منذ الولادة، تُجتاح أجسامنا البكتيريا بأعداد تقاس بالتريليونات، لتلازمنا مدى الحياة. ومهما بالغنا بتدابير النظافة والغسل والتعقيم، فهذه البكتيريا باقية على أجسامنا، ننشرها حيثما حللنا. وتركز الدراسات الحديثة على تميّز البكتيريا واختلافها من إنسان إلى آخر. فكيف يكتسب الإنسان بكتيرياه المميزة؟ هل يمكن التعرف على البصمة البكتيرية لكل شخص بعد المصافحة مثلاً؟ وهل هناك مستقبل واعد لتقنيات كهذه تفيد المحققين الجنائيين أو المؤرخين مثلاً؟
يتكوَّن جسم الإنسان من 37 تريليون خلية، بينما تعيش معه 100 تريليون خلية بكتيرية، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف عدد خلاياه. وتبدأ رحلة الإنسان مع صديقته البكتيريا منذ الولادة. فهو كائن نقي في رحم أمه يسبح بالسائل السّلوي تسعة أشهر متطهراً من كل بكتيريا. ثم يرتبط بأمه –بكتيرياً- منذ ملامستها له عند الولادة، – لأن الولادة ليست عملية معقَّمة – فتبدأ مستعمرات البكتيريا بالانتقال من جسد الأم مروراً بقناة الولادة وحتى خلال ملامستها لطفلها ورضاعته.
وأثبتت هذه البكتيريا فوائدها للإنسان، حيث وُجد أن الأطفال المولودين قيصرياً معرَّضون للإصابة ببعض الأمراض المناعية كالربو وداء السكري النوع الأول وأمراض الحساسية أكثر من الأطفال المولودين بطريقة طبيعية، وتتأخر أجسامهم ببرمجة عمليات الأيض الحيوية التي يحتاجها الإنسان، مما يؤدي إلى تأخر النمو أو إلى السمنة المبكرة. ولذلك يحاول الأطباء الآن نقل هذه البكتيريا للأطفال المولودين عن طريق العمليات القيصرية – أو الذين حصلوا على مضادات حيوية خلال الولادة. ومن الملاحظ أن زيادة نسبة العمليات القيصرية خلال السنوات الخمسين الماضية ترافقت مع زيادة نسبة السمنة خلال الفترة نفسها.
دورها في تكوين الجهاز المناعي
“المايكروبيوتا” أو “المايكروبيوم” هو الاسم الذي يطلق على البيئة الحيوية الموجودة حول أجسام الكائنات الحية عديدة الخلايا كالإنسان والحيوان والنباتات. وتلعب “المايكروبيوتا” دوراً مهماً في تكوين الجهاز المناعي عند الإنسان، وهي تشكِّل بيئةً طبيعية على جلده وداخل قنواته الهضمية والتناسلية. وتتعايش هذه البكتيريا مع الإنسان، ووجودها مهم لضمان حياته، وقِلتها قد يسبِّب الأمراض لجسمه، وعدم توازنها مع بعضها بعضاً يسبِّب خللاً يجعل منها عدواً له. ففي دراسة أجريت على حيوانات تم توليدها بعملية قيصرية، ووضعت في بيئة معزولة ومعقَّمة حمتها من انتقال أي عدوى ممكنة إليها، ومن ثم تمَّت مقارنتها مع مجموعة من الحيوانات من النوع نفسه تمَّت ولادتها بشكل طبيعي؛ كانت النتيجة صادمة. فالحيوانات التي تم عزلها عن البكتيريا عاشت ضعف العمر الذي عاشته الحيوانات التي ولدت بشكل طبيعي وتعرَّضت للكائنات الدقيقة وكونت “المايكروبيوتا” الخاصة بها. ولكن في المقابل، كان سبب وفاة الحيوانات المعزولة أن أمعاءها الدقيقة توقَّفت عن العمل تماماً بشكل مفاجىء، بينما توفيت الحيوانات الطبيعية بسبب عدوى حصلت عليها من بيئتها المحيطة.
التخلص منها لا يطيل العمر
في تجربة أخرى، حاول الأطباء قتل الكائنات الدقيقة التي تعيش بشكل سلمي مع الحيوانات بواسطة المضادات الحيوية ذات التأثير الواسع المدى. وبعد ذلك، تم تعريض هذه الحيوانات لأنواع بكتيريا مختلفة. وفي حين أن الحيوانات الطبيعية تحتاج لأكثر من مليون كائن دقيق لإحداث عدوى بالجهاز الهضمي، احتاجت الحيوانات التي تمَّت معالجة “المايكروبيوتا” الخاصة بها بالمضادات الحيوية إلى 10 كائنات دقيقة فقط لإحداث عدوى مرضية للجهاز الهضمي! بالإضافة إلى أن الخصائص البيولوجية للفئران التي تمَّت تربيتها دون أن تتعرَّض للبكتيريا من البيئة المحيطة، أظهرت اختلافات ملحوظة في التعبير الجيني للجهاز العصبي والمناعي وعمليات الأيض مقارنة بأشباهها من الفئران العادية.
تتواجد البكتيريا في أماكن مختلفة من جسم الإنسان. ولكل منطقة البكتيريا الخاصة بها. ومتى وُجدت في غير مكانها فإنها تحدث اختلالاً لتوازن “المايكروبيوتا” الخاصة بتلك المنطقة. فعلى الجلد مثلاً، تكثر البكتيريا في الأماكن الرطبة والدافئة والدهنية، كمنطقة الإبط ومنطقة العجان وما بين أصابع القدمين. وتكثر في هذه المناطق البكتيريا العنقودية السالبة التي قد تسبِّب خطراً على حياة الإنسان إذا انتقلت إلى أماكن أخرى من الجسم. وتوجد أنواع أخرى في الأغشية المخاطية، كالأنف والفم والقنوات التناسلية. ولكل بكتيريا ظروفها الخاصة، متى ما اختلفت العوامل البيئية والكيميائية حولها اختلف التوازن المعيشي معها. فالبكتيريا المتخصصة بتسوس الأسنان مثلاً، هي بكتيريا طبيعية موجودة في فم كل إنسان. ولكن عند تغير معامل حموضة الفم، وانكشاف الغطاء الحامي للسن، تتوافر البيئة المشجعة لنمو مزيد من البكتيريا، فتنقلب على الإنسان، وتبدأ بإذابة الأسنان مع مرور الوقت.
هل لكل إنسان بكتيريا تميّزه؟
وهل تنتقل عند المصافحة؟
تبقى “المايكروبيوتا” ثابتة نوعاً وكماً بصورة نسبية على جسم الإنسان وداخله. وتتغيَّر حسب عمره، وتتبدَّل مع ظروفه الحياتية، وتتأثَّر بمن يخالطهم ويتبادل البكتيريا معهم. ولذلك وجد علماء الأحياء الدقيقة أن “المايكروبيوتا” لا تتشابه حتى عند التوائم المتشابهة. وعلى الرغم من الاعتقاد السائد بأنَّ المصافحة قد تنقل البكتيريا الضارة من شخص إلى آخر، بيَّنت دراسة في جامعة جونز هوبكنز الأمريكية للصحة العامة أن نسبة البكتيريا الموجودة على يد عميد الجامعة وبعض أعضاء هيئة التدريس بعد مصافحتهم لأكثر من 5000 طالب بالجامعة يوم تخرجهم هي نسبة معقولة. ورغم انتقال بعض أنواع البكتيريا إلى يد أعضاء هيئة التدريس، إلا أنه لم يكن من بينها أي نوع من أنواع البكتيريا الضارة. فكل أنواع البكتيريا المنقولة كانت من الأنواع نفسها التي تعيش على سطح جلد الإنسان بسلام.
هل تؤثر البكتيريا على مشاعرنا؟
تتواصل “المايكروبيوتا” مع عقل الإنسان بشكل ثنائي. بحيث ترسل بكتيريا الأمعاء إشارات إلى الدماغ وتستقبل أخرى في عملية تسمى “محور الأمعاء الدماغي”. تم ظهور هذا المصطلح بعد دراسات جديدة أثبتت أن “المايكروبيوتا” تؤثر على حالة الإنسان النفسية، إذ إن لها القدرة على ذلك بإنتاج عديد من الهرمونات التي تؤثِّر بدورها على دماغ الإنسان فقد تجعله حزيناً، قلقاً، أو حتى عصبياً. وقد تزيد من نوم البعض وتؤرق نوم آخرين! وهذا ما جعل بعض العلماء يطلقون مصطلح “الجهاز المنسي” على مستعمرات هذه الكائنات المجهرية التي تعيش على أجسامنا وفيها. ولعل أشهر تجربة في هذا المجال هي التي قام بها العالم الإيرلندي جون كراين على فئران المختبر بعد إطعامها لبناً مدعماً بالبكتيريا العصوية اللبنية، ومقارنتها بفئران أخرى بعد تغذيتها بلبن خالٍ من البكتيريا أو البروبايوتكس. ولاحظ كراين أن الفئران التي تناولت اللبن المدعم بالبكتيريا تقوم بالخروج من جحورها أكثر من الفئران التي تناولت اللبن العادي. كما أن التأثير النفسي لهذه الفئران تشابه مع التأثير التي تسببه مضادات الاكتئاب على هذه الفئران. وعند قياس مستوى الهرمونات الإستيرويدية، وجدها أعلى في الفئران التي حصلت على البكتيريا من اللبن، مقارنةً بمثيلاتها من الفئران الأخرى.
القولون العصبي وبكتيريا الأمعاء
ولعل أول دليل حسي على تأثير البكتيريا على مزاج الإنسان ومشاعره هو أن الأشخاص المصابين بمرض القولون العصبي لديهم نسبة بكتيريا نشطة أكبر عند حدوث آلام الأمعاء مع التغيرات النفسية، من نسبة البكتيريا النشطة قبل حصول هذه التغيرات المزاجية. وقد يصح القول إن المقولة الإنجليزية الشهيرة “لدي إحساس في بطني!” الذي يستدل به على الشعور بالراحة أو القلق لخيار معين، هو أمر حقيقي، وقد أثبتته “المايكروبيوتا” الأمعائية علمياً. بالإضافة إلى أن تأثير البكتيريا على مستقبلات الدماغ بواسطة هرمون السيروتونين وحمض الجاما آمينوبيوتيريك جعل العلماء يفكرون في تطوير غذاء خاص قد يزيد نسبة التركيز أو الذكاء، عن طريق إيجاد طريقة نستطيع بها التحكم بعملية تكاثر البكتيريا المسؤولة عن التأثير على هذه المستقبلات. ولكن ما زال الطريق طويلاً أمام هذه الاكتشافات.
أيمكنها أن تحلّ محلّ بصمات اليد؟
ولأنَّ لكل إنسان بصمته البكتيرية الخاصة به، يحاول المحققون الجنائيون الاستفادة من هذه الخاصية في القضايا الجنائية. فمع تطوّر تقنيات زراعة البكتيريا وتحديد هويتها، استطاع علماء الأحياء الدقيقة معرفة البكتيريا من دون انتظار زراعتها في طبق بيولوجي يحتوي على خلايا حيوية أو مواد غذائية خاصة. فتقنية تفاعل “البولميريز التسلسلي” مكّنت المختبرات من نسخ الحمض النووي لهذه الكائنات خارج البيئة الحيوية العادية، وفي وقت قصير؛ ليسهل على الإنسان تحديد هويتها، حتى وإن وُجدت بكميات ضئيلة على الأجسام. ولكن لأن البكتيريا كائنات حية؛ فهي لا تستطيع العيش من دون وجود كائن حي تتغذى عليه. ولذلك كان من الصعب على العلماء استخدام هذه التقنية في العمليات الجنائية؛ وذلك لأن البكتيريا تموت بعد فترة قصيرة من مغادرتها الكائن الحي الذي كانت تعيش معه وعليه. ما يجعل الاعتماد على الطريقة الحالية لتحديد الهوية أمراً لا يمكن التعويل عليه لفترة طويلة. ولذلك، يعمل المحقِّقون على اكتشاف طريقة فعَّالة لتحديد البكتيريا المقاومة للعوامل البيئية خارج أجسام الكائنات الحية وتحديد هويتها، ما قد يغيِّر الطريقة التي يفكِّر بها المحقِّقون ورجال الشرطة في تحديد هويات المجرمين. فبدلاً من تعقب بصمات اليد المطبوعة، سيمكن تحديد البصمة البكتيرية الخاصة بأشخاص معينين وتحديد هوياتهم بهذه الطريقة. إضافة إلى أنه من الممكن تحديد الأماكن التي قام الإنسان بزياراتها مؤخراً من خلال وجود بعض أنواع البكتيريا على جهازه المحمول أو على ملابسه، فتكون بمثابة كأداة إثبات لتحديد المكان في القضايا الجنائية مستقبلاً.
هل تعقم يديك يومياً؟ ولماذا؟
وقد يتساءل القارئ: كيف يمكن أن تكون بصمته البكتيرية الخاصة به ثابتة على مر الزمن (تتغير بعد فترة طويلة من تغير العوامل البيئية الحيوية حول الإنسان)، وهو يقوم بغسل يديه يومياً بأنواع مختلفة من الصابون، يقوم بتعقيمها باستخدام مطهر اليدين الذي يقتل البكتيريا بنسبة %99.9 أو %100 كما يقول الإعلان. والجواب هو أن الطبقة الخارجية لجلد الإنسان هي التي يعمل عليها هذا الصابون أو المعقم، بينما ترقد البكتيريا عميقاً في بصيلات الشعر، وتحت طبقات الجلد القرنية، وسرعان ما يزول تأثير هذا المعقم أو الصابون فتعود طبقة “المايكروبيوتا” الخاصة إلى سطح الجلد من جديد تدريجياً. وهذا ما يجعلها غير متغيرة وثابتة (لذلك يجب على العاملين في المجال الصحي تعقيم اليدين مراراً وتكراراً قبل فحص أي مريض حتى ولو لم يلمسوا مريضاً أو جسماً آخر).
وماذا عن المضادات الحيوية؟
بعدما تقدَّم، نستطيع استنتاج السبب الذي يجعل الطبيب متخوفاً من استخدام المضادات الحيوية واسعة المدى (المضادات القوية التي تقتل أنواعاً عديدة من البكتيريا وليست مخصَّصة لنوع واحد). فرغم فعالية هذه المضادات، فإنها تقتل عديداً من “المايكروبيوتا” الخاصة بالمريض، بالإضافة إلى أنها تزيد من نسبة البكتيريا الخارقة والمقاومة للمضادات الحيوية، في حين أننا نستطيع استخدام مضاد حيوي خاص بعائلة هذه البكتيريا ولا تقتل إلا أمثالها. فعلى سبيل المثال، تم اكتشاف داء إسهال “المطثية العسيرة” القاتل في بدايات القرن الماضي؛ وهو داء تتسبَّب به بكتيريا ظهرت مؤخراً في الجهاز الهضمي للإنسان بسبب الاستخدام الجائر للمضادات واسعة المدى التي تقتل البيئة الطبيعية للبكتيريا، وتتسبب باختلال التوازن الحيوي داخل أمعاء الإنسان، ما جعل أحد العلاجات الموصى بها هو عملية “زراعة البراز”، حيث يقوم الأطباء بأخذ عيِّنة براز من متبرع يتمتع بصحة جيدة، ويتم نقلها إلى مريض “المطثية العسيرة” –إذا فشل العلاج الدوائي لهذا المرض- لكي يقوم بتعويض البكتيريا التي فقدها المريض، ويعيد التوازن الحيوي “للمايكروبيوتا” الخاصة بهذا الإنسان.
والآن، نحن بصدد اكتشافات أخرى قد تثبت أن استخدام هذه المضادات لا يدعو فقط لتطوير مناعة بعض الميكروبات، بل قد يغيِّر من شخصية الإنسان وطوله ووزنه وتفكيره. ولأهمية دراسة “المايكروبيوتا”، أطلق “معهد الصحة الوطنية” الأمريكي عام 2008 مشروعاً بعنوان “مشروع ماكيروبيوم الإنسان”، وخصّص له ميزانية تتجاوز المئة مليون دولار، وذلك لإنشاء قاعدة بيانات مرجعية لجميع الكائنات الدقيقة التي تعيش على الإنسان ومعه، بالإضافة إلى دراسة علاقة الإنسان بهذه المستعمرات على جسمه ومدى تأثيرها عليه. وساعد هذا المشروع العلماء على تحديد علاقات جديدة بين البكتيريا وأمراض تصلب الشرايين، وفهم عملية انتقال بعض الأمراض الجنسية، وفسيولوجية عمل الخلايا الزعترية وأثرها على مناعة الإنسان، وغير ذلك الكثير من الاكتشافات المذهلة.
إن حديثنا عن مستعمرات البكتيريا الصديقة للإنسان يبين لنا أنها حاجة ضرورية لا غنى عنها. فهي المسؤولة عن كثير من النشاطات الحيوية والنفسية التي تحدث لكلٍّ منا الآن، كما أنها تلعب دوراً مهماً في تحديد جرعات المضادات الحيوية، إذ إنها قد تزيد من نسبة الأكسدة أو الهضم لدواء معيَّن وتقللها لدواء آخر، وقد تجعلنا عرضة للبكتيريا الخطرة التي قد تقضي علينا في وقت قصير إذا لم يكن لدينا خط الدفاع الأول “المايكربيوتا” الخاصة بكلٍّ منا. لكن علينا ألا ننسى أن أحد أهم عشرة أسباب للوفـاة في العالم هو العدوى البكتيرية التي تصيب الإنسان في أوقات ضعــف جهازه المناعي بسبب تقدُّم العمر أو مرض ما. فما إن تجد البكتيريا الصديقة الفرصة للانقضـاض على مضيفها، حتى تنقض عليه لتفترسه.