الملف

التاكسي

حكاية المدينة والناس

التاكسي أكثر من معلم بارز في أي مدينة في العالم، إنه جزء من الحياة اليومية فيها والحركة الدائمة على طرقاتها. بعضنا على تماسٍ يومي معه، وبعضنا يكون كذلك في أسفاره، حيث يمكن للعلاقة معه أن تكون مصدر حكاية، أو حتى تجربة لافتة، تُروى مجرياتها لاحقاً.  وإذا كان التذمر مما قد يواجهه البعض في سيارة التاكسي مفهوماً، فإن الكل يقرّ بأن التاكسي ضرورة لا غنى عنها. إذ إن وجوده في حياة المدينة لا يقل شأناً عن وجود الطبيب والمستشفى والمطعم..
في هذا الملف، تجوب بنا الروائية حزامة حبايب على عدد من عواصم العالم ومدنه، لإطلاعنا على عوالم التاكسي الذي هو ليس سيارة من جهة وسائقاً من جهة أخرى، فالاثنان يندمجان في وحدة ذات خصوصية تميِّزها عن باقي وسائل النقل الخاصة والعامة، كما تميِّزها عن مكوّنات عديدة أخرى في الحياة والحركة من حولنا.

في كل دقيقة على كوكب الأرض تسمع نداء: “تاكسي!” أو ترتفع يدٌ لاستدعاء سيارة أجرة أو توسّلاً إليها من ملايين الأشخاص حول العالم، أكثر من نصفهم تذهب نداءاتهم اليائسة هباءً ويبتلعها ضجيج الشوارع، مع عزوف سائقي سيارات الأجرة عن التوقف لهم لسبب أو لآخر. ويُقدَّر عدد سيارات الأجرة في العالم – بمختلف أنواعها وطبيعة خدماتها – بنحو 25 مليون سيارة تخدم ما لا يقل عن 3 مليارات شخص يعيشون في المناطق الحضرية وخارجها.

هل أذهلتكم هذه الأرقام؟
إذا أخذنا مدينة نيويورك مثالاً، فبحسب السجل الرسمي الخاص بمفوضية سيارات الأجرة في المدينة لعام 2014، توجد 13,437 رخصة سيارة أجرة صفراء، رمز المدينة الأشهر، كما يوجد أكثر من 50 ألف سائق (يحملون رخصة قيادة سيارة أجرة). ووفق السجل الرسمي

أيضاً، فإن متوسط المسافة التي يقطعها التاكسي الأصفر هناك سنوياً  تقدر بنحو 112.6 ألف كيلومتر، وهو ما يكفي للفّ العالم 2.8 مرة. وتقوم سيارات التاكسي الصفراء بـ 485 ألف رحلة في اليوم، وهو ما يعادل نحو 175 مليون رحلة سنوياً، حيث تقلُّ هذه السيارات 600 ألف راكب يومياً، أي نحو 236 مليون سنوياً، علماً بأن عدد سكان مدينة نيويورك يُقدَّر بنحو 8.5 مليون نسمة. حسناً، إذا كانت سيارات الأجرة الصفراء في نيويورك تقلُّ نحو ربع مليار شخص كل عام (دون أن نأخذ في الحسبان الأشكال الأخرى من سيارات الأجرة المتوفِّرة)، فكيف الحال بمدينة مثل مومباي في الهند، التي يتراوح عدد سيارات الأجرة فيها بين 52 و55 ألفاً تخدم سكان المدينة البالغ عددهم زهاء 22 مليون نسمة؟!

إذا كانت سيارات الأجرة الصفراء في نيويورك تقلُّ نحو ربع مليار شخص كل عام، فكيف الحال بتكسيات مدينة مومباي، التي تخدم السكان البالغ عددهم زهاء 22 مليون نسمة؟!.

وعليه، قد لا نكون “كذبنا” تماماً أو جنحنا إلى المبالغة الفجَّة حين سمحنا لشطحة الخيال بأن “تبتدع” الأرقام أعلاه. أليس كذلك؟!بيد أنه على أهميتها، لسنا معنيين هنا تماماً بالوقوف عند الأرقام الهائلة بقدر مقاربة الفضاء الإنساني والمجتمعي والثقافي بالغ الاتساع الذي يخلقه كيان حديدي ضيق، مكانياً وزمانياً، ضمن بيئة قلقة، نزقة، دائمة الحركة، تستوعب كل أنواع العلائق والعواطف الإنسانية. إنه ببساطة “التاكسي” أو – بالأحرى – عالم التاكسي!

فما قصة التاكسي؟ وكيف غدا رمزاً ثقافياً وإنسانياً واجتماعياً في الحياة المدينية العصرية؟ بل كيف غدا مفهوماً أيقونياً، على غرار تاكسي نيويورك الأصفر أو تاكسي لندن الأسود، أو حتى التاكسي القاهري الأسود والأبيض الصامد بصعوبة، ليغدو جزئية حيوية مضفورة بهوية المدينة وناس المدينة؟

أصل كلمة “تاكسي”.. 
دخلت كلمة “تاكسي كاب” Taxicab قاموس المصطلحات المتداولة فعلياً في اللغة الإنجليزية في عام 1907. كان ذلك في لندن. والكلمة مزيج مختصر من مصطلحي “عدّاد التاكسي” Taximeter وكابريوليه Cabriolet. أما “Taximeter” فكلمة محوَّرة عن “Taxameter” الألمانية المأخوذة من “Taxe”، بمعنى “Tax” أي “فرض رسوم”، التي تعود بدورها إلى أصول لاتينية بالمعنى نفسه. إلى ذلك، فإن كلمة “متر” “Meter” مصدرها الكلمة الإغريقية “Metron” بمعنى “قياس”. أما “كابريوليه” “Cabriolet”، فتستخدم في وصف “العربة التي يجرّها الحصان” بالفرنسية، وهي مشتقة من “Cabrioler” بمعنى “يقفز” المأخوذة من الإيطالية “Capriolare” (أي “يقفز” أو “يثب”).ومع الاستخدام، تم الاستغناء عن كلمة “كاب” Cab مع الاكتفاء بكلمة “تاكسي” Taxi في وصف سيارة الأجرة، أو العكس؛ أي الاكتفاء بذكر كلمة “كاب” كناية عن سيارة الأجرة.

كان يا ما كان..تاكسي زمان
عرف الإنسان “عربات نقل الناس بالأجرة”، التي تشكِّل بصورة أو بأخرى الأصل التاريخي لمفهوم “التاكسي” الحديث، قبل أكثر من أربعة قرون، مرَّت خلالها هذه “الخدمة” بتطورات عدّة، إلى أن غدت نشاطاً أساسياً مقترناً بالمدينة. حتى إنه يمكن التأريخ لتحولات المدينة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية من خلال التاكسي، بوصفه عصب الحياة فيها، يرصد توازن مكوناتها كما اختلالها، يقرأ تغيراتها ويستجيب لها بطريقة فريدة، متقلِّباً معها متقولباً بها على نحوٍ يجعله “عدّاداً” تكاد قراءته تكون الأصدق والأكثر تعبيراً.

تاريخياً، تطوَّر “النقل البشري بالأجرة” من خلال خدمات العربات التي تجرّها الخيول لنقل الناس من مكان لآخر لقاء أجرة مُتّفَق عليها. كان ذلك في أوائل القرن السابع عشر. وكانت العاصمة البريطانية لندن والعاصمة الفرنسية باريس أول من “دشنّتا” مفهوم التاكسي من خلال عربات الأجرة التي تجرّها الخيول. ويُعتقد أن أول خدمة موثَّقة لعربات النقل بالأجرة في شوارع لندن كانت في العام 1605، وتم توفيرها من قِبل أصحاب النُّزل، وفي العام 1635، أقرَّ البرلمان الإنجليزي “قانون عربات النقل بالأجرة”، وفي العام 1662 تم إصدار أول رخص لها.

العقد الثالث من القرن الـ 21 سيكون عصر التاكسي بلا سائق، مع بدء عدد كبير من المدن في العالم بتدشين تجارب أولية في هذا الخصوص.

على الضفة الأخرى من المانش، شقّت شوارع باريس خدمة مشابهة على يد نيكولا سوفاج في العام 1637، لتصبح “عربات الخيول” مشهداً متكرِّراً، تزدحم بها طرقات المدن الأوروبية لنحو قرنين من الزمان، قبل أن يقوم المهندس الإنجليزي جوزيف هانسوم، من مدينة يورك بإنجلترا، بإدخال تحسينات جذرية على عربة الخيول المستخدمة في النقل من خلال استحداث عربة “الهانسوم” (Hansom) في العام 1834، وهي عربة بعجلتين، لا أربع عجلات على غرار القديمة، حيث اتسمت “الهانسوم” عن سابقتها بأنها أسرع، وأخف وزناً، يكفي حصان واحد كي يجرّها، ما جعلها بديلاً عملياً أرخص بالمقارنة مع عربة النقل الضخمة التي تجرّها عدة خيول. وتمّ لاحقاً إدخال عدة تحسينات على “الهانسوم” لجعل حركتها أكفأ. وسرعان ما انتشرت في عدد كبير من المدن الأوروبية والمدن الأخرى التابعة للتاج البريطاني. كما قطعت المحيط وصولاً إلى أمريكا بحلول أواخر القرن التاسع عشر، لتجوب شوارع نيويورك برشاقة.

لعل هذه الحياة “التاكسية” الفسيحة إنما تنسج قماشتها الغنيّة بالمشاعر والألوان من البوح الذي يشفّ أكثر بين الغرباء ممن يلتقون مرّةً واحدةً وأخيرةً في مساحة مكانية ما…v

يذهب عدد من المؤرِّخين إلى أن “الهانسوم” في واقع الأمر تطوَّرت عن عربة “الكابريوليه” التي انتشرت في وقت سابق في طرقات فرنسا، وهي عربة بعجلتين يجرّها حصان واحد، والفرق بينها وبين “الهانسوم” أن الأولى ذات غطاء قابل للطي، تغطي الراكب والسائق، في حين أن الثانية تتألَّف من عربة مغلقة، كحجرة صغيرة، فوق عجلتين يتسع مقعدها لراكبين أو ثلاثة، فيما يحتل السائق مقعداً خلف العربة، ما يمنح الراكب خصوصية أكثر.

الطيور الطنَّانة
ما كاد القرن التاسع عشر يلملم آخر أذياله، حتى ظهرت في شوارع لندن سيارات أجرة كهربائية تعمل بالبطارية تُعد الأقرب إلى مفهوم “التاكسي” الحديث، صممها المهندس البريطاني وولتر سي. بيرسي، مدير “شركة لندن لسيارات الأجرة الكهربائية”؛ ففي أغسطس/آب من العام 1897، استقبلت شوارع لندن أسطولاً من 25 سيارة كهربائية، وفي العام 1898، تم طرح 50 سيارة أخرى. وأطلق اللندنيون على هذه السيارات “الطيور الطنَّانة” بسبب الصوت المضحك الذي كانت تصدره أثناء سيرها في الشوارع. واستقبلت شوارع نيويورك في الفترة نفسها سيارات مشابهة. لكن رغم الثورة التي أحدثتها في عالم النقل بالأجرة، فإن عمر هذه السيارات كان قصيراً، إذ كانت مكلِّفة وغير آمنة، وتسبَّبت في عدد من الحوادث، أحدها كان مميتاً. فتم سحبها من شوارع لندن في العام 1900. واستمرت هذه السيارات في العمل في شوارع نيويورك لبضع سنوات أخرى، قبل أن تتوقَّف بطارياتها عن العمل نهائياً استجابةً لشرط التطور في الحياة.

قرن البنزين
يمكن وصف القرن العشرين بـ “قرن البنزين”. لكن سبق ذلك اختراعٌ يكاد يكون الأبرز في مفهوم التاكسي الحديث؛ وهو “العدّاد” الذي اخترعه المهندس الألماني فريدريك فِلِم غوستاف برون. والعدّاد ببساطة عبارة عن آلة تحسب تكلفة أجرة الرحلة بناءً على المسافة. وتزامن استحداث العدَّاد مع نقلة نوعيَّة في عالم سيارات التاكسي من خلال صنع سيارة “ديملر فيكتوريا” – كأول سيارة أجرة بعدّاد تعمل بالبنزين – على يد المهندس الألماني غوتليب ديملر في عام 1897، في مدينة شتوتغارت. وسرعان ما علا صوت محركات سيارات التاكسي التي تعمل بالبنزين في شوارع باريس في عام 1899، ثم في لندن في عام 1903، ثم نيويورك في عام 1907.

التاكسي في المدن السعودية
خلافاً لما هو الحال في بعض البلدان العربية كلبنان، حيث يندر أن تجد سيارتي تاكسي باللون نفسه، فإن سيارات التاكسي في المملكة موحَّدة اللون في كافة المدن والمناطق. وهي بيضاء تعلوها علامة “تاكسي” على السقف، وعلى جانبيها عبارة “أجرة” مخطّطة بشكل موحَّد. وسيارات التاكسي في المملكة هي في معظمها يابانية الصنع أو كورية، يملكها سعوديون، وبسبب السياسة الحكومية المشجّعة على توطين الوظائف والأعمال، كثرت المبادرات التي تسهِّل على الشباب السعودي امتلاك سيارة أجرة، وخصَّت الحكومة بعض نطاقات عمل سيارات الأجرة بالسائقين السعوديين، مثل المطارات ومحطات القطار والنقل ما بين المدن. وهذه السياسة تبدو فاعلة وناجحة، ولكن ببطء، إذ إن الغلبة عددياً لا تزال للسائقين الأجانب.وبسبب الحاجز اللغوي، نادراً ما يدور حديث بين الراكب وسائق التاكسي ويبقى التفاعل ما بين الطرفين عند حده الأدنى. الأمر الذي يراه البعض أفضل مما يمكن أن يعانونه، أو عانوه بالفعل، مع سائقي سيارات تاكسي في بعض البلدان العربية، دون أن يعني ذلك خلو التاكسي بسائقه الأجنبي من متاعبه الخاصة به.ولأنَّ التواصل مع الراكب معقَّد وصعب، ولأنَّ وسائل التواصل الهاتفي مع بلدان السائقين باتت مجانية من خلال تطبيقات إلكترونية كثيرة على الهواتف الجوالة، بات السائق يكتفي بسؤال الراكب عن وجهته، ثم يتابع الدردشة مع عائلته أو أصدقائه في أصقاع آسيا الشاسعة.. وما على الراكب إلا أن يتحمل حديثاً بصوت عالٍ ولغة غير مفهومة طيلة مدة رحلته.

ثورة التاكسيات الحديثة
شيمة الحياة قليلٌ من الصبر والثبات والركود، كثيرٌ من التغيير والتحوّل. والمبدأ نفسه ينسحب على منظومة النقل بالأجرة وتحديداً التاكسي. ففي العام 2009، انطلقت شركة “أوبر” Uber في سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة الأمريكية، مدشِّنةً خدمةً عالميةً جديدةً في منظومة النقل، من خلال طرح “تطبيق أوبر”، الذي يتيح لمستخدمي الهواتف الذكية طلب سيارة أجرة، بحيث يتم توجيه سائقي “أوبر”، الذين يستخدمون سياراتهم الخاصة، لتنفيذ تلك الرحلات لقاء نسبة من تعرفة الأجرة تستقطعها شركة “أوبر” من السائق. وسرعان ما حظيت هذه الخدمة بانتشار عالمي مع إقبال ملايين البشر على استخدام تطبيق “أوبر” لاستدعاء  سيارة تاكسي. وتشير أحدث إحصائية إلى أن “أوبر” تعمل – حتى كتابة هذا الموضوع – في 633 مدينة حول العالم. ليس هذا فحسب بل إن “أوبر” باتت بالنسبة لعدد متزايد من الناس خدمة التوصيل الحصرية، من ذلك تسجيل 2,357 رحلة قام بها راكب واحد فقط في الولايات المتحدة من خلال “أوبر” وذلك في العام 2016، بمعدل 6 رحلات يومياً!

قد لا يكون التاكسي عنواناً للفيلم أو مسرحاً رئيساً له، لكن دقائق فيه، بل ثوانٍ ثمينة داخل حيِّزه الضيِّق قد تقود إلى فتح غير مسبوق في الأفكار والمشاعر.

وبما أن السوق مفتوحة لهذه الثورة الجديدة في منظومة النقل، ضمن إطار تنافسي، فقد انتشرت في السنوات الخمس الأخيرة شركات وتطبيقات مشابهة لخدمة “أوبر”، من بينها شركة “كريم” Careem، ذائعة الصيت، التي تأسَّست في دبي في عام 2012، وهي مختصة بتوفير خدمات النقل والتوصيل عبر موقعها الإلكتروني وتطبيقات الهواتف المتنقِّلة، ويغطي نشاطها 53 مدينة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وجنوب آسيا.وبشيء من الثقة والجزم، نستطيع القول إنه إذا كان العقد الثاني من القرن الـ 21 هو عقد “أوبر” وأخواتها من شركات نقل “إلكترونية” الهوى ذكية التطبيق، فإن العقد الثالث من القرن الـ 21 سيكون عصر التاكسي بلا سائق، مع بدء عدد كبير من المدن في العالم بتدشين تجارب أولية في هذا الخصوص.

حواديت تاكسي القاهرة للخميسي
من الكتب القليلة التي يمكن أن يعود إليها المرء واثقاً أنها لن تخيِّبه، تماماً كما في القراءة الأولى وربما أكثر إمتاعاً وإيناساً وتحريكاً للمشاعر المتضاربة في الإعادات القرائية، كتاب “تاكسي.. حواديت المشاوير” لخالد الخميسي (2007) الذي يرصد فيه واقع المجتمع المصري، والقاهري تحديداً، بلسان سائقي سيارات الأجرة في المدينة التي يقطنها نحو عشرة ملايين شخص “يحتالون” على شوارعها، وتحتال عليهم الشوارع المعجونة بتعاقب الأزمنة وتبدل الأمزجة. وكما يشير العنوان، فإن “التاكسي” القاهري هو مكان الحكايات أو “الحواديت” كما يسميها الخميسي، بل إن التاكسي من خلال طاقة تعبيرية تنفيسية مستفيضة يغدو نافذة مشرَعة على جوهر المدينة الحقيقة، كاشفاً خباياها، آلامها وبؤسها وتعاستها، وحلمها الأثير وأملها الشحيح بأن الحياة رغم كل شيء تستحق أن تُعاش؛ وهو أمل ثمين جداً نود في النهاية أن نغلق عليه في القلب ضنّاً به، كي لا يتسّرب مع إحباطات الطرقات.يضم “تاكسي.. حواديت المشاوير” 58 قصة أو “حدوتة” أبطالها سائقو سيارات الأجرة الذين يسلمون وجودهم المتداعي لشوارع القاهرة، فيما يتقمَّص الخميسي “الراوي” الذي يوحي كـ “زبون” بالسلبية من خلال تفاعله بصورة محدودة مع سير عملية القص أو “الحكي”، بينما هو في واقع الأمر مستمع ذكي، وقد يكون من باب المديح إذا قلنا إنه “مستمع خبيث” ذلك أنه بسلبيته الظاهرية أو ادعائه الحياد الموضوعي المصطنع كثيراً ما يلعب دور المحفِّز أو المحرِّض، مغذياً قريحة البوح وأحياناً “انفلات” ألسنة السائقين من عقالها، متجرَّدين من أي حذر أو تحفُّظ في مشاركة الراوي تجاربهم ومشاهداتهم اليومية وإحباطاتهم ونكاتهم المضحكة الموجعة وغيظهم ونقمتهم على الشارع ومن في الشارع بل ومشاركته أدق أسرار حياتهم، كل ذلك داخل سيارة التاكسي وخلال مسافة الطريق من مكان ركوب الراوي إلى نقطة الوصول، ضمن مساحة مكانية (سيارة الأجرة هنا) ومساحة زمانية (مسافة الرحلة أو “التوصيلة”) تظلان على محدوديتهما “قماشة” بوح غنية، حتى وإن كان بوحاً من طرف واحد، من جانب سائق التاكسي، لأن تجربة السائق الفردية، في هذا السياق، تأتي بلا شك انعكاساً لتجربة مجتمع بأكمله. خبايا المدينة وأهلها وعواطفهم وأطياف الحياة فيها كلها تتكشف بوضوح سافر داخل فضاء تاكسي القاهرة، من خلال سرد يبدو محايداً جداً، في حين أنه غير ذلك “جداً”؛ سرد تخلى فيه الكتاب عن صوته طواعية، مفسحاً الصفحات للغة الآخر، وهي لغة تتسم بالزخم والخشونة والفجاجة المفرطة والشفافية المطلقة، فجاءت “الحواديت” مترعةً بنبض الشارع الحي.

ولنا أن نتخيَّل الحياةَ في شوارع العالم تجوبها سياراتُ أجرة بلا سائقين، تتحرَّك بسلاسة، دون ارتكاب تجاوزات أو مخالفات من أي نوع، ودون أن تجد نفسك مضطراً للخوض في جدل عقيم مع سائق التاكسي حول أقصر وأسهل وأسرع طريق للذهاب إلى الوجهة المطلوبة، ومن دون الانجرار إلى مشاحنات حول تشغيل العدَّاد أو افتعال خصومات حول تعرفة الأجرة، ودون أسئلة فضولية، لا طعم لها ولا لون، يطرحها السائق عليك، وبلا موسيقى مفروضة عليك تخترق سمعك ورأسك بلا استئذان، وبلا خناقات دورية يفتعلها سائقك مع غيره من سائقي السيارات في الطرقات، وبلا تعليقات وانتقادات تكرّ على لسانه كحبّات المطر على تجاوزات السائقين في الشارع من نوع: “الحق ليس عليه وإنما على عديم الخبرة الذي أعطاه الرخصة!”، ودون أن تكون مضطراً للسكوت على تجاوزاته أو ادعاء التأييد – بهزّ رأسك على الأقل – لآرائه الاعتباطية في السياسة وكرة القدم. تخيل التاكسي يمشي فوق الأرض بلا سائق؟!

قطعاً ستكون الحياة أسهل وأسلس.. ستكون أقل توتراً وأقل مشكلات وأقل إثارةً وأقل مدعاةً للمفاجأة وأقل تلصُّصاً على حكايات الآخرين.. باختصار ستكون الحياة مختلفة..

نعم، ستكون الحياةُ أقل حياة؛ حياة لا طعم لها ولا رائحة ولا لون.

التاكسي البشري.. من الريكشا إلى التوك توك
يرى البعض أن مقاربة التاكسي عبر التاريخ تتضمَّن بالضرورة جزئية مهمة يُطلق عليها – جوازاً – “التاكسي البشري” من خلال نقل البشر على أيدي البشر أنفسهم. ومع أن السياق التاريخي يقتضي أن تكون هذه الظاهرة قد تطوَّرت فعلياً مع بدء صياغة مفهوم التنقل والترحال الإنساني، وأنها على الأرجح سبقت المفهوم الحديث للنقل بالأجرة، إلا أن أول رصد لهذا النوع من وسائط النقل القائمة على العلاقة النفعية في الإطار الرسمي أو المتعارف عليه لم يتم فعلياً إلا في أواخر القرن التاسع عشر، من خلال الـ”ريكشا”، وهي عربة نقل ذات عَجَلَتين، تتسع لشخص واحد ويجرّها رجل بيديه. وتم تأريخ أول استخدام معروف لـ”ريكشا” في عام 1887.وثمة نظريات كثيرة حول اختراع هذا “التاكسي البشري”، لكن الاعتقاد الذي يحظى بقبول أكبر هو أن الاختراع مسجَّل باسم اليابان في حوالي العام 1869، كما أن كلمة “ريكشا” Rickshaw تنحدر من كلمة jinrikisha اليابانية، المؤلفة من ثلاثة مقاطع: jin وتعني “إنسان”، وriki وتعني “قوة أو طاقة”، وsha وتعني “عربة”، أي ما معناه حرفياً: “العربة التي تعمل بالطاقة البشرية”.انتشرت عربة الريكشا بأشكال وتصاميم مختلفة في عدد كبير من المدن الآسيوية في القرن التاسع عشر. ومع “انقراض” هذا النوع من النقل المقترن بشكل من أشكال السُّخرة البشرية المنبوذة، فقد حلَّت محلّه درَّاجة الريكشا، القائمة على مفهوم “التاكسي البشري” نفسه مع فارق رئيس يتمثّل في اعتماد سائقها على قيادة العربة بواسطة درَّاجة هوائية. ولا يزال هذا النوع من التنقل رائجاً في عدد كبير من المناطق الحضرية والريفية على حد سواء في مدن آسيا، وثمة من يشجِّع على استخدام درَّاجة الريكشا في المجتمع المديني كوسيلة تنقل صديقة للبيئة. وأذكر في زيارة قمتُ بها للهند في العام 2005 أنني استأجرتُ درَّاجة ريكشا في مدينة أغرا قطع بي سائقها النحيل الذي عجنت الشمسُ بشرتَه البنية مسافة كيلومترين باتجاه بوابة ضريح “تاج محل”، تطبيقاً لقانون صارم يحظر على السيارات الاقتراب من محيط الضريح ضمن مسافة محدَّدة، للتقليل من التلوث الذي تسببه السيارات والحافلات في المنطقة ولصون اللون الأبيض البهي للرخام من الانطفاء.واللافت أنه في عصر تشهد فيه منظومة النقل الفردي بالأجرة تطوراً متلاحقاً مع ظهور وسائل وأنماط مستجدة، ليس آخرها “أوبر” بالتأكيد، فإن الريكشا تكتسب في القرن الحادي والعشرين مشروعية متزايدة، كـ”تاكسي” عملي وشعبي ورخيص نسبياً، مع تطوير مفهوم الريكشا أو “التاكسي البشري” وتزويده بمحرك ليصبح قريباً من مفهوم السيارة أو بالأحرى تاكسي مصغَّر، في ظل مجتمعات مدنية وشبه حضرية تعاني من كل أشكال الازدحام والزيادة المطردة في عدد السكان وغياب الفروقات بين الطبقات الوسطى والدنيا وارتفاع أسعار النقل. ويشار لهذا التاكسي في عالمنا العربي، وفي مصر تحديداً بـ”التوك توك”، وهو الاسم نفسه المتداول في تايلاند.ويُعرف التوك توك بأسماء مختلفة في الدول والمدن التي يملأ صخبه، على صغر حجمه، شوارعها؛ من أطرفها “كوكوتاكسي” Cocotaxi في كوبا. والاسم مأخوذ من كلمة coco التي تعني “جوزة الهند”؛ فشكل هيكل السيارة الصغيرة الأصفر والمائل للاستدارة يجعله شديد الشبه بنصف حبــة جوزة هند. ويتسم “تاكسي جوزة الهند” بالسرعة والكفاءة والتعرفة الرخيصة مقارنة بتكلفة التاكسي العادي.
ثلاثة من عوالم التاكسي
في ثلاث حواضر كبرىتاكسي نيويورك.. الأيقونة الصفراء
لا تحضر مدينة نيويورك إلا بالتاكسي الأصفر، قرينها ووليفها وهويتها وصورتها الأوضح، حتى وإن كانت صورة فجَّة ومزعجة. لتستحيل هذه الصورة مكوِّناً لصيقاً في ثقافة المدينة، وروحها وتركيبتها السكانية. بل إن تاريخ نيويورك الإنساني واللاإنساني أيضاً، وتطورها قيمياً – وانحلالها قيمياً كذلك – يمكن رصده من خلال تلك الكائنات الحديدية-البشرية بالتاج المضاء الذي يحمل كلمة TAXI على سقفها، واللون الأصفر الكناري لبدنها الذي يصبغ فضاء المدينة الثري.استقبلت نيويورك في العقود الأخيرة أنظمة متعدِّدة للنقل الفردي بالأجرة، لتلبية الاحتياجات المدينية العصرية المتطورة، لكن الغلبة تظل للتاكسي “التقليدي”. ويأتي التاكسي التقليدي بلونين: التاكسي الأصفر الشهير (الذي يمكن أن يتوقَّف لأي شخص يؤشِّر له في أي منطقة في المدينة)، والتاكسي ذو اللــون الأخضر التفاحي الذي ظهر  في عام 2013، والمسمــوح له بالتوقُّـــف للركــاب في مناطق محدَّدة في المدينــة، لكن التاكسي الأخضر يظل أقــل حضوراً وطغيـاناً من نظيره الأصفر.يمكن تاريخ القفزة الحقيقية التي كتبت تاريخ التاكسي الأصفر في نيويورك في عام 1907، حين قام هاري إن ألِنْ بجلب 65 سيارة تعمل بالبنزين من فرنسا لتشكِّل نواة أول أسطول لسيارات الأجرة التي صنعت تاريخ التاكسي الحديث في المدينة من خلال شركة “نيويورك تاكسي كاب” التي أسسها ألِنْ لهذا الغرض.ويقال إن ألِنْ قام بهذه المغامرة مدفوعاً بتجربة شخصية محبطة؛ فقد شعر بحنق بالغ في أحد أيام العام 1907 حين دفع خمسة دولارات أجرة رحلة مسافتها 1.2 كيلومتر، وهو مبلغ ضخم في حينه (يعادل بمقاييس اليوم نحو 130 دولاراً)، فقرَّر الراكب الساخط إنشاء شركة لسيارات الأجرة، يتم تحديد الأجرة فيها حسب المسافة. وجاءت السيارات الفرنسية بلونين: الأحمر والأخضر، لكن ألِنْ قرَّر أن يطليها باللون الأصفر ليسهل تمييزها في الشارع، وكي يكون بمقدور الناس رؤيتها من مسافة بعيدة. وبحلول عام 1908، كانت شركة ألِنْ تدير 700 سيارة أجرة. وخلال عقد من الزمان، ظهر عدد كبير من شركات سيارة الأجرة ليصبح تاكسي نيويورك علامة فارقة في كل شارع في المدينة التي كانت تشهد تطوراً متسارعاً. وعلى الرغم من دخول شركات كبرى مثل “جنرال موتورز” و”فورد موتور”، في إنتاج وتشغيل أسطول من سيارات الأجرة، إلا أنَّ الشركة التي حقَّقت النجاح الأكبر في هذا المجال هي”تشيكر كاب” لصناعة السيارات، التي أنتجت كمية كبيرة من سيارات التاكسي الصفراء والسوداء التي اقترنت بهوية التاكسي الأسطورية في نيويورك.في ستينيات القرن العشرين، ومع تفشي الجريمة والحوادث العنصرية في المدن الأمريكية، من بينها نيويورك، ظهر نشاط غير مشروع عمد من خلاله سائقو السيارات الخصوصية إلى تقديم خدمات التوصيل للناس الذين يستوقفونهم في الشارع لقاء أجرة متفق عليها. فأمرت مدينة نيويورك في العام 1967 كل سيارات الأجرة المرخصة التي تضع علامة “تاكسي” على سقفها بأن يتم طلاؤها باللون الأصفر المميّز للحد من النشاط غير المشروع لسائقي الأجرة غير المرخصين.من الصعب في هذه المقاربة “المتعجلة” نسبياً حصر أبرز الملامح الاقتصادية والثقافية والمجتمعية لتاكسي نيويورك الذي يمكن لأي باحث أن يقتفي من خلاله ملامح المدينة، لكن لعله يجدر بنا أن نتوقف عند ملمح ذي دلالة هنا؛ فمنذ منتصف الثمانينيات وحتى تسعينيات القرن الماضي شهد تاكسي المدينة تغيراً كبيراً في التركيبة الديموغرافية لسائقيه، وهو تغير يُعزى للموجة الكبيرة من المهاجرين الذين تدفقوا على المدينة في تلك الفترة، مدفوعين بأحلام الثراء التي كانت تعد بها. وبحسب الإحصاء الرسمي للولايات المتحدة في العام 2000، فمن بين سائقي التاكسي في نيويورك البالغ عددهم 62 ألفاً آنذاك، %82 منهم ولدوا خارج أمريكا، حيث تتوزَّع أصولهم على النحو التالي: %23 من دول الكاريبي (جمهورية الدومينكان وهاييتي)، و%30 من دول جنوب آسيا (بنغلاديش والهند وباكستان).تاكسي لندن..
لندني بامتيازمن بين جميع سيارات الأجرة بمختلف أنواعها وأنظمة عملها وطرق استدعائها، فإن التاكسي الأسود هو التاكسي اللندني بامتياز.  (رغم أنه بات يأتي بألوان عدة وتشكيلات إعلانية جاذبة)، وهو معروف بتصميمه اللافت ومساحته الواسعة والمريحة للركاب، خاصة في المقعد الخلفي الذي يتسع لخمسة ركاب إلى جانب أمتعتهم.بيد أن ما يميِّز تاكسي لندن عن معظم سيارات الأجرة في العالم هو العنصر البشري فيه. فمن المعروف أن خدمات سائقي التاكسي في لندن تُعد الأفضل من نوعها في العالم، بفضل تمتُّع السائق بالحصافة والخبرة والقدرة على التعامل مع الشارع اللندني بحكمة، مظهراً كياسةً ولياقةً وذوقاً وصبراً يندر أن يتمتّع بها سائقو الأجرة في مدن أخرى في العالم. وعلى مدى العقود الفائتة، اكتسب السائق اللندني سمعةً بوصفه “الأكثر اطِّلاعاً” ومعرفةً بطرقات المدينة ومعالمها السياحية والتاريخية، على نحو يجعله أقرب إلى دليل سياحي منه إلى سائق عادي، ما جعله مرغوباً من قبل ملايين السياح الذين تستقبلهم المدينة سنوياً.هذه الثقافة العريضة التي يتمتع بها سائق التاكسي اللندني هي نتيجة تأهيل جاد وتدريب صعب وحثيث يتلقاه من خلال اختبار “المعرفة”، وهو اختبار نظري وعملي مخصَّص لتدريب سائقي التاكسي الأسود في لندن، ويُعد الأصعب من نوعه في العالم، والأكثر تطلباً! وكان هذا الاختبار قد صُمم في العام 1865 ولم يتغيَّر كثيراً منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم. وبموجب هذا الاختبار، الذي يتضمَّن تدريباً مضنياً، يتعيَّن على سائق التاكسي الأسود في لندن أن يكون قادراً على اتخاذ قرار بشأن الطرقات الأنسب للوصول إلى جهة بعينها بناءً على طلب راكب ما، إلى جانب معرفة الحالة المرورية في الشوارع، من ازدحامات أو إغلاقات لتفاديها، معتمداً في ذلك على نظام الملاحة عبر الأقمار الصناعية أو من خلال التواصل مع مراقب مرور عبر اللاسلكي. ويشمل الاختبار كذلك دراسة مستفيضة لكل الشوارع والطرقات في لندن وكل الأماكن والمعالم السياحية والتاريخية المهمة والمطاعم والمسارح والحدائق، بحيث يتعيَّن على السائق الإلمام بها والإدلاء بمعلومات صحيحة بشأنها دون الرجوع إلى خريطة ورقية أو إلكترونية، ولا الاستعانة بتطبيقات التكنولوجيا الحديثة لمعرفة المواقع.يشتمل التدريب الصعب ما لا يقل عن 12 اختباراً عملياً، علماً بأن السائق يحتاج إلى 34 شهراً للحصول على شهادة “المعرفة” التي تمنحه رخصة قيادة التاكسي الأسود.تاكسي القاهرة.. هل تنقرض “الفهلوة”؟
لا نبالغ في القول إن تاكسي القاهرة العتيق، بلونه الأسود المكحَّلة جوانبه بالأبيض، هو الأشهر عربياً، والفضل في ذلك بالدرجة الأولى يعود للسينما المصرية التي تربَّى عليها أجيال من العرب، ليصبح الشارع المصري بمختلف مفرداته مندغماً في الثقافة العربية واسعة الانتشار، بالمعنى الشعبي، ولتغدو هذه الصورة مدخل الباحث الجاد في رصد وجه الحياة المصرية في مراحل زمنية عدة عبر تاريخها الحديث والمعاصر.لكن علينا أن نعترف بأن سمعة تاكسي القاهرة عانت تحت وطأة الصورة السلبية التي راجت عن السيارة الصندوقية الشكل. فالعدّاد لا يعمل معظم الوقت (أو لا يُراد له أن يعمل!)، وأن السائق، أو “الأسطى” كما يوصف، يجد نفسه في الغالب في حِلٍّ من قراءة العدّاد، وأنه يترصد السياح والغرباء، وأنه دائم الشكوى من ظروفه، وأنه يسعى إلى أن يأخذ أكثر بكثير مما يستحق، وما إلى ذلك من مظاهر وسلوكيات كرَّست الصورة المشوَّهة لسائق التاكسي في القاهرة، كسائق جشع واستغلالي وفهلوي، وهي صورة ليست صحيحة، ألحقت ظلماً بالغاً بشريحة مجتمعية مقهورة.من الصعب تحديد تاريخ موثق لانتشار التاكسي في مصر، لكن معظم المصادر المتوفرة تشير إلى أن أول ظهور لسيارة الأجرة كان في القاهرة في عام 1900، حيث كانت تعمل بالبطاريات، على غرار نظيرتها المنتشرة في أوروبا آنذاك. وخلال السنوات التي تلت ذلك، ظل “الحنطور” (العربة التي تجرّها الخيول) وسيلة التنقل بالأجرة السائدة في شوارع القاهرة ومدن مصر، بحيث لم تزد عدد سيارات الأجرة التي كانت تزاحم الحناطير في القاهرة على 30 تاكسي بحلول العام 1919.في السنوات الأخيرة، بدأ تاكسي القاهرة الصندوقي الشهير يئن تحت وطأة الشيخوخة، دون أن يرحم أحد هذه السيارة العزيزة، وأحيل عدد كبير منها إلى التقاعد الإجباري لتحلّ محلها سيارات أجرة جديدة، قريبة من روح المدينة العصرية؛ مثل تاكسي القاهرة الجديد (التاكسي الأبيض) وتاكسي العاصمة (التاكسي الأصفر) الذي يمكن الاتصال به ليصل إلى الشخص المعني في أي مكان، إلى جانب توفّر خدمات “أوبر” وغيرها. وعلى الأرجح ألا يمضي وقت طويل قبل أن نشهد انقراض أشهر تاكسي عربي، من الشارع القاهري والشاشة.

كيف غدا الكيان الحديدي النزق عصب الخيال السينمائي؟
ما الحياة إلا تاكسي عابر

ككيان ذي حيِّز محدود، يملك التاكسي – للمفارقة الصارخة – قدرة هائلة على اختزال كل أشكال الحياة؛ بل وفي أن يكون هو نفسه حياة طاغية، متوهِّجة حيناً، ومنطفئة أحياناً؛ حياة فيها كل معاني الكسب والفقد والخسارة والحُب والظلم والأمل واليأس والفرح والحزن، تماماً، كما يليق بأي حياة طويلة عريضة. ولعل هذه الحياة “التاكسية” الفسيحة إنما تنسج قماشتها غنية المشاعر والألوان من البوح الذي يشفّ أكثر بين الغرباء ممّن يلتقون مرّةً واحدةً وأخيرةً ضمن مساحة مكانية محدودة، مطمئنين بطريقة عجيبة إلى أن أسرارهم تسقط في آذان أمينة.وإذا كان شكسبير قد توصَّل إلى أنه “ما الحياة إلا ظل عابر” على لسان بطله ماكبث، كناية عن قصر حياة المرء، فإن الحياة “القصيرة” في التاكسي، تظل أكثر من ظل عابر.. أحياناً!

دي نيرو..
سائق التاكسي “حارس الفضيلة”
ثيمة “الحياة التاكسية” أو “تاكسي الحياة” نُسجت في عدد لا يُحصى من الأعمال السينمائية والأدبية في العالم. وقطعاً حين نتحدَّث عن أشهر سائق تاكسي في السينما، يتبادر إلى الذهن ترافيس بيكل، سائق الأجرة النيويوركي مضطرب العواطف والأفكار في فيلم “سائق التاكسي” (1976) رائعة المخرج الأمريكي مارتن سكورسيزي. يجسِّد النجم الأمريكي المبدع روبرت دي نيرو شخصية بيكل المركّبة التي تشهد صراعاً نفسياً على أكثر من مستوى تتداخل فيه الشخصية النزقة وانفعالاتها وسلوكياتها المتهوِّرة والهوجاء حيناً، والمنكفئة على نفسها أحياناً مع سيماء مدينة نيويورك وانفعالات شوارعها المفتوحة على كل أنواع المصادفات واللقاءات العابرة.

يعاني ترافيس بيكل (دي نيرو)، الذي خدم في فيتنام كجندي في قوات البحرية الأمريكية، من الوحدة والكآبة والأرق المزمن، فيجد في عمله كسائق أجرة على تاكسي أصفر في نيويورك وسيلة للتغلُّب على وحدة الليل والتكيف مع الأرق، محتكاً في الأثناء مع واقع المدينة الليلي “المنحط” على نحو يعمّق من جهة شعوره بالكآبة، ويدفعه من جهة أخرى للعب دور حارس الفضيلة الذي يسعى إلى تطبيق القانون بيده، ومطاردة “الأشرار”، وتخليص “ضحايا” ليل نيويورك القاسي من الواقع الذي فُرض عليهم؛ كل هذا ضمن بيئة حكائية مشوبة بأجواء “شارعية” بحتة، تنطوي على إثارة  نفسية بالغة، تعكس قلقاً واضطراباً وتغلغلاً عميقاً في ذات المرء المشحونة عاطفياً. بعد أكثر من أربعين عاماً من معانقته الشاشة الفضية، لا يزال فيلم “سائق التاكسي” يشكِّل مرجعية في دراسة التحولات النفسية لشخص نصادفه في كل مرة نؤشر له كي يأخذنا في شارع عابر، ضمن زمن عابر، دون أن نعتقد للحظة أن هذا الشخص قد ينظر يوماً في المرآة؛ فيتخيلك أمامه، يشهر مسدساً في وجهك، ويقول لك بنبرة مهددة: “أتتحدث إليّ؟! ويْحَك!”.

نور الشريف..
وفي الليل كل شيء يغدو واضحاً
شكّل التاكسي القاهري خلفية لمشاهد سينمائية وتلفزيونية كثيرة، لكن قلة من هذه الأفلام كان التاكسي محورها بالمعنى الإنساني الشفيف. من بين هذه الأفلام “ليلة ساخنة” (1995م) من إخراج المبدع الراحل عاطف الطيب وبطولة النجم الراحل نور الشريف والنجمة لبلبة. و”السخونة” هنا هي بمعنى التقاء المصائر وتضارب المشاعر وتجمُّع الظروف الضاغطة التي تدفع المرء إلى اتخاذ قرارات مؤلمة. يجسِّد نور الشريف دور “سيد” سائق التاكسي الذي يجد نفسه مضطراً للعمل في المدينة في ليلة رأس السنة كي يجمع تكاليف عمليَّة جراحيَّة عاجلة لحماته، التي ترعى ابنه الوحيد، ليتقاطع طريقه في تلك الليلة مع طريق “حورية” التي تجسِّد دورها لبلبة، كامرأة يائسة تسعى وراء القرش العزيز بأي ثمن لتوفير المال اللازم لترميم بيتها كي لا تُطرد منه وتجد نفسها مع شقيقتها في الشارع. وناس الليل في المدن الكبيرة لا يشبهون ناس النهار؛ ذلك أن الليل “الستار”، كما يُفترض، يصبح كاشفاً لنوازع الذات البشرية في الحياة كما في المخيال السينمائي والدرامي، كل ذلك ضمن توليفة حكائية لا يتوقَّف فيها التاكسي إلا كي يتّخذ سائقه قراراً تلو الآخر يقلب حياته تماماً. ويجد كل من “سيّد” و”حورية” نفسيهما في النهاية يخوضان صراعاً أخلاقياً مريراً حول اتخاذ قرار حاسم بشأن الاحتفاظ بمبلغ كبير من المال عثرا عليه، خلّفته عصابة وراءها، أم تسليمه للشرطة، وهو قرار يتداخل فيه الصواب والخطأ على ضوء معطيات تلك الليلة، لتتضح معاني الحياة أكثر فأكثر!وسبق أن شكّل نور الشريف ثنائياً ناجحاً مع عاطف الطيب في الفيلم التحفة “سواق الأتوبيس” (1982)، الذي يعد من روائع السينما المصرية، وجسّد الشريف فيه حال الشارع المصري بعد حرب 1973، من خلال شخصية “حسن” الذي يجد نفسه مضطراً، بعد وفاة والده، إلى طرق كل الأبواب لإنقاذ ورشة النجارة الخاصة بوالده والمهدَّدة بالبيع في المزاد العلني، وفي الوقت نفسه السعي إلى تلبية متطلبات زوجته “ميرفت” (التي تجسِّد دورها ميرفت أمين)، حيث يعمل سائق حافلة في النهار وسائق تاكسي في الليل لمحاولة تحسين دخله، دون أن يسهم عمله على التاكسي في تغير حياته إلى الأفضل، إذ تتفاقم الضغوط المادية والمعنوية عليه إلى أن يحدث الانفجار المتوقع، إذ يتوفى والده دون أن يتمكَّن من إنقاذ ورشته، ولا يجد حسن، سائق الأتوبيس المحبط، متنفساً إلا في “نشّال” يسرق أحد ركاب الأتوبيس ويفّر، فيلحق به حسن ويوسعه ضرباً مبرحاً يفرِّغ فيه كل صنوف قهره من الدنيا التي خذلته في الطرقات.

رمز نيويوركي لا يخلو من طيبة
قطعاً يحظى تاكسي نيويورك الأصفر بالحصة الأعظم في المشهدية في المكتبة السينمائية العالمية. وإلى جانب مئات الأفلام التي احتل فيها التاكسي الأصفر مشاهد عدة في الشارع النيويوركي، ثمة أفلام يشكِّل فيها التاكسي بيئتها الغالبة. وقد يكون دالاً هنا أن نتوقّف مع فيلم “كولاترال” (2004). يروي الفيلم الذي يمكن ترجمة عنوانه “المرافق” (علماً بأن للعنوان معاني أخرى كلها يمكن أن تشير للمعاني المبطّنة في الفيلم بشكل أو بآخر) قصة سائق تاكسي يدعى “ماكس” (يجسِّد دوره الممثل الأمريكي جيمي فوكس) يجد نفسه وقد أصبح رهينة داخل سيارته خاضعاً لتهديد راكب يدعى “فنسنت” (يلعب دوره توم كروز) يتبيَّن أنه قاتل مأجور يسعى إلى تصفية خمسة أشخاص شهود في قضية، كل ذلك خلال ليلة واحدة، تتمثَّل فيها مهمة ماكس نقل فنسنت، تحت التهديد، من مسرح جريمة لآخر. والحق أن الفيلم، الذي مرّ نقدياً وجماهيرياً مرور الكرام، يقدّم مبارزة فذّة في الأداء بين نجمي الفيلم. وبعيداً عن مشاهد القتل المروعة، التي يحفل بها الفيلم، فإن المشاهد الأكثر تأثيراً هي تلك الحوارات السلسة التي تدور بين السائق المتوتر المرتعب والراكب-القاتل الجالس بثقة على المقعد الخلفي. وفي الوقت الذي يحاول فيه السائق يائساً التخلص من “الزبون” الذي ينفِّذ جرائمه بدم بارد، فإن الزبون يمعن في التقرُّب من السائق، نابشاً أحلامه المستقبلية، مقارباً وإياه أدقّ تفاصيل حياته الشخصية بما في ذلك علاقته بأمه الموجودة في المستشفى. وحين يكتشف فنسنت أن ماكس يزور أمه في المستشفى كل ليلة، يصرّ عليه بألا يتخلّف عن الموعد. ليس هذا فحسب، بل يرغمه على شراء باقة ورد لأمه ويرافقه للاطمئنان عليها، أبداً كما لو كانت هناك صداقة حقيقية تجمعهما. فالقاتل المأجور في النهاية رجل طيب، كما يصف نفسه، كل ما في الأمر أنه مرتبط بعقد عمل، يقتضي تصفية عدة أشخاص في تلك الليلة! (فالأمر ليس شخصياً!) لكن الطيبة الحقيقية تتمثَّل في ماكس، سائق التاكسي الخبير بالطرقات، الذي يضع أمامه مهمة شخصية جداً تتمثل في إنقاذ آخر ضحية محتملة من ضحايا ماكس موضوعة على “قائمة التصفية”.

إن ماكس رجل طيب، لا يشبه سائقي التاكسي النزقين، المتبرّمين، الاستغلاليين؛ ولعل فيلم “كولاترال” تحية لأولئك الطيبين من سائقي الأجرة في نيويورك، ممن يحافظون على أخلاقيات المهنة رغم وحوش الطريق، المتدثرين بالوسامة والأناقة والمال.

.. وجاءت لحظة الحقيقة
قد لا يكون التاكسي عنواناً للفيلم أو مسرحاً رئيســاً له، لكنَّ دقائق فيه، بل ثوانٍ ثمينــة داخل حيّزه الضيــق قد تقود إلى فتــحٍ غير مسبوق في الأفكار والمشاعر، أو قد تتيح لحظة ثمينة من مكاشفة الذات أو اكتشاف الحقيقة، حقيقة المرء لنفسه ومشاعره، أو حقيقة الآخرين ومشاعرهم.

في جميع الأحوال، يمكن حصر عشرات المشاهد السينمائية داخل التاكسي في كل مدن العالم، بحيث قد يترجَّل أحدهم من التاكسي شخصاً آخر أو على الأقل مختلفاً عما كان عليه قبل أن يستقلّ سيارة الأجرة كأي يوم عادي. وليس بالضرورة أن يكون التاكسي أو السائق سبباً في البوح أو الكشف، بل وسيلةً له بطريقة أو بأخرى.

من المشاهد ذات الحياكة السينمائية الآسرة، مشهد التاكسي في نهاية فيلم “الإفطار عند تيفاني” (1961)، المأخوذ عن قصة بالاسم نفسه للكاتب الأمريكي ترومان كابوت. فعلى المقعد الخلفي من سيارة الأجرة التي تقطع أحد شوارع نيويورك تحت المطر، يواجه “بول” (الذي يجسِّد دوره الممثل الأمريكي جورج بيبارد) “هولي” (التي تقوم بدورها أيقونة هوليود النجمة البريطانية أدوري هيبورن) بحبّه لها، لكنها ترفض مشاعره، مؤكدةً أنها تفضِّل أن تكون متحرِّرة من أي علاقة عاطفية قد تقيّدها، ثم تطلب من سائق التاكسي أن يوقف السيارة وتفتح الباب وتلقي بهرّها إلى الشارع تحت المطر، مدَّعية قسوةً في المشاعر، وتحرراً من أي عاطفة تربطها بالحيوان الصغير. حينها، يعمد بول إلى إيقاف السائق لينزل من السيارة متهماً هولي بأنها جبانة وأنها ستظل أسيرة الخوف من أحاسيسها، قبل أن يرمي لها بخاتم كان يحمله من أجلها منذ شهور وقد نقش اسمها عليه في محلات “تيفاني” للمجوهرات.  لكن هولي، التي تظل وحيدة على المقعد الخلفي في التاكسي، لا تلبث أن تستسلم لعاطفتها الحقيقية فتضع الخاتم في إصبعها، كناية عن الارتباط، لتكتشف في تلك اللحظة أنها لا تستطيع أن تزيّف مشاعرها أو تدّعي عكسها، فتترجل من التاكسي وتركض تحت المطر في أثر بول، الذي يكون يبحث عن الهرّ في أحد الأزقة، لينتهي الفيلم بلقاء ثلاثي بين هولي وبول والهر، معلناً غلبة الحُب.وليس من قبيل “العبث” أو الصدفة أن الفيلم الذي حقَّقه المخرج الأمريكي بليك إدواردز يبدأ بمشهد ترجّل هولي من سيارة أجرة وينتهي بترجلها أيضاً من سيارة أجرة، مع الفارق الهائل في الدلالة أو “العبرة” بين المشهدين! ففي بداية الفيلم، تترجَّل هولي من التاكسي بكامل أناقتها، لتقف أمام نافذة محل تيفاني تشرب القهوة وتتناول قطعة معجنات تتأمَّل واجهة المحل بافتتان، وهو مشهد يعكس هرب هولي للتشبث بالوهم كلما وجدت نفسها في مأزق أو تريد أن تحتال على واقعها، أما في المشهد الأخير، فتترجل هولي من التاكسي كي تركض نحو الحقيقة هذه المرة، لا الوهم، وكي تواجه الحقيقة لا تهرب منها؛ والحقيقة هنا هي الحُب.

أضف تعليق

التعليقات