بيئة وعلوم

الثقافة الثالثة
البحث عن توفيق العلوم الإنسانية والتطبيقية

  • 43b
  • 02c
  • 02d
  • 36a
  • 38b
  • 39a
  • 40a
  • 40b
  • 42a
  • 42b
  • 43a

بعدما شهد القرن العشرون اتساعاً في الهوة الفاصلة ما بين العلوم الإنسانية كالفلسفة والآداب من جهة والعلوم الدقيقة كالفيزياء والكيمياء والهندسة من جهة أخرى، ظهرت محاولات للتوفيق ما بين هاتين الطائفتين من المعارف الإنسانية، وقد وصل بعض هذه المحاولات إلى التبشير بـ ثقافة ثالثة تجمع هاتين الطائفتين لتحل محلهما.
المهندس أشرف إحسان فقيه يحدثنا عن نشوء هذه الثقافة الثالثة ويعرض بعض عناوينها الرئيسة وما لها وما عليها.

ما زلت أذكر كلمات بروفيسور الهندسة الكهربائية ذات محاضرة. يومها كنا نتابعه وهو يلقننا أساسيات التخصص حين قال: العِلم أرقام وتجارب. خذوا التاريخ مثلاً.. هذا ليس بعلم! .

لم يعترض أحدنا يومها على كلمات البروفيسور المرموق رغم فداحتها. بل هي ربما أرضَت شيئاً من غرورنا الذاتي كوننا طلاب علم تطبيقي تقني.. علم حقيقي تقوم به الأمم وتنهض على النقيض من علوم الثرثرة التي لا تسمن ولا تغني مِن تخلّف. هكذا كان رأينا حينها.. وربما لا يزال بعضنا يعتنقه.

هذا الإسفين بن عالميّ العلمي و الأدبي يتجاوز مقررات وزارات التربية والتعليم العربية، وأحلام التلاميذ وأولياء أمورهم، ليكرِّس نفسه ككيان قائم في الواقع الإنساني بأسره. لنتخيل لقاءً بين نيوتن و شكسبير مثلاً.. أو بين الخوارزمي و ابن رشد؛، ولنتصور ردّ كل من هذه الهامات على السؤال البسيط: أيكم هو المُفكِّر؟ أيكم هو العالِم؟ .

سنو: ثقافتان.. وثالثة بينهما
تشتُت المعرفة البشرية بين فرعين أو (ثقافتين) وربما أكثر، قدَّم له اللورد تشارلز بيرسي سنو، في محاضرة شهيرة ألقاها بجامعة كامبردج صيف العام 1959م بعنوان (الثقافتان والثورة العلمية). والثقافتان اللتان قصدهما سنو مثلَّهما تيارا المعارف الإنسانية (Humanities) من تاريخ وأدب ولاهوت وفلسفة، والمعارف المادية التجريبية كالفيزياء والرياضيات والفلك أو ما يُعبِّر عنه عموماً بمصطلح (Sciences) الإنجليزي الذي تقابله كلمة (علوم) في العربية.

في محاضرته كما في الكتاب ذي العنوان نفسه، تحدّث سنو عن فجوة بين العالمين؛ حيث تستأثر الشريحة المنتمية للثقافة الأولى (الإنسانية) بحمل مشعل الفكر والحضارة وهو ما لم يعد متسقاً مع الأهمية القصوى التي بات يضطلع بها علماء الطبيعة والهندسة وبخاصة في زمن ما بعد الثورة الصناعية.

تكلم سنو عن سوء في التواصل بين فريقيّ الثقافتين تقع ضحيته الإنسانية بأسرها. وألقى باللائمة في هذا الفصل المعرفي حينها على مناهج المدارس والجامعات متتبعاً أصوله التاريخية حتى أواخر القرن الثامن عشر الميلادي حين تم تحجيم مفردة عِلم لتعبِّر عن دراسات المعارف التطبيقية و(التكنولوجية) الناهضة آنذاك، ما أدى لتكوين حاجز بين المشتغلين بالهم (العلمي) والنُخَب المثقفة من جهة، وبينهم وبين الجماهير من جهة أخرى.

ثمة أزمة ليست مقصورة بالتأكيد على اللغة أو التراث الإنجليزيين. فالمسألة مُثارة كذلك على النطاق العربي حيث يوجد رأي قائل بحصرية مفهوم العِلم على المجال الشرعي أو الديني. لكن لما كان الطرح للثقافة الثالثة غربي الطابع؛ فسيأتي تناوله ها هنا من هذا المنطلق.

قرر سنو إذاً وقبل نصف قرن بأن ثمة خلل يعتري المنظومة الفكرية -في أوروبا على الأقل- وبأن مسيرة التقدم البشري ستتأثر بسببه. مبرره في هذا الاستنتاج كان بسيطاً: هناك جهل فاحش بين العلماء والمفكرين من كليّ الثقافتين بما عند الآخر من أسس معرفية. ولاحظ سنو أن كثيراً من العلماء لم يطّلعوا على أي من كتابات ديكنز كمثال على أبرز معالم الأدب الإنجليزي. وهو في المقابل وصف خيباته المتكررة من أشخاص يتم تقديمهم على أنهم على مستوى عالٍ من الثقافة وفق المعيار التقليدي. هؤلاء المفكرون المتحمسون أيضاً للتأكيد على مدى الأمية الثقافية لدى أندادهم من العلماء نادراً ما كانوا يتفاعلون إيجاباً مع الاستفسارات التي تعمد سنو طرحها عليهم حول قانون الديناميكا الحرارية الثاني، أو قانون الإنتروبية (الاعتلاج) مثلاً. وهي أسئلة علمية مكافئة للسؤال عن أي من أعمال شيكسبير في عالم الأدب.

يقول سنو: أعتقد بأني حتى لو كنت طرحت أسئلة أبسط عن معنى (الكتلة) أو (التسارع)، وهي مقابلات علمية للسؤال هل تستطيع القراءة؟ فإن ما لا يزيد على عُشر النخبة المثقفة كانت ستفهم اللغة التي أحادثها بها. وهكذا ففيما تتطور بنية الفيزياء الحديثة فإن الغالبية من أذكى الناس في العالم الغربي لا يُلِمّون منها بأكثر مما فعل أجدادهم في أواخر العصر الحجري .

أثارت أفكار السير سنو في حينه ضجة ونقاشات مطولة على جانبي الأطلسي. وكان أسلوبه القاطع في إدانة علماء الآداب والإنسانيات واتهامهم باحتكار السلطة الفكرية والجهل بأبجديات الثقافة الحديثة سبباً في استجلاب نقمة هؤلاء ونقدهم اللاذع. لكن طرح سنو كان له وقع إيجابي بشكل عام لاسيما وأن خلفيته الإبداعية كعالم وكروائي أيضاً أضفت شيئاً من الحيادية على نظريته. فكرة الثقافتين الاثنتين كانت مصدراً لشهرة عريضة أكسبته عشرين درجة فخرية خلال عقد من الزمان. وإبان فوز حزب العمال بانتخابات العام 1964م، تم استحداث وزارة للتقنية وتعيين سنو نائباً لوزيرها، وليغدو أيضاً متحدثاً عن الحكومة في الشأن التقني لدى مجلس اللوردات البريطاني. وحتى وفاته عام 1980م تنقل سنو حول العالم كمحاضر ومستشار وكشخصية علمية عامة. بينما تضافرت دعوته مع الظروف السياسية والاجتماعية الدولية خلال تلك السنوات في تقليص عدد دارسي الإنسانيات لصالح المنتسبين للتخصصات العلمية في جامعات أوروبا وأمريكا.

في طبعة ثانية من كتابه صدرت عام 1963م، أضاف سنو فصلاً بعنوان الثقافتان: نظرة ثانية تفاءل فيه بظهور ثقافة ثالثة جديدة تسد الفجوة وتعمل كجسر بين الثقافتين التقليديتين: ثقافة العقليين الإنسانيين وثقافة العلماء التطبيقيين الذين ضمنهم كذلك الفنانين والتقانيين والمختصين بما وراء الطبيعيات. وفقاً لثقافة سنو المفترضة هذه، فإن النخب الأدبية سيكون بوسعها التواصل مع العلماء بعد إجادة مفردات العلم الحديث، والعكس بالعكس صحيح. وإن كان سنو يقر بأن القضايا المصيرية للثقافة الهجينة الجديدة لن تتغير: السلام، والغذاء، وفائض البشر الذين تنوء بهم هذه الأرض .

بروكمان: بل هي الثالثة.. والوحيدة!
خلال العقود الثلاثة التي تلت طَرْح سنو، بدا وكأن الثقافة الثالثة هي بمثابة وعي عام سيتكون مع الزمن لدى المفكرين التقليديين بفعل الطفرات الكبرى التي يشهدها الوسط العلمي. إلا أن هذا التعريف قد شهد زعزعة وإعادة صياغة دفع بفكرة الثقافة الثالثة إلى الواجهة بقوة مجدداً خلال تسعينيات القرن الماضي على يد المفكر جون بروكمان.

على النقيض من سنو، يرى بروكمان أن الثقافة الثالثة لن تلعب دور الجسر أو الصلة بين الثقافتين التقليديتين، بل هي ستحل محلهما والأدبية منهما بالذات. وأكثر من ذلك؛ يقول بروكمان إن مظاهر هذه الثقافة الثالثة هي موجودة بالفعل بيننا ممثلة بشخوص العلماء المعاصرين الذين باتوا يطرحون أسئلة جديدة يملكون وحدهم مفاتيح إجاباتها مما يهمِّش دور المفكرين الكلاسيكيين الذين تنتفي الحاجة للتواصل معهم أساساً وفق هذه الرؤية.

يعتقد بروكمان أن المختصين بالفكر الإنساني، أو أهل الكلام كما يسميهم، قد قاموا باختطاف مفهوم النُخب المفكّرة لصالحهم خلال ثلاثينيات القرن العشرين حتى صار قاصراً عن احتواء أسماء من قبيل آلبرت آينشتاين والفلكي إدوين هَبُل والرياضي جون فون نيومَن ونوربرت وينر. وعوضاً عن أن يتمركز فكر القرن العشرين حول مفاهيم العلوم والتكنولوجيا، يرى بروكمان أن هذه التخصصات قد تم إقصاؤها عن صلب المناهج الجامعية من قِبل وسط أكاديمي يسيطر عليه علماء الإنسانيات التقليديون.

في تبريره لهذا الخلل، يسوق بروكمان عدة أسباب: فالمشتغلون بالهم العلمي لم يقوموا، أولاً، بتقديم صيغ نهائية لقضايا يوظفون من خلالها الأفكار التي نتجت عن دراساتهم. وحتى العلماء المعروفين الذين توجهوا بكتاباتهم إلى القارئ العادي، مثل آرثر إدينغتُن، فقد تم تجاهل أعمالهم من قبل دائرة النخبة المنغلقة على ذاتها ولم يتم تمريرها لدائرة الأضواء خلال تلك الحقبة.

لكن الحال قد تغيَّر مع سيادة الثقافة الثالثة للمشهد، أو ثقافة الإنسانيين الجدد كما يسميها بروكمان، الذي يقرر بأن الاهتمام الشعبي بالكتب العلمية في أواخر القرن العشرين لا ينبغي أن يكون مفاجئاً بل يجب اعتباره مؤشراً طبيعياً على تغيير التوجه الفكري في العالم حيث يتحول العلم إلى ثقافة عامة ، وحيث العلم يتصدر أهم الأخبار ويتجدد يومياً ليغير معه حياة كل منا على نحو يعجز عن مواكبته أساطين الثقافة الكلاسيكيون المتشبثون بـفرويد وماركس وبدراسات الحداثة. هؤلاء الكلاسيكيون -يصر بروكمان- لا يتواصلون مع العلماء، في حين يتواصل العلماء مباشرة مع الجمهور من دون وساطة الأوصياء على الفكر ولا صحافتهم ما يشكل أبرز مظاهر قوة الثقافة الثالثة.

يقول بروكمان في مقال كتبه عام 1991م: المثقفون ليسوا أناساً محتكرين للمعرفة، بل هم أيضاً مُشكِّلون لفكر جيلهم. المثقف إنسان خلاَّق، جماهيري وتواصلي… (المؤرخون) اليوم يندبون جيلاً من المفكرين الشعبيين الذين حلّت محلهم مجموعات جامدة من الأكاديميين. هذا التصوير صحيح لكنه خطأ أيضاً، لأن مفكري الثقافة الثالثة هم الآن مثقفوا الجمهور الجدد .

محاور الثقافة الثالثة
المواضيع والمحاور الفكرية التي تتطرق لها الثقافة الثالثة تمثل كما يقول أنصارها طرقاً جديدة لفهم النظم الفيزيائية. أو هي طرق جديدة للتفكير بشأن التفكير، تستدعي التساؤل حول العديد من افتراضاتنا الأساسية المتعلقة بوجودنا وكينونتنا بحسب تعبير بروكمان نفسه.

هذه الافتراضات والأسئلة الكبرى هي من قبيل: كيف ظهر الوجود؟ ما أصل الكون؟ كيف بزغت الحياة؟ وهي افتراضات موزعة على طيف من التخصصات العلمية وليدة العقود الأخيرة من عمر الإنسانية، بعضها ظهر حتى بعد محاضرة سنو التي أطلقت شرارة الثقافة الثالثة، وهي متفرعة عن علوم الفيزياء والكهرباء والوراثة والهندسة والأحياء وكيمياء المادة. وكلها علوم يسعى الأفراد على مختلف درجات التعليم للاطلاع عليها وبخاصة محررو الكتب والخبراء ومديرو المؤسسات الإخبارية ومسؤولو الجامعات والذين يبذلون جهوداً لزيادة حصيلتهم منها في ظل تتابع الأنباء حول التطورات الحاصلة فيها.

والعناوين التي يخوض فيها كل هؤلاء قد تبدوا مبهمة لأول وهلة إذ تشمل الأحياء الجزيئية، والهندسة الوراثية، وتقنيات التصميم دون المستوى الذري أو تقنيات النانو، والذكاء الصناعي، ونظرية الفوضى، والأداء المتوازي للمهام، والشبكات الحاسوبية العصبية، والكون المتمدد، والاستنساخ… وغيرها.

هذا الفيض من الأفكار والتطبيقات الباهرة وغير المستجلاة بعد، والذي يشغل في الآن ذاته اهتمام الرأي العام بتصدّره لنشرات الأخبار اليومية وبتعلقه بهموم الإنسان المعاصر، يشكل ذخيرة مفكري الثقافة الثالثة. ليس هناك مقياس محدد لتصنيف أي من تلك التطبيقات بحسب الأهمية ولا مدى القبول العلمي. وقوة الثقافة الثالثة تكمن في تقبلها المطلق للاختلاف في مدى جدية تناول أي من تلك القضايا من دون أن يؤثر ذلك على صدقيتها العامة كثقافة. وعلى النقيض من ثقافة الرأي، فإن منجزات الثقافة الثالثة لن تنحصر في مجرد نقاشات فلسفية قابلة للمداولة من قبل النخبة الفكرية، بل ستتعداها إلى نتائج علمية يلمس أثرها الجميع.

والقائمون على صياغة مبادئ الثقافة الثالثة لا يخططون لأن ينغلقوا بها على تخصصات بعينها دون سواها. فأي فرع معرفي لطالما هو يعتمد وسائل قياسية في الحصول على المعلومة سيتم ضمه للمجموعة، وإن كان في الأصل تخصصاً إنسانياً، كما هو الحال مع فروع علم الاجتماع من جغرافيا واقتصاد وتاريخ وعلوم سياسية، بما في ذلك دقائقها الإحصائية والتقنية بطبيعة الحال. وهو ما يمثل دعوة مفتوحة لأفراد الثقافة الإنسانية لتبني نمط التفكير العلمي والانضمام إلى فريق الثقافة الثالثة بما يضمه من فيزيائيين وعلماء أحياء، وفلاسفة، وعلماء حاسوب ونفس وسلوك وأصول أنواع، وجيولوجيين، ومبتكرين، وصحفيين علميين.

تنويريون؟ أم مجرد عابرين؟
هل يمثل بروكمان ورفاقه الذين يحملون اليوم لواء الثقافة الثالثة موجة جديدة من التنويريين تعِد بثورة فكرية علمية على غرار التنظيمات التي اصطدمت بسلطة الكنيسة الكاثوليكية وكان أبطالها غاليليو وكيبلر ورفائيل؟

التأمل في آراء بروكمان الشخصية، بصفته رائداً في الدعوة للثقافة الثالثة ومؤسساً لصالون إلكتروني خاص بحواراتها (Edge.org)، ربما يسهم في إلقاء مزيد من الضوء على طبيعة الأفكار التي تطرحها هذه الحركة. يعلن بروكمان بأن الوقت قد حان لإزاحة مفكري الرأي عن الساحة واستبدالهم بالعلماء التجريبيين أو الإنسانيين الجدد . وهؤلاء قد لا تنقصهم مَلَكة التفلسف. فآينشتاين ذاته قد قضى شطراً معتبراً من زمن صياغة نظريته النسبية في اختيار الكلمات الأنسب للتعبير عن هذا العلم الجديد.

لكن تعليقات بروكمان، والتي لا يشاركه فيها بالضرورة كل المنتسبين إلى (Edge)، تعاني إغراقاً في التقليل من أهمية التخصصات الإنسانية عموماً وكأنها استنفدت الغايات منها. بروكمان يلمز دارسي الآداب والتاريخ مثلاً معتبراً أن تخصصاتهم ما هي إلا حلقة من النزاعات الشخصية والجدليات التي ما أن يفرغ منها أحدهم حتى يتلقفها الآخر ويبدأ في نقضها. ألا أنه يعود ويستدرك موضحاً أنه ليس ضد دراسة التاريخ مثلاً، لكنه يشدد على ضرورة أن نسائل أنفسنا: تاريخ أي شيء بالضبط ينبغي علينا أن ندرس؟ هو يذكر أن (تاريخ العلم) على سبيل المثال يظل تخصصاً مهماً إنما منفصلاً تماماً عن مسيرة العلم التجريبي البحت.

التفاؤل المطلق بمستقبل الحضارة تحت راية الفكر العلمي هو سمة أساسية لدعوة بروكمان. النظريات القائلة بإفلاس حضارة الغرب والاستشرافات المتشائمة بقرب سقوطها ليست عنده أكثر من أعراض اكتئاب مرَضي يعاني منه مفكرو ما بعد الحداثة. يقول ساخراً: شوبنهاور كان سيقترح نظاماً فلسفياً مختلفاً لو أنه تعاطى مضاد الاكتئاب (پروزاك) . وهو كذلك ليس من أنصار نظرية الهمجي النبيل والتي تلقي باللائمة على التقنية الحديثة في العبث بالتوازن بين الإنسان والبيئة وشيوع القلاقل والأزمات بين البشر.. هو ببساطة يؤمن بالعكس تماماً.

لكن أفكار بروكمان تحظى بالنقد حتى من داخل جماعة الثقافة الثالثة ذاتها. أحدهم شبه حماسته المفتقرة للتحليل المنطقي في إعلان انتصار المنهج العلمي واندحار الفكر التقليدي بإعلانات شركة (نايكي – Nike) الرياضية!

كما أن زعمه بأن علماء الطبيعة هم الأقرب بدراساتهم وأبحاثهم لمشكلات العالَم الحقيقي لم يكن واقعياً تماماً. فقائمة الدراسات التي تتطرق لها حقول العلم الحديث والمتعلقة بالمجهول والمالانهاية هي أكثر من أن تحصى. وفي المقابل تبرز الأبحاث الإنسانية الخاصة بالسلوك والشخصية البشريين ملتصقة بالواقع وبالعالم الحقيقي. كثير من العلماء لا يشاركون بروكمان حَميته لثقافة ثالثة مُطلَقة. فهؤلاء يدركون عجزهم عن تناول المسائل الإنسانية الشائكة المتعلقة بالأخلاق مثلاً. وخطورة استفراد العلماء بالدور الإنساني تفسرها ذات الأسباب التي ساقها بروكمان ومن قبله سنو في الدعوة للثقافة الثالثة: فالعلماء التطبيقيون لا يزالون يفتقرون بدورهم إلى المعرفة والأدوات اللازمة للعب هذا الدور.

حتى الحقيقة التي افترضها بروكمان حول انفتاح آفاق الاستكشافات العلمية ووقوف العلم على مشارف حقبة من الإنجازات اللامتناهية، حتى هذا الفرض يجد من ينقضه من داخل البيت العلمي قبل سواه. فثمة من يعتقد أن الأسئلة العلمية الكبرى قد تم استنفادها أيضاً، أو أن ذلك على وشك الحصول ما أن يتم التوصل للنظرية الكليّة (The Theory of Everything) وسوى ذلك من المسائل العلمية العالقة والمحددة بدورها.

تجدر الإشارة إلى أن كثيراً من المفكرين العقليين يقرون بتراجع الثقافة الإنسانية مقابل الزخم العلمي. هؤلاء لا يسلّمون بهزيمتهم أما طروحات بروكمان، وإنما يعيدون توجيه نصاله إلى نحره، مذكرّين بأن كثيرًا من الإنجازات العلمية والتكنولوجية الحديثة، وبخاصة في مجال الاتصالات الإلكترونية تكاد تسلب العلاقات الاجتماعية إنسانيتها مع استغناء البشر عن بعضهم البعض مقابل رفقة الآلات الصماء التي تقدم لهم وهم التواصل من ناحية، وتخضعهم لسيطرتها الباردة من ناحية أخرى كما تنبأ عدد من المفكرين الإنسانيين في بدايات القرن أمثال جورج أورويل وكارل تشوبئك.

مثقفو الرأي يشيرون كذلك إلى أن أياً من طروحات الثقافة الثالثة لا تبدو مكترثة بالجوانب الدينية أو الروحية للحضارة. كما وأن تبجيل بروكمان للفكر العلمي من منطلق تفوق العالم الغربي في صدده، واقتصار معظم محاور الثقافة الثالثة المطروحة على هموم العالم الأول الفكرية من دون التفات حقيقي لمآسي باقي العوالم المتخلّفة والأحوج للغوث الفكري، مع تكريس مكانة الغرب –أو أميركا تحديداً- كقوة عظمى هدفاً معلناً للثقافة الثالثة، كل ذلك يرفع علامات استفهام شتى حول خلفيات دعوتي بروكمان وسنو ويوحي بنبرات خفية تبطنها.

على كلٍ، فأحد أوجه نقد (بروكمان) داخل أميركا تمثلت في استكتابه حصرياً للخبراء من الرجال البيض دون النساء والملونين في المؤلفات التي حررها باسمه، ما يتعارض مع قواعد الاستقصاء الشامل ويسلب دراساته الكثير من جديتها كمرآة لرأي شرائح أكثر تنوعاً واعتباراً.

الثقافة الثالثة في المفهوم العربي
البحث عن معنى مصطلح الثقافة الثالثة يقود إلى أكثر من مفهوم. فبالإضافة إلى الفكرة المطروحة أعلاه، توجد أيضاً نظرية ابن الثقافة الثالثة – Third Culture Kid والخاصة بالأفراد الذين ولدوا أو نشأوا في أوطان غير أوطانهم الأصلية التي ينسبون إليها ثقافياً أو وراثياً. ويضم هؤلاء أبناء الديبلوماسيين والجنود والمغتربين عموماً. وهذا التفسير لمعنى الثقافة الثالثة هو الغالب في الأدبيات العربية المعنية بالهم الثقافي والموضوعة في معظمها من قِبل مغتربين يعيشون أنفسهم مظاهر هذه المعاناة ويشكلون جُلّ النخبة العربية المفكرة.

تظل القيمة العلمية غائبة إذاً عن الأجندة العربية حتى تحت بند الثقافة الثالثة ذاته، في مقابل إغراق في تناول الجانب الإنساني والاجتماعي المندرج تحت نفس المسمى. والواقع أن تقصي ملامح ثقافة ثالثة بحسب التعاريف التي وضعها سنو ومن بعده بروكمان عبر المشهد العربي يمثل مهمة صعبة ومرتبكة. ليس لأن المثقفين العرب هم بمنأى عن الفكرة وتطوراتها في الغرب. ولكن لأن القيمة العلمية للفِكر تظل غائبة عن الحالة العربية التي لم تزل تحاول أن تحدد أطرها وتخرج من نفق ركودها وجمودها. لنتذكر مثلاً أن الكتاب العلمي والقصة العلمية لا تزال مشاريع غير مكتملة الأهلية في الذائقة العربية. وعليه، فإن الحديث عن ردم الفجوة بين الفكرين الإنساني والتطبيقي العربيين -على النمط الغربي- لابد وأن تسبقها بلورة وصقل للفكر الإنساني وثقافة الرأي أولاً، ثم نهضة بالفكر العلمي الطبيعي.

غير أن الساحة لا تخلو من محاولات لتقديم مفهوم بروكمان للثقافة الثالثة واستقراء واقعه ومستقبله عربياً. والمثقفون العرب منقسمون حيال هذا المفهوم إلى فريقين: فهناك فريق يرى فيها ثقافة مدمرة للقيمة الإنسانية ستؤدي إلى تسليم زمام القيادة إلى (التكنوقراط) ومنتهاها علمانية المجتمع، في مقابل فريق ثانِ متحمس لها، لكن إحاطته بمفرداتها لا يتجاوز مع الأسف حد الإنترنت و الاستنساخ ، على اعتبار ما يذاع في القنوات الفضائية. وتتمثل المفارقة العربية هنا في غياب النخبة العلمية شبه التام عن المشهد الثقافي، وفي ظهور الدعوة إلى الثقافة الثالثة من داخل مجاميع مثقفي الرأي والإنسانيين التقليدين الذين يدعو بروكمان في أمريكا لوقف التعويل عليهم في مسيرة التقدم!

هكذا، لا يعدو الحديث عن الثقافة الثالثة عربياً مجرد رجع للصدى الأجنبي، وفي الآن ذاته الذي تفصلنا فيه عن الغرب قرون من الإنجاز التقني. أليس من المخيف أن نتطلع نحن بالذات إلى هذا الغرب وهو يجلد ذاته بهذه القسوة ويلومها على تأخره العلمي وقصور مؤسساته الفكرية عن مواكبة مسيرة العلم؟! أم أننا قد كتب علينا أن نبقى أبداً أسرى ثقافة ماضوية تفتقر إلى البعد المستقبلي، ويستغرقها الواقع بآلامه ومشكلاته ليحجب عنها رؤية المستقبل؟

كتابات في الثقافة
هناك بالطبع كتاب سنو المشار إليه في الموضوع السابق (الثقافتان والثورة العلمية – The Two Cultures and the Scientific Revolution) والذي بدأت به القصة بأسرها.
ألّف (بروكمان) منذ العام 1969م العديد من الكتب لعل أشهرها (الثقافة الثالثة: ما بعد الثورة العلمية – The Third Culture: Beyond the Scientific Revolution) الذي صدر عام 1995م، وهو متوافر بصيغة رقمية عبر الموقع: http://www.edge.org/documents/jbbooks.html. وقد استعرضت مجلة (العربي) هذا الكتاب في عددها الصادر في نوفمبر 2003م.
وحرر بروكمان بعد ذلك عدة عناوين في فلسفة الثقافة الثالثة جميعها وإن كانت منسوبة إليه إلا أنها تشترك في كونها مجموعة مقالات لعدد من العلماء والمفكرين يتطرقون عبرها لأبرز الأسئلة التي تطرحها تخصصاتهم في لغة سهلة موجهة إلى القارئ العادي ومكرسة لبسط هيمنة هذه الثقافة بين الجمهور.
تتوافر ترجمات لبعض أعمال بروكمان في المكتبة العربية. آخرها كتاب الإنسانيون الجدد: العلم عند الحافة من ترجمة مصطفى إبراهيم فهمي ضمن المشروع القومي للترجمة التابع للمجلس الأعلى للثقافة بجمهورية مصر العربية. هناك أيضاً ترجمة مروان أبو جيب لكتاب السنوات الخمسون القادمة والصادر عن مكتبة العبيكان السعودية. وكعنوان عربي صرف يبرز كتاب للدكتور أحمد أبو زيد بعنوان المعرفة وصناعة المستقبل المنشور ضمن سلسلة (كتاب العربي).

علوم السنوات المقبلة.. تقاطعاتها وعواقبها
تتضمّن الثقافة الثالثة أولئك العلماء والمفكّرين في العالم التجريبي ،الذين من خلال عملهم وكتابتهم التفسيرية، يأخذون مكان المثقف التقليدي في جعل المعاني المرئية أعمق في حياتنا.
ومن أهم الكتب التي تناولت هذا الموضوع كتاب السنوات الخمسون القادمة الذي يحوي مقالات بقلم خمسة وعشرين من كبار العلماء العالميين ألفه جون بروكمان وعربه مروان أبو جيب, وصدرت طبعته الأولى عام 2004م.
تدور هذه المقالات حول التقدم الذي تم إنجازه في العلوم والتكنولوجيا, فمثلاً بول ديفيس، العالم الفيزيائي النظري والمؤلف صاحب الكتب الأكثر مبيعاً، يجول في احتمال التوصل بحلول العام 2050م إلى تحقيق تواجد بشري كامل على كوكب المشتري. والعالم النفساني ميهالي كسيكرز ينتنميهاليي يبحث عن تشعبات حاصل الذكاء العالي الذي يشكل من الناحية الوراثية مواليد سعداء. الطبيبة النفسانية نانسي إيتكوف تقدِّم شرحاً للبحث الذي يجري حالياً في ابتكار مجوهرات تتحسس العواطف, ويمكنها أن تقيس طبائعنا وتنبهنا إلى الوقت الذي يجب أن نبتلع فيه قرصاً مهدئاً. ويغوص ريتشارد دوكينز، العالم في ارتقاء الإحياء، في احتمال أن نحصل في القريب العاجل على طبعة لمجموعة المورثات تنبئنا بنهايتنا الطبيعية لقاء تكلفة مساوية لصورة الصدر الشعاعية. هذا الكتاب لا يتعاطى في الإمكانات العملية للمستقبل القريب فحسب، بل يتعداها أيضاً إلى العواقب الاجتماعية والعملية لتطورات غريبة سيشهدها العالم الجديد الذي لا بد أنه قادم.
في هذا الكتاب لا يكتب العلماء عموميات ترمي إلى التسلية العامة, بل مناقشات موجهة لنظرائهم في التخصصات الأخرى عن ماهية التطورات التي نتوقعها في كل مجال أو تخصص. وكيف سيكون تأثيرها ومدى تقاطعها مع بعضها البعض. ما هي التوقعات الحالية التي لن تتحقق؟. لا يدعي المؤلف في مقدمته أن كتَّاب المقالات يقدمون بالضرورة أجوبة عن الأسئلة التي تطرح في حياتنا اليومية عن تطورات العلم المتوقعة.
يقع هذا الكتاب في 446 صفحة من القطع المتوسط, وقد قُسم إلى قسمين:
الأول هو استشراف نظري للمستقبل يحتوي ضمن موضوعاته على التقدم في علم الكون الفضاء وارتياده , تحديات العلوم الكونية: هل نحن وحدنا, وأين؟ الرياضيات سنة 2050م ,تحت ظلال الثقافة، العقول القابلة للتبادل الأشياء التي سيعلمها الأطفال للعلماء, الاضطراب و نظرية التعقيد, ما هي الحياة؟ . أما القسم الثاني فهو استشراف عملي للمستقبل ومن مواضيعه تسلسل الحمض النووي DNA ومدى التعليم الذي يوفره لنا , سيطرتنا على المادة, التفاعل الحميم بيننا وبين آلاتنا وعلى الأخص كومبيوتراتنا , علم الأعصاب,اندماج اللحم والآلات , هل سنصبح أكثر ذكاءً؟ , العقل والدماغ والنفس , السيطرة على المرض.. وغيرها من مواضيع.

أضف تعليق

التعليقات