في إطار التطورات الكثيرة التي شهدتها صناعة البترول خلال العقود الأخيرة، قد يكون ضمن أبرزها ما هو أبعدها عن البصر وأقلها إثارة للضجيج الإعلامي، ألا وهو استخدام البكتيريا الحية في هذه الصناعة التي تبدو في ظاهرها كيميائية ومعدنية بحتة. إذ باتت البكتيريا تلعب أدواراً أساسية في مختلف مراحل هذه الصناعة بدءاً بالآبار ومروراً بالمصافي وصولاً إلى أنابيب النقل. راكان حسن يتناول موضوع «التكنولوجيا الحيوية» مما نقله وترجمه بتصرف من عدد من المصادر، ويحدِّثنا عن هذا العلم الجديد الذي خطا خطوات واسعة خلال العقد الحالي، وتطبيقاته المتزايدة في مجال صناعة البترول وتطويرها.
أسهم التقدم الذي طرأ في علمي الوراثة والكيمياء الحيوية خلال العقود الأخيرة في ظهور ما يعرف «بالتكنولوجيا الحيوية»، التي قدَّمت تطبيقات واسعة ومبتكرة في عدد من المجالات العلمية المختلفة.
وتعرّف «التكنولوجيا الحيوية» بأنها علم تطبيقي يقوم على دراسة العمليات الكيميائية والبيولوجية التي تجري داخل خلايا الكائنات الحية، ثم الاستفادة من تلك العمليات في مجالات متعددة، كالطب والزراعة والصناعة والبيئة. وتتم تلك الاستفادة بواسطة تقنيات هندسية حديثة ترتبط بالهندسة الوراثية التي فتحت آفاقاً جديدة وتطبيقات أوسع.
يعتمد علم التكنولوجيا الحيوية بشكل أساسي على علوم الأحياء المجهرية، وبيولوجيا الخلايا، والكيمياء الحيوية، إلى جانب توظيف علوم أخرى مثل الكيمياء التحليلية والهندسة الكيميائية والحيوية وتقنية المعلومات والروبوت.
ماذا عن صناعة البترول؟
تعززت أهمية التكنولوجيا الحيوية وتطبيقاتها خلال السنوات الأخيرة، وخاصة فيما يتعلق بالصناعات القائمة على إنتاج السلع والخدمات بواسطة النظم البيولوجية. ولذلك، كان للتكنولوجيا الحيوية أثرها الكبير على المستوى الصناعي ليشمل على سبيل المثال الأغذية والأدوية والمواد الزراعية والمواد الكيميائية والتقنيات البيئية، حتى وصل اليوم إلى عمليات تكرير البترول. فقد قدَّمت التكنولوجيا حلولاً جذرية في هذا الجانب، لترفع من جودة تلك العمليات ومخرجاتها الجانبية، وهو ما جعل هذا العلم محط اهتمام عالمي ودراسات مكثفة تتناول إمكانية توظيف التكنولوجيا الحيوية بشكل أوسع في تلك العمليات.
ولعل أبرز إسهامات التكنولوجيا الحيوية في مجال صناعة البترول قدرتها على استخدام المواد الحيوية أو الميكروبية لتعزيز الانتاج، وهذا ما يسمى بالتكنولوجيا الحيوية النفطية، وهذا العلم بات اليوم معتمداً في صناعة النفط على اختلاف مراحلها، خاصة بعدما أثبتت خدمات التقنية الحيوية إمكانية تقديم ميكروبات معدّلة، ومواد حيوية مطورَّة قادرة على تحمل الظروف الصعبة في آبار النفط وخطوط الأنابيب.
فعلى سبيل المثال، كشفت الدراسات عن كائنات دقيقة قادرة على تطوير وإنتاج موادها الحيوية، تحسِّن إنتاج النفط في الآبار وخطوط الأنابيب، ومصافي التكرير، وتقوم بعمليات كيميائية ضرورية كإزالة كل من الكبريت والنيتروجين والمعادن من النفط، إضافة الى تقليل اللزوجة. فقد بات من الممكن استخلاص الإنزيمات والمواد الحيوية من خلايا تلك الكائنات، وإنتاجها بكميات كبيرة من خلال زراعة جيناتها في ميكروبات تتكاثر بسرعة عالية، لتنتج هذه المواد بوفرة تجعل توظيفها في مصافي التكرير وخطوط إنتاج البترول أمراً ممكناً.
وكما هو معروف، فإن النفط هو خليط معقَّد من الهيدروكربونات، كما أن الغاز الطبيعي أيضأ هو خليط من غاز الميثان وغازات أخرى، وكلاهما يشّكلان مواد قيمة لعدد من الكائنات الحية الدقيقة. وهذه الحقيقة كانت بوابة لآفاق واسعة من التطبيقات المتعلقة بالصناعة النفطية.
ففي البداية تم تطويع هذه الكائنات الدقيقة للمعالجة البيولوجية وإزالة التلوث عن المواقع الملوَّثة بالنفط، وبعد دراسة الدورات والمسارات الكيموحيوية (الأيض) لعدد من الميكروبات في أنظمة بيئية مختلفة، ظهر للباحثين أن هناك فرصاً ممكنة لاستخدام قدرة تلك الكائنات الدقيقة في التحويل الحيوي للمركبات التي تتغذى عليها، وتوظيف هذه التفاعلات – في خدمة العمليات البترولية، ومن ثم، فإن تنفيذ العمليات البيولوجية في صناعة النفط كما أشرنا سابقاً تمثل أساس التقنية الحيوية النفطية.
إن الأبحاث وعمليات التطوير في مجال التكنولوجيا الحيوية النفطية تزداد اليوم زخماً بحكم عدة عوامل، مثل كثافة الطلب على الوقود، والحاجة إلى تعزيز إنتاج النفط، والمخزونات المتزايدة من الخام الثقيل، والسعي إلى هوامش ربح كافية، وتطبيق الأنظمة البيئية التي أصبحت أكثر صرامة للحفاظ على البيئة.
ويمكن للتقنية الحيوية أن توفر حلولاً لمتطلبات تحسين مستوى الوقود الواسعة في جميع أنحاء العالم، لأن العمليات الحيوية لتطوير الوقود لا تتطلب الهيدروجين، كما أنها تنتج غاز ثاني أكسيد الكربون أقل بكثير من العمليات الحرارية، بالإضافة إلى براعة التمثيل الغذائي الميكروبي وجوهريتها في أن تكون وسيطاً في تحويل المواد الخام المعقدة إلى المنتجات المطلوبة في مجموعة واسعة من ظروف التفاعل، مثل ارتفاع درجة الحرارة والضغط، والملوحة، والحموضة الشديدة أو القلوية.
ولذلك، شهدت صناعة البترول مؤخراً توجهاً حقيقياً لدراسة الخيارات المتاحة لاستخدام التكنولوجيا الحيوية. فأجرت أبحاثاً عن العمليات الحيوية وطبقتها كتقنيات تكميلية في المراحل المختلفة لهذه الصناعة للحد من تكاليف الاستثمار والصيانة، وكذلك كنشاط واعد للتغلب على الحواجز التكنولوجية بشأن تطوير البترول.
ومع ذلك، فإن جهود تلك الأبحاث لم تكن ناجحة في كل المرات، وذلك بسبب قلة المتخصصين، والافتقار إلى التمويل، وضعف القدرة التنافسية، ونسبة الكفاءة إلى التكاليف. إلا أنه ومن ناحية أخرى نجح العديد من الأبحاث في مجال التقنية الحيوية النفطية وأثبت جدواه في تعزيز الإنتاج والتكرير الحيوي على وجه التحديد.
وفي بعض البلدان مثل الولايات المتحدة، ممثلة في وزارة الطاقة، أعدت في عام 2000م خارطة طريق تكنولوجية للصناعة النفطية، بما في ذلك النزع الحيوي للكبريت (biodesulfurization) من البنزين والديزل كتطبيقات تقنية لها الاهتمام الأكبر حيث تتضافر الجهود الأكاديمية والقطاع الخاص في البحث بشكل متزايد من أجل تحقيق الجوانب المرجوة.