون «نعم، إذا كانت هناك آليات تطبِّق القوانين المتعارف عليها بحزم». ولكن السؤال يزداد إرباكاً عندما نتساءل عما هو المقصود تماماً بكلمة «حقوق»، وما الحالات التي تُعد خروقات لها؟
في عصر تعدد وسائط نقل المعلومات، وأيضاً انفتاح الإنتاج الفكري على مذاهب فنية وأدبية وتقنية وعلمية لم تكن موجودة قبل سنوات قليلة، يصبح الجواب عن هذا السؤال في غاية التعقيد، ويحفل بالشروط والزخارف الدقيقة التي تميِّع الحدود الفاصلة بين ما هو من ضمن الحقوق، وما هو ليس كذلك.
مصلح جميل وأشرف فقيه يستعرضان المجالات المثيرة للجدل حول الحدود التي تحيط بالملكية الفكرية، والحالات التي يصعب أمامها الجزم ما إذا كانت تشكِّل انتهاكات لحقوق الملكية هذه أم لا، وينطلقان من حادثة صغيرة، أثارت هذه القضية العامة على مستوى العالم.
حين دخل باراك أوباما سباق انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 2008م، ظهرت واحدة من أبرز مظاهر الاحتفالية التي شهدتها الشوارع وغرف الطلبة الجامعيين ومواقع الإنترنت الشخصية، وهي عبارة عن عمل فني بسيط وأنيق تمثل في صورة ظليّة بالأحمر والأزرق والأبيض لوجه الرئيس المقبل، معدّلة باستخدام الحاسوب وتحتها بالخط العريض كلمة «Hope» الإنجليزية التي تعني «الأمل».
كان هذا «العمل الفني» من تصميم الفنان الأمريكي الشهير «شيبرد فيري». وقد حظي بانتشار ساحق كأيقونة للحملة الانتخابية وللعهد الأمريكي الجديد. لا يعرف أحد كم كسب فيري من وراء هذه اللوحة. لكن نسخاً موقعة له عرضت بموقع المزاد الإلكتروني «eBay» بأسعار وصلت حتى خمسمائة دولار للنسخة. وأصاب فيري ذروة المجد حين أضيف معرضه -المتضمن هذه اللوحة بالذات- إلى معهد الفن المعاصر ببوسطن، كواحد من أشهر فناني المتحف على مدى أكثر من 70 عاماً. لكن فرحة الفنان لم تكتمل. ففي يوم من أيام فبراير 2009م وفيما هو في طريقه لافتتاح ذلك المعرض، تم اعتقال فيري بتهمة السرقة الفنية!
الذي حصل أن وكالة «أسوشيتد بريس» الصحافية اتهمت فيري بأنه قد بنى عمله الفني على لقطة فوتوغرافية التقطها أحد مصوري الوكالة لأوباما عام 2006م. وبالتالي فالعمل الفني مبني على مادة مملوكة حصراً للوكالة بموجب حقوق الملكية الفكرية. في المحكمة، جادل فريق محاميّ فيري بأن هذا صحيح تماماً.. لكنه قانوني تماماً! مبررين تصرف موكلهم بأنه مندرج تحت بند «الاستخدام العادل» للأعمال والمصنفات الفنية والأدبية.
فماذا تعني هذه المصطلحات القانونية كلها؟ هل يضمن لنا قانون «الاستخدام العادل» الإفادة من ملايين المواد المتوافرة عبر الإنترنت والمكتبات العامة وسواها؟ أم إننا بحاجة لنستأذن.. ونبحث عن مصدر كل عمل إبداعي.. قبل أن «نقتبس» منه كي نمارس إبداعنا بدورنا؟
قبل أن نخوض في تعقيدات قضية فيري، فإننا سنتحدث عن «جيمي توماس». قد يكون فيري فنان شوارع ذائع الصيت استفز الانتشار الكبير للوحته كبرياء وكالة كبرى مثل «أ. ب.».. لكن جيمي توماس هي مواطنة عادية من ولاية مينيسوتا. وفي نوفمبر من هذا العام، قضت محكمة أمريكية بتغريم توماس مبلغ مليون ونصف المليون دولار، عقاباً لها على نشر ملفات موسيقية لأغانٍ تجارية عبر مواقع المشاركة المفتوحة بالإنترنت بغير حق قانوني.
هل تحس الآن بأنك معني أكثر بقضايا الملكية الفكرية؟!
بدايات القصة
مع أن أمريكا تبدو دولة رائدة في مجال حماية الملكيات الفكرية، إلا أن أصول المبادرة جاءت من أوروبا. إذ تُعد رواية «باميلا» للكاتب البريطاني «صموئيل ريتشاردسون» أول رواية تطبع بالمستعمرات البريطانية (أمريكا حالياً). كان ذلك في العام 1744م حين قام «بنجامين فرانكلين» -الذي يُعد من أهم الآباء المؤسسين لأمريكا- بطباعتها ونشرها، مستفيداً من عدم وجود نظام دولي لحقوق الملكية الفكرية آنذاك. استمتع فرانلكين بالدخل المادي من بيع الرواية وحقق أحد أهدافه التي عرف بها كتنويري في تلك الفترة، وهي تسهيل حصول العامة على الكتب للمتعة والفائدة. وإذا كانت المستعمرات في تلك الفترة من دون حقوق ملكية فكرية خاصة بها، فقد كانت أوروبا قد بدأت في سن قوانين مختلفة حول تلك الحقوق، وبالذات بعد انتشار صناعة الطباعة التي أوجدت مجالات اقتصادية وإبداعية جديدة، جعلت قوانين الملكية الفكرية أمراً لابد منه. ومنذ تلك الفترة وحتى اليوم لا تزال قضايا حقوق الملكية الفكرية أمراً مثيراً للجدل، سواء في آليات تطبيقها وتعزيزها أو في تعديلها لما يتوافق مع التغير السريع في أساليب إنتاج الأعمال الإبداعية وأساليب تناقلها وتسويقها. بل والأكثر إثارة للجدل هو كثرة قضايا انتهاك الملكيات الفكرية وتنوعها مع تنوع مجالات الإبداع البشري.
المبادئ الأساسية.. البسيطة
ترجع أول اتفاقية دولية تنظِّم حقوق الملكية الصناعية إلى عام 1883م. وقد عرفت باسم «اتفاقية باريس» نسبة لمقر المؤتمر الذي خصص للوصول إلى قانون دولي يحمي حقوق الملكية الصناعية. ذلك المؤتمر وافق بدايات ثورة أوروبا الصناعية التي جلبت نوعاً من الفوضى الحقوقية، الأمر الذي لم يعجب أحد أشهر الأدباء الفرنسيين في تلك الفترة، وهو فيكتور هوغو، الذي لعب دوراً كبيراً في التحريض على استحداث قانون دولي يحمي الفنون والآداب.
وبعد اتفاقية باريس، ظهرت «اتفاقية برن» للمصنفات الفنية والأدبية عام 1886م.
واستلزم الأمر قرابة القرن لتتكلل جهود إيجاد جهة مؤسسية دولية تتولى حماية حقوق الملكية الفكرية بجوانبها المختلفة. فتم التوصل في عام 1967م إلى إبرام الاتفاقية الدولية لإنشاء المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO) التي تحولت لاحقاً إلى إحدى الوكالات المتخصصة للأمم المتحدة عام 1974م.
يهتم قانون الملكية الفكرية بحماية إنتاج الفكر البشري لأي عمل، أدبي أو فني أو براءة اختراع لمنتج ما أو أسلوب ما، من الاستعمال غير المشروع من قبل الآخرين. أي إنه يعطي المؤلف أو المبتكر أو المالك للعمل المحمي حق الاستفادة المادية والأدبية منه. وتشمل حقوق الملكية الفكرية نوعين: أولهما؛ ملكية صناعية لبراءات الاختراع، والعلامات التجارية، والتصاميم الصناعية وغيرها. والثاني؛ حقوق النشر والتأليف (Copyrights) التي تختص بالأعمال الفنية والأدبية مثل الرسومات والصور والموسيقى والفنون الحركية والروايات والشعر وغيرها. وحدد المشرعون دوافع حماية الحقوق الملكية وتسويق مفهومها بقولهم: «إن تقدم ورخاء البشرية يكمن في مقدرتها على استيعاب الإبداعات الجديدة في الحقل التقني والثقافي». ونصوا كذلك على أن «الحماية القانونية لهذه الإبداعات الجديدة تشجع على إيجاد مصادر إضافية مما يقود إلى ابتكارات أخرى». وأضافوا «أن حماية الملكية الفكرية تستحث النمو الاقتصادي، وتوجد وظائف وصناعات جديدة، وتعزِّز المساواة والاستمتاع بالحياة».
وفي الواقع، فإن العمل الإبداعي يُعد محمياً بمجرد إنتاجه أو ابتكاره حتى قبل أن يكون مسجلاً. أي إنه لا يفترض أن يكون العمل الإبداعي مسجلاً رسمياً تحت أي نظام حماية حقوق ملكية حتى يتمتع مؤلفه بحقوق مادية وأدبية محفوظة.
وبعد وفاة المؤلف الأصلي، يكون للورثة الحق في التصرف في المنتج المحمي تحت قانون حماية الحقوق الفكرية. ويضمن النظام للورثة خمسين سنة من الاستفادة من العمل، وبعدها يسقط في الحق العام. إلا أن الحق الأدبي للمؤلف يظل أمراً مهماً يجب التنويه به عند استعمال العمل. أي إن فرصة وصول العمل الإبداعي للجماهير للاستفادة والاستمتاع به يظل محكوماً بحق المؤلف وورثته في شكل ومدة وأسلوب ترخيص العمل ووصوله إلى العامة.
ولكن المعضلة في هذا القانون أنه يتعامل مع منتجات غير ملموسة أو محسوسة! لذا لا يزال فهم قانون حماية الحقوق الملكية غائماً عند الكثير من العامة، ومجال جدل تشريعي واسع. فقد يتساءل البعض: كيف أشتري صورة أو لوحة أو رواية ولا أملكها؟ وهنا يقع اللبس بين ملكية المشتري للمنتَج مادياً، وبين المنتج الإبداعي فكرياً الذي تعود ملكيته لمبدعه. أي إنه يمكن لأي قارئ شراء رواية من المكتبة والاستمتاع بها أو إعارتها لصديق أو بيعها. ولكنه لا يملك حق نسخها وتصويرها وبيع نسخ منها! كما يحق لأي شخص شراء أي عمل فني وتزيين بيته به أو إهداؤه، ولكنه لا يملك الحق في استعماله في كتاب أو نشره في مجلة أو تصويره واستعمال الصور تجارياً من دون موافقة الفنان الذي أنتج العمل الأصلي. فالمؤلف سواء أكان فناناً أو كاتباً أو مخترعاً، هو وحده، أو من يوكله لينوب عنه قانونياً، أو ورثته هم من يملكون حق ترخيص العمل للبث الإذاعي أو التلفزيوني، أو الطباعة او إعادة الطباعة، أو الترجمة، أو الإنتاج على أقراص الحاسوب، أو الاستفادة الاقتصادية منه بأي شكل كان.
الحالة العربية
واكبت الدول العربية الحركة الدولية من أجل حماية الملكية الفكرية من خلال القوانين الوطنية، ولكنها جاءت متأخرة. وتتمتع كل الدول العربية اليوم بنظام قانوني يحمي حقوق الملكية الفكرية من النهب والسرقة. ويمكن فيما يلي أن نستعرض قوانين بعض الدول العربية:
في الأردن: صدر قانون حق المؤلف عام 1992م. وقانون براءات الاختراع عام 1999م، وقانون الرسوم الصناعية والنماذج الصناعية عام 2000م، وقانون العلامة التجارية عام 1952م، وقانون المنافسة غير المشروعة والأسرار التجارية عام 2000م، وقانون المؤشرات الجغرافية عام 2000م، وقانون الدوائر المتكاملة عام 2000م، وقانون حماية الأصناف النباتية عام 2000م.
وفي الإمارات: صدر قانون حق المؤلف عام 1992م، وقانون براءة الاختراع والتصاميم عام 1992م، وقانون العلامة التجارية عام 1992م.
وفي مصر: صدر قانون حماية الملكية الفكرية عام 2002م الذي ينظِّم حقوق المؤلف وبراءات الاختراع والرسوم والنماذج الصناعية والعلامات التجارية والدوائر المتكاملة وحماية أصناف النباتات. وقد ألغي قانون براءات الاختراع والرسوم والنماذج الصناعية الذي كان قد صدر عام 1949م وعدِّل لاحقاً مرات عديدة.
وفي المملكة، تتقاسم عدة جهات حكومية سعودية مسؤولية مراقبة وتطبيق قوانين الملكية الفكرية منها مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية التي توفر حماية حقوق الملكية الفكرية في مجالات مثل: براءات الاختراع، والنماذج الصناعية، والتصميمات التخطيطية للدارات المتكاملة. بينما تهتم وزارة الثقافة والإعلام بحقوق المؤلف الذي صدر نظامه عام 1424هـ، وصدرت لائحته التنفيذية عام 1425هـ والذي يشمل حماية المصنفات الأدبية والفنية.
قانون حرية الاستخدام
يعرّف موقع ويكيبيديا (المحتوى الحرّ) بأنه: كل ضرب من المعلومات الوظيفية (برمجيات، تصميمات، مخططات) أو الأعمال الفنية أو أي نوع من المحتوى الإبداعي الذي لا توجد قيود كبيرة تحد من قدرة الآخرين -باستثناء مُنتِجه- على استخدامه وتوزيعه وإنتاج نسخ معدلة منه أو أعمال مستنبطة أو مبنية عليه بحيث يشكل جزءاً أو يتكون منها.
ويشمل المحتوى الحر كل الأعمال التي هي في الملكية العامة، وكذلك الأعمال المحمية بحقوق طبع والتي تسمح رخصها بما سبق. ولأن القوانين المعمول بها في الغالبية العظمى من القضاءات تمنح بشكل تلقائي منتِج العمل حقاً حصرياً في احتكار ما يُنتِج، فإن الأعمال يجب أن يُصرّح بكونها حرة، غالباً بالإحالة إلى نص رخصة أو تضمين عبارة ترخيص في متن العمل نفسه أو في الموضع المنشور فيه العمل.
وعلى عكس حق الطبع المرتبط بالاستغلال المادي والتجاري، فإن الحق الأدبي للمؤلف في أن يقرن اسمه بعمله هو حق لا يسقط أبداً. كما أن معظم تشريعات العالم لا تسمح حتى بالتنازل عنه طوعاً لأنه يعد حقاً مرتبطاً بهوية الإنسان كمبدع، ويمنع الاستغلال الناشئ عن الحاجة والإغراء المادي.
ومع أن الأعمال تصبح مَشاعاً بانتهاء مدة الحماية القانونية الممنوحة لمؤلفيها كما أسلفنا، إلا أنه من الممكن أن تصبح محمية مرة أخرى، وكذلك كل ما اشتق منها من أعمال إن تغيرت القوانين لاحقاً. وإن كان هذا محل صراع قانوني وقضائي.
هناك رخص للمحتوى الحر تندرج في الإنجليزية تحت ما يعرف «copyleft» كمرادف لغوي لكلمة «copyright». وتنص معظم الرخص الحرة صراحة على أن الأعمال المشتقة (عند النسخ أو إعادة التوزيع) يجب أن يُشاد بمؤلفها (منتجها الأصلي)، وهي ممارسة الهدف منها نشر الأمانة ومقاومة السرقة الأدبيتين، دون تحميل المستخدم عبئاً كبيراً ينتفي معه كون الرخصة حرة بشكل عملي. ورخصة «GNU» للوثائق الحرة هي مثال على ذلك، ومثلها «رخصة الإبداع العمومي» في تنويعاتها التي لا تحظر كلاً من الاستغلال التجاري والأعمال المشتقة. ويمكن كذلك استخدام رخصة «GNU» العمومية كرخصة للمحتوى الحر بالرغم من أنها صممت أصلاً للبرمجيات ولذا فهي أقل ملاءمة لذلك من المثالين السابقين. وحيث إننا نتطرق لهذا السياق، فسنذكر أن المقاطع أعلاه هي من موقع ويكيبيديا العربي!
التأمل في كل هذه التفاصيل القانونية يصيب القارئ بالدوار. ويمكن لأي منا أن يستشعر عدة ثغرات قانونية في هذا الشأن، إضافة لاستشعار الخوف من الوقوع تحت طائلة قوانين دولية فضفاضة ومتشعبة هكذا. إلا أن أكثر ما يثير النقمة في هذه التفاصيل كلها هو الإحساس بالاختناق. لأن الأصل في الإبداع البشري هو الانتشار والتحليق في فضاءات الحرية، في حين تتحدث قوانين الملكية الفكرية عن حقوق حصرية لورثة المؤلف تمتد لنصف قرن من بعده!
في السينما والتلفزيون
تُعد صناعة الأفلام والبرامج التلفزيونية من أكثر الصناعات عرضة لخرق قوانين حقوق الملكية وذلك لتعدد المصادر التي تصنع الفلم السينمائي أو البرنامج التلفزيوني. ومن أهم الأمثلة في السينما الأمريكية ما تعرض له فِلم (Amestad) للمخرج الأمريكي ستيفن سبيلبيرغ. فقد تقدَّمت الروائية «باربرا تشايز-ريبود» بشكوى ضد الشركة المنتجة، تدعي فيها أن المخرج سرق أجزاءً من روايتها التاريخية «صدى الأسود». الفِلم والرواية مبنيان على أحداث تاريخية عن العبودية في أمريكا، لذا رفضت المحكمة شكوى الروائية لأن التاريخ لا يملكه أحد. ولأي شخص الحق في توظيفه في عمله الفني أو الأدبي. وأطرف ما في هذه القضية هو أن محاميي الشركة المنتجة لفِلم «أميستاد» أثبتوا أن الروائية نفسها انتهكت حقوق النشر والتأليف حيث نقلت بعض أجزاء روايتها من كتاب آخر طبع قبل 36 سنة من طباعة روايتها، لتتحول قضية حقوق الملكية ضدها.
أما على مستوى حقوق الأفكار، فقد سبق أن تعرَّض أحد أشهر البرامج التلفزيونية الأمريكية «ذا كوزبي شو» إلى قضية رفعت ضد القناة المنتجة «NBC» يدعي فيها أحد موظفي القناة أنه هو من تقدَّم بفكرة البرنامج التلفزيوني للقناة، وأنه المالك الفكري لها. ولكن القضية انتهت برفض المحكمة الفيدرالية لحق الرجل في ملكية الفكرة، لأنها غير أصلية وموجودة بطريقة أو بأخرى في برامج تلفزيونية. وهذه القضايا تطرح سؤالاً مهماً قد لا يدركه الكثير من العامة ومن المؤلفين أنفسهم عما يحميه قانون الملكية الفكرية، وإلى أي حد يمكن لفكرة أو عمل أدبي أو فني أن يكون أصلياً وقابلاً للحماية، وإلى أي مدى يمكن أن يعطي قانون الملكية الفكرية الحق للعامة والفنانين الآخرين في الاستفادة والاستمتاع بالمنتج الأدبي أو الفني من دون خرق لهذا القانون سواء عن طريق الاستعمال العادل أو سقوط حق الملكية بمرور الزمن أو بانتقالها إلى مالك آخر.
ماذا عن الملكية الصناعية؟
بعيداً عن عالم الأدب والفنون، ما الذي يجعل الشكل الخارجي لسيارة أو تصميمها الداخلي محمياً ولا يمكن استنساخه أو تقليده؟ هنا يأتي قانون الملكية الفكرية بشقه الأول الذي يحمي الملكية الصناعية ومن ضمنها التصاميم الصناعية.
فتصميم سيارة مثلاً يمكن أن يُعد كتصميم صناعي أو كعمل فني تطبيقي، مما يجعل استنساخه أو تقليده مخالفاً للقانون. والتصميم الصناعي كما توضحه المنظمة العالمية للملكية الفكرية: هو التزيين والزخرفة الجمالية لأية سلعة، مثل اللون والخطوط أو الشكل والسطح. وتندرج تحت التصميم الصناعي أشكال مختلفة من التصاميم الصناعية، من الساعات إلى السيارات ومن الأجهزة المنزلية إلى المعدات الطبية. ولكن ليس أي تصميم يمكن أن يندرج تحت هذا القانون. فحتى يحصل تصميم صناعي على حق الحماية تحت قانون الملكية الفكرية يجب أن يكون «جديداً» و«أصيلاً» و«غير وظيفي». أي أن يكون التصميم أساساً ذا طبيعة جمالية. والتصميم الصناعي طبقاً للمنظمة الدولية للملكية الفكرية هو ما يجعل المنتج جذاباً وفاتناً، مما يعطي المنتج قيمة تجارية ويزيد في رواجه. وهنا يظل تعريف كلمات مثل جديد، أصيل (original) وغير وظيفي تعريفاً غير محدد، وقد يختلف من دولة إلى أخرى. إلا أن تعريف كلمة «أصيل» كمثال قد يكون تعريفاً متعارفاً عليه. فالكلمة تعني أن المنتج يجب أن يدين بأصوله إلى منتجه. والتصميم الصناعي عكس المنتج الأدبي أو الفني، يجب تسجيله حتى تحفظ حقوقه. أي إن مجرد إنتاج تصميم صناعي لا يعطيه حق الحماية مثل الرواية أو الصورة أو العمل الفني بشكل عام.
وقد تختلف قوانين الملكية الفكرية من دولة إلى أخرى، وقد تتضمن بعض الفقرات التي قد تكون قابلة لتفسيرات متباينة. ففي حين استمتع «بنجامين فرانكلين» بعدم وجود قانون حماية فكرية في تلك الفترة، فإن الدستور الأمريكي الذي صدر في نهاية ذلك العام تضمَّن في مادته الأولى، الفقرة الثامنة نصاً صريحاً يعطي الحق للمخترعين والمؤلفين في الاستفادة من إبداعاتهم الأدبية والفنية واكتشافاتهم. مع ذلك فالقانون الأمريكي في شق حقوق النشر والتأليف كمثال لا يحمي الأفكار ما لم تكن في نص أدبي أو درامي تعبيري يجعلها قابلة للحماية. ولا يحمي القانون الأمريكي أيضاً الحقائق، مثل الحقائق عن الأرض أو الحيوانات أو غيرها. أي إنه لا يمكن لأحد أن يدعي ملكيتها. والأخبار حين تعلن يصبح التعامل معها على أنها حقائق، بينما أي تقرير إخباري خاص أو لقاء خاص يظل محمياً، ويمكن للجهات المنافسة الإشارة إليه بدون نسخ أو إعادة إنتاج. وهنا يتداخل القانوني مع الأخلاقي. ففي حين أنه يحق لأية صحيفة أو قناة إخبارية أن تبلغ مشاهديها بما قاله مسؤول مهم في لقاء خاص مع قناة إخبارية أو صحيفة منافسة، إلا أنها لا تملك الحق في بث اللقاء أو نشر ما دار فيه على شكل نص مطبوع، وتظل أخلاقيات المهنة هنا عاملاً مهماً في هذا الجانب الذي يتقاطع مع قانون الملكية الفكرية. وفي أمريكا، يعطي قانون الملكية الفكرية المؤلف الحق في ملكية مؤلفه الفني أو الأدبي مدى حياته، ثم ينتقل الحق لمدة سبعين سنة للورثة.
حقوق الملكية الفكرية والإنترنت
إذا كان اختراع آلة الطباعة في القرون الوسطى قد أوجد حاجة إلى سن قوانين النشر والتأليف، كما حدث في بريطانيا في القرن السادس عشر، فإن قوانين حقوق الملكية الفكرية منذ تلك الفترة، لا تزال تحتاج إلى مراجعة وتطوير نظراً لتقدم التقنية التي تسهم في خلق أشكال جديدة من وسائل نشر ونقل ونسخ وحفظ المنتج الأدبي أو الفني. ولعل أهم محطات هذه القوانين هو اختراع الصورة المتحركة والبث الإذاعي والتلفزيوني ثم وسائل النسخ والأقراص المدمجة ثم مؤخراً الإنترنت.
تشكل الإنترنت معضلة حقيقية للمشرِّعين. لأن المعرفة قد تم «ترقيمها – Digitized». كل صور المعرفة البشرية تقريباً من نصوص وصور وأعمال فنية وفكرية ومعلومات متوافرة في الشبكة الرقمية على هيئة نبضات إلكترونية. وكلها يمكن تبادلها ومجاناً عبر الإنترنت.
فقد جلبت الإنترنت معها مشكلة اسمها «Ctrl+C» وهما الزران اللذان تحتاجهما لتنسخ -أو تسرق- أي نص ثم تلصقه وتنسبه لنفسك. هذه معضلة يعرفها المدرسون والبحاثة الذين يقاومون ليعلِّموا تلاميذهم معنى الانتحال العلمي والأدبي في ظل مغريات لا تحد، تمثلها الوفرة والسهولة على الإنترنت.
تمثل الإنترنت أكبر تحرير للتجارة عرفه الجنس البشري. كل شيء يمكن بيعه وشراؤه عبر الإنترنت. وأي شيء يسعنا أن نستخدمه عبر الحاسوب هو عرضة للاختلاس الإلكتروني. ومثال شركة «نابستر» شهير ومعروف ككيان حاول أن يقتحم عرين شركات الموسيقى التجارية ويوفِّر الأغاني للناس مجاناً على الإنترنت ثم دفع الثمن غالياً. واليوم، إن كل إنسان هو متهم بانتهاك الملكية الفكرية على الإنترنت حتى يثبت العكس. مواقع مشاركة الملفات المجانية (Free File Sharing) هي أكثر من أن تحصى. وهناك تقنيات متقدمة لتسهيل هذه العملية. وفي بعض الدول وداخل بعض الهيئات الرسمية فقد جرى تجريم مجرد زيارة هذه المواقع. لكننا كلنا نفعل ولأغراض نبيلة في كثير من الأحيان. كثير منا يجد نسخاً إلكترونية بصيغة (PDF) لكتب قديمة ما عادت متوافرة في المكتبات. الطلاب والباحثون عن متعة القراءة يفعلون ذلك. فهل تُعد هذه جريمة. ما الفرق بين من يقرأ كتاباً مجاناً من الإنترنت، ومن يستعيره مجاناً من مكتبة عامة أو صديق؟ وإذا كانت المسألة تتعلق حقاً بالحقوق التجارية للكتب والأغاني، فكيف سيعمل أصحاب هذه الحقوق على الحفاظ عليها إلكترونياً؟ هل سيقتضي هذا مراقبة استخدام كل منا لشبكة الإنترنت، بكل ما يمثله هذا من انتهاك فج لحريتنا الشخصية؟
بين مؤيد ومعارض
في صيغتها المبدئية، تمثل قوانين الملكية الفكرية إطاراً مثالياً لحماية حقوق المبدعين من الاختلاس والانتحال والسرقة. فالتاريخ حافل بالمبدعين والمفكرين الذين ضاعت جهودهم وحقوقهم نتيجة سرقة الآخرين لهم. وقوانين الملكية الفكرية تهدف أساساً إلى ضمان هذه الحقوق. لكن هناك فريقاً من المبدعين أيضاً يناهض هذه القوانين ويرى فيها تقييداً لحرية الإبداع ولحرية التجارة والكسب المادي المشروع أيضاً.
لكن الملكية الفكرية كمبدأ هي ذات أبعاد فلسفية معقَّدة. فالفن كما يعرفه الفنانون هو ملك للبشرية كلها. وبعد اعترافنا بنسبة عمل فني ما إلى مبدعه الأصلي، فإلى أي حد هو بعد ذلك مملوك لصاحبه؟ ولأي حد هو من حق العامة؟ هل يحق لأحد أن يحجب علماً أو فناً أو إبداعاً بسبب حجة قانونية؟ أم أن للمجتمع ككل رأياً قاطعاً لا يصح تجاوزه؟
يصر البعض إذاً على أن بعض حالات هذه المسألة «اعتباطية»، وغير ذات جدوى. ولعل أحد أمثلة هذه الاعتباطية تتجلى في قصة الرسائل التي كتبها الروائي الأمريكي «إرنست همنغواي» بخط يده في العشرينيات من القرن الماضي. هذه الأعمال الأدبية اكتشفها مالكها الذي ورثها عن والده الكاتب الأمريكي دونالد ستيوارت، والذي كان صديقاً لهمنغواي. وحين ظهرت هذه الرسائل مجدداً في العام 2004م، حاول مالكها «ستيوارت» الابن نشرها. ولكن الهيئة الوصائية (estate) التي آلت إليها حقوق مؤلفات همنغواي رفضت بزعم أنها من يتملك حق نشر أعمال الكاتب الراحل. ومع أن كثيراً من المهتمين والقُرَّاء طالبوا بنشر تلك الرسائل لأنهم يرون فيها حقاً لجميع محبي أعمال هذا الأديب العالمي، إلا أن مطالبهم ذهبت أدراج الرياح مقابل حق الهيئة القانوني. والطريف في هذا الأمر أن الهيئة لا تملك عين المستندات! أي إن المستندات (الأوراق المكتوب عليها القصة والرسائل) بذاتها ملكية لمكتشفها ويعطيه القانون حق الاحتفاظ بها أو بيعها كأية سلعة. أما أمر «نشرها» على الملأ فلا يحق له قانونياً!
بالعودة إلى قضية ملصق حملة أوباما الانتخابية التي ذكرناها في البداية، وما زال البت فيها جارياً بالمحكمة حتى الساعة، فإن كانت هذه القضية قد أثارت الكثير من الجدل والنقاش على أعلى المستويات القانونية والفنية، فإنها -بعيداً عن القانون- تطرح قضية جوهرية فكرية مهمة جداً. فالصورة الأصلية صورة مغمورة وغير مهمة على المستوى الصحفي أو الفني، ومع ذلك فإنها كانت سبباً في صنع وابتكار ملصق ذي قيمة فنية وتعبيرية عالية جداً. فالملصق، نظراً لمدى الأصالة والابتكار فيه على مستوى اللون والخطوط وعلى مستوى الرسالة التي يحملها قد تم اختياره للمشاركة في معرض معهد الفن المعاصر في بوسطن، بالإضافة إلى أنه أصبح من ضمن المقتنيات الدائمة في المعرض الوطني للصور الشخصية في واشنطن.
أحياناً تتعارض قوانين الملكية الصناعية وحقوق النشر والتوزيع مع أبسط مفاهيم الحياة. وتمثل شركات الأدوية حالة مدوية في هذا الصدد. فحين انتشر الرعب من فيروس «سارس» بين عامي 2003 و2004م، تم تداول حقائق بخصوص تأخر بيع العقاقير المضادة لهذا الفيروس بسبب خلافات حول حقوق الإنتاج وبراءات الاختراع! الكلام نفسه يقال بشكل أوسع بخصوص معاناة القارة الإفريقية مع مرض الإيدز، حيث يموت 6000 إفريقي كل يوم بسبب المرض الذي ينتشر هناك بشكل مخيف بسبب الفقر والجهل بأساسيات الوقاية. ومع أن هذا الفيروس بالذات ليس له علاج حاسم، إلا أن هناك أدوية تسهم بفاعلية كبيرة في تطوير مقاومة المرضى وإطالة معدلات أعمارهم، بإذن الله. مشكلة هذه الأدوية أنها ذات أسعار فلكية لا تقدر عليها كثير من الحكومات الإفريقية الفقيرة، ناهيك عن الأفراد. وتزيد المأساة فداحة حين نعرف أن المختبرات قد طورت بدائل أرخص ثمناً. إلا أن هذه الأدوية الأرخص تمنع من الطرح في السوق بقوة القانون الدولي، لأن حقوق أبحاث علاجات الإيدز محفوظة لأباطرة شركات الصيدلة الذين لا يعنيهم كم يموت بقدر ما يعنيهم أن يبيعوا منتجهم، وأن يقاضوا من ينازعهم الحق «القانوني» في هذا المنتج وأمثاله. بل إن هناك فيروسات مطورة صناعياً و«مملوكة» لصانعيها. وفي سيناريو كابوسي يسعنا أن نتخيل ما سيحصل لو أفلت أي من هذه الفيروسات من عقال السيطرة. إن أي عالم أو باحث سيمنع قانونياً من أن يطور طريقة لقتل هذا «المنتج» الصناعي من دون إذن مسبق من منتجيه.. ولتكون هذه حالة فريدة من الفذلكة الحقوقية تنقلب فيها الحضارة إلى عدو للوجود البشري نفسه!