ملف العدد

البطاطس

  • 96b
  • 96c
  • 96d
  • 96e
  • 97a
  • 97b
  • 97c
  • 97d
  • 98a
  • 98b
  • 99a
  • 99b
  • 99c
  • 99d
  • 99e
  • 100a
  • 100b
  • 100c
  • 100d
  • 101a
  • 101b
  • 101c
  • 101d
  • 101e
  • 101f
  • 101g
  • 102a
  • 102b
  • 102c
  • 102d
  • 102e
  • 88a
  • 88b
  • 88c
  • 88d
  • 89a
  • 89b
  • 90a
  • 90b
  • 90c
  • 90d
  • 91a
  • 91b
  • 91c
  • 92a
  • 92b
  • 93a
  • 93b
  • 93c
  • 93d
  • 94a
  • 94b
  • 95a
  • 95b
  • 95c
  • 96a

لم تكتسب معزة الخبز ولا عز الأرز. ولكنها احتلت مكانة لا يضاهيها صنف آخر من المأكولات. إنها البطاطس التي تحظى بمجد عالمي على شاكلة أصابع رفيعة مقلية بالزيت، وتفرض نفسها بقوة عجيبة على كل عائلة الوجبات السريعة، لترافق ملايين الوجبات اليومية أينما كان في العالم. وإلى هذا المجد الشعبي، تضاف مكانتها الغالية في معظم المطابخ وبين أيدي أشهر الطباخين في أرقى المطاعم.
والعام الجاري 2008م، هو وفق قرارين من هيئة الأمم المتحدة ومنظمة الأغذية والزراعة الدولية، «عام البطاطس». ويأتي هذا الإعلان متزامناً مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية الذي بات يهدِّد بمجاعات في شتى مواقع الفقر في العالم، علماً بأن البطاطس لم تنل الاعتراف بها كثمرة صالحة للأكل إلا حين ضربت المجاعات مناطق مختلفة من القارة الأوروبية. وهي بذلك تستحق هذه الالتفاتة التي يسهم بها فريق التحرير في هذا الملف.

البطاطس
من اكتشافها إلى سنتها العالمية
بدءاً من أبسط صيغ تحضيرها مقلية بالزيت أو مسلوقة بالماء، وصولاً إلى أكثر صيغ طهيها المعقدة على أيدي كبار المهرة من الطباخين الذين يتفننون في جمعها إلى اللحمة والأرز وأصناف عديدة من التوابل والبهارات والخضار المختلفة، تحتل البطاطس أو البطاطا مكانة مرموقة في الوجبات الغذائية عند فقراء العالم وأثريائه على حد سواء، وتكتسح كل ما عداها من خضار ومأكولات في صفوف الشباب وصغار السن من محبي الوجبات السريعة.
يتباهى الفرنسيون بأنهم مخترعو البطاطس المقلية المسمّاة «المقليّات الفرنسية» (French Fries).. هذا الطعام الذي راج عالمياً إلى درجة جعلت تسميته رمزاً للإبداع في فن الطبخ. وهذا ما دفع الأمريكيين خلال خلاف سياسي مع فرنسا إلى تغيير اسم هذه الوجبة البسيطة وكأن في الأمر تعديلاً لموازين التفوق. غير أن المظالم التي تعرَّضت لها هذه الثمرة خلال تاريخها تكاد تحصر الفضل في ظهورها ورواجها وانتصارها الكبير إلى مزاياها دون غيرها. إذ ظلت لأكثر من قرنين بعد اكتشافها محتقرة من قبل الفقراء قبل الأغنياء. وراجت حولها شتَّى التهم والأفكار الخرافية، غير أنها وببطء شديد فرضت نفسها بنفسها لتصبح اليوم غذاءً أساسياً أينما كان في العالم، وربما مخرجاً من أزمة الغذاء العالمية حسبما جاء في أحد تقارير هيئة الأمم المتحدة.

ونبدأ بتاريخ البطاطس الذي يكاد يختصر تاريخ المجتمعات وأحوالها الاقتصادية والثقافية أينما غرست نبتتها.

عرفت سهول الأنديز في البيرو وتشيلي زراعة البطاطس لأكثر من ثمانية آلاف سنة، ووجد علماء الآثار في الأطلال التي تشهد على تاريخ تلك المنطقة بقايا بطاطس تعود لأكثر من خمسمائة سنة قبل الميلاد. كما عرف هنود حضارة الأنكا التي قامت بين العام 1200م و1572م هذه الثمرة، وذكروها في صلاتهم كقوتهم اليومي، وأدرجوها مع أكفان موتاهم. خزَّنوها لأكلها في الحروب والمجاعات.. جفَّفوها وطبخوها بصلصة الطماطم وحملوها معهم رفيقاً أميناً في رحلاتهم الطويلة، وعندما كان محصولها يصاب بالفشل لسببٍ أو لآخر، كانت تقوم الدنيا ولا تقعد، فيساق البعض من سيئي الحظ لتقطع أنوفهم، اعتقاداً من البقية أن هذه الوسيلة الوحيدة لاسترضاء البطاطس.

وعندما وطأ الإسبان أرض البيرو غازين وباحثين عن ذهب الأنكا، كانت البطاطس أمامهم تنتظر مستكشفاً بعيد النظر ليرى ما قد تقدِّمه هذه الثمرة الغنية للعالم أجمع، وطال انتظارها أكثر من قرنين من الزمان كي يكتشف العالم الغربي أهميتها، وقرنين آخرين كي يدرك العلم على نطاق واسع غناها. إلا أن الدلائل على تميز البطاطس كانت طوال الوقت أمام أعين الجميع، وأولها قدرة هذه الثمرة على شق طريقها في أرض قاسية كسهول الأنديز، فهذه النجود القاحلة ترتفع عن مستوى سطح البحر أكثر من اثني عشر ألف قدم، وأي مخلوق يتواجد عليها وتصلح له سكناً لابد أن يكون مثابراً صبوراً. وكما ينطبق هذا على سكان الأنديز، فإنه ينطبق على قوتهم اليومي أيضاً.

فالبطاطس تعيش في منطقة لا تعرف الاعتدال. الأرض التي لا يحول بينها وبين أشعة الشمس حائل في النهار، تقف عزلاء مستكينة أمام صقيع الليل، وهذا التفاوت الهائل في درجات الحرارة التي تتعرَّض لها التربة ذاتها خلال اليوم الواحد لا يقف عقبة فقط أمام النمو الطبيعي للنباتات، بل يعني أيضاً تعرضها لهذه التقلبات الجوية، سواء أكانت جفافاً أم صقيعاً، على مدار السنة. وتحت أحوال كهذه، ليس للنباتات الحسّاسة كالقمح أو الذرة أو الشعير مكان. أشجار قليلة جداً هي التي تستطيع البقاء في أرض قد لا ترتوي بقطرة مطر لأكثر من سنة، أما ثمار هذه الأرض، فهي ثمار قزمية ملتصقة بها، وأولها البطاطس.

البطاطس، عروس الأنديز، تزهو بمواءمتها لهذه الأرض، إذ يستطيع بعض فصائل البطاطس العيش في تربة تعلو عن مستوى سطح البحر أكثر من خمسة عشر ألف قدم، وقشرتها السميكة تحميها على الدوام، وخاصة خلال تعرض المنطقة لنوبة صقيع تجمّد كل ما تقابله، أو نوبة جفاف تمتص الحياة، وتقاوم لأكثر من سبعة شهور. فالبطاطس تنمو في أقسى وأكثر الترب فقراً، وفي أي سطح يمكنها التواجد فيه، ولذلك هي -بأنواعها التي تتجاوز 230 نوعاً- هبة لا تقدَّر بثمن على سهول الأنديز، وهذه الأنواع هي التي سمحت لسكان السهول في الماضي تخير وزراعة أكثرها ملاءمة للظروف المناخية، وهي ذاتها التي سمحت للأوروبيين، وإن كان في مرحلة متأخرة من القرن التاسع عشر، بمقاومة الآفات التي حاقت بمحاصيل البطاطس عبر اختيار فصائل أخرى خالية من الأمراض وتقديمها في أسواقهم.

ليس توافق البطاطس مع تطرف الأرض هو السبب الوحيد الذي جعلهم يقدمون عليها كقوت يومهم، هناك أسباب أخرى دفعتهم لذلك، ومنها أن الأرض الزراعية كانت نادرة، وعادة ما تكون متفرقة على امتدادات ضيقة، فيضطر المزارعون إلى حرثها بأنفسهم من دون مساعدة آلية أو حيوانية. ولم تخيِّب البطاطس المزارع الصبور، فهي لا تحتاج إلا لعناية يده ومجرافه، والثمرة الواحدة تحمل عدة براعم تعده بالخير الكثير.

لم تكن الصعوبات أمام المزارع وعائلته تنتهي بالحصول على الطعام، فالوقود في تلك الأرض كان أندر حتى من مساحاتها المزروعة، والصقيع ينهي ما تبقى فيجمد كل ما تحتويه مخازن القرية. والبطاطس التي تحمل أكثر من %80 من وزنها ماء كانت معرَّضة لمصير مشابه لباقي الأطعمة، وربما كانت أولها تعرضاً له، إلا أن الأنكا وجدوا حلاً مبتكراً حوّلوا فيه حساسية البطاطس من الصقيع لصالحهم، فكانوا يقتسمون بعضاً من محاصيل البطاطس، والباقي يتركونه معرضاً لصقيع الأرض القارس في عتمة الليل، حتى تتجمد مياه الثمرة، فإن أتى النهار بحرارته، يذوب الجليد عن البطاطس، ويتكفل الأهالي بطرقهم التقليدية بعصر الثمرة حتى لا يبقى فيها إلا أقل القليل من الماء، وبالتالي تصبح عصية على هجوم الصقيع، ويجمعونها في سلال يخبؤها في غرف مقفلة بإحكام. هذه البطاطس التي عرفها أهل الأنديز باسم «تشونو» chuno كانت لا تستغرق سوى دقائق لتنضج وتصبح جاهزة للأكل بعد وضعها في الماء المغلي. اليوم لا نفكر إلا في البطاطس المقلية كجزء من مفهوم الوجبات السريعة، إلا أن التشونو سبقها بمئات السنين. أضف إلى ذلك أن التشونو كان يبقى صالحاً للأكل حتى سنوات عشر، مما يعني ضماناً استثنائياً ضد مجاعة ممكن أن تضرب المنطقة في أي وقت.

من جهة أخرى تقدم البطاطس على الطاولة قيمة غذائية متفوقة على غيرها من الخضراوات. إذ يقول العلم اليوم إن البطاطس توفر كل العناصر المغذية التي يحتاجها الجسم، عدا الكالسيوم وفيتاميني (أ) و(د)، مما يعني أن نظاماً غذائياً معتمداً على البطاطس والحليب يمكن أن يمد الجسم بكل ما يحتاجه. ويوفر الفدّان الواحد المزروع بالبطاطس لعشرة أشخاص طاقتهم السنوية وحاجتهم من البروتين، وهو شيء لا يمكن أن نقوله عن الذرة، أو الأرز، أو فول الصويا، أو حتى القمح.

ضحية التعصب الطبقي أولاً
بعد أكثر من ثلاثين سنة من اكتشافهم للبطاطس في الأنديز، حمل أحد الغازين الإسبان هذه الثمرة الغريبة معه إلى دياره.. وليس لنا أن نفترض أن هذا البحار كان مدركاً لما يقدِّمه لبلاده عبر هذه الثمرة الصغيرة التي حفظها في جيب سترته الداخلية. بل يرجِّح الباحثون أنه لم يحملها إلا كتحفة أو تذكار لغزوته، ومثالاً على طرافة وغرابة الأرض التي تنتمي إليها، وبالتالي، لم يكن ليدري أنه بهذه الرحلة، كان أول من عرَّف إسبانيا، والعالم من بعدها، على البطاطس.

فبعد سنوات ثلاث من هذه الواقعة بدأت البطاطس «مستقبلها المهني» في أوروبا، حيث استخدمها الأطباء لإطعام المرضى الفقراء في أحد مستشفيات إشبيلية بإسبانيا، ولو كان الإسبان يعلمون ما يخبئه المستقبل، لأدركوا أن هذا التذكار التافه سيلعب ذات يوم الدور نفسه الذي لعبه في أرضه الأصلية، وإن اختلفت تضاريس مسيرته بعض الشيء.

فالبطاطس ستقدم، رغماً عن أنف أوروبا، ملاذاً من المجاعات، وستنمو في كل مكان. في بساتين الملوك، وحظائر الصيد، ومزارع الفلاحين، وحدائق العمال، في أية تربة.. غنية كانت أم فقيرة. وستصبح سلاحاً في يد الفلاح الطامح للحرية والاستقلال المادي عن الإقطاعي المسيطر، وأماناً له ولعائلته في الوقت نفسه من الجوع القارض. ولن تكون محصورة على الفلاح المتمرس، فلأنها لا تحتاج إلا إلى عناية اليد البشرية والمجراف، فستكون أداة شعبية أخرى، يجتمع الفلاح مع العامل مع الموظف على زراعتها. ومع الحليب أو أي من منتجاته لتوفير الكالسيوم وفيتاميني (أ) و(د)، ستقدم البطاطس نظاماً غذائياً كاملاً كانت جموع الفقراء تفتقده في كل بلد أوروبي والعالم. كما أن البطاطس تقي أيضاً من الإصابة بالاسقربوط، المرض الذي كان ملايين الأوروبيين يتعرضون له في ظل غياب قدرتهم على الحصول على الفواكه الغالية التي تؤدي الدور ذاته. وأخيراً، ستمد البطاطس طاولات الطعام بوجبات رخيصة وسريعة تستلزم أقل القليل من الأدوات الزراعية لإنباتها والوقود لطهيها، وهي سمات كان مطبخ الطبقة المتوسطة والفقيرة طيلة القرون الماضية في أمس الحاجة إليها.

إلا أن كل هذه المميزات، ويا للمفارقة، كانت غائبة عن أعين الأوروبيين في تلك الأوقات، إذ لم ير هؤلاء سوى أن البطاطس طعام يستطيع الفقراء الحصول عليه بسهولة، وأوروبا بطبقاتها المختلفة كانت ملكية أكثر من الملك، حتى أن الفقراء ترفعوا عن أكلها لأنهم كانوا يتفادون بيأس ملهوف كل ما من شأنه الإشارة إلى طبقتهم الاجتماعية.

وجزء من هذه الشهرة المسيئة للبطاطس يعود إلى الغزاة الإسبان في القرن السادس عشر، ليس بسبب ما عُرف عنهم من أنهم قطَّاع طرق لا يهتمون سوى بالغنائم والغنى المبتذل من ذهب أو فضة، ولكن لأنه كان من الصعب على أي كان في أواخر القرن السادس عشر بأن يتنبأ أن محصول العالم من البطاطس قد يقدَّر في نهاية القرن العشرين بأكثر من مائة بليون دولار أمريكي. غنيمةٌ تتجاوز بمراحل كل الذهب والفضة التي حرص الإسبان على حملها معهم إلى الديار من أمريكا الجنوبية. ويمكن لنا أن نتخيل كيف لبحار فظ أن يضحك ملء شدقيه إن تجرأ أحد ليذكر له الفكرة، ومن السهل أيضاً تخيل أن الضحك سيستمر حتى أواخر القرن الثامن عشر، وهو الزمن الذي بدأت فيه مزايا الثمرة تتضح للعيان.

الحقيقة، أن تضييع الأسبان لفرصة استثمار البطاطس لصالحهم لم يكن غباءً مجرداً، بل كان نتيجةً طبيعية للتعصب الطبقي الذي كان سمة تلك العصور. وبناءً عليه، إن كان العالم الجديد ببدائيته وبعده عن التحضر قد اعتمد على البطاطس غذاءً له بدلاً من الخبز، فهذا يعني أن الثمرة رديئة لا يليق بإسبانيا حضارياً أن تقترب منها ولا أن تعتمد عليها كقوت يومها.

هذا التعصب الطبقي لم يأت مباشرةً، فمدونات المستعمرين الإسبان الأوائل لم تذكر البطاطس كثيراً، إلا أنها في الحالات القليلة التي أتت فيها على ذكرها كانت تثني على مذاقها. إذ قال أحدهم عنها إنها «طعامٌ جيدٌ جداً، مذاقه ككستناء مسلوقة». وقال آخر «هي جذور مزهرة وطعمها طيب». أما الرحالة الإسباني بيرناب كوبو فقد انفرد بشق عصا الطاعة على هذه الآراء وذكر أن البرويين قد استبدلوا الخبز بطعام رديء (البطاطس) من دون طعم، كعادتهم في أكل أي شيء إن لم يكن يضرهم وإن كان ألف نوعاً من الصراصير المقرفة. إلا أنه عاد واستثنى البطاطس عندما تحضِّرها النساء الإسبان، ووقتها فقط تنتج أفضل الفطائر اللذيذة.

ظل الرأي العام في إسبانيا يرى البطاطس طعاماً دونياً يأكله السكان المحليون في العالم الجديد. وعندما اكتشف الإسبان منجماً للفضة في عام 1545م، استغل تجارهم وصفة التشونو البيروية وباعوها بثمن رخيص لعمالهم في المنجم، العمال الذين كانت طبقتهم الاجتماعية تشبه في كثير من الأوجه الرقيق، كي يزيد طين البطاطس بلة، فبهذا لم يعرف عن البطاطس إلا أنها طعام للرقيق أيضاً، ولذلك استبعد التجار أنفسهم تصديره من البيرو لإسبانيا، وهذا ما يفسِّر مدونةً لأحد الرحالة حول الحياة في المستعمرات، بعد سبعين سنة من اكتشاف الأسبان بالبطاطس، تصفها بأنها «طعامٌ لذيذ للهنود، وطعام أنيق حتى للإسبان أنفسهم». واللافت في الحديث عن البطاطس في هذا التقرير هو أنه يجد أن من الغريب والمثير للدهشة أن الهنود والإسبان قد يعجبون بصنف واحد من الطعام، وأيضاً أن البطاطس لا تزال مخلوقاً أجنبياً يستدعي التعريف به والحديث عنه، وتأكيد جدارته للاستهلاك الآدمي.

البطاطس في الزمن المرّ
في أمريكا، يقولون عن الشخص الكسول المستلقي أمام شاشة التلفزيون دون حراك «شوال البطاطس» (couch potato)، أو عن الشخص العبيط الذي لا يفكِّر (potato head)، أي رأس بطاطس. بينما يقول الفرنسيون إن الكسول تسري في عروقه دماء البطاطا، ويصفون ذلك الذي لا يجيد الرقص بأنه يرقص كجراب البطاطس. والطرافة التي نراها في هذه التعبيرات تأتي من استلطافنا للبطاطس اليوم، إلا أنها آتية من سياق سلبي متهكم، يحتقر البطاطس ويترفع عنها.

مع مطلع العام 1600م، كانت البطاطس قد وصلت، خلال ثلاثين سنة من اكتشافها، إلى إسبانيا وإيطاليا والنمسا وبلجيكا وهولندا وفرنسا وسويسرا وبريطانيا وألمانيا والبرتغال وإيرلندا.. ورغم أن القائمة مثيرة للإعجاب، إلا أن هذا مجرد تعداد ولا يعني أن البطاطس المترحلة من بلد لآخر وجدت في أي من هذه الدول بيتاً حقيقياً لها، فما يعنيه وصولها إلى هذه البلدان هو أنها احتلت موقعاً في حدائق علماء النبات ومنها إلى حدائق الملوك، كنبات زينة لأجل ورودها الأورجوانية، وليس لثمارها القبيحة الشكل التي لم تكن تستحق الحصاد في نظر أصحابها. وبينما رأى النبلاء زهورها متعة للناظرين، لم يجد فيها الفلاحون سوى شراً زؤوما عليهم اجتنابه. اختلاف نمو البطاطس عن بقية النباتات كان مثيراً لذعر رجل الشارع في القرن السابع عشر، فبقية النباتات التي خلقها الله تنمو بالبذور، وليس بجزء من الثمرة نفسها. أما ثمرتها التي كانت وقتذاك بحجم شجيرة صغيرة فرآها المزارع البسيط قبيحةً «لابد وأن يكون بينها وبين الأرواح الشريرة رابط»، ولابد أنها تتسبب في الإصابة بالدرن والجذام. في عام 1596م أتى النباتي جازبارد بوهين وصنَّفها ضمن ثمار الصولانين، وهي مادة شبة قلوية سامة توجد في براعم الطماطم، وتنتمي إليها مجموعة من النباتات ذات العصارة السامة كالتبغ وتفاح الجن، وبهذا اكتملت الدائرة حول البطاطس. الشيطان والأرواح الشريرة والجذام والدرن والمواد السامة ضيوف
لا ترغب أن تراهم على طاولتك. المفارقة، أن العلم الحديث أثبت أن الخرافات الأوروبية كانت محقة ولو بجزء بسيط جداً في الحذر من براعم البطاطس، فهي كبقية النباتات المنتمية لعائلة الصولانين، تنتج مادة شبه قلوية هي مادة القلويدات السترويدية، ومن سماتها السمية. وحتى اليوم لم يفهم العلماء ما وظيفة هذه المادة تحديداً، إلا أن هناك دلائل تشير إلى كونها مادة تبعد المفترسين، وتحمي البرعم وورق الشجر. بالتأكيد البطاطس المعافاة لا تسبب أي ضرر ولكن الإكثار من أكل المريضة منها يؤدي بالإنسان إلى المرض، ولأن الصولانين يتركز في قشرة البطاطس، فتقشير الثمرة المصابة جيداً يمحو المشكلة، كما أنه يسهل اكتشاف الصولانين إذا كان بمعدل ضار من خلال لون الثمرة الذي يصبح مائلاً إلى الاخضرار.

البطاطس في قفص الاتهام
في عام 1729م كتب جوناثان سويفت، صاحب رواية «رحلات جوليفر» المشهورة مقالاً هزَّ أرجاء إنجلترا وإيرلندا بعنوان «اقتراح متواضع». يبدأ المقال بوصف دبلن عاصمة إيرلندا التي أتى منها الكاتب، ويحكي عن الشحاذات اللاتي يجبن الشوارع وتجر كل واحدة منهن ثلاثة أو أربعة أو ستة أطفال. ويتوقع بأن الحال إن استمر على هذا المنوال فإن الوضع في المدينة لن يتحسن، لأن البطالة سادت البلد، والنقود أصبحت كائناً غير معروف للإيرلنديين. والحل، في رأي سويفت، أن يصدِّر الإيرلنديون الفقراء أطفالهم بدلاً من أن يصدِّروا اللحوم أو الدجاج. لحوم الأطفال، كما يشرح الكاتب، غنية بالعناصر المغذية التي سينتفع منها البريطانيون وبقية سكان أوروبا، وفي الوقت نفسه، فالاقتصاد الإيرلندي سينتعش من هذه التجارة التي لابد أن تحوز رضاء الكثيرين، وأولهم الإنجليز. المقال يدرَّس الآن كنموذج للأدب الساخر، إلا أنه حينئذ كان معبراً عن واقع البلاد. فقرٌ مدقع، وتضخم سكاني مريع، ومجاعة تلو مجاعة، وما من مخرج، عدا المخرج الذي اقترحه ابن البلد جوناثان سويفت بمرارة. وإن لم يكن هناك مخرج، لابد أن يكون هناك متهم تعلَّق برقبته مشاكل البلاد، ولم يجد المراقبون -وأكثرهم من الإنجليز- في ذلك الحين سوى البطاطس ليزجوا بها في القفص.

قدمت البطاطس لإيرلندا في نهاية القرن السادس عشر، واستقبلتها الأرض بترحاب بالغ. وكبقية الدول في أوروبا، كانت البطاطس ملائمة للتربة والمناخ الإيرلندي، ولكن على العكس من بقية الدول، اعتنق فلاحو إيرلندا البطاطس كبر أمان ضد موجات الآفات الاجتماعية التي ابتليت بها البلاد من بطالة وفقر وتضخم سكاني. وبالتدريج، ومع توالي المجاعات التي كان سببها ضعف محصول الشوفان، تحول الطعام الإيرلندي من اعتماده الكلي على خبز الشوفان إلى الاعتماد على البطاطس، فلم يأتِ العام 1780م إلا وكانت البطاطس قد تربعت على سدة حكم القوت اليومي للإيرلنديين، مع كونها رمزاً طبقياً للفقر، حيث انتشر مثل إيرلندي في ذلك الوقت يقول: «صلصة الرجل الفقير: بطاطا صغيرة يأكلها مع البطاطا الأم!». وبعدما تسيَّدت البطاطس القوت اليومي للإيرلنديين، تضاعف عددهم من 4 ملايين إلى ثمانية في غضون ستين عاماً فقط.

أثار التضاعف المتسارع الدهشة، ولكنه في هذه الحالة كان مثيراً للتساؤل: هل هناك رابط مباشر بين البطاطس والتضخم السكاني؟ بالنسبة للمعاصرين، لم يكن الأمر يحتاج إلى كثيرٍ من التأمل والدراسة. العلاقة واضحة وضوح الشمس. المراقبون الإنجليز -الذين أثارت نقمتهم الزيادة السكانية التي تهدِّد بغلبة كاثوليكية إيرلندا على بروستانتية إنجلترا- أشاروا إلى أن الزواج المبكِّر هو سبب ارتفاع نسبة المواليد في إيرلندا، والبطاطا الرخيصة كانت السبب الوحيد الذي يمكِّن فقراء إيرلندا من الزواج، حيث إن أي مزارع لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره يقدم على الزواج حالما يحصل على إيجار أقل من فدان من الأرض، فيزرعه كاملاً بالبطاطا الرخيصة، ويعيش مع زوجته وأولاده على جزء منه، ويدفع إيجار الأرض من الباقي. واقترح آنذاك أحد الكتَّاب على السلطات أن تمنع إقامة أي منزل على مزرعة تقل مساحتها عن خمسة فدادين، لأنه: «بذلك لن يكون هناك مزيد من البطاطا الرخيصة».

حصلت البطاطس اليوم على براءتها. إذ يقول الباحثون إن السبب وراء فقر إيرلندا لم يكن في البطاطس الطيبة، وإنما كانت القوانين التي تحيط بإيجار الأراضي وولايتها، وربما وجد مراقبو ذلك الزمان أن البطاطس ضحية طيِّعة يمكن مهاجمتها بسهولة، بدلاً من محاولة قلب قوانين ملكية الأراضي.

في إنجلترا: مسألة مبدأ
الإنجليز، بعيداً عن كل الحديث عن كون البطاطس طعاماً للفقراء، أو كونها مرتبطة بالأرواح الشريرة، أو حتى سبباً للإصابة بالجذام، كان لديهم اعتراض أولي على إضافة البطاطس إلى طعامهم. فالبطاطس تنتمي إلى الخضراوات، ونبلاء إنجلترا لم يكن للطعام مذاق لديهم إن لم يكن منتمياً بشكل أو بآخر للحوم. وحتى القرن التاسع عشر، يذكر الكتَّاب الإنجليز أن السَلَطات الباردة تحتاج لرشة فلفل كي تدفئ الدم، وأنها لم تؤكل أصلاً، وتحتوي على أقل القليل من المواد المغذية!!

كانت الطبقة المتعلمة تزرع البطاطس في حدائقها الخاصة، إلا أنها لم تتخلص تماماً من النظرة المتشككة التي تحيط بها، وهذا يظل ظاهراً حتى في تلك الكتابات التي تصب في مصلحة البطاطس حيث يتعامل معها الكتَّاب من بعيد، وكأنما ينصح بها الآخرين المحتاجين ولكنه يترفع هو عن أكلها.

فقد كتب الصحافي جون فروستر في عام 1664م مقالة طويلة يزعم فيها أن البطاطس تقدِّم علاجاً فعالاً وسهلاً لنقص الطعام، وتنبأ بأن البطاطس ستكون المعجزة الاقتصادية للبلاد إن زرعت بشكل جدي في إنجلترا وويلز، حيث سيجد عشرة آلاف رجل فقير قوتهم وقوت عيالهم. ولكي يثير اهتمام الملك تشارلز الثاني ملك إنجلترا في ذلك الوقت، اقترح فورستر عليه أن يسجِّل البطاطس باسمه، ثم يبيع الامتياز التجاري لزراعة البطاطس لبقية الأمم، وبالتالي يجمع الأرباح. ورغم حاجة الملك إلى المال، فإنه صرف نظره عن الاقتراح ولم يفكر بتبنيه. وكما تعامل فروستر مع البطاطس على أساس أنها المعجزة الاقتصادية التي ستنجد فقراء البلد، نجد جول إيفيلين، خبير البستنة الأشهر في ذلك الوقت، يكتب أن البطاطس مفيدة للفقراء وخدم العائلة عندما يعاني رب المنزل الإقطاعي من صعوبات مالية.

ثم، قامت الثورة الصناعية، وتسارعت وتيرة الحياة بشكل لم يعرفه العالم من قبل، حيث كانت مثلاً رحلة الصيف من أدنبرة إلى لندن تستغرق عشرة أيام في عام 1754م، ثم تقلَّصت لتصبح 4 أيام في 1776م، وثلاثة أيام في 1786م. كان هذا التسارع واضحاً في التوجه من الريف إلى المدينة، وساعد البطاطس على أن تكسر الحصار. وعندما استمر التغير حتى القرن التاسع عشر، ظهرت البطاطس وعليها الأمان.

في تلك الفترة، كانت إنجلترا تمر بفترة نمو سكانية ملحوظة. لم يكن هناك إحصاء سكاني، إلا أن التقديرات تشير إلى أن سكان البلاد بلغ عددهم في عام 1700م خمسة ملايين نسمة، وبحلول العام 1750م أصبح عددهم ستة ملايين تقريباً، ثم أصبحوا تسعة ملايين تقريباً في العام 1800م. وتوزع أكثرية هؤلاء السكان في المدن الصناعية كلندن ومانشستر وليفربول.

خلق النمو السكاني وتركزه في مناطق معينة حاجة إلى توزيع الطعام ونقله إلى العمال الذين انتقلوا من زراعة طعامهم بأنفسهم إلى شرائه من الدكاكين. ولم تكن هذه مهمة سهلة، فمع أن الوقت الذي يستغرقه إيصال البضائع من الريف إلى المدينة قد قل كثيراً بفضل المحرك البخاري، إلا أن عملية النقل نفسها لم تكن آمنة، نظراً لحالة الطرق الرديئة وتعرض المأكولات للتلف. وبذلك لم يجد سكان المدن سوى البطاطس لزراعتها أو شرائها ممن يزرعها في المدينة نفسها. وكانت لانكستر الصناعية أول المدن التي تبنت هذا الحل، وتقبلت البطاطس في أواخر القرن الثامن عشر، واشتهرت بطبق «يخنة البخار» الذي يعتمد على البطاطس واللحم والبصل والصلصة، وهو أول طبق يحتوي على البطاطس وتقبله الناس في إنجلترا.

إلى ذلك، هناك أسباب أخرى دفعت العامة لتقبل فكرة أكل البطاطس، وتأتي من الضرورة والحاجة أيضاً، حيث إن الثورة الصناعية أحضرت معها ساعات العمل الطويلة في المصانع ( بين 12 و16 ساعة يومياً) لكل أفراد العائلة، حتى الأطفال. ولم يكن لدى العائلة الوقت للأكل فكيف بالطبخ؟ وكيف تطبخ العائلة، وأغلب المنازل لم تكن تحتوي على أفران أو أدوات الطبخ المتوافرة في هذه الأيام، وإن توافرت، كان الوقود غالي الثمن ويستخدم معظمه لتدفئة المنزل، وليس للطبخ. لم يكن أمام العامة سوى ابتياع الخبز والبطاطا المسلوقة من الدكاكين.

ورويداً رويداً، عرفت شوارع إنجلترا البطاطس، وألفتها، وأحبتها، وتوجتها أميرة في مطاعمها عبر وجبة السمك والبطاطس المقلية «Fish and Chips» التي قال عنها ونستون تشرشل إنها الصحبة الطيبة. وظهرت لأول مرة رفقتهما في أواخر القرن التاسع عشر، حينما كان عمال المصانع يهرعون إلى خطوط الإنتاج قبل شروق الشمس في شوارع المدينة المظلمة، ويعودون في آخر الليل بعد ست عشرة ساعة من العمل المتواصل. وفي طريقهم، يعبرون على مطعم للسمك والبطاطس المقلية. لا نعرف متى بدأت هذه الصحبة تحديداً، إلا أننا نعرف أنهما وصلا منفصلين إلى الشارع البريطاني، وتشير الشواهد إلى أن السمك المقلي وصل إلى الشارع قبل البطاطس بثلاثة عقود، حيث ذكر تشارلز ديكنز في روايته «أوليفر تويست» التي نشرت مسلسلة بين العامين 1837 و1839م مطعماً للسمك المقلي وكأنما تمتلئ بمثل هذه المطاعم شوارع لندن، بينما لم تظهر وصفات قلي شرائح البطاطس الرفيعة إلا في ستينيات القرن التاسع عشر.

وعندما جالت في أوروبا
تشبث الفرنسيون بخوفهم من البطاطس أكثر من الإنجليز، وإن كانت هناك قلة حاولت دحض هذه الخرافات مثل روبير تورجوجاك، حاكم ليموج الذي تقول الروايات التاريخية إنه أقدم على أكل البطاطس علناً أمام مجموعة من المزارعين، وطلب منهم الجلوس إلى نفس الطاولة معه كي يروا أنها لم تصبه بأذى.

وفي العام 1771م نشرت هيئة دراسات باريس بحثاً تُقسم فيه أن البطاطس حميدة، بل ونافعة، ولكن أحداً لم يقتنع. وإن اقتنع البعض، كانت رغبتهم في الحفاظ على مظهرهم الاجتماعي أكثر إلحاحاً، فكيف يقدمون على طعام يصفه مثقفو العصر بأنه طعام الوحوش؟ وكانت هذه المعتقدات سارية في ألمانيا أيضاً، حيث اعتقد الفلاحون أن البطاطا تصيب بالسّل والكساح والدرن، وجادلوا الملك فردريك عندما صدر أمره بزراعتها لتأمن البلاد خطر المجاعات. ففي عام 1774م أرسلت مدينة كولبرج الألمانية رسالة للملك تقول فيها: «هذه الأشياء ليس لها طعم أو رائحة، وحتى الكلاب لا تستطيع أكلها، فما فائدتها؟». أصر الملك، وأطاع الشعب على مضض، ولكن بعد سنوات سبع من هذه الطاعة المزعومة، كان الفلاحون قريباً من جبال الألب ينتقلون من حكم إقطاعي إلى آخر عندما يصر سيدهم على أن تكون البطاطس جزءاً من قوتهم اليومي. وفي روسيا، قررت الإمبراطورة كاثرين أن البطاطس «شيءٌ جيّد» ولم تستمع إلى الملتزمين الكاثوليك الذين اعترضوا على زراعة نبات لم يذكر في الإنجيل. وافق البعض على ما قررته الإمبراطورة، ولكن الغالبية العظمى من الروس كانت تعتقد أن البطاطس هي السبب الأول للإصابة بالكوليرا، ولم تنتشر زراعتها إلا في العام 1850م بقرار من القيصر نيكولاس الأول.

أنطونيو أوجستين بارمينتير..
15 ألف صفحة عن البطاطس
لم يكن لدى فرنسا فردريك ولا كاثرين، بل كان لديها أنطونيو أوجستين بارمينتير. ففي حرب السنوات السبع، التي اشتركت فيها كل الدول الأوروبية تقريباً بين العامين (1756 و1763م) كان بارمينتير ملتحقاً بالجيش الفرنسي كصيدلاني، وسقط في أسر الألمان الذين أجبروه في السجن على أكل البطاطس، الثمرة التي كان يظن أنها خلقت لتكون علفاً للخنازير. ولم يقدم له الجنود سواها. وعندما عاد إلى فرنسا بعد انتهاء الحرب سليماً معافىً، كانت البطاطس قد كسبته حليفاً ونصيراً وصديقاً. درس الكيمياء، وطبق مبادئها على دراسة البطاطا، وفي عام 1770م تقدم بمقال لمسابقة أقامتها إحدى الأكاديميات العلمية في فرنسا، وكان مقاله حول فائدة البطاطس وقيمتها الغذائية لمرضى الدوسنتاريا. فاز الرجل بالجائزة، ونتيجة لذلك ألغي القانون الذي أصدره البرلمان الفرنسي عام 1748م بتجريم زراعة البطاطس بناءً على الاعتقاد الشائع بتسببها بالجذام.

وفي عام 1772م صدر قرار من هيئة باريس الطبية يبيح تناول البطاطس ويشجِّع عليه. وتنبه لويس الخامس عشر ملك فرنسا في ذلك الوقت لإخلاص بارمينتير للبحث فأسبغ عليه منحة ملكية ليتفرغ للدراسة، واستغلها بارمينتير في سبيل البطاطا، حيث رآها المنقذ الوحيد لأمته من الجوع.. ولم يتوقف منذ ذلك الوقت عن الدفاع والكتابة عنها. وكان واسع الحيلة ظريفاً ساخراً، فبالإضافة إلى الخمسة عشر ألف صفحة التي دونها للحديث عن البطاطس وفائدتها، كان يقيم دعوات العشاء الفاخرة للحاشية الملكية والنبلاء، ويقدم لهم وجبات كاملة مكونة من عشرين طبقاً وأكثر، وكلها تعتمد في مكوناتها الأساسية على البطاطس. وعندما تولى لويس السادس عشر الحكم، أقنعه بارمينتير بجمال وتفرد زهرة البطاطس حتى أصبح الملك يضعها في عروة سترته.

ومن لويس السادس عشر التقطتها ماري آنطوانيت، وأصبحت زهرة البطاطس بلونها الأرجواني الموضة الرائجة في البلاط الملكي. ومرة أخرى أقنع بارمينيتر الملك بالسماح له بتجربة عامة، دحضاً للرأي القائل بأن زراعة البطاطس تفسد التربة، فقرَّر أن يثبت أن العكس صحيح، وأن البطاطس تهزم أسوأ أنواع التربة وأقساها، ولذلك اختار خمسين فداناً في إحدى ضواحي باريس المقفرة عام 1786م، وزرع البطاطا فيها، وبخبثه المعهود عيَّن حراساً حولها خلال النهار فقط ليلفت الانتباه إلى «قيمة» الثمرة المزروعة، وكما كان يأمل، أقدم المزارعون على زيارة المزرعة في الليل لسرقة البطاطس. حيلة استخدمها كثيراً بعد ذلك، وفي أكثر من منطقة. أكسبته إنجازاته ولفتاته الذكية ميدالية من الملك، وثناءً مستحقاً من زملائه العلماء.

وبعد المجاعة التي هزَّت فرنسا في عام 1788م، استمعت الهيئة الفرنسية للتموين لنصائح المواطن الصالح بارمينتير، وطبعت عشرة آلاف مطوية كتبها حول زراعة البطاطس، ووزعت على كل القرى والبلديات. وأسبغ التغير الجمهوري في فرنسا في ذلك الحين على البطاطس عباءة شعبية، حيث إن الجمهوريين حملوها على الأكتاف هاتفين بفوائدها، وأولها حماية النظام الجمهوري الجديد من السقوط في حال تكررت المجاعات. وبالتالي أصبحت البطاطس منقذاً لحرية المزارع السياسية الجديدة، ورمزاً لخلاصه من الإقطاعيين الظلمة. ومع ذلك، لم يكن الكل مقتنعاً بأهمية البطاطس، فعلى سبيل المثال، عندما ترشح بارمينتير لمنصب أمين بلدية باريس اعترض أحد الناخبين ناقماً: «سوف يجبرنا على أكل البطاطس، هو أصلاً من اخترعها!»، وبالفعل، خسر الرجل الذي «اخترع البطاطس» الانتخابات. ولكنه توفي عام 1813م منتصراً بعد أن تضاعف إنتاج البطاطس خمسة عشر ضعفاً نتيجة لجهوده.

المحارب الأخير
في عام 1818م كتب المزارع والصحافي البريطاني وليام كوبيت غاضباً في مقاله الأسبوعي: «هي الموضة الآن أن نأكل البطاطس! الكل يتغزل في محاسنها وكل العالم يحبها، أو يتظاهر بحبها، والنتيجة واحدة».

أن يأتي هذا الحديث بعد أحزان المجاعات التي أنهكت سكان إنجلترا بين الأعوام 1795 و1800م، والتي انتهت على يد البطاطس، والبطاطس وحدها، أمرٌ مستغرب، ولكن أن يأتي من أكثر مفكري بريطانيا تحرراً في ذلك الوقت، ويليام كوبيت، فهو أمر مذهل، ويدعو للعجب. إلا أننا لن نستغرب كثيراً إن عرفنا أكثر عن الرجل. إذ يقول معاصروه إن العامل المشترك بين كل مواقفه المختلفة هو حبه الشديد للمعارضة وتمرده على السلطة، وكرهه للجديد. كان كوبيت يعلن دعمه اللامحدود لمصلحة المزارع البريطاني الصغير، ويعلن في الوقت نفسه بتمرد عجيب كرهه لعشرات الأشياء الأخرى. يكره المدن. البرلمان. الضرائب. شرب الشاي. مسرحيات شكسبير. اليهود. أما البطاطس، فقد كانت كرهه الأول والأخير. يسميها «جذور القذارة، النفاية، البؤس، والعبودية». في رأيه، هي الموت الاجتماعي والروحي، ومن يناصرها هو إما مصابٌ بالعمى، أو باع روحه للشيطان. ولأن السير والتر راولي كما هو شائع قد قدَّم البطاطا لإنجلترا فهو من أشر أشرار الأرض، والحمد لله أنه قد لقي جزاؤه شنقاً، وبناءً عليه فإن كوبيت يرى أنه يفضل رؤية الفلاحين والعمال الإنجليز مشنوقين، وهو معهم، على أن يعيشوا ليأكلوا «الثمرة الكسول».

في السنوات الأخيرة من حياته، كتب كوبيت: «فكرة أن البطاطس قد تحفظنا من المجاعة تميتني ضحكاً، أو أن البطاطا قد تجاور الخبز وتتفوق عليه.. بما أنها طعام القطعان من غنم وخنازير، هذه أسوأ المحاصيل التي يمكن الحصول عليها، ولكني قلت هذا كثيراً من قبل، ولذلك الآن أصرف البطاطس مع الأمل بألا أضطر مرة أخرى للكتابة عنها، أو حتى رؤيتها».

توفي كوبيت عام 1835م، ولم يتحقق أمله حتى الآن، ولا يبدو أنه قد يتحقق في المستقبل.

الحلم الأمريكي
وصلت البطاطس إلى أمريكا في العام 1621م، وكانت تسمى بالبطاطس الإيرلندية تمييزاً لها عن عدد من أنواع الخضراوات التي أُطلق عليها الاسم ذاته، أما البطاطا الحلوة فكانت تسمى البطاطا الإسبانية.

وفي منتصف القرن الثامن عشر، وبينما كانت البطاطس تحاول إقناع الشعوب الأوروبية بجدواها، احتلت مكانها معزَّزة مكرَّمة في أمريكا، بل إن الكونجرس الأمريكي أشار إلى أن البحارة يجب أن يأكلوا اللفت أو البطاطس ثلاثة أيام في الأسبوع كجزء من تموينهم. أصبحت البطاطس خلال قرن واحد من أهل البيت في أمريكا، ولم تجد أياً من المصاعب التي لاقتها في طريقها لقلب القارة الأوروبية.

أتت البطاطس المقلية كما نعرفها اليوم كوصفة مغمورة اعتاد الطباخ الفرنسي أونرو جوليان طبخها لمستخدمه الرئيس الأمريكي توماس جيفرسون، ومن هنا كسبت قلوب الشعب الأمريكي وعرفها باسمها الحالي: المقليات الفرنسية (French fries). ولكنها لم تكتسح العالم إلا عندما قرر الإخوة ديك وماك ماكدونالد تقديمها ضمن مطعمهما الصغير الذي افتتحاه في كاليفورنيا عام 1940م. وفي عام 1948م بدأ الإخوة ماكدونالدز بتطبيق نظام الخدمة السريعة، مما أسس لأول مرة مفهوم مطاعم الوجبات السريعة.

كانت البطاطس المقدَّمة في المطاعم الأولى مريعة أحياناً، وذلك لأن أنواع البطاطس التي تقدَّم كانت مختلفة، القلي يناسب بعض الأنواع كالبطاطا «الروسيتس» التي تفضلها مطاعم ماكدونالدز، بينما لايناسب البقية كبطاطا «فنغرلنج». ولأن البطاطا «الروسيتس» لا تتوافر على مدار السنة، أقدمت الشركة بقيادة راي كورك الذي ابتاع امتيازها التجاري على إنفاق ملايين الدولارات على الأبحاث كي يوفقوا إلى أفضل نوع مناسب للبطاطس المقلية، إلى أن أتت القفزة مع ابتكار جون ريتشارد سيمبلوت البطاطس المجمدة، والتي سجل براءة اختراعها عام 1953م، مما عاد عليه في وقتٍ لاحق بالبلايين.

وفي عام 1967م اتفق الاثنان، كورك وسيمبلوت، على تزويد ماكدونالدز بالبطاطس طوال العام. وفي آخر إحصاءات أجرتها مجموعة أبحاث أمريكية، اتـضـــــــح أن شــــركــة سيمبلوت ما زالت تزود نصف سلاسل المطاعم الأمريكيـــــة للوجـــــبات السريعة بحاجتها من البطاطس المجمدة. والبطاطس المقلية اليوم، مع أن اسمها ينسبها من دون شك للفرنسيين، أصبحت رمزاً للثقافة الشعبية الأمريكية والقوة التي تمارسها في تشكيل وجه العالم اليوم.

البطاطس في منزلك
إن زراعة البطاطا في منزلك ليست أمراً صعباً، وتشبه التعامل مع صداقة جديدة بالغة الود والدفء، بدءاً من اختيار درنات البطاطا الصديقة، سليمة، وخالية من الأمراض، ثم وضعها في مكان دافئ ووافر الضوء لمدة عشرة أيام قبل الزراعة، لتنمو براعمها. ولكي تحصل على كمية تراوح بين 2 و4 كلغم من البطاطس الطازجة، ما عليك سوى أن توفر ثلاث درنات صغيرة، بارتفاع 7سم تقريباً، ودلو يبلغ قطره 50 سم تقريباً، وتربة. وإذا كنت في منطقة معتدلة، قم بالزراعة في منتصف فصل الربيع، أما إذا كنت في منطقة استوائية ففي مقدورك أن تزرع البطاطا على مدار العام. بعد الأيام العشرة التي قضتها الدرنات في ضيافة الشمس والدفء، وبعد أن تصبح براعم البطاطا قوية صلبة، افتح فتحة تصريف في قاع الدلو. ثم املأ الدلو حتى ثلثيه بالتربة. وبعناية صديق اضغط على أجزاء البطاطا المعدة للزراعة إلى الأسفل لإدخالها في التربة مع إبقاء براعمها متجهة إلى الأعلى. ثم املأ الجزء المتبقي من الدلو بالكمبوست أو التربة. ولتسهيل عملية التصريف ضع الدلو فوق آجرات، وذلك في مكان ذي إضاءة معقولة. حيث إن درجة الحرارة المثالية تبلغ من 10 إلى 15 مئوية. الشمس، والماء، عنصران مهمان في زراعة البطاطا، على أن يراعى الاعتدال في كليهما خلال رعاية البطاطا.

من المهم أن يضاف المزيد من التراب حول قاعدة النباتات مرتين أو ثلاثاً خلال موسم الزراعة. وأن تبقى مروية بصورة جيدة وبوجه خاص حينما يبدأ ظهور الأزهار.

يتعين أن تكون التربة رطبة وليست جافة. ولكن احذر من الإفراط في الري كيلا تصاب الأوراق بالعفن. ويفضَّل الري كل يومين أو ثلاثة. ولكي تصبح الدرنات أكبر حجماً قم بإزالة أية أزهار تنتجها النبتات. وحينما يتحول لون أوراق النبتة إلى اللون الأصفر وتبدأ تموت، توقف عن الري. وبعد أسبوعين إلى ثلاثة ستكون الدرنات الموجودة تحت التربة قد أصبحت حبات بطاطا صغيرة يمكنك أن تقوم بحصادها. أما إن أردت الحصول على درنات أكبر حجماً فعليك الانتظار مدة أربعة إلى ستة أسابيع أخرى. إذا اخترت أن تنتظر الأسابيع الثلاثة أو الستة، فإن أوان الحصاد يحل بنهاية أحد الزمنين، اختر طقساً جافاً للحصاد ثم قم بتفكيك التربة بلطف ثم مدّ يدك تحت النبتة لإزالة الدرنات الكبيرة. ويمكنك إبقاء الدرنات الصغيرة كي تواصل نموها. وإن كنت تريد تخزين درناتك فاتركها تجف على سطح التربة في الشمس لمدة ساعة. ثم اخزن درناتك على رفّ في مكان بارد ومعتم وجاف وجيد التهوية. حيث إن البطاطا المجففة والمخزنة بصورة صحيحة تبقى سليمة لمدة تصل إلى ستة أشهر.

في طهو البطاطس
إنها البطاطا اللذيذة .. مشوية ومسلوقة ومخبوزة.. تقدم الأصناف الحديثة من البطاطا مجموعة عريضة من خصائص الطهو التي تناسب أطباقاً مختلفة وشهية. حيث يمنح بعضها الشوربات كثافة قشدية، ما يضفي عليها مذاقاً رقيقاً يبرز المكونات الأخرى للشوربة.

أما البطاطس المخبوزة فهي تقدم كوجبة خفيفة وبسيطة أو تقدم مع الفطائر المحشوة كوجبة كاملة. كما تعدّ البطاطا المشوية -بهشاشتها ولونها الذهبي من الخارج ورِقَّتها من الداخل- أفضل رفيق يقدم إلى جانب اللحم المشوي. ويقال إن البطاطا المهروسة الناعمة القشدية هي «الغذاء المقنع الذي لا يعلى عليه». بينما تعدّ البطاطا «غير الناضجة» المطهوة بتعريضها للبخار أو مسلوقة طعاماً شهياً من نوع خاص.

وتعدّ البطاطس من الخضار الأكثر شعبية في العالم، كما لاقت الترحاب في مطابخ مختلف البلدان في العالم. حيث تستخدم في الكري في الهند وفي الباستا في إيطاليا، وتصنع منها يخنة مع الموز في كوستاريكا، وتخبز مع الأرز في إيران وتحشى بالكبد في بيلاروس، وتقلى ممزوجة مع الفاصوليا الخضراء في إثيوبيا، وتطهى في سائل على درجة الغليان مع سمك الحَدوق المدخَّن في شوربات الشتاء في فنلندا.

يكمن سرّ نجاح البطاطس في تنوعها الكبير. حيث تأتي البطاطس في مكان ولادتها بجبال الأنديز في صورة آلاف من الأصناف «البلدية» التي يتمتع كل منها بلون وقوام ومذاق مميز (ففي بيرو يمكن أن تحتوي سلطة البطاطا على ثلاثة أو أربعة أنواع مختلفة من البطاطا).

تعدّ غالبية وصفات إعداد المأكولات من البطاطس سهلة التحضير. غير أن انتقاء الصنف المناسب ضروري للحصول على طبق جيد حيث تصنف البطاطس في المطبخ تبعاً لمحتواها من النشا لأنه هو الذي يحدد كيفية استجابتها للطهو. وبصورة أساسية، كلما ازداد محتوى البطاطا من النشا زادت سهولة انفجار خلايا النشا في الدرنة عند تسخينها.

البطاطا الحلوة المدللة
لا يمكن أن يكون السبب الوحيد لتأخر وصول البطاطس إلى إسبانيا هو كونها طعام الهنود، فالإسبان أنفسهم كانوا حريصين على تبني عدد من مزروعات العالم الجديد. البطاطا الحلوة، التي تتشارك البطاطس في الاسم وتختلف في الفصيلة، عادت مع كولومبوس إلى إسبانيا فوراً بعد أن رآها في تاهيتي. ومنذ العام 1493م توالت السفن الإسبانية على موانئ المدن الأوروبية عائدةً من هاييتي وغيرها من جزر الهند الشرقية تحمل مجموعات مختلفة من فصائل البطاطا الحلوة.
وعندما عادت السفن بالبطاطا الحلوة من بنما عام 1508م شقت طريقها بأمر ملكي خلال ثماني سنوات فقط إلى حدائق قصر الملك فرديناند والملكة إيزابيلا. ووقع صهرهما الملك هنري الثامن ملك إنجلترا أيضاً تحت سحر البطاطا الحلوة، ولكن لسبب مختلف عن مجرد إعجابه بمذاقها، فقد اعتقد أنها مقوٍ، وأقبل على أكلها بشراهة. ودام هذا الاعتقاد وشاع حتى بعد وفاة الملك، ففي إحدى مسرحيات شكسيبر وهي مسرحية (زوجات ويندسور البهيجات) يصرخ البطل السير جون فولستاف «لتمطر السماء بطاطا»، والتاريخ الذي كُتبت فيه المسرحية يشير بما لايدع مجالاً للشك أن البطاطا المقصودة هي البطاطا الحلوة.
في أوروبا، وإسبانيا تحديداً، كان تبني البطاطا الحلوة لأسباب اجتماعية أيضاً. فقد كانت الأسئلة المهمة عن الأصل والفصل والمنشأ والمنبت، وهي الأسئلة التي كان الإسبان بصفتهم أمة متحضرة في ذلك الحين يهتمون بها كجزء من ذوقهم المنتقي فيما يتعلق بطعامهم، تأتي أجوبتها لصالح البطاطا الحلوة. من أين أتت؟ من جزر الكاريبي المورقة المخضرة، بينما بطاطستنا المستكينة تأتي من سهول الأنديز القاحلة السمراء. من يأكلها؟ الملوك والأغنياء فقط، فمناخ إسبانيا هو المناخ الأوروبي الوحيد الذي يسمح لها بالنمو، ويصعب نموها في بقية دول القارة، بينما تنبت الأخرى في كل مكان، وفي أية تربة. ما هو مذاقها؟ حلو سكري، يتماشى مع الموضة الذائعة في تقديم المأكولات الجديدة السكرية، كالشوكولاتة والفانيليا التي انضمت إلى المأكولات التقليدية ككعك الزنجبيل والمرزبانية المصنوعة من اللوز والسكر، والفطيرة والجيلي. من رعاتها؟ الملك فرديناند والملكة إيزابيلا، بالإضافة إلى الملك هنري الثامن الذي كان يأكلها مطبوخة في فطيرة مغموسة بالبهارات الحراقة والسكر، وهي عادة استمرت بعد وفاته لسنوات طويلة. البطاطا الهندية لم يكن لديها رعاة ولا محامون، ولا حتى قدرات خاصة تؤكل لأجلها، بالعكس.. وصلت إلى إسبانيا وحكم الإعدام معلَّق في عنقها. طعام الفقراء والهنود. وفي ذلك الزمن، من يود أن يوصم بأنه ينتمي إليهما؟

يتباهى الفرنسيون بأنهم مخترعو البطاطس المقلية المسمّاة «المقليّات الفرنسية» (French Fries).. هذا الطعام الذي راج عالمياً إلى درجة جعلت تسميته رمزاً للإبداع في فن الطبخ. وهذا ما دفع الأمريكيين خلال خلاف سياسي مع فرنسا إلى تغيير اسم هذه الوجبة البسيطة وكأن في الأمر تعديلاً لموازين التفوق. غير أن المظالم التي تعرَّضت لها هذه الثمرة خلال تاريخها تكاد تحصر الفضل في ظهورها ورواجها وانتصارها الكبير إلى مزاياها دون غيرها. إذ ظلت لأكثر من قرنين بعد اكتشافها محتقرة من قبل الفقراء قبل الأغنياء. وراجت حولها شتَّى التهم والأفكار الخرافية، غير أنها وببطء شديد فرضت نفسها بنفسها لتصبح اليوم غذاءً أساسياً أينما كان في العالم، وربما مخرجاً من أزمة الغذاء العالمية حسبما جاء في أحد تقارير هيئة الأمم المتحدة.

ونبدأ بتاريخ البطاطس الذي يكاد يختصر تاريخ المجتمعات وأحوالها الاقتصادية والثقافية أينما غرست نبتتها.

عرفت سهول الأنديز في البيرو وتشيلي زراعة البطاطس لأكثر من ثمانية آلاف سنة، ووجد علماء الآثار في الأطلال التي تشهد على تاريخ تلك المنطقة بقايا بطاطس تعود لأكثر من خمسمائة سنة قبل الميلاد. كما عرف هنود حضارة الأنكا التي قامت بين العام 1200م و1572م هذه الثمرة، وذكروها في صلاتهم كقوتهم اليومي، وأدرجوها مع أكفان موتاهم. خزَّنوها لأكلها في الحروب والمجاعات.. جفَّفوها وطبخوها بصلصة الطماطم وحملوها معهم رفيقاً أميناً في رحلاتهم الطويلة، وعندما كان محصولها يصاب بالفشل لسببٍ أو لآخر، كانت تقوم الدنيا ولا تقعد، فيساق البعض من سيئي الحظ لتقطع أنوفهم، اعتقاداً من البقية أن هذه الوسيلة الوحيدة لاسترضاء البطاطس.

وعندما وطأ الإسبان أرض البيرو غازين وباحثين عن ذهب الأنكا، كانت البطاطس أمامهم تنتظر مستكشفاً بعيد النظر ليرى ما قد تقدِّمه هذه الثمرة الغنية للعالم أجمع، وطال انتظارها أكثر من قرنين من الزمان كي يكتشف العالم الغربي أهميتها، وقرنين آخرين كي يدرك العلم على نطاق واسع غناها. إلا أن الدلائل على تميز البطاطس كانت طوال الوقت أمام أعين الجميع، وأولها قدرة هذه الثمرة على شق طريقها في أرض قاسية كسهول الأنديز، فهذه النجود القاحلة ترتفع عن مستوى سطح البحر أكثر من اثني عشر ألف قدم، وأي مخلوق يتواجد عليها وتصلح له سكناً لابد أن يكون مثابراً صبوراً. وكما ينطبق هذا على سكان الأنديز، فإنه ينطبق على قوتهم اليومي أيضاً.

فالبطاطس تعيش في منطقة لا تعرف الاعتدال. الأرض التي لا يحول بينها وبين أشعة الشمس حائل في النهار، تقف عزلاء مستكينة أمام صقيع الليل، وهذا التفاوت الهائل في درجات الحرارة التي تتعرَّض لها التربة ذاتها خلال اليوم الواحد لا يقف عقبة فقط أمام النمو الطبيعي للنباتات، بل يعني أيضاً تعرضها لهذه التقلبات الجوية، سواء أكانت جفافاً أم صقيعاً، على مدار السنة. وتحت أحوال كهذه، ليس للنباتات الحسّاسة كالقمح أو الذرة أو الشعير مكان. أشجار قليلة جداً هي التي تستطيع البقاء في أرض قد لا ترتوي بقطرة مطر لأكثر من سنة، أما ثمار هذه الأرض، فهي ثمار قزمية ملتصقة بها، وأولها البطاطس.

البطاطس، عروس الأنديز، تزهو بمواءمتها لهذه الأرض، إذ يستطيع بعض فصائل البطاطس العيش في تربة تعلو عن مستوى سطح البحر أكثر من خمسة عشر ألف قدم، وقشرتها السميكة تحميها على الدوام، وخاصة خلال تعرض المنطقة لنوبة صقيع تجمّد كل ما تقابله، أو نوبة جفاف تمتص الحياة، وتقاوم لأكثر من سبعة شهور. فالبطاطس تنمو في أقسى وأكثر الترب فقراً، وفي أي سطح يمكنها التواجد فيه، ولذلك هي -بأنواعها التي تتجاوز 230 نوعاً- هبة لا تقدَّر بثمن على سهول الأنديز، وهذه الأنواع هي التي سمحت لسكان السهول في الماضي تخير وزراعة أكثرها ملاءمة للظروف المناخية، وهي ذاتها التي سمحت للأوروبيين، وإن كان في مرحلة متأخرة من القرن التاسع عشر، بمقاومة الآفات التي حاقت بمحاصيل البطاطس عبر اختيار فصائل أخرى خالية من الأمراض وتقديمها في أسواقهم.

ليس توافق البطاطس مع تطرف الأرض هو السبب الوحيد الذي جعلهم يقدمون عليها كقوت يومهم، هناك أسباب أخرى دفعتهم لذلك، ومنها أن الأرض الزراعية كانت نادرة، وعادة ما تكون متفرقة على امتدادات ضيقة، فيضطر المزارعون إلى حرثها بأنفسهم من دون مساعدة آلية أو حيوانية. ولم تخيِّب البطاطس المزارع الصبور، فهي لا تحتاج إلا لعناية يده ومجرافه، والثمرة الواحدة تحمل عدة براعم تعده بالخير الكثير.

لم تكن الصعوبات أمام المزارع وعائلته تنتهي بالحصول على الطعام، فالوقود في تلك الأرض كان أندر حتى من مساحاتها المزروعة، والصقيع ينهي ما تبقى فيجمد كل ما تحتويه مخازن القرية. والبطاطس التي تحمل أكثر من %80 من وزنها ماء كانت معرَّضة لمصير مشابه لباقي الأطعمة، وربما كانت أولها تعرضاً له، إلا أن الأنكا وجدوا حلاً مبتكراً حوّلوا فيه حساسية البطاطس من الصقيع لصالحهم، فكانوا يقتسمون بعضاً من محاصيل البطاطس، والباقي يتركونه معرضاً لصقيع الأرض القارس في عتمة الليل، حتى تتجمد مياه الثمرة، فإن أتى النهار بحرارته، يذوب الجليد عن البطاطس، ويتكفل الأهالي بطرقهم التقليدية بعصر الثمرة حتى لا يبقى فيها إلا أقل القليل من الماء، وبالتالي تصبح عصية على هجوم الصقيع، ويجمعونها في سلال يخبؤها في غرف مقفلة بإحكام. هذه البطاطس التي عرفها أهل الأنديز باسم «تشونو» chuno كانت لا تستغرق سوى دقائق لتنضج وتصبح جاهزة للأكل بعد وضعها في الماء المغلي. اليوم لا نفكر إلا في البطاطس المقلية كجزء من مفهوم الوجبات السريعة، إلا أن التشونو سبقها بمئات السنين. أضف إلى ذلك أن التشونو كان يبقى صالحاً للأكل حتى سنوات عشر، مما يعني ضماناً استثنائياً ضد مجاعة ممكن أن تضرب المنطقة في أي وقت.

من جهة أخرى تقدم البطاطس على الطاولة قيمة غذائية متفوقة على غيرها من الخضراوات. إذ يقول العلم اليوم إن البطاطس توفر كل العناصر المغذية التي يحتاجها الجسم، عدا الكالسيوم وفيتاميني (أ) و(د)، مما يعني أن نظاماً غذائياً معتمداً على البطاطس والحليب يمكن أن يمد الجسم بكل ما يحتاجه. ويوفر الفدّان الواحد المزروع بالبطاطس لعشرة أشخاص طاقتهم السنوية وحاجتهم من البروتين، وهو شيء لا يمكن أن نقوله عن الذرة، أو الأرز، أو فول الصويا، أو حتى القمح.

ضحية التعصب الطبقي أولاً
بعد أكثر من ثلاثين سنة من اكتشافهم للبطاطس في الأنديز، حمل أحد الغازين الإسبان هذه الثمرة الغريبة معه إلى دياره.. وليس لنا أن نفترض أن هذا البحار كان مدركاً لما يقدِّمه لبلاده عبر هذه الثمرة الصغيرة التي حفظها في جيب سترته الداخلية. بل يرجِّح الباحثون أنه لم يحملها إلا كتحفة أو تذكار لغزوته، ومثالاً على طرافة وغرابة الأرض التي تنتمي إليها، وبالتالي، لم يكن ليدري أنه بهذه الرحلة، كان أول من عرَّف إسبانيا، والعالم من بعدها، على البطاطس.

فبعد سنوات ثلاث من هذه الواقعة بدأت البطاطس «مستقبلها المهني» في أوروبا، حيث استخدمها الأطباء لإطعام المرضى الفقراء في أحد مستشفيات إشبيلية بإسبانيا، ولو كان الإسبان يعلمون ما يخبئه المستقبل، لأدركوا أن هذا التذكار التافه سيلعب ذات يوم الدور نفسه الذي لعبه في أرضه الأصلية، وإن اختلفت تضاريس مسيرته بعض الشيء.

فالبطاطس ستقدم، رغماً عن أنف أوروبا، ملاذاً من المجاعات، وستنمو في كل مكان. في بساتين الملوك، وحظائر الصيد، ومزارع الفلاحين، وحدائق العمال، في أية تربة.. غنية كانت أم فقيرة. وستصبح سلاحاً في يد الفلاح الطامح للحرية والاستقلال المادي عن الإقطاعي المسيطر، وأماناً له ولعائلته في الوقت نفسه من الجوع القارض. ولن تكون محصورة على الفلاح المتمرس، فلأنها لا تحتاج إلا إلى عناية اليد البشرية والمجراف، فستكون أداة شعبية أخرى، يجتمع الفلاح مع العامل مع الموظف على زراعتها. ومع الحليب أو أي من منتجاته لتوفير الكالسيوم وفيتاميني (أ) و(د)، ستقدم البطاطس نظاماً غذائياً كاملاً كانت جموع الفقراء تفتقده في كل بلد أوروبي والعالم. كما أن البطاطس تقي أيضاً من الإصابة بالاسقربوط، المرض الذي كان ملايين الأوروبيين يتعرضون له في ظل غياب قدرتهم على الحصول على الفواكه الغالية التي تؤدي الدور ذاته. وأخيراً، ستمد البطاطس طاولات الطعام بوجبات رخيصة وسريعة تستلزم أقل القليل من الأدوات الزراعية لإنباتها والوقود لطهيها، وهي سمات كان مطبخ الطبقة المتوسطة والفقيرة طيلة القرون الماضية في أمس الحاجة إليها.

إلا أن كل هذه المميزات، ويا للمفارقة، كانت غائبة عن أعين الأوروبيين في تلك الأوقات، إذ لم ير هؤلاء سوى أن البطاطس طعام يستطيع الفقراء الحصول عليه بسهولة، وأوروبا بطبقاتها المختلفة كانت ملكية أكثر من الملك، حتى أن الفقراء ترفعوا عن أكلها لأنهم كانوا يتفادون بيأس ملهوف كل ما من شأنه الإشارة إلى طبقتهم الاجتماعية.

وجزء من هذه الشهرة المسيئة للبطاطس يعود إلى الغزاة الإسبان في القرن السادس عشر، ليس بسبب ما عُرف عنهم من أنهم قطَّاع طرق لا يهتمون سوى بالغنائم والغنى المبتذل من ذهب أو فضة، ولكن لأنه كان من الصعب على أي كان في أواخر القرن السادس عشر بأن يتنبأ أن محصول العالم من البطاطس قد يقدَّر في نهاية القرن العشرين بأكثر من مائة بليون دولار أمريكي. غنيمةٌ تتجاوز بمراحل كل الذهب والفضة التي حرص الإسبان على حملها معهم إلى الديار من أمريكا الجنوبية. ويمكن لنا أن نتخيل كيف لبحار فظ أن يضحك ملء شدقيه إن تجرأ أحد ليذكر له الفكرة، ومن السهل أيضاً تخيل أن الضحك سيستمر حتى أواخر القرن الثامن عشر، وهو الزمن الذي بدأت فيه مزايا الثمرة تتضح للعيان.

الحقيقة، أن تضييع الأسبان لفرصة استثمار البطاطس لصالحهم لم يكن غباءً مجرداً، بل كان نتيجةً طبيعية للتعصب الطبقي الذي كان سمة تلك العصور. وبناءً عليه، إن كان العالم الجديد ببدائيته وبعده عن التحضر قد اعتمد على البطاطس غذاءً له بدلاً من الخبز، فهذا يعني أن الثمرة رديئة لا يليق بإسبانيا حضارياً أن تقترب منها ولا أن تعتمد عليها كقوت يومها.

هذا التعصب الطبقي لم يأت مباشرةً، فمدونات المستعمرين الإسبان الأوائل لم تذكر البطاطس كثيراً، إلا أنها في الحالات القليلة التي أتت فيها على ذكرها كانت تثني على مذاقها. إذ قال أحدهم عنها إنها «طعامٌ جيدٌ جداً، مذاقه ككستناء مسلوقة». وقال آخر «هي جذور مزهرة وطعمها طيب». أما الرحالة الإسباني بيرناب كوبو فقد انفرد بشق عصا الطاعة على هذه الآراء وذكر أن البرويين قد استبدلوا الخبز بطعام رديء (البطاطس) من دون طعم، كعادتهم في أكل أي شيء إن لم يكن يضرهم وإن كان ألف نوعاً من الصراصير المقرفة. إلا أنه عاد واستثنى البطاطس عندما تحضِّرها النساء الإسبان، ووقتها فقط تنتج أفضل الفطائر اللذيذة.

ظل الرأي العام في إسبانيا يرى البطاطس طعاماً دونياً يأكله السكان المحليون في العالم الجديد. وعندما اكتشف الإسبان منجماً للفضة في عام 1545م، استغل تجارهم وصفة التشونو البيروية وباعوها بثمن رخيص لعمالهم في المنجم، العمال الذين كانت طبقتهم الاجتماعية تشبه في كثير من الأوجه الرقيق، كي يزيد طين البطاطس بلة، فبهذا لم يعرف عن البطاطس إلا أنها طعام للرقيق أيضاً، ولذلك استبعد التجار أنفسهم تصديره من البيرو لإسبانيا، وهذا ما يفسِّر مدونةً لأحد الرحالة حول الحياة في المستعمرات، بعد سبعين سنة من اكتشاف الأسبان بالبطاطس، تصفها بأنها «طعامٌ لذيذ للهنود، وطعام أنيق حتى للإسبان أنفسهم». واللافت في الحديث عن البطاطس في هذا التقرير هو أنه يجد أن من الغريب والمثير للدهشة أن الهنود والإسبان قد يعجبون بصنف واحد من الطعام، وأيضاً أن البطاطس لا تزال مخلوقاً أجنبياً يستدعي التعريف به والحديث عنه، وتأكيد جدارته للاستهلاك الآدمي.

البطاطس في الزمن المرّ
في أمريكا، يقولون عن الشخص الكسول المستلقي أمام شاشة التلفزيون دون حراك «شوال البطاطس» (couch potato)، أو عن الشخص العبيط الذي لا يفكِّر (potato head)، أي رأس بطاطس. بينما يقول الفرنسيون إن الكسول تسري في عروقه دماء البطاطا، ويصفون ذلك الذي لا يجيد الرقص بأنه يرقص كجراب البطاطس. والطرافة التي نراها في هذه التعبيرات تأتي من استلطافنا للبطاطس اليوم، إلا أنها آتية من سياق سلبي متهكم، يحتقر البطاطس ويترفع عنها.

مع مطلع العام 1600م، كانت البطاطس قد وصلت، خلال ثلاثين سنة من اكتشافها، إلى إسبانيا وإيطاليا والنمسا وبلجيكا وهولندا وفرنسا وسويسرا وبريطانيا وألمانيا والبرتغال وإيرلندا.. ورغم أن القائمة مثيرة للإعجاب، إلا أن هذا مجرد تعداد ولا يعني أن البطاطس المترحلة من بلد لآخر وجدت في أي من هذه الدول بيتاً حقيقياً لها، فما يعنيه وصولها إلى هذه البلدان هو أنها احتلت موقعاً في حدائق علماء النبات ومنها إلى حدائق الملوك، كنبات زينة لأجل ورودها الأورجوانية، وليس لثمارها القبيحة الشكل التي لم تكن تستحق الحصاد في نظر أصحابها. وبينما رأى النبلاء زهورها متعة للناظرين، لم يجد فيها الفلاحون سوى شراً زؤوما عليهم اجتنابه. اختلاف نمو البطاطس عن بقية النباتات كان مثيراً لذعر رجل الشارع في القرن السابع عشر، فبقية النباتات التي خلقها الله تنمو بالبذور، وليس بجزء من الثمرة نفسها. أما ثمرتها التي كانت وقتذاك بحجم شجيرة صغيرة فرآها المزارع البسيط قبيحةً «لابد وأن يكون بينها وبين الأرواح الشريرة رابط»، ولابد أنها تتسبب في الإصابة بالدرن والجذام. في عام 1596م أتى النباتي جازبارد بوهين وصنَّفها ضمن ثمار الصولانين، وهي مادة شبة قلوية سامة توجد في براعم الطماطم، وتنتمي إليها مجموعة من النباتات ذات العصارة السامة كالتبغ وتفاح الجن، وبهذا اكتملت الدائرة حول البطاطس. الشيطان والأرواح الشريرة والجذام والدرن والمواد السامة ضيوف
لا ترغب أن تراهم على طاولتك. المفارقة، أن العلم الحديث أثبت أن الخرافات الأوروبية كانت محقة ولو بجزء بسيط جداً في الحذر من براعم البطاطس، فهي كبقية النباتات المنتمية لعائلة الصولانين، تنتج مادة شبه قلوية هي مادة القلويدات السترويدية، ومن سماتها السمية. وحتى اليوم لم يفهم العلماء ما وظيفة هذه المادة تحديداً، إلا أن هناك دلائل تشير إلى كونها مادة تبعد المفترسين، وتحمي البرعم وورق الشجر. بالتأكيد البطاطس المعافاة لا تسبب أي ضرر ولكن الإكثار من أكل المريضة منها يؤدي بالإنسان إلى المرض، ولأن الصولانين يتركز في قشرة البطاطس، فتقشير الثمرة المصابة جيداً يمحو المشكلة، كما أنه يسهل اكتشاف الصولانين إذا كان بمعدل ضار من خلال لون الثمرة الذي يصبح مائلاً إلى الاخضرار.

البطاطس في قفص الاتهام
في عام 1729م كتب جوناثان سويفت، صاحب رواية «رحلات جوليفر» المشهورة مقالاً هزَّ أرجاء إنجلترا وإيرلندا بعنوان «اقتراح متواضع». يبدأ المقال بوصف دبلن عاصمة إيرلندا التي أتى منها الكاتب، ويحكي عن الشحاذات اللاتي يجبن الشوارع وتجر كل واحدة منهن ثلاثة أو أربعة أو ستة أطفال. ويتوقع بأن الحال إن استمر على هذا المنوال فإن الوضع في المدينة لن يتحسن، لأن البطالة سادت البلد، والنقود أصبحت كائناً غير معروف للإيرلنديين. والحل، في رأي سويفت، أن يصدِّر الإيرلنديون الفقراء أطفالهم بدلاً من أن يصدِّروا اللحوم أو الدجاج. لحوم الأطفال، كما يشرح الكاتب، غنية بالعناصر المغذية التي سينتفع منها البريطانيون وبقية سكان أوروبا، وفي الوقت نفسه، فالاقتصاد الإيرلندي سينتعش من هذه التجارة التي لابد أن تحوز رضاء الكثيرين، وأولهم الإنجليز. المقال يدرَّس الآن كنموذج للأدب الساخر، إلا أنه حينئذ كان معبراً عن واقع البلاد. فقرٌ مدقع، وتضخم سكاني مريع، ومجاعة تلو مجاعة، وما من مخرج، عدا المخرج الذي اقترحه ابن البلد جوناثان سويفت بمرارة. وإن لم يكن هناك مخرج، لابد أن يكون هناك متهم تعلَّق برقبته مشاكل البلاد، ولم يجد المراقبون -وأكثرهم من الإنجليز- في ذلك الحين سوى البطاطس ليزجوا بها في القفص.

قدمت البطاطس لإيرلندا في نهاية القرن السادس عشر، واستقبلتها الأرض بترحاب بالغ. وكبقية الدول في أوروبا، كانت البطاطس ملائمة للتربة والمناخ الإيرلندي، ولكن على العكس من بقية الدول، اعتنق فلاحو إيرلندا البطاطس كبر أمان ضد موجات الآفات الاجتماعية التي ابتليت بها البلاد من بطالة وفقر وتضخم سكاني. وبالتدريج، ومع توالي المجاعات التي كان سببها ضعف محصول الشوفان، تحول الطعام الإيرلندي من اعتماده الكلي على خبز الشوفان إلى الاعتماد على البطاطس، فلم يأتِ العام 1780م إلا وكانت البطاطس قد تربعت على سدة حكم القوت اليومي للإيرلنديين، مع كونها رمزاً طبقياً للفقر، حيث انتشر مثل إيرلندي في ذلك الوقت يقول: «صلصة الرجل الفقير: بطاطا صغيرة يأكلها مع البطاطا الأم!». وبعدما تسيَّدت البطاطس القوت اليومي للإيرلنديين، تضاعف عددهم من 4 ملايين إلى ثمانية في غضون ستين عاماً فقط.

أثار التضاعف المتسارع الدهشة، ولكنه في هذه الحالة كان مثيراً للتساؤل: هل هناك رابط مباشر بين البطاطس والتضخم السكاني؟ بالنسبة للمعاصرين، لم يكن الأمر يحتاج إلى كثيرٍ من التأمل والدراسة. العلاقة واضحة وضوح الشمس. المراقبون الإنجليز -الذين أثارت نقمتهم الزيادة السكانية التي تهدِّد بغلبة كاثوليكية إيرلندا على بروستانتية إنجلترا- أشاروا إلى أن الزواج المبكِّر هو سبب ارتفاع نسبة المواليد في إيرلندا، والبطاطا الرخيصة كانت السبب الوحيد الذي يمكِّن فقراء إيرلندا من الزواج، حيث إن أي مزارع لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره يقدم على الزواج حالما يحصل على إيجار أقل من فدان من الأرض، فيزرعه كاملاً بالبطاطا الرخيصة، ويعيش مع زوجته وأولاده على جزء منه، ويدفع إيجار الأرض من الباقي. واقترح آنذاك أحد الكتَّاب على السلطات أن تمنع إقامة أي منزل على مزرعة تقل مساحتها عن خمسة فدادين، لأنه: «بذلك لن يكون هناك مزيد من البطاطا الرخيصة».

حصلت البطاطس اليوم على براءتها. إذ يقول الباحثون إن السبب وراء فقر إيرلندا لم يكن في البطاطس الطيبة، وإنما كانت القوانين التي تحيط بإيجار الأراضي وولايتها، وربما وجد مراقبو ذلك الزمان أن البطاطس ضحية طيِّعة يمكن مهاجمتها بسهولة، بدلاً من محاولة قلب قوانين ملكية الأراضي.

في إنجلترا: مسألة مبدأ
الإنجليز، بعيداً عن كل الحديث عن كون البطاطس طعاماً للفقراء، أو كونها مرتبطة بالأرواح الشريرة، أو حتى سبباً للإصابة بالجذام، كان لديهم اعتراض أولي على إضافة البطاطس إلى طعامهم. فالبطاطس تنتمي إلى الخضراوات، ونبلاء إنجلترا لم يكن للطعام مذاق لديهم إن لم يكن منتمياً بشكل أو بآخر للحوم. وحتى القرن التاسع عشر، يذكر الكتَّاب الإنجليز أن السَلَطات الباردة تحتاج لرشة فلفل كي تدفئ الدم، وأنها لم تؤكل أصلاً، وتحتوي على أقل القليل من المواد المغذية!!

كانت الطبقة المتعلمة تزرع البطاطس في حدائقها الخاصة، إلا أنها لم تتخلص تماماً من النظرة المتشككة التي تحيط بها، وهذا يظل ظاهراً حتى في تلك الكتابات التي تصب في مصلحة البطاطس حيث يتعامل معها الكتَّاب من بعيد، وكأنما ينصح بها الآخرين المحتاجين ولكنه يترفع هو عن أكلها.

فقد كتب الصحافي جون فروستر في عام 1664م مقالة طويلة يزعم فيها أن البطاطس تقدِّم علاجاً فعالاً وسهلاً لنقص الطعام، وتنبأ بأن البطاطس ستكون المعجزة الاقتصادية للبلاد إن زرعت بشكل جدي في إنجلترا وويلز، حيث سيجد عشرة آلاف رجل فقير قوتهم وقوت عيالهم. ولكي يثير اهتمام الملك تشارلز الثاني ملك إنجلترا في ذلك الوقت، اقترح فورستر عليه أن يسجِّل البطاطس باسمه، ثم يبيع الامتياز التجاري لزراعة البطاطس لبقية الأمم، وبالتالي يجمع الأرباح. ورغم حاجة الملك إلى المال، فإنه صرف نظره عن الاقتراح ولم يفكر بتبنيه. وكما تعامل فروستر مع البطاطس على أساس أنها المعجزة الاقتصادية التي ستنجد فقراء البلد، نجد جول إيفيلين، خبير البستنة الأشهر في ذلك الوقت، يكتب أن البطاطس مفيدة للفقراء وخدم العائلة عندما يعاني رب المنزل الإقطاعي من صعوبات مالية.

ثم، قامت الثورة الصناعية، وتسارعت وتيرة الحياة بشكل لم يعرفه العالم من قبل، حيث كانت مثلاً رحلة الصيف من أدنبرة إلى لندن تستغرق عشرة أيام في عام 1754م، ثم تقلَّصت لتصبح 4 أيام في 1776م، وثلاثة أيام في 1786م. كان هذا التسارع واضحاً في التوجه من الريف إلى المدينة، وساعد البطاطس على أن تكسر الحصار. وعندما استمر التغير حتى القرن التاسع عشر، ظهرت البطاطس وعليها الأمان.

في تلك الفترة، كانت إنجلترا تمر بفترة نمو سكانية ملحوظة. لم يكن هناك إحصاء سكاني، إلا أن التقديرات تشير إلى أن سكان البلاد بلغ عددهم في عام 1700م خمسة ملايين نسمة، وبحلول العام 1750م أصبح عددهم ستة ملايين تقريباً، ثم أصبحوا تسعة ملايين تقريباً في العام 1800م. وتوزع أكثرية هؤلاء السكان في المدن الصناعية كلندن ومانشستر وليفربول.

خلق النمو السكاني وتركزه في مناطق معينة حاجة إلى توزيع الطعام ونقله إلى العمال الذين انتقلوا من زراعة طعامهم بأنفسهم إلى شرائه من الدكاكين. ولم تكن هذه مهمة سهلة، فمع أن الوقت الذي يستغرقه إيصال البضائع من الريف إلى المدينة قد قل كثيراً بفضل المحرك البخاري، إلا أن عملية النقل نفسها لم تكن آمنة، نظراً لحالة الطرق الرديئة وتعرض المأكولات للتلف. وبذلك لم يجد سكان المدن سوى البطاطس لزراعتها أو شرائها ممن يزرعها في المدينة نفسها. وكانت لانكستر الصناعية أول المدن التي تبنت هذا الحل، وتقبلت البطاطس في أواخر القرن الثامن عشر، واشتهرت بطبق «يخنة البخار» الذي يعتمد على البطاطس واللحم والبصل والصلصة، وهو أول طبق يحتوي على البطاطس وتقبله الناس في إنجلترا.

إلى ذلك، هناك أسباب أخرى دفعت العامة لتقبل فكرة أكل البطاطس، وتأتي من الضرورة والحاجة أيضاً، حيث إن الثورة الصناعية أحضرت معها ساعات العمل الطويلة في المصانع ( بين 12 و16 ساعة يومياً) لكل أفراد العائلة، حتى الأطفال. ولم يكن لدى العائلة الوقت للأكل فكيف بالطبخ؟ وكيف تطبخ العائلة، وأغلب المنازل لم تكن تحتوي على أفران أو أدوات الطبخ المتوافرة في هذه الأيام، وإن توافرت، كان الوقود غالي الثمن ويستخدم معظمه لتدفئة المنزل، وليس للطبخ. لم يكن أمام العامة سوى ابتياع الخبز والبطاطا المسلوقة من الدكاكين.

ورويداً رويداً، عرفت شوارع إنجلترا البطاطس، وألفتها، وأحبتها، وتوجتها أميرة في مطاعمها عبر وجبة السمك والبطاطس المقلية «Fish and Chips» التي قال عنها ونستون تشرشل إنها الصحبة الطيبة. وظهرت لأول مرة رفقتهما في أواخر القرن التاسع عشر، حينما كان عمال المصانع يهرعون إلى خطوط الإنتاج قبل شروق الشمس في شوارع المدينة المظلمة، ويعودون في آخر الليل بعد ست عشرة ساعة من العمل المتواصل. وفي طريقهم، يعبرون على مطعم للسمك والبطاطس المقلية. لا نعرف متى بدأت هذه الصحبة تحديداً، إلا أننا نعرف أنهما وصلا منفصلين إلى الشارع البريطاني، وتشير الشواهد إلى أن السمك المقلي وصل إلى الشارع قبل البطاطس بثلاثة عقود، حيث ذكر تشارلز ديكنز في روايته «أوليفر تويست» التي نشرت مسلسلة بين العامين 1837 و1839م مطعماً للسمك المقلي وكأنما تمتلئ بمثل هذه المطاعم شوارع لندن، بينما لم تظهر وصفات قلي شرائح البطاطس الرفيعة إلا في ستينيات القرن التاسع عشر.

وعندما جالت في أوروبا
تشبث الفرنسيون بخوفهم من البطاطس أكثر من الإنجليز، وإن كانت هناك قلة حاولت دحض هذه الخرافات مثل روبير تورجوجاك، حاكم ليموج الذي تقول الروايات التاريخية إنه أقدم على أكل البطاطس علناً أمام مجموعة من المزارعين، وطلب منهم الجلوس إلى نفس الطاولة معه كي يروا أنها لم تصبه بأذى.

وفي العام 1771م نشرت هيئة دراسات باريس بحثاً تُقسم فيه أن البطاطس حميدة، بل ونافعة، ولكن أحداً لم يقتنع. وإن اقتنع البعض، كانت رغبتهم في الحفاظ على مظهرهم الاجتماعي أكثر إلحاحاً، فكيف يقدمون على طعام يصفه مثقفو العصر بأنه طعام الوحوش؟ وكانت هذه المعتقدات سارية في ألمانيا أيضاً، حيث اعتقد الفلاحون أن البطاطا تصيب بالسّل والكساح والدرن، وجادلوا الملك فردريك عندما صدر أمره بزراعتها لتأمن البلاد خطر المجاعات. ففي عام 1774م أرسلت مدينة كولبرج الألمانية رسالة للملك تقول فيها: «هذه الأشياء ليس لها طعم أو رائحة، وحتى الكلاب لا تستطيع أكلها، فما فائدتها؟». أصر الملك، وأطاع الشعب على مضض، ولكن بعد سنوات سبع من هذه الطاعة المزعومة، كان الفلاحون قريباً من جبال الألب ينتقلون من حكم إقطاعي إلى آخر عندما يصر سيدهم على أن تكون البطاطس جزءاً من قوتهم اليومي. وفي روسيا، قررت الإمبراطورة كاثرين أن البطاطس «شيءٌ جيّد» ولم تستمع إلى الملتزمين الكاثوليك الذين اعترضوا على زراعة نبات لم يذكر في الإنجيل. وافق البعض على ما قررته الإمبراطورة، ولكن الغالبية العظمى من الروس كانت تعتقد أن البطاطس هي السبب الأول للإصابة بالكوليرا، ولم تنتشر زراعتها إلا في العام 1850م بقرار من القيصر نيكولاس الأول.

أنطونيو أوجستين بارمينتير..
15 ألف صفحة عن البطاطس
لم يكن لدى فرنسا فردريك ولا كاثرين، بل كان لديها أنطونيو أوجستين بارمينتير. ففي حرب السنوات السبع، التي اشتركت فيها كل الدول الأوروبية تقريباً بين العامين (1756 و1763م) كان بارمينتير ملتحقاً بالجيش الفرنسي كصيدلاني، وسقط في أسر الألمان الذين أجبروه في السجن على أكل البطاطس، الثمرة التي كان يظن أنها خلقت لتكون علفاً للخنازير. ولم يقدم له الجنود سواها. وعندما عاد إلى فرنسا بعد انتهاء الحرب سليماً معافىً، كانت البطاطس قد كسبته حليفاً ونصيراً وصديقاً. درس الكيمياء، وطبق مبادئها على دراسة البطاطا، وفي عام 1770م تقدم بمقال لمسابقة أقامتها إحدى الأكاديميات العلمية في فرنسا، وكان مقاله حول فائدة البطاطس وقيمتها الغذائية لمرضى الدوسنتاريا. فاز الرجل بالجائزة، ونتيجة لذلك ألغي القانون الذي أصدره البرلمان الفرنسي عام 1748م بتجريم زراعة البطاطس بناءً على الاعتقاد الشائع بتسببها بالجذام.

وفي عام 1772م صدر قرار من هيئة باريس الطبية يبيح تناول البطاطس ويشجِّع عليه. وتنبه لويس الخامس عشر ملك فرنسا في ذلك الوقت لإخلاص بارمينتير للبحث فأسبغ عليه منحة ملكية ليتفرغ للدراسة، واستغلها بارمينتير في سبيل البطاطا، حيث رآها المنقذ الوحيد لأمته من الجوع.. ولم يتوقف منذ ذلك الوقت عن الدفاع والكتابة عنها. وكان واسع الحيلة ظريفاً ساخراً، فبالإضافة إلى الخمسة عشر ألف صفحة التي دونها للحديث عن البطاطس وفائدتها، كان يقيم دعوات العشاء الفاخرة للحاشية الملكية والنبلاء، ويقدم لهم وجبات كاملة مكونة من عشرين طبقاً وأكثر، وكلها تعتمد في مكوناتها الأساسية على البطاطس. وعندما تولى لويس السادس عشر الحكم، أقنعه بارمينتير بجمال وتفرد زهرة البطاطس حتى أصبح الملك يضعها في عروة سترته.

ومن لويس السادس عشر التقطتها ماري آنطوانيت، وأصبحت زهرة البطاطس بلونها الأرجواني الموضة الرائجة في البلاط الملكي. ومرة أخرى أقنع بارمينيتر الملك بالسماح له بتجربة عامة، دحضاً للرأي القائل بأن زراعة البطاطس تفسد التربة، فقرَّر أن يثبت أن العكس صحيح، وأن البطاطس تهزم أسوأ أنواع التربة وأقساها، ولذلك اختار خمسين فداناً في إحدى ضواحي باريس المقفرة عام 1786م، وزرع البطاطا فيها، وبخبثه المعهود عيَّن حراساً حولها خلال النهار فقط ليلفت الانتباه إلى «قيمة» الثمرة المزروعة، وكما كان يأمل، أقدم المزارعون على زيارة المزرعة في الليل لسرقة البطاطس. حيلة استخدمها كثيراً بعد ذلك، وفي أكثر من منطقة. أكسبته إنجازاته ولفتاته الذكية ميدالية من الملك، وثناءً مستحقاً من زملائه العلماء.

وبعد المجاعة التي هزَّت فرنسا في عام 1788م، استمعت الهيئة الفرنسية للتموين لنصائح المواطن الصالح بارمينتير، وطبعت عشرة آلاف مطوية كتبها حول زراعة البطاطس، ووزعت على كل القرى والبلديات. وأسبغ التغير الجمهوري في فرنسا في ذلك الحين على البطاطس عباءة شعبية، حيث إن الجمهوريين حملوها على الأكتاف هاتفين بفوائدها، وأولها حماية النظام الجمهوري الجديد من السقوط في حال تكررت المجاعات. وبالتالي أصبحت البطاطس منقذاً لحرية المزارع السياسية الجديدة، ورمزاً لخلاصه من الإقطاعيين الظلمة. ومع ذلك، لم يكن الكل مقتنعاً بأهمية البطاطس، فعلى سبيل المثال، عندما ترشح بارمينتير لمنصب أمين بلدية باريس اعترض أحد الناخبين ناقماً: «سوف يجبرنا على أكل البطاطس، هو أصلاً من اخترعها!»، وبالفعل، خسر الرجل الذي «اخترع البطاطس» الانتخابات. ولكنه توفي عام 1813م منتصراً بعد أن تضاعف إنتاج البطاطس خمسة عشر ضعفاً نتيجة لجهوده.

المحارب الأخير
في عام 1818م كتب المزارع والصحافي البريطاني وليام كوبيت غاضباً في مقاله الأسبوعي: «هي الموضة الآن أن نأكل البطاطس! الكل يتغزل في محاسنها وكل العالم يحبها، أو يتظاهر بحبها، والنتيجة واحدة».

أن يأتي هذا الحديث بعد أحزان المجاعات التي أنهكت سكان إنجلترا بين الأعوام 1795 و1800م، والتي انتهت على يد البطاطس، والبطاطس وحدها، أمرٌ مستغرب، ولكن أن يأتي من أكثر مفكري بريطانيا تحرراً في ذلك الوقت، ويليام كوبيت، فهو أمر مذهل، ويدعو للعجب. إلا أننا لن نستغرب كثيراً إن عرفنا أكثر عن الرجل. إذ يقول معاصروه إن العامل المشترك بين كل مواقفه المختلفة هو حبه الشديد للمعارضة وتمرده على السلطة، وكرهه للجديد. كان كوبيت يعلن دعمه اللامحدود لمصلحة المزارع البريطاني الصغير، ويعلن في الوقت نفسه بتمرد عجيب كرهه لعشرات الأشياء الأخرى. يكره المدن. البرلمان. الضرائب. شرب الشاي. مسرحيات شكسبير. اليهود. أما البطاطس، فقد كانت كرهه الأول والأخير. يسميها «جذور القذارة، النفاية، البؤس، والعبودية». في رأيه، هي الموت الاجتماعي والروحي، ومن يناصرها هو إما مصابٌ بالعمى، أو باع روحه للشيطان. ولأن السير والتر راولي كما هو شائع قد قدَّم البطاطا لإنجلترا فهو من أشر أشرار الأرض، والحمد لله أنه قد لقي جزاؤه شنقاً، وبناءً عليه فإن كوبيت يرى أنه يفضل رؤية الفلاحين والعمال الإنجليز مشنوقين، وهو معهم، على أن يعيشوا ليأكلوا «الثمرة الكسول».

في السنوات الأخيرة من حياته، كتب كوبيت: «فكرة أن البطاطس قد تحفظنا من المجاعة تميتني ضحكاً، أو أن البطاطا قد تجاور الخبز وتتفوق عليه.. بما أنها طعام القطعان من غنم وخنازير، هذه أسوأ المحاصيل التي يمكن الحصول عليها، ولكني قلت هذا كثيراً من قبل، ولذلك الآن أصرف البطاطس مع الأمل بألا أضطر مرة أخرى للكتابة عنها، أو حتى رؤيتها».

توفي كوبيت عام 1835م، ولم يتحقق أمله حتى الآن، ولا يبدو أنه قد يتحقق في المستقبل.

الحلم الأمريكي
وصلت البطاطس إلى أمريكا في العام 1621م، وكانت تسمى بالبطاطس الإيرلندية تمييزاً لها عن عدد من أنواع الخضراوات التي أُطلق عليها الاسم ذاته، أما البطاطا الحلوة فكانت تسمى البطاطا الإسبانية.

وفي منتصف القرن الثامن عشر، وبينما كانت البطاطس تحاول إقناع الشعوب الأوروبية بجدواها، احتلت مكانها معزَّزة مكرَّمة في أمريكا، بل إن الكونجرس الأمريكي أشار إلى أن البحارة يجب أن يأكلوا اللفت أو البطاطس ثلاثة أيام في الأسبوع كجزء من تموينهم. أصبحت البطاطس خلال قرن واحد من أهل البيت في أمريكا، ولم تجد أياً من المصاعب التي لاقتها في طريقها لقلب القارة الأوروبية.

أتت البطاطس المقلية كما نعرفها اليوم كوصفة مغمورة اعتاد الطباخ الفرنسي أونرو جوليان طبخها لمستخدمه الرئيس الأمريكي توماس جيفرسون، ومن هنا كسبت قلوب الشعب الأمريكي وعرفها باسمها الحالي: المقليات الفرنسية (French fries). ولكنها لم تكتسح العالم إلا عندما قرر الإخوة ديك وماك ماكدونالد تقديمها ضمن مطعمهما الصغير الذي افتتحاه في كاليفورنيا عام 1940م. وفي عام 1948م بدأ الإخوة ماكدونالدز بتطبيق نظام الخدمة السريعة، مما أسس لأول مرة مفهوم مطاعم الوجبات السريعة.

كانت البطاطس المقدَّمة في المطاعم الأولى مريعة أحياناً، وذلك لأن أنواع البطاطس التي تقدَّم كانت مختلفة، القلي يناسب بعض الأنواع كالبطاطا «الروسيتس» التي تفضلها مطاعم ماكدونالدز، بينما لايناسب البقية كبطاطا «فنغرلنج». ولأن البطاطا «الروسيتس» لا تتوافر على مدار السنة، أقدمت الشركة بقيادة راي كورك الذي ابتاع امتيازها التجاري على إنفاق ملايين الدولارات على الأبحاث كي يوفقوا إلى أفضل نوع مناسب للبطاطس المقلية، إلى أن أتت القفزة مع ابتكار جون ريتشارد سيمبلوت البطاطس المجمدة، والتي سجل براءة اختراعها عام 1953م، مما عاد عليه في وقتٍ لاحق بالبلايين.

وفي عام 1967م اتفق الاثنان، كورك وسيمبلوت، على تزويد ماكدونالدز بالبطاطس طوال العام. وفي آخر إحصاءات أجرتها مجموعة أبحاث أمريكية، اتـضـــــــح أن شــــركــة سيمبلوت ما زالت تزود نصف سلاسل المطاعم الأمريكيـــــة للوجـــــبات السريعة بحاجتها من البطاطس المجمدة. والبطاطس المقلية اليوم، مع أن اسمها ينسبها من دون شك للفرنسيين، أصبحت رمزاً للثقافة الشعبية الأمريكية والقوة التي تمارسها في تشكيل وجه العالم اليوم.

البطاطس في منزلك
إن زراعة البطاطا في منزلك ليست أمراً صعباً، وتشبه التعامل مع صداقة جديدة بالغة الود والدفء، بدءاً من اختيار درنات البطاطا الصديقة، سليمة، وخالية من الأمراض، ثم وضعها في مكان دافئ ووافر الضوء لمدة عشرة أيام قبل الزراعة، لتنمو براعمها. ولكي تحصل على كمية تراوح بين 2 و4 كلغم من البطاطس الطازجة، ما عليك سوى أن توفر ثلاث درنات صغيرة، بارتفاع 7سم تقريباً، ودلو يبلغ قطره 50 سم تقريباً، وتربة. وإذا كنت في منطقة معتدلة، قم بالزراعة في منتصف فصل الربيع، أما إذا كنت في منطقة استوائية ففي مقدورك أن تزرع البطاطا على مدار العام. بعد الأيام العشرة التي قضتها الدرنات في ضيافة الشمس والدفء، وبعد أن تصبح براعم البطاطا قوية صلبة، افتح فتحة تصريف في قاع الدلو. ثم املأ الدلو حتى ثلثيه بالتربة. وبعناية صديق اضغط على أجزاء البطاطا المعدة للزراعة إلى الأسفل لإدخالها في التربة مع إبقاء براعمها متجهة إلى الأعلى. ثم املأ الجزء المتبقي من الدلو بالكمبوست أو التربة. ولتسهيل عملية التصريف ضع الدلو فوق آجرات، وذلك في مكان ذي إضاءة معقولة. حيث إن درجة الحرارة المثالية تبلغ من 10 إلى 15 مئوية. الشمس، والماء، عنصران مهمان في زراعة البطاطا، على أن يراعى الاعتدال في كليهما خلال رعاية البطاطا.

من المهم أن يضاف المزيد من التراب حول قاعدة النباتات مرتين أو ثلاثاً خلال موسم الزراعة. وأن تبقى مروية بصورة جيدة وبوجه خاص حينما يبدأ ظهور الأزهار.

يتعين أن تكون التربة رطبة وليست جافة. ولكن احذر من الإفراط في الري كيلا تصاب الأوراق بالعفن. ويفضَّل الري كل يومين أو ثلاثة. ولكي تصبح الدرنات أكبر حجماً قم بإزالة أية أزهار تنتجها النبتات. وحينما يتحول لون أوراق النبتة إلى اللون الأصفر وتبدأ تموت، توقف عن الري. وبعد أسبوعين إلى ثلاثة ستكون الدرنات الموجودة تحت التربة قد أصبحت حبات بطاطا صغيرة يمكنك أن تقوم بحصادها. أما إن أردت الحصول على درنات أكبر حجماً فعليك الانتظار مدة أربعة إلى ستة أسابيع أخرى. إذا اخترت أن تنتظر الأسابيع الثلاثة أو الستة، فإن أوان الحصاد يحل بنهاية أحد الزمنين، اختر طقساً جافاً للحصاد ثم قم بتفكيك التربة بلطف ثم مدّ يدك تحت النبتة لإزالة الدرنات الكبيرة. ويمكنك إبقاء الدرنات الصغيرة كي تواصل نموها. وإن كنت تريد تخزين درناتك فاتركها تجف على سطح التربة في الشمس لمدة ساعة. ثم اخزن درناتك على رفّ في مكان بارد ومعتم وجاف وجيد التهوية. حيث إن البطاطا المجففة والمخزنة بصورة صحيحة تبقى سليمة لمدة تصل إلى ستة أشهر.

في طهو البطاطس
إنها البطاطا اللذيذة .. مشوية ومسلوقة ومخبوزة.. تقدم الأصناف الحديثة من البطاطا مجموعة عريضة من خصائص الطهو التي تناسب أطباقاً مختلفة وشهية. حيث يمنح بعضها الشوربات كثافة قشدية، ما يضفي عليها مذاقاً رقيقاً يبرز المكونات الأخرى للشوربة.

أما البطاطس المخبوزة فهي تقدم كوجبة خفيفة وبسيطة أو تقدم مع الفطائر المحشوة كوجبة كاملة. كما تعدّ البطاطا المشوية -بهشاشتها ولونها الذهبي من الخارج ورِقَّتها من الداخل- أفضل رفيق يقدم إلى جانب اللحم المشوي. ويقال إن البطاطا المهروسة الناعمة القشدية هي «الغذاء المقنع الذي لا يعلى عليه». بينما تعدّ البطاطا «غير الناضجة» المطهوة بتعريضها للبخار أو مسلوقة طعاماً شهياً من نوع خاص.

وتعدّ البطاطس من الخضار الأكثر شعبية في العالم، كما لاقت الترحاب في مطابخ مختلف البلدان في العالم. حيث تستخدم في الكري في الهند وفي الباستا في إيطاليا، وتصنع منها يخنة مع الموز في كوستاريكا، وتخبز مع الأرز في إيران وتحشى بالكبد في بيلاروس، وتقلى ممزوجة مع الفاصوليا الخضراء في إثيوبيا، وتطهى في سائل على درجة الغليان مع سمك الحَدوق المدخَّن في شوربات الشتاء في فنلندا.

يكمن سرّ نجاح البطاطس في تنوعها الكبير. حيث تأتي البطاطس في مكان ولادتها بجبال الأنديز في صورة آلاف من الأصناف «البلدية» التي يتمتع كل منها بلون وقوام ومذاق مميز (ففي بيرو يمكن أن تحتوي سلطة البطاطا على ثلاثة أو أربعة أنواع مختلفة من البطاطا).

تعدّ غالبية وصفات إعداد المأكولات من البطاطس سهلة التحضير. غير أن انتقاء الصنف المناسب ضروري للحصول على طبق جيد حيث تصنف البطاطس في المطبخ تبعاً لمحتواها من النشا لأنه هو الذي يحدد كيفية استجابتها للطهو. وبصورة أساسية، كلما ازداد محتوى البطاطا من النشا زادت سهولة انفجار خلايا النشا في الدرنة عند تسخينها.

يتباهى الفرنسيون بأنهم مخترعو البطاطس المقلية المسمّاة «المقليّات الفرنسية» (French Fries).. هذا الطعام الذي راج عالمياً إلى درجة جعلت تسميته رمزاً للإبداع في فن الطبخ. وهذا ما دفع الأمريكيين خلال خلاف سياسي مع فرنسا إلى تغيير اسم هذه الوجبة البسيطة وكأن في الأمر تعديلاً لموازين التفوق. غير أن المظالم التي تعرَّضت لها هذه الثمرة خلال تاريخها تكاد تحصر الفضل في ظهورها ورواجها وانتصارها الكبير إلى مزاياها دون غيرها. إذ ظلت لأكثر من قرنين بعد اكتشافها محتقرة من قبل الفقراء قبل الأغنياء. وراجت حولها شتَّى التهم والأفكار الخرافية، غير أنها وببطء شديد فرضت نفسها بنفسها لتصبح اليوم غذاءً أساسياً أينما كان في العالم، وربما مخرجاً من أزمة الغذاء العالمية حسبما جاء في أحد تقارير هيئة الأمم المتحدة.

ونبدأ بتاريخ البطاطس الذي يكاد يختصر تاريخ المجتمعات وأحوالها الاقتصادية والثقافية أينما غرست نبتتها.

عرفت سهول الأنديز في البيرو وتشيلي زراعة البطاطس لأكثر من ثمانية آلاف سنة، ووجد علماء الآثار في الأطلال التي تشهد على تاريخ تلك المنطقة بقايا بطاطس تعود لأكثر من خمسمائة سنة قبل الميلاد. كما عرف هنود حضارة الأنكا التي قامت بين العام 1200م و1572م هذه الثمرة، وذكروها في صلاتهم كقوتهم اليومي، وأدرجوها مع أكفان موتاهم. خزَّنوها لأكلها في الحروب والمجاعات.. جفَّفوها وطبخوها بصلصة الطماطم وحملوها معهم رفيقاً أميناً في رحلاتهم الطويلة، وعندما كان محصولها يصاب بالفشل لسببٍ أو لآخر، كانت تقوم الدنيا ولا تقعد، فيساق البعض من سيئي الحظ لتقطع أنوفهم، اعتقاداً من البقية أن هذه الوسيلة الوحيدة لاسترضاء البطاطس.

وعندما وطأ الإسبان أرض البيرو غازين وباحثين عن ذهب الأنكا، كانت البطاطس أمامهم تنتظر مستكشفاً بعيد النظر ليرى ما قد تقدِّمه هذه الثمرة الغنية للعالم أجمع، وطال انتظارها أكثر من قرنين من الزمان كي يكتشف العالم الغربي أهميتها، وقرنين آخرين كي يدرك العلم على نطاق واسع غناها. إلا أن الدلائل على تميز البطاطس كانت طوال الوقت أمام أعين الجميع، وأولها قدرة هذه الثمرة على شق طريقها في أرض قاسية كسهول الأنديز، فهذه النجود القاحلة ترتفع عن مستوى سطح البحر أكثر من اثني عشر ألف قدم، وأي مخلوق يتواجد عليها وتصلح له سكناً لابد أن يكون مثابراً صبوراً. وكما ينطبق هذا على سكان الأنديز، فإنه ينطبق على قوتهم اليومي أيضاً.

فالبطاطس تعيش في منطقة لا تعرف الاعتدال. الأرض التي لا يحول بينها وبين أشعة الشمس حائل في النهار، تقف عزلاء مستكينة أمام صقيع الليل، وهذا التفاوت الهائل في درجات الحرارة التي تتعرَّض لها التربة ذاتها خلال اليوم الواحد لا يقف عقبة فقط أمام النمو الطبيعي للنباتات، بل يعني أيضاً تعرضها لهذه التقلبات الجوية، سواء أكانت جفافاً أم صقيعاً، على مدار السنة. وتحت أحوال كهذه، ليس للنباتات الحسّاسة كالقمح أو الذرة أو الشعير مكان. أشجار قليلة جداً هي التي تستطيع البقاء في أرض قد لا ترتوي بقطرة مطر لأكثر من سنة، أما ثمار هذه الأرض، فهي ثمار قزمية ملتصقة بها، وأولها البطاطس.

البطاطس، عروس الأنديز، تزهو بمواءمتها لهذه الأرض، إذ يستطيع بعض فصائل البطاطس العيش في تربة تعلو عن مستوى سطح البحر أكثر من خمسة عشر ألف قدم، وقشرتها السميكة تحميها على الدوام، وخاصة خلال تعرض المنطقة لنوبة صقيع تجمّد كل ما تقابله، أو نوبة جفاف تمتص الحياة، وتقاوم لأكثر من سبعة شهور. فالبطاطس تنمو في أقسى وأكثر الترب فقراً، وفي أي سطح يمكنها التواجد فيه، ولذلك هي -بأنواعها التي تتجاوز 230 نوعاً- هبة لا تقدَّر بثمن على سهول الأنديز، وهذه الأنواع هي التي سمحت لسكان السهول في الماضي تخير وزراعة أكثرها ملاءمة للظروف المناخية، وهي ذاتها التي سمحت للأوروبيين، وإن كان في مرحلة متأخرة من القرن التاسع عشر، بمقاومة الآفات التي حاقت بمحاصيل البطاطس عبر اختيار فصائل أخرى خالية من الأمراض وتقديمها في أسواقهم.

ليس توافق البطاطس مع تطرف الأرض هو السبب الوحيد الذي جعلهم يقدمون عليها كقوت يومهم، هناك أسباب أخرى دفعتهم لذلك، ومنها أن الأرض الزراعية كانت نادرة، وعادة ما تكون متفرقة على امتدادات ضيقة، فيضطر المزارعون إلى حرثها بأنفسهم من دون مساعدة آلية أو حيوانية. ولم تخيِّب البطاطس المزارع الصبور، فهي لا تحتاج إلا لعناية يده ومجرافه، والثمرة الواحدة تحمل عدة براعم تعده بالخير الكثير.

لم تكن الصعوبات أمام المزارع وعائلته تنتهي بالحصول على الطعام، فالوقود في تلك الأرض كان أندر حتى من مساحاتها المزروعة، والصقيع ينهي ما تبقى فيجمد كل ما تحتويه مخازن القرية. والبطاطس التي تحمل أكثر من %80 من وزنها ماء كانت معرَّضة لمصير مشابه لباقي الأطعمة، وربما كانت أولها تعرضاً له، إلا أن الأنكا وجدوا حلاً مبتكراً حوّلوا فيه حساسية البطاطس من الصقيع لصالحهم، فكانوا يقتسمون بعضاً من محاصيل البطاطس، والباقي يتركونه معرضاً لصقيع الأرض القارس في عتمة الليل، حتى تتجمد مياه الثمرة، فإن أتى النهار بحرارته، يذوب الجليد عن البطاطس، ويتكفل الأهالي بطرقهم التقليدية بعصر الثمرة حتى لا يبقى فيها إلا أقل القليل من الماء، وبالتالي تصبح عصية على هجوم الصقيع، ويجمعونها في سلال يخبؤها في غرف مقفلة بإحكام. هذه البطاطس التي عرفها أهل الأنديز باسم «تشونو» chuno كانت لا تستغرق سوى دقائق لتنضج وتصبح جاهزة للأكل بعد وضعها في الماء المغلي. اليوم لا نفكر إلا في البطاطس المقلية كجزء من مفهوم الوجبات السريعة، إلا أن التشونو سبقها بمئات السنين. أضف إلى ذلك أن التشونو كان يبقى صالحاً للأكل حتى سنوات عشر، مما يعني ضماناً استثنائياً ضد مجاعة ممكن أن تضرب المنطقة في أي وقت.

من جهة أخرى تقدم البطاطس على الطاولة قيمة غذائية متفوقة على غيرها من الخضراوات. إذ يقول العلم اليوم إن البطاطس توفر كل العناصر المغذية التي يحتاجها الجسم، عدا الكالسيوم وفيتاميني (أ) و(د)، مما يعني أن نظاماً غذائياً معتمداً على البطاطس والحليب يمكن أن يمد الجسم بكل ما يحتاجه. ويوفر الفدّان الواحد المزروع بالبطاطس لعشرة أشخاص طاقتهم السنوية وحاجتهم من البروتين، وهو شيء لا يمكن أن نقوله عن الذرة، أو الأرز، أو فول الصويا، أو حتى القمح.

ضحية التعصب الطبقي أولاً
بعد أكثر من ثلاثين سنة من اكتشافهم للبطاطس في الأنديز، حمل أحد الغازين الإسبان هذه الثمرة الغريبة معه إلى دياره.. وليس لنا أن نفترض أن هذا البحار كان مدركاً لما يقدِّمه لبلاده عبر هذه الثمرة الصغيرة التي حفظها في جيب سترته الداخلية. بل يرجِّح الباحثون أنه لم يحملها إلا كتحفة أو تذكار لغزوته، ومثالاً على طرافة وغرابة الأرض التي تنتمي إليها، وبالتالي، لم يكن ليدري أنه بهذه الرحلة، كان أول من عرَّف إسبانيا، والعالم من بعدها، على البطاطس.

فبعد سنوات ثلاث من هذه الواقعة بدأت البطاطس «مستقبلها المهني» في أوروبا، حيث استخدمها الأطباء لإطعام المرضى الفقراء في أحد مستشفيات إشبيلية بإسبانيا، ولو كان الإسبان يعلمون ما يخبئه المستقبل، لأدركوا أن هذا التذكار التافه سيلعب ذات يوم الدور نفسه الذي لعبه في أرضه الأصلية، وإن اختلفت تضاريس مسيرته بعض الشيء.

فالبطاطس ستقدم، رغماً عن أنف أوروبا، ملاذاً من المجاعات، وستنمو في كل مكان. في بساتين الملوك، وحظائر الصيد، ومزارع الفلاحين، وحدائق العمال، في أية تربة.. غنية كانت أم فقيرة. وستصبح سلاحاً في يد الفلاح الطامح للحرية والاستقلال المادي عن الإقطاعي المسيطر، وأماناً له ولعائلته في الوقت نفسه من الجوع القارض. ولن تكون محصورة على الفلاح المتمرس، فلأنها لا تحتاج إلا إلى عناية اليد البشرية والمجراف، فستكون أداة شعبية أخرى، يجتمع الفلاح مع العامل مع الموظف على زراعتها. ومع الحليب أو أي من منتجاته لتوفير الكالسيوم وفيتاميني (أ) و(د)، ستقدم البطاطس نظاماً غذائياً كاملاً كانت جموع الفقراء تفتقده في كل بلد أوروبي والعالم. كما أن البطاطس تقي أيضاً من الإصابة بالاسقربوط، المرض الذي كان ملايين الأوروبيين يتعرضون له في ظل غياب قدرتهم على الحصول على الفواكه الغالية التي تؤدي الدور ذاته. وأخيراً، ستمد البطاطس طاولات الطعام بوجبات رخيصة وسريعة تستلزم أقل القليل من الأدوات الزراعية لإنباتها والوقود لطهيها، وهي سمات كان مطبخ الطبقة المتوسطة والفقيرة طيلة القرون الماضية في أمس الحاجة إليها.

إلا أن كل هذه المميزات، ويا للمفارقة، كانت غائبة عن أعين الأوروبيين في تلك الأوقات، إذ لم ير هؤلاء سوى أن البطاطس طعام يستطيع الفقراء الحصول عليه بسهولة، وأوروبا بطبقاتها المختلفة كانت ملكية أكثر من الملك، حتى أن الفقراء ترفعوا عن أكلها لأنهم كانوا يتفادون بيأس ملهوف كل ما من شأنه الإشارة إلى طبقتهم الاجتماعية.

وجزء من هذه الشهرة المسيئة للبطاطس يعود إلى الغزاة الإسبان في القرن السادس عشر، ليس بسبب ما عُرف عنهم من أنهم قطَّاع طرق لا يهتمون سوى بالغنائم والغنى المبتذل من ذهب أو فضة، ولكن لأنه كان من الصعب على أي كان في أواخر القرن السادس عشر بأن يتنبأ أن محصول العالم من البطاطس قد يقدَّر في نهاية القرن العشرين بأكثر من مائة بليون دولار أمريكي. غنيمةٌ تتجاوز بمراحل كل الذهب والفضة التي حرص الإسبان على حملها معهم إلى الديار من أمريكا الجنوبية. ويمكن لنا أن نتخيل كيف لبحار فظ أن يضحك ملء شدقيه إن تجرأ أحد ليذكر له الفكرة، ومن السهل أيضاً تخيل أن الضحك سيستمر حتى أواخر القرن الثامن عشر، وهو الزمن الذي بدأت فيه مزايا الثمرة تتضح للعيان.

الحقيقة، أن تضييع الأسبان لفرصة استثمار البطاطس لصالحهم لم يكن غباءً مجرداً، بل كان نتيجةً طبيعية للتعصب الطبقي الذي كان سمة تلك العصور. وبناءً عليه، إن كان العالم الجديد ببدائيته وبعده عن التحضر قد اعتمد على البطاطس غذاءً له بدلاً من الخبز، فهذا يعني أن الثمرة رديئة لا يليق بإسبانيا حضارياً أن تقترب منها ولا أن تعتمد عليها كقوت يومها.

هذا التعصب الطبقي لم يأت مباشرةً، فمدونات المستعمرين الإسبان الأوائل لم تذكر البطاطس كثيراً، إلا أنها في الحالات القليلة التي أتت فيها على ذكرها كانت تثني على مذاقها. إذ قال أحدهم عنها إنها «طعامٌ جيدٌ جداً، مذاقه ككستناء مسلوقة». وقال آخر «هي جذور مزهرة وطعمها طيب». أما الرحالة الإسباني بيرناب كوبو فقد انفرد بشق عصا الطاعة على هذه الآراء وذكر أن البرويين قد استبدلوا الخبز بطعام رديء (البطاطس) من دون طعم، كعادتهم في أكل أي شيء إن لم يكن يضرهم وإن كان ألف نوعاً من الصراصير المقرفة. إلا أنه عاد واستثنى البطاطس عندما تحضِّرها النساء الإسبان، ووقتها فقط تنتج أفضل الفطائر اللذيذة.

ظل الرأي العام في إسبانيا يرى البطاطس طعاماً دونياً يأكله السكان المحليون في العالم الجديد. وعندما اكتشف الإسبان منجماً للفضة في عام 1545م، استغل تجارهم وصفة التشونو البيروية وباعوها بثمن رخيص لعمالهم في المنجم، العمال الذين كانت طبقتهم الاجتماعية تشبه في كثير من الأوجه الرقيق، كي يزيد طين البطاطس بلة، فبهذا لم يعرف عن البطاطس إلا أنها طعام للرقيق أيضاً، ولذلك استبعد التجار أنفسهم تصديره من البيرو لإسبانيا، وهذا ما يفسِّر مدونةً لأحد الرحالة حول الحياة في المستعمرات، بعد سبعين سنة من اكتشاف الأسبان بالبطاطس، تصفها بأنها «طعامٌ لذيذ للهنود، وطعام أنيق حتى للإسبان أنفسهم». واللافت في الحديث عن البطاطس في هذا التقرير هو أنه يجد أن من الغريب والمثير للدهشة أن الهنود والإسبان قد يعجبون بصنف واحد من الطعام، وأيضاً أن البطاطس لا تزال مخلوقاً أجنبياً يستدعي التعريف به والحديث عنه، وتأكيد جدارته للاستهلاك الآدمي.

البطاطس في الزمن المرّ
في أمريكا، يقولون عن الشخص الكسول المستلقي أمام شاشة التلفزيون دون حراك «شوال البطاطس» (couch potato)، أو عن الشخص العبيط الذي لا يفكِّر (potato head)، أي رأس بطاطس. بينما يقول الفرنسيون إن الكسول تسري في عروقه دماء البطاطا، ويصفون ذلك الذي لا يجيد الرقص بأنه يرقص كجراب البطاطس. والطرافة التي نراها في هذه التعبيرات تأتي من استلطافنا للبطاطس اليوم، إلا أنها آتية من سياق سلبي متهكم، يحتقر البطاطس ويترفع عنها.

مع مطلع العام 1600م، كانت البطاطس قد وصلت، خلال ثلاثين سنة من اكتشافها، إلى إسبانيا وإيطاليا والنمسا وبلجيكا وهولندا وفرنسا وسويسرا وبريطانيا وألمانيا والبرتغال وإيرلندا.. ورغم أن القائمة مثيرة للإعجاب، إلا أن هذا مجرد تعداد ولا يعني أن البطاطس المترحلة من بلد لآخر وجدت في أي من هذه الدول بيتاً حقيقياً لها، فما يعنيه وصولها إلى هذه البلدان هو أنها احتلت موقعاً في حدائق علماء النبات ومنها إلى حدائق الملوك، كنبات زينة لأجل ورودها الأورجوانية، وليس لثمارها القبيحة الشكل التي لم تكن تستحق الحصاد في نظر أصحابها. وبينما رأى النبلاء زهورها متعة للناظرين، لم يجد فيها الفلاحون سوى شراً زؤوما عليهم اجتنابه. اختلاف نمو البطاطس عن بقية النباتات كان مثيراً لذعر رجل الشارع في القرن السابع عشر، فبقية النباتات التي خلقها الله تنمو بالبذور، وليس بجزء من الثمرة نفسها. أما ثمرتها التي كانت وقتذاك بحجم شجيرة صغيرة فرآها المزارع البسيط قبيحةً «لابد وأن يكون بينها وبين الأرواح الشريرة رابط»، ولابد أنها تتسبب في الإصابة بالدرن والجذام. في عام 1596م أتى النباتي جازبارد بوهين وصنَّفها ضمن ثمار الصولانين، وهي مادة شبة قلوية سامة توجد في براعم الطماطم، وتنتمي إليها مجموعة من النباتات ذات العصارة السامة كالتبغ وتفاح الجن، وبهذا اكتملت الدائرة حول البطاطس. الشيطان والأرواح الشريرة والجذام والدرن والمواد السامة ضيوف
لا ترغب أن تراهم على طاولتك. المفارقة، أن العلم الحديث أثبت أن الخرافات الأوروبية كانت محقة ولو بجزء بسيط جداً في الحذر من براعم البطاطس، فهي كبقية النباتات المنتمية لعائلة الصولانين، تنتج مادة شبه قلوية هي مادة القلويدات السترويدية، ومن سماتها السمية. وحتى اليوم لم يفهم العلماء ما وظيفة هذه المادة تحديداً، إلا أن هناك دلائل تشير إلى كونها مادة تبعد المفترسين، وتحمي البرعم وورق الشجر. بالتأكيد البطاطس المعافاة لا تسبب أي ضرر ولكن الإكثار من أكل المريضة منها يؤدي بالإنسان إلى المرض، ولأن الصولانين يتركز في قشرة البطاطس، فتقشير الثمرة المصابة جيداً يمحو المشكلة، كما أنه يسهل اكتشاف الصولانين إذا كان بمعدل ضار من خلال لون الثمرة الذي يصبح مائلاً إلى الاخضرار.

البطاطس في قفص الاتهام
في عام 1729م كتب جوناثان سويفت، صاحب رواية «رحلات جوليفر» المشهورة مقالاً هزَّ أرجاء إنجلترا وإيرلندا بعنوان «اقتراح متواضع». يبدأ المقال بوصف دبلن عاصمة إيرلندا التي أتى منها الكاتب، ويحكي عن الشحاذات اللاتي يجبن الشوارع وتجر كل واحدة منهن ثلاثة أو أربعة أو ستة أطفال. ويتوقع بأن الحال إن استمر على هذا المنوال فإن الوضع في المدينة لن يتحسن، لأن البطالة سادت البلد، والنقود أصبحت كائناً غير معروف للإيرلنديين. والحل، في رأي سويفت، أن يصدِّر الإيرلنديون الفقراء أطفالهم بدلاً من أن يصدِّروا اللحوم أو الدجاج. لحوم الأطفال، كما يشرح الكاتب، غنية بالعناصر المغذية التي سينتفع منها البريطانيون وبقية سكان أوروبا، وفي الوقت نفسه، فالاقتصاد الإيرلندي سينتعش من هذه التجارة التي لابد أن تحوز رضاء الكثيرين، وأولهم الإنجليز. المقال يدرَّس الآن كنموذج للأدب الساخر، إلا أنه حينئذ كان معبراً عن واقع البلاد. فقرٌ مدقع، وتضخم سكاني مريع، ومجاعة تلو مجاعة، وما من مخرج، عدا المخرج الذي اقترحه ابن البلد جوناثان سويفت بمرارة. وإن لم يكن هناك مخرج، لابد أن يكون هناك متهم تعلَّق برقبته مشاكل البلاد، ولم يجد المراقبون -وأكثرهم من الإنجليز- في ذلك الحين سوى البطاطس ليزجوا بها في القفص.

قدمت البطاطس لإيرلندا في نهاية القرن السادس عشر، واستقبلتها الأرض بترحاب بالغ. وكبقية الدول في أوروبا، كانت البطاطس ملائمة للتربة والمناخ الإيرلندي، ولكن على العكس من بقية الدول، اعتنق فلاحو إيرلندا البطاطس كبر أمان ضد موجات الآفات الاجتماعية التي ابتليت بها البلاد من بطالة وفقر وتضخم سكاني. وبالتدريج، ومع توالي المجاعات التي كان سببها ضعف محصول الشوفان، تحول الطعام الإيرلندي من اعتماده الكلي على خبز الشوفان إلى الاعتماد على البطاطس، فلم يأتِ العام 1780م إلا وكانت البطاطس قد تربعت على سدة حكم القوت اليومي للإيرلنديين، مع كونها رمزاً طبقياً للفقر، حيث انتشر مثل إيرلندي في ذلك الوقت يقول: «صلصة الرجل الفقير: بطاطا صغيرة يأكلها مع البطاطا الأم!». وبعدما تسيَّدت البطاطس القوت اليومي للإيرلنديين، تضاعف عددهم من 4 ملايين إلى ثمانية في غضون ستين عاماً فقط.

أثار التضاعف المتسارع الدهشة، ولكنه في هذه الحالة كان مثيراً للتساؤل: هل هناك رابط مباشر بين البطاطس والتضخم السكاني؟ بالنسبة للمعاصرين، لم يكن الأمر يحتاج إلى كثيرٍ من التأمل والدراسة. العلاقة واضحة وضوح الشمس. المراقبون الإنجليز -الذين أثارت نقمتهم الزيادة السكانية التي تهدِّد بغلبة كاثوليكية إيرلندا على بروستانتية إنجلترا- أشاروا إلى أن الزواج المبكِّر هو سبب ارتفاع نسبة المواليد في إيرلندا، والبطاطا الرخيصة كانت السبب الوحيد الذي يمكِّن فقراء إيرلندا من الزواج، حيث إن أي مزارع لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره يقدم على الزواج حالما يحصل على إيجار أقل من فدان من الأرض، فيزرعه كاملاً بالبطاطا الرخيصة، ويعيش مع زوجته وأولاده على جزء منه، ويدفع إيجار الأرض من الباقي. واقترح آنذاك أحد الكتَّاب على السلطات أن تمنع إقامة أي منزل على مزرعة تقل مساحتها عن خمسة فدادين، لأنه: «بذلك لن يكون هناك مزيد من البطاطا الرخيصة».

حصلت البطاطس اليوم على براءتها. إذ يقول الباحثون إن السبب وراء فقر إيرلندا لم يكن في البطاطس الطيبة، وإنما كانت القوانين التي تحيط بإيجار الأراضي وولايتها، وربما وجد مراقبو ذلك الزمان أن البطاطس ضحية طيِّعة يمكن مهاجمتها بسهولة، بدلاً من محاولة قلب قوانين ملكية الأراضي.

في إنجلترا: مسألة مبدأ
الإنجليز، بعيداً عن كل الحديث عن كون البطاطس طعاماً للفقراء، أو كونها مرتبطة بالأرواح الشريرة، أو حتى سبباً للإصابة بالجذام، كان لديهم اعتراض أولي على إضافة البطاطس إلى طعامهم. فالبطاطس تنتمي إلى الخضراوات، ونبلاء إنجلترا لم يكن للطعام مذاق لديهم إن لم يكن منتمياً بشكل أو بآخر للحوم. وحتى القرن التاسع عشر، يذكر الكتَّاب الإنجليز أن السَلَطات الباردة تحتاج لرشة فلفل كي تدفئ الدم، وأنها لم تؤكل أصلاً، وتحتوي على أقل القليل من المواد المغذية!!

كانت الطبقة المتعلمة تزرع البطاطس في حدائقها الخاصة، إلا أنها لم تتخلص تماماً من النظرة المتشككة التي تحيط بها، وهذا يظل ظاهراً حتى في تلك الكتابات التي تصب في مصلحة البطاطس حيث يتعامل معها الكتَّاب من بعيد، وكأنما ينصح بها الآخرين المحتاجين ولكنه يترفع هو عن أكلها.

فقد كتب الصحافي جون فروستر في عام 1664م مقالة طويلة يزعم فيها أن البطاطس تقدِّم علاجاً فعالاً وسهلاً لنقص الطعام، وتنبأ بأن البطاطس ستكون المعجزة الاقتصادية للبلاد إن زرعت بشكل جدي في إنجلترا وويلز، حيث سيجد عشرة آلاف رجل فقير قوتهم وقوت عيالهم. ولكي يثير اهتمام الملك تشارلز الثاني ملك إنجلترا في ذلك الوقت، اقترح فورستر عليه أن يسجِّل البطاطس باسمه، ثم يبيع الامتياز التجاري لزراعة البطاطس لبقية الأمم، وبالتالي يجمع الأرباح. ورغم حاجة الملك إلى المال، فإنه صرف نظره عن الاقتراح ولم يفكر بتبنيه. وكما تعامل فروستر مع البطاطس على أساس أنها المعجزة الاقتصادية التي ستنجد فقراء البلد، نجد جول إيفيلين، خبير البستنة الأشهر في ذلك الوقت، يكتب أن البطاطس مفيدة للفقراء وخدم العائلة عندما يعاني رب المنزل الإقطاعي من صعوبات مالية.

ثم، قامت الثورة الصناعية، وتسارعت وتيرة الحياة بشكل لم يعرفه العالم من قبل، حيث كانت مثلاً رحلة الصيف من أدنبرة إلى لندن تستغرق عشرة أيام في عام 1754م، ثم تقلَّصت لتصبح 4 أيام في 1776م، وثلاثة أيام في 1786م. كان هذا التسارع واضحاً في التوجه من الريف إلى المدينة، وساعد البطاطس على أن تكسر الحصار. وعندما استمر التغير حتى القرن التاسع عشر، ظهرت البطاطس وعليها الأمان.

في تلك الفترة، كانت إنجلترا تمر بفترة نمو سكانية ملحوظة. لم يكن هناك إحصاء سكاني، إلا أن التقديرات تشير إلى أن سكان البلاد بلغ عددهم في عام 1700م خمسة ملايين نسمة، وبحلول العام 1750م أصبح عددهم ستة ملايين تقريباً، ثم أصبحوا تسعة ملايين تقريباً في العام 1800م. وتوزع أكثرية هؤلاء السكان في المدن الصناعية كلندن ومانشستر وليفربول.

خلق النمو السكاني وتركزه في مناطق معينة حاجة إلى توزيع الطعام ونقله إلى العمال الذين انتقلوا من زراعة طعامهم بأنفسهم إلى شرائه من الدكاكين. ولم تكن هذه مهمة سهلة، فمع أن الوقت الذي يستغرقه إيصال البضائع من الريف إلى المدينة قد قل كثيراً بفضل المحرك البخاري، إلا أن عملية النقل نفسها لم تكن آمنة، نظراً لحالة الطرق الرديئة وتعرض المأكولات للتلف. وبذلك لم يجد سكان المدن سوى البطاطس لزراعتها أو شرائها ممن يزرعها في المدينة نفسها. وكانت لانكستر الصناعية أول المدن التي تبنت هذا الحل، وتقبلت البطاطس في أواخر القرن الثامن عشر، واشتهرت بطبق «يخنة البخار» الذي يعتمد على البطاطس واللحم والبصل والصلصة، وهو أول طبق يحتوي على البطاطس وتقبله الناس في إنجلترا.

إلى ذلك، هناك أسباب أخرى دفعت العامة لتقبل فكرة أكل البطاطس، وتأتي من الضرورة والحاجة أيضاً، حيث إن الثورة الصناعية أحضرت معها ساعات العمل الطويلة في المصانع ( بين 12 و16 ساعة يومياً) لكل أفراد العائلة، حتى الأطفال. ولم يكن لدى العائلة الوقت للأكل فكيف بالطبخ؟ وكيف تطبخ العائلة، وأغلب المنازل لم تكن تحتوي على أفران أو أدوات الطبخ المتوافرة في هذه الأيام، وإن توافرت، كان الوقود غالي الثمن ويستخدم معظمه لتدفئة المنزل، وليس للطبخ. لم يكن أمام العامة سوى ابتياع الخبز والبطاطا المسلوقة من الدكاكين.

ورويداً رويداً، عرفت شوارع إنجلترا البطاطس، وألفتها، وأحبتها، وتوجتها أميرة في مطاعمها عبر وجبة السمك والبطاطس المقلية «Fish and Chips» التي قال عنها ونستون تشرشل إنها الصحبة الطيبة. وظهرت لأول مرة رفقتهما في أواخر القرن التاسع عشر، حينما كان عمال المصانع يهرعون إلى خطوط الإنتاج قبل شروق الشمس في شوارع المدينة المظلمة، ويعودون في آخر الليل بعد ست عشرة ساعة من العمل المتواصل. وفي طريقهم، يعبرون على مطعم للسمك والبطاطس المقلية. لا نعرف متى بدأت هذه الصحبة تحديداً، إلا أننا نعرف أنهما وصلا منفصلين إلى الشارع البريطاني، وتشير الشواهد إلى أن السمك المقلي وصل إلى الشارع قبل البطاطس بثلاثة عقود، حيث ذكر تشارلز ديكنز في روايته «أوليفر تويست» التي نشرت مسلسلة بين العامين 1837 و1839م مطعماً للسمك المقلي وكأنما تمتلئ بمثل هذه المطاعم شوارع لندن، بينما لم تظهر وصفات قلي شرائح البطاطس الرفيعة إلا في ستينيات القرن التاسع عشر.

وعندما جالت في أوروبا
تشبث الفرنسيون بخوفهم من البطاطس أكثر من الإنجليز، وإن كانت هناك قلة حاولت دحض هذه الخرافات مثل روبير تورجوجاك، حاكم ليموج الذي تقول الروايات التاريخية إنه أقدم على أكل البطاطس علناً أمام مجموعة من المزارعين، وطلب منهم الجلوس إلى نفس الطاولة معه كي يروا أنها لم تصبه بأذى.

وفي العام 1771م نشرت هيئة دراسات باريس بحثاً تُقسم فيه أن البطاطس حميدة، بل ونافعة، ولكن أحداً لم يقتنع. وإن اقتنع البعض، كانت رغبتهم في الحفاظ على مظهرهم الاجتماعي أكثر إلحاحاً، فكيف يقدمون على طعام يصفه مثقفو العصر بأنه طعام الوحوش؟ وكانت هذه المعتقدات سارية في ألمانيا أيضاً، حيث اعتقد الفلاحون أن البطاطا تصيب بالسّل والكساح والدرن، وجادلوا الملك فردريك عندما صدر أمره بزراعتها لتأمن البلاد خطر المجاعات. ففي عام 1774م أرسلت مدينة كولبرج الألمانية رسالة للملك تقول فيها: «هذه الأشياء ليس لها طعم أو رائحة، وحتى الكلاب لا تستطيع أكلها، فما فائدتها؟». أصر الملك، وأطاع الشعب على مضض، ولكن بعد سنوات سبع من هذه الطاعة المزعومة، كان الفلاحون قريباً من جبال الألب ينتقلون من حكم إقطاعي إلى آخر عندما يصر سيدهم على أن تكون البطاطس جزءاً من قوتهم اليومي. وفي روسيا، قررت الإمبراطورة كاثرين أن البطاطس «شيءٌ جيّد» ولم تستمع إلى الملتزمين الكاثوليك الذين اعترضوا على زراعة نبات لم يذكر في الإنجيل. وافق البعض على ما قررته الإمبراطورة، ولكن الغالبية العظمى من الروس كانت تعتقد أن البطاطس هي السبب الأول للإصابة بالكوليرا، ولم تنتشر زراعتها إلا في العام 1850م بقرار من القيصر نيكولاس الأول.

أنطونيو أوجستين بارمينتير..
15 ألف صفحة عن البطاطس
لم يكن لدى فرنسا فردريك ولا كاثرين، بل كان لديها أنطونيو أوجستين بارمينتير. ففي حرب السنوات السبع، التي اشتركت فيها كل الدول الأوروبية تقريباً بين العامين (1756 و1763م) كان بارمينتير ملتحقاً بالجيش الفرنسي كصيدلاني، وسقط في أسر الألمان الذين أجبروه في السجن على أكل البطاطس، الثمرة التي كان يظن أنها خلقت لتكون علفاً للخنازير. ولم يقدم له الجنود سواها. وعندما عاد إلى فرنسا بعد انتهاء الحرب سليماً معافىً، كانت البطاطس قد كسبته حليفاً ونصيراً وصديقاً. درس الكيمياء، وطبق مبادئها على دراسة البطاطا، وفي عام 1770م تقدم بمقال لمسابقة أقامتها إحدى الأكاديميات العلمية في فرنسا، وكان مقاله حول فائدة البطاطس وقيمتها الغذائية لمرضى الدوسنتاريا. فاز الرجل بالجائزة، ونتيجة لذلك ألغي القانون الذي أصدره البرلمان الفرنسي عام 1748م بتجريم زراعة البطاطس بناءً على الاعتقاد الشائع بتسببها بالجذام.

وفي عام 1772م صدر قرار من هيئة باريس الطبية يبيح تناول البطاطس ويشجِّع عليه. وتنبه لويس الخامس عشر ملك فرنسا في ذلك الوقت لإخلاص بارمينتير للبحث فأسبغ عليه منحة ملكية ليتفرغ للدراسة، واستغلها بارمينتير في سبيل البطاطا، حيث رآها المنقذ الوحيد لأمته من الجوع.. ولم يتوقف منذ ذلك الوقت عن الدفاع والكتابة عنها. وكان واسع الحيلة ظريفاً ساخراً، فبالإضافة إلى الخمسة عشر ألف صفحة التي دونها للحديث عن البطاطس وفائدتها، كان يقيم دعوات العشاء الفاخرة للحاشية الملكية والنبلاء، ويقدم لهم وجبات كاملة مكونة من عشرين طبقاً وأكثر، وكلها تعتمد في مكوناتها الأساسية على البطاطس. وعندما تولى لويس السادس عشر الحكم، أقنعه بارمينتير بجمال وتفرد زهرة البطاطس حتى أصبح الملك يضعها في عروة سترته.

ومن لويس السادس عشر التقطتها ماري آنطوانيت، وأصبحت زهرة البطاطس بلونها الأرجواني الموضة الرائجة في البلاط الملكي. ومرة أخرى أقنع بارمينيتر الملك بالسماح له بتجربة عامة، دحضاً للرأي القائل بأن زراعة البطاطس تفسد التربة، فقرَّر أن يثبت أن العكس صحيح، وأن البطاطس تهزم أسوأ أنواع التربة وأقساها، ولذلك اختار خمسين فداناً في إحدى ضواحي باريس المقفرة عام 1786م، وزرع البطاطا فيها، وبخبثه المعهود عيَّن حراساً حولها خلال النهار فقط ليلفت الانتباه إلى «قيمة» الثمرة المزروعة، وكما كان يأمل، أقدم المزارعون على زيارة المزرعة في الليل لسرقة البطاطس. حيلة استخدمها كثيراً بعد ذلك، وفي أكثر من منطقة. أكسبته إنجازاته ولفتاته الذكية ميدالية من الملك، وثناءً مستحقاً من زملائه العلماء.

وبعد المجاعة التي هزَّت فرنسا في عام 1788م، استمعت الهيئة الفرنسية للتموين لنصائح المواطن الصالح بارمينتير، وطبعت عشرة آلاف مطوية كتبها حول زراعة البطاطس، ووزعت على كل القرى والبلديات. وأسبغ التغير الجمهوري في فرنسا في ذلك الحين على البطاطس عباءة شعبية، حيث إن الجمهوريين حملوها على الأكتاف هاتفين بفوائدها، وأولها حماية النظام الجمهوري الجديد من السقوط في حال تكررت المجاعات. وبالتالي أصبحت البطاطس منقذاً لحرية المزارع السياسية الجديدة، ورمزاً لخلاصه من الإقطاعيين الظلمة. ومع ذلك، لم يكن الكل مقتنعاً بأهمية البطاطس، فعلى سبيل المثال، عندما ترشح بارمينتير لمنصب أمين بلدية باريس اعترض أحد الناخبين ناقماً: «سوف يجبرنا على أكل البطاطس، هو أصلاً من اخترعها!»، وبالفعل، خسر الرجل الذي «اخترع البطاطس» الانتخابات. ولكنه توفي عام 1813م منتصراً بعد أن تضاعف إنتاج البطاطس خمسة عشر ضعفاً نتيجة لجهوده.

المحارب الأخير
في عام 1818م كتب المزارع والصحافي البريطاني وليام كوبيت غاضباً في مقاله الأسبوعي: «هي الموضة الآن أن نأكل البطاطس! الكل يتغزل في محاسنها وكل العالم يحبها، أو يتظاهر بحبها، والنتيجة واحدة».

أن يأتي هذا الحديث بعد أحزان المجاعات التي أنهكت سكان إنجلترا بين الأعوام 1795 و1800م، والتي انتهت على يد البطاطس، والبطاطس وحدها، أمرٌ مستغرب، ولكن أن يأتي من أكثر مفكري بريطانيا تحرراً في ذلك الوقت، ويليام كوبيت، فهو أمر مذهل، ويدعو للعجب. إلا أننا لن نستغرب كثيراً إن عرفنا أكثر عن الرجل. إذ يقول معاصروه إن العامل المشترك بين كل مواقفه المختلفة هو حبه الشديد للمعارضة وتمرده على السلطة، وكرهه للجديد. كان كوبيت يعلن دعمه اللامحدود لمصلحة المزارع البريطاني الصغير، ويعلن في الوقت نفسه بتمرد عجيب كرهه لعشرات الأشياء الأخرى. يكره المدن. البرلمان. الضرائب. شرب الشاي. مسرحيات شكسبير. اليهود. أما البطاطس، فقد كانت كرهه الأول والأخير. يسميها «جذور القذارة، النفاية، البؤس، والعبودية». في رأيه، هي الموت الاجتماعي والروحي، ومن يناصرها هو إما مصابٌ بالعمى، أو باع روحه للشيطان. ولأن السير والتر راولي كما هو شائع قد قدَّم البطاطا لإنجلترا فهو من أشر أشرار الأرض، والحمد لله أنه قد لقي جزاؤه شنقاً، وبناءً عليه فإن كوبيت يرى أنه يفضل رؤية الفلاحين والعمال الإنجليز مشنوقين، وهو معهم، على أن يعيشوا ليأكلوا «الثمرة الكسول».

في السنوات الأخيرة من حياته، كتب كوبيت: «فكرة أن البطاطس قد تحفظنا من المجاعة تميتني ضحكاً، أو أن البطاطا قد تجاور الخبز وتتفوق عليه.. بما أنها طعام القطعان من غنم وخنازير، هذه أسوأ المحاصيل التي يمكن الحصول عليها، ولكني قلت هذا كثيراً من قبل، ولذلك الآن أصرف البطاطس مع الأمل بألا أضطر مرة أخرى للكتابة عنها، أو حتى رؤيتها».

توفي كوبيت عام 1835م، ولم يتحقق أمله حتى الآن، ولا يبدو أنه قد يتحقق في المستقبل.

الحلم الأمريكي
وصلت البطاطس إلى أمريكا في العام 1621م، وكانت تسمى بالبطاطس الإيرلندية تمييزاً لها عن عدد من أنواع الخضراوات التي أُطلق عليها الاسم ذاته، أما البطاطا الحلوة فكانت تسمى البطاطا الإسبانية.

وفي منتصف القرن الثامن عشر، وبينما كانت البطاطس تحاول إقناع الشعوب الأوروبية بجدواها، احتلت مكانها معزَّزة مكرَّمة في أمريكا، بل إن الكونجرس الأمريكي أشار إلى أن البحارة يجب أن يأكلوا اللفت أو البطاطس ثلاثة أيام في الأسبوع كجزء من تموينهم. أصبحت البطاطس خلال قرن واحد من أهل البيت في أمريكا، ولم تجد أياً من المصاعب التي لاقتها في طريقها لقلب القارة الأوروبية.

أتت البطاطس المقلية كما نعرفها اليوم كوصفة مغمورة اعتاد الطباخ الفرنسي أونرو جوليان طبخها لمستخدمه الرئيس الأمريكي توماس جيفرسون، ومن هنا كسبت قلوب الشعب الأمريكي وعرفها باسمها الحالي: المقليات الفرنسية (French fries). ولكنها لم تكتسح العالم إلا عندما قرر الإخوة ديك وماك ماكدونالد تقديمها ضمن مطعمهما الصغير الذي افتتحاه في كاليفورنيا عام 1940م. وفي عام 1948م بدأ الإخوة ماكدونالدز بتطبيق نظام الخدمة السريعة، مما أسس لأول مرة مفهوم مطاعم الوجبات السريعة.

كانت البطاطس المقدَّمة في المطاعم الأولى مريعة أحياناً، وذلك لأن أنواع البطاطس التي تقدَّم كانت مختلفة، القلي يناسب بعض الأنواع كالبطاطا «الروسيتس» التي تفضلها مطاعم ماكدونالدز، بينما لايناسب البقية كبطاطا «فنغرلنج». ولأن البطاطا «الروسيتس» لا تتوافر على مدار السنة، أقدمت الشركة بقيادة راي كورك الذي ابتاع امتيازها التجاري على إنفاق ملايين الدولارات على الأبحاث كي يوفقوا إلى أفضل نوع مناسب للبطاطس المقلية، إلى أن أتت القفزة مع ابتكار جون ريتشارد سيمبلوت البطاطس المجمدة، والتي سجل براءة اختراعها عام 1953م، مما عاد عليه في وقتٍ لاحق بالبلايين.

وفي عام 1967م اتفق الاثنان، كورك وسيمبلوت، على تزويد ماكدونالدز بالبطاطس طوال العام. وفي آخر إحصاءات أجرتها مجموعة أبحاث أمريكية، اتـضـــــــح أن شــــركــة سيمبلوت ما زالت تزود نصف سلاسل المطاعم الأمريكيـــــة للوجـــــبات السريعة بحاجتها من البطاطس المجمدة. والبطاطس المقلية اليوم، مع أن اسمها ينسبها من دون شك للفرنسيين، أصبحت رمزاً للثقافة الشعبية الأمريكية والقوة التي تمارسها في تشكيل وجه العالم اليوم.

البطاطس في منزلك
إن زراعة البطاطا في منزلك ليست أمراً صعباً، وتشبه التعامل مع صداقة جديدة بالغة الود والدفء، بدءاً من اختيار درنات البطاطا الصديقة، سليمة، وخالية من الأمراض، ثم وضعها في مكان دافئ ووافر الضوء لمدة عشرة أيام قبل الزراعة، لتنمو براعمها. ولكي تحصل على كمية تراوح بين 2 و4 كلغم من البطاطس الطازجة، ما عليك سوى أن توفر ثلاث درنات صغيرة، بارتفاع 7سم تقريباً، ودلو يبلغ قطره 50 سم تقريباً، وتربة. وإذا كنت في منطقة معتدلة، قم بالزراعة في منتصف فصل الربيع، أما إذا كنت في منطقة استوائية ففي مقدورك أن تزرع البطاطا على مدار العام. بعد الأيام العشرة التي قضتها الدرنات في ضيافة الشمس والدفء، وبعد أن تصبح براعم البطاطا قوية صلبة، افتح فتحة تصريف في قاع الدلو. ثم املأ الدلو حتى ثلثيه بالتربة. وبعناية صديق اضغط على أجزاء البطاطا المعدة للزراعة إلى الأسفل لإدخالها في التربة مع إبقاء براعمها متجهة إلى الأعلى. ثم املأ الجزء المتبقي من الدلو بالكمبوست أو التربة. ولتسهيل عملية التصريف ضع الدلو فوق آجرات، وذلك في مكان ذي إضاءة معقولة. حيث إن درجة الحرارة المثالية تبلغ من 10 إلى 15 مئوية. الشمس، والماء، عنصران مهمان في زراعة البطاطا، على أن يراعى الاعتدال في كليهما خلال رعاية البطاطا.

من المهم أن يضاف المزيد من التراب حول قاعدة النباتات مرتين أو ثلاثاً خلال موسم الزراعة. وأن تبقى مروية بصورة جيدة وبوجه خاص حينما يبدأ ظهور الأزهار.

يتعين أن تكون التربة رطبة وليست جافة. ولكن احذر من الإفراط في الري كيلا تصاب الأوراق بالعفن. ويفضَّل الري كل يومين أو ثلاثة. ولكي تصبح الدرنات أكبر حجماً قم بإزالة أية أزهار تنتجها النبتات. وحينما يتحول لون أوراق النبتة إلى اللون الأصفر وتبدأ تموت، توقف عن الري. وبعد أسبوعين إلى ثلاثة ستكون الدرنات الموجودة تحت التربة قد أصبحت حبات بطاطا صغيرة يمكنك أن تقوم بحصادها. أما إن أردت الحصول على درنات أكبر حجماً فعليك الانتظار مدة أربعة إلى ستة أسابيع أخرى. إذا اخترت أن تنتظر الأسابيع الثلاثة أو الستة، فإن أوان الحصاد يحل بنهاية أحد الزمنين، اختر طقساً جافاً للحصاد ثم قم بتفكيك التربة بلطف ثم مدّ يدك تحت النبتة لإزالة الدرنات الكبيرة. ويمكنك إبقاء الدرنات الصغيرة كي تواصل نموها. وإن كنت تريد تخزين درناتك فاتركها تجف على سطح التربة في الشمس لمدة ساعة. ثم اخزن درناتك على رفّ في مكان بارد ومعتم وجاف وجيد التهوية. حيث إن البطاطا المجففة والمخزنة بصورة صحيحة تبقى سليمة لمدة تصل إلى ستة أشهر.

في طهو البطاطس
إنها البطاطا اللذيذة .. مشوية ومسلوقة ومخبوزة.. تقدم الأصناف الحديثة من البطاطا مجموعة عريضة من خصائص الطهو التي تناسب أطباقاً مختلفة وشهية. حيث يمنح بعضها الشوربات كثافة قشدية، ما يضفي عليها مذاقاً رقيقاً يبرز المكونات الأخرى للشوربة.

أما البطاطس المخبوزة فهي تقدم كوجبة خفيفة وبسيطة أو تقدم مع الفطائر المحشوة كوجبة كاملة. كما تعدّ البطاطا المشوية -بهشاشتها ولونها الذهبي من الخارج ورِقَّتها من الداخل- أفضل رفيق يقدم إلى جانب اللحم المشوي. ويقال إن البطاطا المهروسة الناعمة القشدية هي «الغذاء المقنع الذي لا يعلى عليه». بينما تعدّ البطاطا «غير الناضجة» المطهوة بتعريضها للبخار أو مسلوقة طعاماً شهياً من نوع خاص.

وتعدّ البطاطس من الخضار الأكثر شعبية في العالم، كما لاقت الترحاب في مطابخ مختلف البلدان في العالم. حيث تستخدم في الكري في الهند وفي الباستا في إيطاليا، وتصنع منها يخنة مع الموز في كوستاريكا، وتخبز مع الأرز في إيران وتحشى بالكبد في بيلاروس، وتقلى ممزوجة مع الفاصوليا الخضراء في إثيوبيا، وتطهى في سائل على درجة الغليان مع سمك الحَدوق المدخَّن في شوربات الشتاء في فنلندا.

يكمن سرّ نجاح البطاطس في تنوعها الكبير. حيث تأتي البطاطس في مكان ولادتها بجبال الأنديز في صورة آلاف من الأصناف «البلدية» التي يتمتع كل منها بلون وقوام ومذاق مميز (ففي بيرو يمكن أن تحتوي سلطة البطاطا على ثلاثة أو أربعة أنواع مختلفة من البطاطا).

تعدّ غالبية وصفات إعداد المأكولات من البطاطس سهلة التحضير. غير أن انتقاء الصنف المناسب ضروري للحصول على طبق جيد حيث تصنف البطاطس في المطبخ تبعاً لمحتواها من النشا لأنه هو الذي يحدد كيفية استجابتها للطهو. وبصورة أساسية، كلما ازداد محتوى البطاطا من النشا زادت سهولة انفجار خلايا النشا في الدرنة عند تسخينها.

يتباهى الفرنسيون بأنهم مخترعو البطاطس المقلية المسمّاة «المقليّات الفرنسية» (French Fries).. هذا الطعام الذي راج عالمياً إلى درجة جعلت تسميته رمزاً للإبداع في فن الطبخ. وهذا ما دفع الأمريكيين خلال خلاف سياسي مع فرنسا إلى تغيير اسم هذه الوجبة البسيطة وكأن في الأمر تعديلاً لموازين التفوق. غير أن المظالم التي تعرَّضت لها هذه الثمرة خلال تاريخها تكاد تحصر الفضل في ظهورها ورواجها وانتصارها الكبير إلى مزاياها دون غيرها. إذ ظلت لأكثر من قرنين بعد اكتشافها محتقرة من قبل الفقراء قبل الأغنياء. وراجت حولها شتَّى التهم والأفكار الخرافية، غير أنها وببطء شديد فرضت نفسها بنفسها لتصبح اليوم غذاءً أساسياً أينما كان في العالم، وربما مخرجاً من أزمة الغذاء العالمية حسبما جاء في أحد تقارير هيئة الأمم المتحدة.

ونبدأ بتاريخ البطاطس الذي يكاد يختصر تاريخ المجتمعات وأحوالها الاقتصادية والثقافية أينما غرست نبتتها.

عرفت سهول الأنديز في البيرو وتشيلي زراعة البطاطس لأكثر من ثمانية آلاف سنة، ووجد علماء الآثار في الأطلال التي تشهد على تاريخ تلك المنطقة بقايا بطاطس تعود لأكثر من خمسمائة سنة قبل الميلاد. كما عرف هنود حضارة الأنكا التي قامت بين العام 1200م و1572م هذه الثمرة، وذكروها في صلاتهم كقوتهم اليومي، وأدرجوها مع أكفان موتاهم. خزَّنوها لأكلها في الحروب والمجاعات.. جفَّفوها وطبخوها بصلصة الطماطم وحملوها معهم رفيقاً أميناً في رحلاتهم الطويلة، وعندما كان محصولها يصاب بالفشل لسببٍ أو لآخر، كانت تقوم الدنيا ولا تقعد، فيساق البعض من سيئي الحظ لتقطع أنوفهم، اعتقاداً من البقية أن هذه الوسيلة الوحيدة لاسترضاء البطاطس.

وعندما وطأ الإسبان أرض البيرو غازين وباحثين عن ذهب الأنكا، كانت البطاطس أمامهم تنتظر مستكشفاً بعيد النظر ليرى ما قد تقدِّمه هذه الثمرة الغنية للعالم أجمع، وطال انتظارها أكثر من قرنين من الزمان كي يكتشف العالم الغربي أهميتها، وقرنين آخرين كي يدرك العلم على نطاق واسع غناها. إلا أن الدلائل على تميز البطاطس كانت طوال الوقت أمام أعين الجميع، وأولها قدرة هذه الثمرة على شق طريقها في أرض قاسية كسهول الأنديز، فهذه النجود القاحلة ترتفع عن مستوى سطح البحر أكثر من اثني عشر ألف قدم، وأي مخلوق يتواجد عليها وتصلح له سكناً لابد أن يكون مثابراً صبوراً. وكما ينطبق هذا على سكان الأنديز، فإنه ينطبق على قوتهم اليومي أيضاً.

فالبطاطس تعيش في منطقة لا تعرف الاعتدال. الأرض التي لا يحول بينها وبين أشعة الشمس حائل في النهار، تقف عزلاء مستكينة أمام صقيع الليل، وهذا التفاوت الهائل في درجات الحرارة التي تتعرَّض لها التربة ذاتها خلال اليوم الواحد لا يقف عقبة فقط أمام النمو الطبيعي للنباتات، بل يعني أيضاً تعرضها لهذه التقلبات الجوية، سواء أكانت جفافاً أم صقيعاً، على مدار السنة. وتحت أحوال كهذه، ليس للنباتات الحسّاسة كالقمح أو الذرة أو الشعير مكان. أشجار قليلة جداً هي التي تستطيع البقاء في أرض قد لا ترتوي بقطرة مطر لأكثر من سنة، أما ثمار هذه الأرض، فهي ثمار قزمية ملتصقة بها، وأولها البطاطس.

البطاطس، عروس الأنديز، تزهو بمواءمتها لهذه الأرض، إذ يستطيع بعض فصائل البطاطس العيش في تربة تعلو عن مستوى سطح البحر أكثر من خمسة عشر ألف قدم، وقشرتها السميكة تحميها على الدوام، وخاصة خلال تعرض المنطقة لنوبة صقيع تجمّد كل ما تقابله، أو نوبة جفاف تمتص الحياة، وتقاوم لأكثر من سبعة شهور. فالبطاطس تنمو في أقسى وأكثر الترب فقراً، وفي أي سطح يمكنها التواجد فيه، ولذلك هي -بأنواعها التي تتجاوز 230 نوعاً- هبة لا تقدَّر بثمن على سهول الأنديز، وهذه الأنواع هي التي سمحت لسكان السهول في الماضي تخير وزراعة أكثرها ملاءمة للظروف المناخية، وهي ذاتها التي سمحت للأوروبيين، وإن كان في مرحلة متأخرة من القرن التاسع عشر، بمقاومة الآفات التي حاقت بمحاصيل البطاطس عبر اختيار فصائل أخرى خالية من الأمراض وتقديمها في أسواقهم.

ليس توافق البطاطس مع تطرف الأرض هو السبب الوحيد الذي جعلهم يقدمون عليها كقوت يومهم، هناك أسباب أخرى دفعتهم لذلك، ومنها أن الأرض الزراعية كانت نادرة، وعادة ما تكون متفرقة على امتدادات ضيقة، فيضطر المزارعون إلى حرثها بأنفسهم من دون مساعدة آلية أو حيوانية. ولم تخيِّب البطاطس المزارع الصبور، فهي لا تحتاج إلا لعناية يده ومجرافه، والثمرة الواحدة تحمل عدة براعم تعده بالخير الكثير.

لم تكن الصعوبات أمام المزارع وعائلته تنتهي بالحصول على الطعام، فالوقود في تلك الأرض كان أندر حتى من مساحاتها المزروعة، والصقيع ينهي ما تبقى فيجمد كل ما تحتويه مخازن القرية. والبطاطس التي تحمل أكثر من %80 من وزنها ماء كانت معرَّضة لمصير مشابه لباقي الأطعمة، وربما كانت أولها تعرضاً له، إلا أن الأنكا وجدوا حلاً مبتكراً حوّلوا فيه حساسية البطاطس من الصقيع لصالحهم، فكانوا يقتسمون بعضاً من محاصيل البطاطس، والباقي يتركونه معرضاً لصقيع الأرض القارس في عتمة الليل، حتى تتجمد مياه الثمرة، فإن أتى النهار بحرارته، يذوب الجليد عن البطاطس، ويتكفل الأهالي بطرقهم التقليدية بعصر الثمرة حتى لا يبقى فيها إلا أقل القليل من الماء، وبالتالي تصبح عصية على هجوم الصقيع، ويجمعونها في سلال يخبؤها في غرف مقفلة بإحكام. هذه البطاطس التي عرفها أهل الأنديز باسم «تشونو» chuno كانت لا تستغرق سوى دقائق لتنضج وتصبح جاهزة للأكل بعد وضعها في الماء المغلي. اليوم لا نفكر إلا في البطاطس المقلية كجزء من مفهوم الوجبات السريعة، إلا أن التشونو سبقها بمئات السنين. أضف إلى ذلك أن التشونو كان يبقى صالحاً للأكل حتى سنوات عشر، مما يعني ضماناً استثنائياً ضد مجاعة ممكن أن تضرب المنطقة في أي وقت.

من جهة أخرى تقدم البطاطس على الطاولة قيمة غذائية متفوقة على غيرها من الخضراوات. إذ يقول العلم اليوم إن البطاطس توفر كل العناصر المغذية التي يحتاجها الجسم، عدا الكالسيوم وفيتاميني (أ) و(د)، مما يعني أن نظاماً غذائياً معتمداً على البطاطس والحليب يمكن أن يمد الجسم بكل ما يحتاجه. ويوفر الفدّان الواحد المزروع بالبطاطس لعشرة أشخاص طاقتهم السنوية وحاجتهم من البروتين، وهو شيء لا يمكن أن نقوله عن الذرة، أو الأرز، أو فول الصويا، أو حتى القمح.

ضحية التعصب الطبقي أولاً
بعد أكثر من ثلاثين سنة من اكتشافهم للبطاطس في الأنديز، حمل أحد الغازين الإسبان هذه الثمرة الغريبة معه إلى دياره.. وليس لنا أن نفترض أن هذا البحار كان مدركاً لما يقدِّمه لبلاده عبر هذه الثمرة الصغيرة التي حفظها في جيب سترته الداخلية. بل يرجِّح الباحثون أنه لم يحملها إلا كتحفة أو تذكار لغزوته، ومثالاً على طرافة وغرابة الأرض التي تنتمي إليها، وبالتالي، لم يكن ليدري أنه بهذه الرحلة، كان أول من عرَّف إسبانيا، والعالم من بعدها، على البطاطس.

فبعد سنوات ثلاث من هذه الواقعة بدأت البطاطس «مستقبلها المهني» في أوروبا، حيث استخدمها الأطباء لإطعام المرضى الفقراء في أحد مستشفيات إشبيلية بإسبانيا، ولو كان الإسبان يعلمون ما يخبئه المستقبل، لأدركوا أن هذا التذكار التافه سيلعب ذات يوم الدور نفسه الذي لعبه في أرضه الأصلية، وإن اختلفت تضاريس مسيرته بعض الشيء.

فالبطاطس ستقدم، رغماً عن أنف أوروبا، ملاذاً من المجاعات، وستنمو في كل مكان. في بساتين الملوك، وحظائر الصيد، ومزارع الفلاحين، وحدائق العمال، في أية تربة.. غنية كانت أم فقيرة. وستصبح سلاحاً في يد الفلاح الطامح للحرية والاستقلال المادي عن الإقطاعي المسيطر، وأماناً له ولعائلته في الوقت نفسه من الجوع القارض. ولن تكون محصورة على الفلاح المتمرس، فلأنها لا تحتاج إلا إلى عناية اليد البشرية والمجراف، فستكون أداة شعبية أخرى، يجتمع الفلاح مع العامل مع الموظف على زراعتها. ومع الحليب أو أي من منتجاته لتوفير الكالسيوم وفيتاميني (أ) و(د)، ستقدم البطاطس نظاماً غذائياً كاملاً كانت جموع الفقراء تفتقده في كل بلد أوروبي والعالم. كما أن البطاطس تقي أيضاً من الإصابة بالاسقربوط، المرض الذي كان ملايين الأوروبيين يتعرضون له في ظل غياب قدرتهم على الحصول على الفواكه الغالية التي تؤدي الدور ذاته. وأخيراً، ستمد البطاطس طاولات الطعام بوجبات رخيصة وسريعة تستلزم أقل القليل من الأدوات الزراعية لإنباتها والوقود لطهيها، وهي سمات كان مطبخ الطبقة المتوسطة والفقيرة طيلة القرون الماضية في أمس الحاجة إليها.

إلا أن كل هذه المميزات، ويا للمفارقة، كانت غائبة عن أعين الأوروبيين في تلك الأوقات، إذ لم ير هؤلاء سوى أن البطاطس طعام يستطيع الفقراء الحصول عليه بسهولة، وأوروبا بطبقاتها المختلفة كانت ملكية أكثر من الملك، حتى أن الفقراء ترفعوا عن أكلها لأنهم كانوا يتفادون بيأس ملهوف كل ما من شأنه الإشارة إلى طبقتهم الاجتماعية.

وجزء من هذه الشهرة المسيئة للبطاطس يعود إلى الغزاة الإسبان في القرن السادس عشر، ليس بسبب ما عُرف عنهم من أنهم قطَّاع طرق لا يهتمون سوى بالغنائم والغنى المبتذل من ذهب أو فضة، ولكن لأنه كان من الصعب على أي كان في أواخر القرن السادس عشر بأن يتنبأ أن محصول العالم من البطاطس قد يقدَّر في نهاية القرن العشرين بأكثر من مائة بليون دولار أمريكي. غنيمةٌ تتجاوز بمراحل كل الذهب والفضة التي حرص الإسبان على حملها معهم إلى الديار من أمريكا الجنوبية. ويمكن لنا أن نتخيل كيف لبحار فظ أن يضحك ملء شدقيه إن تجرأ أحد ليذكر له الفكرة، ومن السهل أيضاً تخيل أن الضحك سيستمر حتى أواخر القرن الثامن عشر، وهو الزمن الذي بدأت فيه مزايا الثمرة تتضح للعيان.

الحقيقة، أن تضييع الأسبان لفرصة استثمار البطاطس لصالحهم لم يكن غباءً مجرداً، بل كان نتيجةً طبيعية للتعصب الطبقي الذي كان سمة تلك العصور. وبناءً عليه، إن كان العالم الجديد ببدائيته وبعده عن التحضر قد اعتمد على البطاطس غذاءً له بدلاً من الخبز، فهذا يعني أن الثمرة رديئة لا يليق بإسبانيا حضارياً أن تقترب منها ولا أن تعتمد عليها كقوت يومها.

هذا التعصب الطبقي لم يأت مباشرةً، فمدونات المستعمرين الإسبان الأوائل لم تذكر البطاطس كثيراً، إلا أنها في الحالات القليلة التي أتت فيها على ذكرها كانت تثني على مذاقها. إذ قال أحدهم عنها إنها «طعامٌ جيدٌ جداً، مذاقه ككستناء مسلوقة». وقال آخر «هي جذور مزهرة وطعمها طيب». أما الرحالة الإسباني بيرناب كوبو فقد انفرد بشق عصا الطاعة على هذه الآراء وذكر أن البرويين قد استبدلوا الخبز بطعام رديء (البطاطس) من دون طعم، كعادتهم في أكل أي شيء إن لم يكن يضرهم وإن كان ألف نوعاً من الصراصير المقرفة. إلا أنه عاد واستثنى البطاطس عندما تحضِّرها النساء الإسبان، ووقتها فقط تنتج أفضل الفطائر اللذيذة.

ظل الرأي العام في إسبانيا يرى البطاطس طعاماً دونياً يأكله السكان المحليون في العالم الجديد. وعندما اكتشف الإسبان منجماً للفضة في عام 1545م، استغل تجارهم وصفة التشونو البيروية وباعوها بثمن رخيص لعمالهم في المنجم، العمال الذين كانت طبقتهم الاجتماعية تشبه في كثير من الأوجه الرقيق، كي يزيد طين البطاطس بلة، فبهذا لم يعرف عن البطاطس إلا أنها طعام للرقيق أيضاً، ولذلك استبعد التجار أنفسهم تصديره من البيرو لإسبانيا، وهذا ما يفسِّر مدونةً لأحد الرحالة حول الحياة في المستعمرات، بعد سبعين سنة من اكتشاف الأسبان بالبطاطس، تصفها بأنها «طعامٌ لذيذ للهنود، وطعام أنيق حتى للإسبان أنفسهم». واللافت في الحديث عن البطاطس في هذا التقرير هو أنه يجد أن من الغريب والمثير للدهشة أن الهنود والإسبان قد يعجبون بصنف واحد من الطعام، وأيضاً أن البطاطس لا تزال مخلوقاً أجنبياً يستدعي التعريف به والحديث عنه، وتأكيد جدارته للاستهلاك الآدمي.

البطاطس في الزمن المرّ
في أمريكا، يقولون عن الشخص الكسول المستلقي أمام شاشة التلفزيون دون حراك «شوال البطاطس» (couch potato)، أو عن الشخص العبيط الذي لا يفكِّر (potato head)، أي رأس بطاطس. بينما يقول الفرنسيون إن الكسول تسري في عروقه دماء البطاطا، ويصفون ذلك الذي لا يجيد الرقص بأنه يرقص كجراب البطاطس. والطرافة التي نراها في هذه التعبيرات تأتي من استلطافنا للبطاطس اليوم، إلا أنها آتية من سياق سلبي متهكم، يحتقر البطاطس ويترفع عنها.

مع مطلع العام 1600م، كانت البطاطس قد وصلت، خلال ثلاثين سنة من اكتشافها، إلى إسبانيا وإيطاليا والنمسا وبلجيكا وهولندا وفرنسا وسويسرا وبريطانيا وألمانيا والبرتغال وإيرلندا.. ورغم أن القائمة مثيرة للإعجاب، إلا أن هذا مجرد تعداد ولا يعني أن البطاطس المترحلة من بلد لآخر وجدت في أي من هذه الدول بيتاً حقيقياً لها، فما يعنيه وصولها إلى هذه البلدان هو أنها احتلت موقعاً في حدائق علماء النبات ومنها إلى حدائق الملوك، كنبات زينة لأجل ورودها الأورجوانية، وليس لثمارها القبيحة الشكل التي لم تكن تستحق الحصاد في نظر أصحابها. وبينما رأى النبلاء زهورها متعة للناظرين، لم يجد فيها الفلاحون سوى شراً زؤوما عليهم اجتنابه. اختلاف نمو البطاطس عن بقية النباتات كان مثيراً لذعر رجل الشارع في القرن السابع عشر، فبقية النباتات التي خلقها الله تنمو بالبذور، وليس بجزء من الثمرة نفسها. أما ثمرتها التي كانت وقتذاك بحجم شجيرة صغيرة فرآها المزارع البسيط قبيحةً «لابد وأن يكون بينها وبين الأرواح الشريرة رابط»، ولابد أنها تتسبب في الإصابة بالدرن والجذام. في عام 1596م أتى النباتي جازبارد بوهين وصنَّفها ضمن ثمار الصولانين، وهي مادة شبة قلوية سامة توجد في براعم الطماطم، وتنتمي إليها مجموعة من النباتات ذات العصارة السامة كالتبغ وتفاح الجن، وبهذا اكتملت الدائرة حول البطاطس. الشيطان والأرواح الشريرة والجذام والدرن والمواد السامة ضيوف
لا ترغب أن تراهم على طاولتك. المفارقة، أن العلم الحديث أثبت أن الخرافات الأوروبية كانت محقة ولو بجزء بسيط جداً في الحذر من براعم البطاطس، فهي كبقية النباتات المنتمية لعائلة الصولانين، تنتج مادة شبه قلوية هي مادة القلويدات السترويدية، ومن سماتها السمية. وحتى اليوم لم يفهم العلماء ما وظيفة هذه المادة تحديداً، إلا أن هناك دلائل تشير إلى كونها مادة تبعد المفترسين، وتحمي البرعم وورق الشجر. بالتأكيد البطاطس المعافاة لا تسبب أي ضرر ولكن الإكثار من أكل المريضة منها يؤدي بالإنسان إلى المرض، ولأن الصولانين يتركز في قشرة البطاطس، فتقشير الثمرة المصابة جيداً يمحو المشكلة، كما أنه يسهل اكتشاف الصولانين إذا كان بمعدل ضار من خلال لون الثمرة الذي يصبح مائلاً إلى الاخضرار.

البطاطس في قفص الاتهام
في عام 1729م كتب جوناثان سويفت، صاحب رواية «رحلات جوليفر» المشهورة مقالاً هزَّ أرجاء إنجلترا وإيرلندا بعنوان «اقتراح متواضع». يبدأ المقال بوصف دبلن عاصمة إيرلندا التي أتى منها الكاتب، ويحكي عن الشحاذات اللاتي يجبن الشوارع وتجر كل واحدة منهن ثلاثة أو أربعة أو ستة أطفال. ويتوقع بأن الحال إن استمر على هذا المنوال فإن الوضع في المدينة لن يتحسن، لأن البطالة سادت البلد، والنقود أصبحت كائناً غير معروف للإيرلنديين. والحل، في رأي سويفت، أن يصدِّر الإيرلنديون الفقراء أطفالهم بدلاً من أن يصدِّروا اللحوم أو الدجاج. لحوم الأطفال، كما يشرح الكاتب، غنية بالعناصر المغذية التي سينتفع منها البريطانيون وبقية سكان أوروبا، وفي الوقت نفسه، فالاقتصاد الإيرلندي سينتعش من هذه التجارة التي لابد أن تحوز رضاء الكثيرين، وأولهم الإنجليز. المقال يدرَّس الآن كنموذج للأدب الساخر، إلا أنه حينئذ كان معبراً عن واقع البلاد. فقرٌ مدقع، وتضخم سكاني مريع، ومجاعة تلو مجاعة، وما من مخرج، عدا المخرج الذي اقترحه ابن البلد جوناثان سويفت بمرارة. وإن لم يكن هناك مخرج، لابد أن يكون هناك متهم تعلَّق برقبته مشاكل البلاد، ولم يجد المراقبون -وأكثرهم من الإنجليز- في ذلك الحين سوى البطاطس ليزجوا بها في القفص.

قدمت البطاطس لإيرلندا في نهاية القرن السادس عشر، واستقبلتها الأرض بترحاب بالغ. وكبقية الدول في أوروبا، كانت البطاطس ملائمة للتربة والمناخ الإيرلندي، ولكن على العكس من بقية الدول، اعتنق فلاحو إيرلندا البطاطس كبر أمان ضد موجات الآفات الاجتماعية التي ابتليت بها البلاد من بطالة وفقر وتضخم سكاني. وبالتدريج، ومع توالي المجاعات التي كان سببها ضعف محصول الشوفان، تحول الطعام الإيرلندي من اعتماده الكلي على خبز الشوفان إلى الاعتماد على البطاطس، فلم يأتِ العام 1780م إلا وكانت البطاطس قد تربعت على سدة حكم القوت اليومي للإيرلنديين، مع كونها رمزاً طبقياً للفقر، حيث انتشر مثل إيرلندي في ذلك الوقت يقول: «صلصة الرجل الفقير: بطاطا صغيرة يأكلها مع البطاطا الأم!». وبعدما تسيَّدت البطاطس القوت اليومي للإيرلنديين، تضاعف عددهم من 4 ملايين إلى ثمانية في غضون ستين عاماً فقط.

أثار التضاعف المتسارع الدهشة، ولكنه في هذه الحالة كان مثيراً للتساؤل: هل هناك رابط مباشر بين البطاطس والتضخم السكاني؟ بالنسبة للمعاصرين، لم يكن الأمر يحتاج إلى كثيرٍ من التأمل والدراسة. العلاقة واضحة وضوح الشمس. المراقبون الإنجليز -الذين أثارت نقمتهم الزيادة السكانية التي تهدِّد بغلبة كاثوليكية إيرلندا على بروستانتية إنجلترا- أشاروا إلى أن الزواج المبكِّر هو سبب ارتفاع نسبة المواليد في إيرلندا، والبطاطا الرخيصة كانت السبب الوحيد الذي يمكِّن فقراء إيرلندا من الزواج، حيث إن أي مزارع لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره يقدم على الزواج حالما يحصل على إيجار أقل من فدان من الأرض، فيزرعه كاملاً بالبطاطا الرخيصة، ويعيش مع زوجته وأولاده على جزء منه، ويدفع إيجار الأرض من الباقي. واقترح آنذاك أحد الكتَّاب على السلطات أن تمنع إقامة أي منزل على مزرعة تقل مساحتها عن خمسة فدادين، لأنه: «بذلك لن يكون هناك مزيد من البطاطا الرخيصة».

حصلت البطاطس اليوم على براءتها. إذ يقول الباحثون إن السبب وراء فقر إيرلندا لم يكن في البطاطس الطيبة، وإنما كانت القوانين التي تحيط بإيجار الأراضي وولايتها، وربما وجد مراقبو ذلك الزمان أن البطاطس ضحية طيِّعة يمكن مهاجمتها بسهولة، بدلاً من محاولة قلب قوانين ملكية الأراضي.

في إنجلترا: مسألة مبدأ
الإنجليز، بعيداً عن كل الحديث عن كون البطاطس طعاماً للفقراء، أو كونها مرتبطة بالأرواح الشريرة، أو حتى سبباً للإصابة بالجذام، كان لديهم اعتراض أولي على إضافة البطاطس إلى طعامهم. فالبطاطس تنتمي إلى الخضراوات، ونبلاء إنجلترا لم يكن للطعام مذاق لديهم إن لم يكن منتمياً بشكل أو بآخر للحوم. وحتى القرن التاسع عشر، يذكر الكتَّاب الإنجليز أن السَلَطات الباردة تحتاج لرشة فلفل كي تدفئ الدم، وأنها لم تؤكل أصلاً، وتحتوي على أقل القليل من المواد المغذية!!

كانت الطبقة المتعلمة تزرع البطاطس في حدائقها الخاصة، إلا أنها لم تتخلص تماماً من النظرة المتشككة التي تحيط بها، وهذا يظل ظاهراً حتى في تلك الكتابات التي تصب في مصلحة البطاطس حيث يتعامل معها الكتَّاب من بعيد، وكأنما ينصح بها الآخرين المحتاجين ولكنه يترفع هو عن أكلها.

فقد كتب الصحافي جون فروستر في عام 1664م مقالة طويلة يزعم فيها أن البطاطس تقدِّم علاجاً فعالاً وسهلاً لنقص الطعام، وتنبأ بأن البطاطس ستكون المعجزة الاقتصادية للبلاد إن زرعت بشكل جدي في إنجلترا وويلز، حيث سيجد عشرة آلاف رجل فقير قوتهم وقوت عيالهم. ولكي يثير اهتمام الملك تشارلز الثاني ملك إنجلترا في ذلك الوقت، اقترح فورستر عليه أن يسجِّل البطاطس باسمه، ثم يبيع الامتياز التجاري لزراعة البطاطس لبقية الأمم، وبالتالي يجمع الأرباح. ورغم حاجة الملك إلى المال، فإنه صرف نظره عن الاقتراح ولم يفكر بتبنيه. وكما تعامل فروستر مع البطاطس على أساس أنها المعجزة الاقتصادية التي ستنجد فقراء البلد، نجد جول إيفيلين، خبير البستنة الأشهر في ذلك الوقت، يكتب أن البطاطس مفيدة للفقراء وخدم العائلة عندما يعاني رب المنزل الإقطاعي من صعوبات مالية.

ثم، قامت الثورة الصناعية، وتسارعت وتيرة الحياة بشكل لم يعرفه العالم من قبل، حيث كانت مثلاً رحلة الصيف من أدنبرة إلى لندن تستغرق عشرة أيام في عام 1754م، ثم تقلَّصت لتصبح 4 أيام في 1776م، وثلاثة أيام في 1786م. كان هذا التسارع واضحاً في التوجه من الريف إلى المدينة، وساعد البطاطس على أن تكسر الحصار. وعندما استمر التغير حتى القرن التاسع عشر، ظهرت البطاطس وعليها الأمان.

في تلك الفترة، كانت إنجلترا تمر بفترة نمو سكانية ملحوظة. لم يكن هناك إحصاء سكاني، إلا أن التقديرات تشير إلى أن سكان البلاد بلغ عددهم في عام 1700م خمسة ملايين نسمة، وبحلول العام 1750م أصبح عددهم ستة ملايين تقريباً، ثم أصبحوا تسعة ملايين تقريباً في العام 1800م. وتوزع أكثرية هؤلاء السكان في المدن الصناعية كلندن ومانشستر وليفربول.

خلق النمو السكاني وتركزه في مناطق معينة حاجة إلى توزيع الطعام ونقله إلى العمال الذين انتقلوا من زراعة طعامهم بأنفسهم إلى شرائه من الدكاكين. ولم تكن هذه مهمة سهلة، فمع أن الوقت الذي يستغرقه إيصال البضائع من الريف إلى المدينة قد قل كثيراً بفضل المحرك البخاري، إلا أن عملية النقل نفسها لم تكن آمنة، نظراً لحالة الطرق الرديئة وتعرض المأكولات للتلف. وبذلك لم يجد سكان المدن سوى البطاطس لزراعتها أو شرائها ممن يزرعها في المدينة نفسها. وكانت لانكستر الصناعية أول المدن التي تبنت هذا الحل، وتقبلت البطاطس في أواخر القرن الثامن عشر، واشتهرت بطبق «يخنة البخار» الذي يعتمد على البطاطس واللحم والبصل والصلصة، وهو أول طبق يحتوي على البطاطس وتقبله الناس في إنجلترا.

إلى ذلك، هناك أسباب أخرى دفعت العامة لتقبل فكرة أكل البطاطس، وتأتي من الضرورة والحاجة أيضاً، حيث إن الثورة الصناعية أحضرت معها ساعات العمل الطويلة في المصانع ( بين 12 و16 ساعة يومياً) لكل أفراد العائلة، حتى الأطفال. ولم يكن لدى العائلة الوقت للأكل فكيف بالطبخ؟ وكيف تطبخ العائلة، وأغلب المنازل لم تكن تحتوي على أفران أو أدوات الطبخ المتوافرة في هذه الأيام، وإن توافرت، كان الوقود غالي الثمن ويستخدم معظمه لتدفئة المنزل، وليس للطبخ. لم يكن أمام العامة سوى ابتياع الخبز والبطاطا المسلوقة من الدكاكين.

ورويداً رويداً، عرفت شوارع إنجلترا البطاطس، وألفتها، وأحبتها، وتوجتها أميرة في مطاعمها عبر وجبة السمك والبطاطس المقلية «Fish and Chips» التي قال عنها ونستون تشرشل إنها الصحبة الطيبة. وظهرت لأول مرة رفقتهما في أواخر القرن التاسع عشر، حينما كان عمال المصانع يهرعون إلى خطوط الإنتاج قبل شروق الشمس في شوارع المدينة المظلمة، ويعودون في آخر الليل بعد ست عشرة ساعة من العمل المتواصل. وفي طريقهم، يعبرون على مطعم للسمك والبطاطس المقلية. لا نعرف متى بدأت هذه الصحبة تحديداً، إلا أننا نعرف أنهما وصلا منفصلين إلى الشارع البريطاني، وتشير الشواهد إلى أن السمك المقلي وصل إلى الشارع قبل البطاطس بثلاثة عقود، حيث ذكر تشارلز ديكنز في روايته «أوليفر تويست» التي نشرت مسلسلة بين العامين 1837 و1839م مطعماً للسمك المقلي وكأنما تمتلئ بمثل هذه المطاعم شوارع لندن، بينما لم تظهر وصفات قلي شرائح البطاطس الرفيعة إلا في ستينيات القرن التاسع عشر.

وعندما جالت في أوروبا
تشبث الفرنسيون بخوفهم من البطاطس أكثر من الإنجليز، وإن كانت هناك قلة حاولت دحض هذه الخرافات مثل روبير تورجوجاك، حاكم ليموج الذي تقول الروايات التاريخية إنه أقدم على أكل البطاطس علناً أمام مجموعة من المزارعين، وطلب منهم الجلوس إلى نفس الطاولة معه كي يروا أنها لم تصبه بأذى.

وفي العام 1771م نشرت هيئة دراسات باريس بحثاً تُقسم فيه أن البطاطس حميدة، بل ونافعة، ولكن أحداً لم يقتنع. وإن اقتنع البعض، كانت رغبتهم في الحفاظ على مظهرهم الاجتماعي أكثر إلحاحاً، فكيف يقدمون على طعام يصفه مثقفو العصر بأنه طعام الوحوش؟ وكانت هذه المعتقدات سارية في ألمانيا أيضاً، حيث اعتقد الفلاحون أن البطاطا تصيب بالسّل والكساح والدرن، وجادلوا الملك فردريك عندما صدر أمره بزراعتها لتأمن البلاد خطر المجاعات. ففي عام 1774م أرسلت مدينة كولبرج الألمانية رسالة للملك تقول فيها: «هذه الأشياء ليس لها طعم أو رائحة، وحتى الكلاب لا تستطيع أكلها، فما فائدتها؟». أصر الملك، وأطاع الشعب على مضض، ولكن بعد سنوات سبع من هذه الطاعة المزعومة، كان الفلاحون قريباً من جبال الألب ينتقلون من حكم إقطاعي إلى آخر عندما يصر سيدهم على أن تكون البطاطس جزءاً من قوتهم اليومي. وفي روسيا، قررت الإمبراطورة كاثرين أن البطاطس «شيءٌ جيّد» ولم تستمع إلى الملتزمين الكاثوليك الذين اعترضوا على زراعة نبات لم يذكر في الإنجيل. وافق البعض على ما قررته الإمبراطورة، ولكن الغالبية العظمى من الروس كانت تعتقد أن البطاطس هي السبب الأول للإصابة بالكوليرا، ولم تنتشر زراعتها إلا في العام 1850م بقرار من القيصر نيكولاس الأول.

أنطونيو أوجستين بارمينتير..
15 ألف صفحة عن البطاطس
لم يكن لدى فرنسا فردريك ولا كاثرين، بل كان لديها أنطونيو أوجستين بارمينتير. ففي حرب السنوات السبع، التي اشتركت فيها كل الدول الأوروبية تقريباً بين العامين (1756 و1763م) كان بارمينتير ملتحقاً بالجيش الفرنسي كصيدلاني، وسقط في أسر الألمان الذين أجبروه في السجن على أكل البطاطس، الثمرة التي كان يظن أنها خلقت لتكون علفاً للخنازير. ولم يقدم له الجنود سواها. وعندما عاد إلى فرنسا بعد انتهاء الحرب سليماً معافىً، كانت البطاطس قد كسبته حليفاً ونصيراً وصديقاً. درس الكيمياء، وطبق مبادئها على دراسة البطاطا، وفي عام 1770م تقدم بمقال لمسابقة أقامتها إحدى الأكاديميات العلمية في فرنسا، وكان مقاله حول فائدة البطاطس وقيمتها الغذائية لمرضى الدوسنتاريا. فاز الرجل بالجائزة، ونتيجة لذلك ألغي القانون الذي أصدره البرلمان الفرنسي عام 1748م بتجريم زراعة البطاطس بناءً على الاعتقاد الشائع بتسببها بالجذام.

وفي عام 1772م صدر قرار من هيئة باريس الطبية يبيح تناول البطاطس ويشجِّع عليه. وتنبه لويس الخامس عشر ملك فرنسا في ذلك الوقت لإخلاص بارمينتير للبحث فأسبغ عليه منحة ملكية ليتفرغ للدراسة، واستغلها بارمينتير في سبيل البطاطا، حيث رآها المنقذ الوحيد لأمته من الجوع.. ولم يتوقف منذ ذلك الوقت عن الدفاع والكتابة عنها. وكان واسع الحيلة ظريفاً ساخراً، فبالإضافة إلى الخمسة عشر ألف صفحة التي دونها للحديث عن البطاطس وفائدتها، كان يقيم دعوات العشاء الفاخرة للحاشية الملكية والنبلاء، ويقدم لهم وجبات كاملة مكونة من عشرين طبقاً وأكثر، وكلها تعتمد في مكوناتها الأساسية على البطاطس. وعندما تولى لويس السادس عشر الحكم، أقنعه بارمينتير بجمال وتفرد زهرة البطاطس حتى أصبح الملك يضعها في عروة سترته.

ومن لويس السادس عشر التقطتها ماري آنطوانيت، وأصبحت زهرة البطاطس بلونها الأرجواني الموضة الرائجة في البلاط الملكي. ومرة أخرى أقنع بارمينيتر الملك بالسماح له بتجربة عامة، دحضاً للرأي القائل بأن زراعة البطاطس تفسد التربة، فقرَّر أن يثبت أن العكس صحيح، وأن البطاطس تهزم أسوأ أنواع التربة وأقساها، ولذلك اختار خمسين فداناً في إحدى ضواحي باريس المقفرة عام 1786م، وزرع البطاطا فيها، وبخبثه المعهود عيَّن حراساً حولها خلال النهار فقط ليلفت الانتباه إلى «قيمة» الثمرة المزروعة، وكما كان يأمل، أقدم المزارعون على زيارة المزرعة في الليل لسرقة البطاطس. حيلة استخدمها كثيراً بعد ذلك، وفي أكثر من منطقة. أكسبته إنجازاته ولفتاته الذكية ميدالية من الملك، وثناءً مستحقاً من زملائه العلماء.

وبعد المجاعة التي هزَّت فرنسا في عام 1788م، استمعت الهيئة الفرنسية للتموين لنصائح المواطن الصالح بارمينتير، وطبعت عشرة آلاف مطوية كتبها حول زراعة البطاطس، ووزعت على كل القرى والبلديات. وأسبغ التغير الجمهوري في فرنسا في ذلك الحين على البطاطس عباءة شعبية، حيث إن الجمهوريين حملوها على الأكتاف هاتفين بفوائدها، وأولها حماية النظام الجمهوري الجديد من السقوط في حال تكررت المجاعات. وبالتالي أصبحت البطاطس منقذاً لحرية المزارع السياسية الجديدة، ورمزاً لخلاصه من الإقطاعيين الظلمة. ومع ذلك، لم يكن الكل مقتنعاً بأهمية البطاطس، فعلى سبيل المثال، عندما ترشح بارمينتير لمنصب أمين بلدية باريس اعترض أحد الناخبين ناقماً: «سوف يجبرنا على أكل البطاطس، هو أصلاً من اخترعها!»، وبالفعل، خسر الرجل الذي «اخترع البطاطس» الانتخابات. ولكنه توفي عام 1813م منتصراً بعد أن تضاعف إنتاج البطاطس خمسة عشر ضعفاً نتيجة لجهوده.

المحارب الأخير
في عام 1818م كتب المزارع والصحافي البريطاني وليام كوبيت غاضباً في مقاله الأسبوعي: «هي الموضة الآن أن نأكل البطاطس! الكل يتغزل في محاسنها وكل العالم يحبها، أو يتظاهر بحبها، والنتيجة واحدة».

أن يأتي هذا الحديث بعد أحزان المجاعات التي أنهكت سكان إنجلترا بين الأعوام 1795 و1800م، والتي انتهت على يد البطاطس، والبطاطس وحدها، أمرٌ مستغرب، ولكن أن يأتي من أكثر مفكري بريطانيا تحرراً في ذلك الوقت، ويليام كوبيت، فهو أمر مذهل، ويدعو للعجب. إلا أننا لن نستغرب كثيراً إن عرفنا أكثر عن الرجل. إذ يقول معاصروه إن العامل المشترك بين كل مواقفه المختلفة هو حبه الشديد للمعارضة وتمرده على السلطة، وكرهه للجديد. كان كوبيت يعلن دعمه اللامحدود لمصلحة المزارع البريطاني الصغير، ويعلن في الوقت نفسه بتمرد عجيب كرهه لعشرات الأشياء الأخرى. يكره المدن. البرلمان. الضرائب. شرب الشاي. مسرحيات شكسبير. اليهود. أما البطاطس، فقد كانت كرهه الأول والأخير. يسميها «جذور القذارة، النفاية، البؤس، والعبودية». في رأيه، هي الموت الاجتماعي والروحي، ومن يناصرها هو إما مصابٌ بالعمى، أو باع روحه للشيطان. ولأن السير والتر راولي كما هو شائع قد قدَّم البطاطا لإنجلترا فهو من أشر أشرار الأرض، والحمد لله أنه قد لقي جزاؤه شنقاً، وبناءً عليه فإن كوبيت يرى أنه يفضل رؤية الفلاحين والعمال الإنجليز مشنوقين، وهو معهم، على أن يعيشوا ليأكلوا «الثمرة الكسول».

في السنوات الأخيرة من حياته، كتب كوبيت: «فكرة أن البطاطس قد تحفظنا من المجاعة تميتني ضحكاً، أو أن البطاطا قد تجاور الخبز وتتفوق عليه.. بما أنها طعام القطعان من غنم وخنازير، هذه أسوأ المحاصيل التي يمكن الحصول عليها، ولكني قلت هذا كثيراً من قبل، ولذلك الآن أصرف البطاطس مع الأمل بألا أضطر مرة أخرى للكتابة عنها، أو حتى رؤيتها».

توفي كوبيت عام 1835م، ولم يتحقق أمله حتى الآن، ولا يبدو أنه قد يتحقق في المستقبل.

الحلم الأمريكي
وصلت البطاطس إلى أمريكا في العام 1621م، وكانت تسمى بالبطاطس الإيرلندية تمييزاً لها عن عدد من أنواع الخضراوات التي أُطلق عليها الاسم ذاته، أما البطاطا الحلوة فكانت تسمى البطاطا الإسبانية.

وفي منتصف القرن الثامن عشر، وبينما كانت البطاطس تحاول إقناع الشعوب الأوروبية بجدواها، احتلت مكانها معزَّزة مكرَّمة في أمريكا، بل إن الكونجرس الأمريكي أشار إلى أن البحارة يجب أن يأكلوا اللفت أو البطاطس ثلاثة أيام في الأسبوع كجزء من تموينهم. أصبحت البطاطس خلال قرن واحد من أهل البيت في أمريكا، ولم تجد أياً من المصاعب التي لاقتها في طريقها لقلب القارة الأوروبية.

أتت البطاطس المقلية كما نعرفها اليوم كوصفة مغمورة اعتاد الطباخ الفرنسي أونرو جوليان طبخها لمستخدمه الرئيس الأمريكي توماس جيفرسون، ومن هنا كسبت قلوب الشعب الأمريكي وعرفها باسمها الحالي: المقليات الفرنسية (French fries). ولكنها لم تكتسح العالم إلا عندما قرر الإخوة ديك وماك ماكدونالد تقديمها ضمن مطعمهما الصغير الذي افتتحاه في كاليفورنيا عام 1940م. وفي عام 1948م بدأ الإخوة ماكدونالدز بتطبيق نظام الخدمة السريعة، مما أسس لأول مرة مفهوم مطاعم الوجبات السريعة.

كانت البطاطس المقدَّمة في المطاعم الأولى مريعة أحياناً، وذلك لأن أنواع البطاطس التي تقدَّم كانت مختلفة، القلي يناسب بعض الأنواع كالبطاطا «الروسيتس» التي تفضلها مطاعم ماكدونالدز، بينما لايناسب البقية كبطاطا «فنغرلنج». ولأن البطاطا «الروسيتس» لا تتوافر على مدار السنة، أقدمت الشركة بقيادة راي كورك الذي ابتاع امتيازها التجاري على إنفاق ملايين الدولارات على الأبحاث كي يوفقوا إلى أفضل نوع مناسب للبطاطس المقلية، إلى أن أتت القفزة مع ابتكار جون ريتشارد سيمبلوت البطاطس المجمدة، والتي سجل براءة اختراعها عام 1953م، مما عاد عليه في وقتٍ لاحق بالبلايين.

وفي عام 1967م اتفق الاثنان، كورك وسيمبلوت، على تزويد ماكدونالدز بالبطاطس طوال العام. وفي آخر إحصاءات أجرتها مجموعة أبحاث أمريكية، اتـضـــــــح أن شــــركــة سيمبلوت ما زالت تزود نصف سلاسل المطاعم الأمريكيـــــة للوجـــــبات السريعة بحاجتها من البطاطس المجمدة. والبطاطس المقلية اليوم، مع أن اسمها ينسبها من دون شك للفرنسيين، أصبحت رمزاً للثقافة الشعبية الأمريكية والقوة التي تمارسها في تشكيل وجه العالم اليوم.

البطاطس في منزلك
إن زراعة البطاطا في منزلك ليست أمراً صعباً، وتشبه التعامل مع صداقة جديدة بالغة الود والدفء، بدءاً من اختيار درنات البطاطا الصديقة، سليمة، وخالية من الأمراض، ثم وضعها في مكان دافئ ووافر الضوء لمدة عشرة أيام قبل الزراعة، لتنمو براعمها. ولكي تحصل على كمية تراوح بين 2 و4 كلغم من البطاطس الطازجة، ما عليك سوى أن توفر ثلاث درنات صغيرة، بارتفاع 7سم تقريباً، ودلو يبلغ قطره 50 سم تقريباً، وتربة. وإذا كنت في منطقة معتدلة، قم بالزراعة في منتصف فصل الربيع، أما إذا كنت في منطقة استوائية ففي مقدورك أن تزرع البطاطا على مدار العام. بعد الأيام العشرة التي قضتها الدرنات في ضيافة الشمس والدفء، وبعد أن تصبح براعم البطاطا قوية صلبة، افتح فتحة تصريف في قاع الدلو. ثم املأ الدلو حتى ثلثيه بالتربة. وبعناية صديق اضغط على أجزاء البطاطا المعدة للزراعة إلى الأسفل لإدخالها في التربة مع إبقاء براعمها متجهة إلى الأعلى. ثم املأ الجزء المتبقي من الدلو بالكمبوست أو التربة. ولتسهيل عملية التصريف ضع الدلو فوق آجرات، وذلك في مكان ذي إضاءة معقولة. حيث إن درجة الحرارة المثالية تبلغ من 10 إلى 15 مئوية. الشمس، والماء، عنصران مهمان في زراعة البطاطا، على أن يراعى الاعتدال في كليهما خلال رعاية البطاطا.

من المهم أن يضاف المزيد من التراب حول قاعدة النباتات مرتين أو ثلاثاً خلال موسم الزراعة. وأن تبقى مروية بصورة جيدة وبوجه خاص حينما يبدأ ظهور الأزهار.

يتعين أن تكون التربة رطبة وليست جافة. ولكن احذر من الإفراط في الري كيلا تصاب الأوراق بالعفن. ويفضَّل الري كل يومين أو ثلاثة. ولكي تصبح الدرنات أكبر حجماً قم بإزالة أية أزهار تنتجها النبتات. وحينما يتحول لون أوراق النبتة إلى اللون الأصفر وتبدأ تموت، توقف عن الري. وبعد أسبوعين إلى ثلاثة ستكون الدرنات الموجودة تحت التربة قد أصبحت حبات بطاطا صغيرة يمكنك أن تقوم بحصادها. أما إن أردت الحصول على درنات أكبر حجماً فعليك الانتظار مدة أربعة إلى ستة أسابيع أخرى. إذا اخترت أن تنتظر الأسابيع الثلاثة أو الستة، فإن أوان الحصاد يحل بنهاية أحد الزمنين، اختر طقساً جافاً للحصاد ثم قم بتفكيك التربة بلطف ثم مدّ يدك تحت النبتة لإزالة الدرنات الكبيرة. ويمكنك إبقاء الدرنات الصغيرة كي تواصل نموها. وإن كنت تريد تخزين درناتك فاتركها تجف على سطح التربة في الشمس لمدة ساعة. ثم اخزن درناتك على رفّ في مكان بارد ومعتم وجاف وجيد التهوية. حيث إن البطاطا المجففة والمخزنة بصورة صحيحة تبقى سليمة لمدة تصل إلى ستة أشهر.

في طهو البطاطس
إنها البطاطا اللذيذة .. مشوية ومسلوقة ومخبوزة.. تقدم الأصناف الحديثة من البطاطا مجموعة عريضة من خصائص الطهو التي تناسب أطباقاً مختلفة وشهية. حيث يمنح بعضها الشوربات كثافة قشدية، ما يضفي عليها مذاقاً رقيقاً يبرز المكونات الأخرى للشوربة.

أما البطاطس المخبوزة فهي تقدم كوجبة خفيفة وبسيطة أو تقدم مع الفطائر المحشوة كوجبة كاملة. كما تعدّ البطاطا المشوية -بهشاشتها ولونها الذهبي من الخارج ورِقَّتها من الداخل- أفضل رفيق يقدم إلى جانب اللحم المشوي. ويقال إن البطاطا المهروسة الناعمة القشدية هي «الغذاء المقنع الذي لا يعلى عليه». بينما تعدّ البطاطا «غير الناضجة» المطهوة بتعريضها للبخار أو مسلوقة طعاماً شهياً من نوع خاص.

وتعدّ البطاطس من الخضار الأكثر شعبية في العالم، كما لاقت الترحاب في مطابخ مختلف البلدان في العالم. حيث تستخدم في الكري في الهند وفي الباستا في إيطاليا، وتصنع منها يخنة مع الموز في كوستاريكا، وتخبز مع الأرز في إيران وتحشى بالكبد في بيلاروس، وتقلى ممزوجة مع الفاصوليا الخضراء في إثيوبيا، وتطهى في سائل على درجة الغليان مع سمك الحَدوق المدخَّن في شوربات الشتاء في فنلندا.

يكمن سرّ نجاح البطاطس في تنوعها الكبير. حيث تأتي البطاطس في مكان ولادتها بجبال الأنديز في صورة آلاف من الأصناف «البلدية» التي يتمتع كل منها بلون وقوام ومذاق مميز (ففي بيرو يمكن أن تحتوي سلطة البطاطا على ثلاثة أو أربعة أنواع مختلفة من البطاطا).

تعدّ غالبية وصفات إعداد المأكولات من البطاطس سهلة التحضير. غير أن انتقاء الصنف المناسب ضروري للحصول على طبق جيد حيث تصنف البطاطس في المطبخ تبعاً لمحتواها من النشا لأنه هو الذي يحدد كيفية استجابتها للطهو. وبصورة أساسية، كلما ازداد محتوى البطاطا من النشا زادت سهولة انفجار خلايا النشا في الدرنة عند تسخينها.

السيد بطاطس
عيناه حبّتا عنب، وأنفه جزرة، وهو حبة بطاطس مكعبرة من حديقة المنزل. هذا هو السيّد بطاطس الذي قدمه مبتسماً الأمريكي جورج ليرنر لأخته الصغيرة التي استغرقت في الضحك، واختطفته لتغير من ملامحه، وتضيف إليه أذنين من الخس أو فم من شرائح الطماطم. الصغيرة أعجبتها الفكرة وظلت تلعب بها لشهور طويلة وفي كل مرة تظهر ملامح وتعابير جديدة على السيد بطاطس، مما دفع بالأخ الودود إلى أن يفكر جدياً في تسويق الفكرة لملايين الصغار في أمريكا.
دار ليرنر على شركات الألعاب يعرض فكرته، فأعرضت عنه، وكان عذرهم في ذلك أن الشعب الأمريكي سيجد حرجاً في أن يلعب الأطفال بثمار البطاطس الحقيقية، ولم يجد نفعاً تقديمه لنموذج بطاطا بلاستيكية ليلعب بها الأولاد.
وأخيراً، لم يجد سوى إحدى الشركات المصنعة لوجبة الفطور «رقائق الذرة المحمصة»، ليقترح أن توزَّع أشكال بلاستيكية مختلفة يمكن أن تلصق بثمرة البطاطا وتحولها إلى سيد بطاطس.. زوج من العيون، شارب، قبعة، أنف، نظارة.. إلخ. أعجبت الشركة بالفكرة، وبالفعل اشترت حقوقها بخمسة آلاف دولار لتضمنها عبواتها كهدية. ولم تنته مسيرة ليرنر مع رأس البطاطس هنا، فيبدو أنه استكثر فكرته على أن تُقدم كإعلان تسويقي قد لا يجد الاهتمام الكافي، فاستمر في بحثه عن راعٍ لها، ووجده أخيراً في مصنِّعي الأقمشة ميريل وهنري هاسينفلد اللذين أعجبتهما الفكرة، فعاد بنقودهما إلى شركة الرقائق ليبتاع فكرته بسبعة آلاف دولار هذه المرة. وقدمت شركة الألعاب «هازبرو» السيد بطاطس لأول مرة للسوق الأمريكية عام 1952م، ولم يخفت الإقبال عليه حتى اليوم.

2008 السنة الدولية للبطاطا
لأن البطاطس كانت قد نشأت أصلاً في جبال الأنديز في أمريكا الجنوبية، كان من الطبيعي أن يكون ممثل حكومة بيرو في منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة صاحب الاقتراح بإعلان العام 2008م سنة دولية للبطاطس.
ففي المؤتمر الذي عقدته المنظمة في نوفمبر 2005م، تقدم ممثل بيرو الدائم باقتراحه هذا الذي وافقت عليه المنظمة في الشهر نفسه، وبعد ذلك بشهر وافقت الأمم المتحدة في قرار خاص أصدرته لهذه الغاية.
وقد أشار قرار الأمم المتحدة بأن البطاطس غذاء أساسي في الوجبة في أطعمة سكان العالم، وإلى الدور الذي يمكن للبطاطس أن تضطلع به في تحقيق الأهداف التنموية المتفق عليها دولياً، ومن ضمنها الأهداف الإنمائية للألفية.

أضف تعليق

التعليقات