من أكثر ما يشغلني وبات يؤرق سُهادي، ما أصبحنا نعيشه من تسارع في ولادة شريحة الكتَّاب والمثقفين في محيطنا المجتمعي بشكل غريب ومهول، حتى إني صرت أستشعر بأننا قريباً سنرفع لوحة إلكترونية تُرصد فيها ولادة عدد الكتَّاب والروائيين والمثقفين في الدقيقة الواحدة، ولعمري فإن ذلك سيكون من المضحكات المبكيات، كما يقال.
رصد الكاتب حسن المصطفى في مقاله الجميل حول معرض الكتاب الدولي بالرياض قائلاً: «لقد أصبح تأليف كتاب أو رواية أسهل بكثير في وقتنا الحالي من قراءة كتاب، لأن القراءة فعل يحتاج إلى صبر، وتفكير، وترويض للنفس على التعلم، وكبح لجماح الغرور والادعاء. فيما الكتابة تُرضي غرورنا، تصنع لنا صورة براقة، تجعل أسماءنا إلى جوار مؤلفين وكتَّاب كبار، فما الفرق بيننا وبين مارتن هايدغر ومحمد أركون وأمين معلوف..».
إنها صورة متجرِّدة لواقع مشهدنا الثقافي المعاصر، الذي بات الزيف فيه غالباً، وأصبح الوهم أكثر وضوحاً وحضوراً من الحقيقة. ألسنا مجتمعاً يتباهى فيه أفراده المزيفون بشهاداتهم الوهمية! ألا يتماهى كثير منا مع تلك الألقاب تأييداً أو مجاملة! بل بلغ بنا الحال أن أخذ أولئك الوهميون يتصدرون المشهد الثقافي من واقع ترؤسهم لعديد من مؤسساته الرسمية والأهلية، فكيف نرجو أن يكون مشهدنا الثقافي جيداً ومتطوراً على أقل تقدير والحال كذلك!
في هذا الصدد لامس فكري منهج المفكر الإيراني عبدالكريم سروش، الذي أشار في عدد من أبحاثه إلى أهمية التفكير في مسارات العبور من أجل تحقيق النهضة التي نصبو إليها، مُبيناً أننا كمشهد ثقافي مشرقي عربي أخذنا في الحديث عن عالم الحداثة وما بعد الحداثة، في الوقت الذي لم نعبر فيه بعد.
حقاً، كم هي جديرة فكرته بالتأمل والنقاش. فنحن لا نزال نراوح مكاننا على الرغم من مختلف الكتابات والأفكار التي طرحتها النخبة في محيطنا المعرفي. ولم تُغير تلك الكتب المتدفقة أي شيء حقيقي في مسارنا المعرفي، بل إن أحدنا ليتفاجأ بنمطية منهج عديد من المثقفين المحسوبين على المشهد بأنهم من الكبار، حين يتم التعاطي الفكري مع قضية لا تتلامس مع توجهاتهم وآرائهم، وهو ما يزيد من عمق الإشكال المعرفي، ويؤكد أننا لم نتغيَّر ولن نتغيَّر ما دمنا لم نعبر.
إنها مسألة شائكة حقاً. ولست هنا كفرد في مجال التنظير لحلها، فذلك أمر له بابه وميدانه، لكنني أشير في هذه العجالة إلى بعض زوايا المشهد الثقافي التي تعزِّز ترسخ معرفة كهذه في أذهاننا وطبيعة تكوين معارفنا. وأؤمن أن أحد موجبات ذلك هو حالة الوهم الثقافي والمعرفي المستشري في داخلنا، ذلك الذي بات واضحاً في تلك الأوراق المطبوعة، المنشورة بوصفها كتباً معرفية، وروايات أدبية، وإبداعاً شعرياً، دون أن تستوفي أبسط القواعد المنهجية في الإطار المعرفي الفكري، واللوازم الإبداعية في إطار السياق الأدبي.
لكنها ـ وعلى الرغم من ذلك ـ وبفذلكة إعلامية، ونجومية خاصة لكاتب خربشاتها، تصبح ذات قيمة تسويقية في عالم الكتاب، ويتكالب عليها الشباب من هنا وهناك. وحين يرفع أحدهم صوته متسائلاً حول قيمتها المعرفية والإبداعية، يلفحك البعض بجعجعتهم واتهاماتهم الشخصية. والعجيب أن بعد ذلك كله، يأتي من يُعلن استغرابه من حالة التردي الحضاري التي نعيشها في مجتمعنا، وكأننا بعدد الكتب التي طبعناها، وعدد الكتب التي اشتريناها، نكون قد حققنا شروط النهضة!؟
ما أحوجنا اليوم لأن ندرك أن الثقافة عنوان، فإن كانت ثقافتنا هشة، فعنوان حياتنا سيكون هشاً، وإن كانت ثقافتنا متينة مستوفية لشروطها وأدواتها، فعنوان حياتنا سيكون متيناً صلباً قائماً على أصولها. والسؤال الذي يجب أن نسأل فيه أنفسنا بصدق، هو: هل حياتنا المعرفية وسلوكنا الحضاري يعكسان ما نصبو إليه ونريده من تقدّم ورقي؟ إن لم يكن، فلنعلنها صدقاً: كفى للزيف المعرفي، كفى للوهم الثقافي، ولنطهر مؤسساتنا الثقافية من كل زيف ووهم، ولنسعَ إلى تأكيد المعرفة وفق أسسها ابتداءً من كرنفال الثقافة «معرض الكتاب الدولي». فهل إلى ذلك من سبيل؟