نحن البشر كائنات فضولية، وقد قادنا هذا الفضول إلى اكتشاف مجاهل كوكبنا، ولا يزال يدفعنا إلى التطلع خارج نطاقه. الحلم بالسفر في أرجاء الفضاء الخارجي مُلحّ وحاضر في كتابات وأفلام الخيال العلمي. وفي الفِلم الهوليودي «بين النجوم»، يسافر الأبطال عبر المجرَّات بواسطة وسائل تتجاوز الزمان والمكان وفق نظريات تستعصي على التطبيق. فكيف نستطيع أن نجوب المجرَّات دون أن تستغرق كل رحلة أجيالاً من البشر؟ أحد الحلول الافتراضية المقترحة والأكثر شعبية هو «الثقوب الدودية».
نظرياً، الثقب الدودي هو اتصال يشبه النفق يصل بين نقطتين متفرقتين في الزمان والمكان (الزمكان)، مختصراً المسافة بين نقطتين بعيدتين جداً في الكون. والفكرة هنا تكمن في تمكن روَّاد الفضاء من استخدام هذه الأنفاق للسفر الفضائي لاختصار المسافات بآلاف السنين.
تعود هذه الفكرة مجدداً لنا في فِلم «بين النجوم»، حيث تقوم مجموعة من روَّاد الفضاء بالسفر عبر ثقب دودي مُكتشف حديثاً، يربط بين منطقتين متباعدتين في الزمكان، في رحلة للبحث عن كوكب جديد، ليكون مسكناً للجنس البشري، محققاً الهدف الذي بُذلت فيه مليارات الدولارات في دراسة إمكانيته. ولكن، هل هذا بالفعل ممكن؟ هل سيستطيع البشر يوماً ما استخدام الثقوب الدودية للسفر إلى مجرَّات أخرى وإلى ما وراء الفضاء المرئي؟
ما هو الثقب الدودي؟
حتى بدايات القرن العشرين، ظلت نظرية نيوتن للجاذبية على عرش القوانين الفيزيائية، وهي تقول إن كل الأجسام في هذا الكون، بما فيها أنا وأنت، بداخلها قوة فطرية تجذب الأجسام الأخرى نحوها. وكلما زاد حجم هذا الجسم، زادت القوة الجاذبة إليه. وهو ما يفسِّر التصاقنا بالأرض وعدم اندفاعنا نحو الفضاء.
ولكن بحلول عام 1915م، أتى آلبرت أينشتاين وحطم تلك الفكرة، حيث أنشأ فرضية تدل على أن الجاذبية هي في الواقع نتيجة لاعوجاج في الزمكان، بمعنى أن كل جسم وجد في الكون يتسبب في اعوجاج المكان والزمان المحيط به، دامغاً الكون من حوله.
لنربط ذلك مع الثقب الدودي، فبحسب أينشتاين وزميله نيثن روزن، فإن الثقب الدودي حقيقةً هو اعوجاج زمكاني تسبَّب في اتصال نقطتين في الفضاء الفسيح مكوِّناً نفقاً مستقيماً أو معوجَّاً يصل هاتين النقطتين البعيدتين جداً عن بعضهما. ولتبسيط الفكرة، لنتخيَّل أن جزءاً من الكون هو بشكل مسطح مستوٍ. فإذا أخذنا هذا المسطح وثنيناه على شكل حرف C فإن الطرفين سيصيران متقاربين الآن. وسيكون الممر المتشكِّل بينهما هو الثقب الدودي الذي سيختصر لنا الرحلة بين هاتين النقطتين.
وفي شهر أغسطس من العام الماضي 2015م، نشرت مجلة «لايف ساينس» تقريراً كشف أن العلماء تمكنوا من صناعة ثقب دودي في المختبر، يختفي فيه الحقل المغناطيسي. ونقلت المجلة عن عالِم الفيزياء جوردي برات – كامبس المشارك في هذا المشروع في جامعة برشلونة بإسبانيا قوله: «إن هذا الجهاز يمكنه أن ينقل الحقل المغناطيسي من مكان إلى آخر عبر الفضاء، من خلال ممر غير ملحوظ مغناطيسياً. أي إن هذا الجهاز يعمل كثقب دودي، كما ولو أن الحقل المغناطيسي تمَّ نقله جزءاً جزءاً من مكان إلى آخر».
وبواقعيته الشديدة، أضاف برات: «إننا لا نملك وسيلة للتأكد من وجود الثقوب الدودية المغناطيسية في الفضاء. ولكن هذه التقنية قد تكون ذات تطبيقات عملية كثيرة على الأرض. وضرب مثالاً على ذلك جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي الذي يستخدم حالياً مغناطيساً ضخماً ويتطلَّب وجود المريض في أنبوب مركزي يتوسطه. أما التقنية الجديدة فتسمح بإبقاء المغناطيس بعيداً عن المريض الذي يُصبح حراً في فضاء واسع بدلاً من زجِّه في أنبوب ضيِّق، لأنه سيكون بالإمكان نقل الحقل المغناطيسي من بعيد إلى حيث يوجد المريض».
المعضلة مع الثقوب الدودية
حتى الآن، لم يستطع العلماء تحديد طريقة تكوُّن الثقوب الدودية طبيعياً في الكون، ولكن الفيزيائي جون ويلر يقول إن الثقوب الدودية تظهر وتختفي بشكل عشوائي، بحسب نظرية «الكميّة الرغوية» الخاصة به، التي تنص على أن الجسيمات الافتراضية تظهر وتختفي من الوجود حولنا بشكل عشوائي طوال الوقت.
مع الأسف، افترض ويلر عبر نظريته أن هذه الثقوب الدودية اللحظيّة صغيرة جداً، بين 10 و33 سنتيمتراً فقط، مما يجعل فرصة اكتشافها في الفضاء الشاسع أمراً مستحيلاً.
غير أن البعض اقترح طريقة للعثور على ثقوب دودية كبيرة الحجم بما يكفي لتمرير مركبة فضائية خلالها، وذلك عبر مراقبة درجة سطوع النجم خلال حركته أمام نفق الثقب، مكوِّناً ما يسمى بالتصوير التجاذبي الذي يتسبَّب في تذبذب سطوع النجم على نحو مميَّز. ولكن، لنفترض جدلاً أنه من الممكن لنا أن نلتقط هذه الثقوب الدودية لحظة حدوثها، فقد نستطيع عندها أن نوسِّع حجمها. ولنحقق ذلك، فإننا نحتاج إلى مادة مثيرة للفضول تسمى «المادة الغريبة» (Exotic Matter).
لنفهم ما هي المادة الغريبة، دعنا نتحدَّث عن المادة الاعتيادية أولاً، فالمادة الاعتيادية في الكون هي تلك التي تحمل كثافة طاقة موجبة وضغطاً موجباً، يقول إيرك ديڤيس من معهد الأبحاث المتقدِّمة في أوستن تكساس «إن المادة الغريبة مختلفة قليلاً، فهي تحمل كثافة طاقة سلبية وضغطاً سلبياً، ويمكنك أيضاً أن تجد مادة تحمل طاقة سلبية بضغط موجب أو العكس».
الخصائص السلبية للمادة الغريبة قد تمكننا من دفع جوانب الثقب الدودي إلى الخارج، مما يجعلها كبيرة – ومستقرة – بما يكفي لعبور شخص أو مركبة عبرها، ولكن مع الأسف فهذه المادة الغريبة ليست سهلة للحصول، بل لا توجد إلا نظرياً، ولا يعلم الجنس البشري كيف يكون مظهرها للعين، ولا أين من الممكن أن نجدها.
لنفترض جدلاً – مرة أخرى – أننا حصلنا عليها، ووجدنا أيضاً ثقباً دودياً، وتمكنّا من زيادة حجم الثقب بما يكفي لمرور مركبة فضائية، فالفيزيائي ريتشارد هولمان يتوقَّع أن يسبِّب دخول أي مادة غير المادة الغربية إلى هذا الثقب اضطراباً فورياً في توازنه، مما قد يتسبَّب في الموت الفوري لرائد الفضاء وتحطم المركبة الفضائية.
العبور إلى كون يجهله البشر
الثقوب الدودية لا تزال وجهة وعرة للبشرية حالياً. ولكن هناك ما هو أكثر رعباً من كونها غير مستقرة للسفر خلالها، ألا وهي كونها قادرة على ربط منطقتين مختلفتين تماماً من الزمكان، فقد تدخل من بوابة الثقب لتخرج إلى حقبة زمنية مختلفة تماماً عن نقطة انطلاقك، مما يعني أنه من الممكن أن تجد نفسك في منطقة نائية من التاريخ، أو حتى في كون آخر يجهل البشر وجوده، وفي ذلك تأمل!
فيما يتعلَّق باحتمال السفر عبر الثقب الدودي، يزيد تفاؤل إيرك دايڤس على ريتشارد هولمان، والسبب هو إيمانه بأن كل ما ينقص البشرية هو إيجاد طريقة فعّالة لاستحواذ المادة الغريبة، وهي كل ما نحتاجه لنخلق ثقباً دودياً من العدم وهو يعمل بشكل دؤوب لتحقيق ذلك في معمله الحالي في تورتنو… والله أعلم!