ربما غدا من البديهي والنافل الحديثُ المتداولُ عن الاختلاف الشائع بين اللغتين؛ العربية الفصحى من جهة، والمحكيّة العاميّة من جهة أخرى، حسب كل بلد عربي وحسب كل منطقة أحياناً داخل البلد الواحد نفسه، وما يمكن أن يؤدِّي إليه هذا الاختلافُ العادي والتعايش الأليف بينهما، كما لم يعد في الوقت نفسه الانشغالُ بهذا الأمر وإعادة التفكير به والنقاش حوله مغرياً لأحد ولا جذاباً لكثيرين من متابعي الشؤون اللغوية والألسنية والتعليمية.
لكننا نتساءل من جديد، متجاوزين ما هو عادي وأليف، أية لغة في الحقيقة هي جذر لغتنا الأمّ؟ أهي اللغة العربيــة الفصحى أم المحكيّة الدارجة؟
هل لدى كلِّ واحدٍ منّا لسانان يدوران داخل فمه، واحدٌ مخصَّص للكلام والسماع، وآخر مهمَّته معنية بالكتابة والقراءة؟ اللسان الأول للتعبير اليومي السائد، واللسان الثاني للتعامل الرسمي والحياة الأكاديمية؟ بأية لغة نفكِّر عادة، وبأية لغة نبادر إلى التعبير عن أفكارنا ومشاعرنا، وهل يمكن القول افتراضاً إن اللغة المحكيّة هي حيز للتعبير عن المشاعر والانفعالات فقط، فيما اللغة العربية الفصحى هي مدار التفكير والكتابة والتحصيل المعرفي والعلمي؟ وعلى هذا النحو ألا يصير الواحد منا متحولاً، من دون وعي، إلى كائنين لغويين يعيشان داخل الشخص الواحد نفسه؟! وإلى أين يمكن أن يفضي هذا التعايش؟ ألا يسبِّب لنا نوعاً من الإرباك أحياناً وربما يشعرنا بالعجز عن التعبير الدقيق أحياناً أخرى؟ هل يجوز لنا التساؤل إن كانت هناك لغة شعبية لعامة الناس، ولغة أخرى خاصة للسلطة الرسمية بما هي المدرسة والجامعة، وفي حال كان هذا التساؤل في محله، ألا يمكن المضي في استنتاج مفادُهُ أننا نعيش في فضاء من القطيعة والتنافر بين كيانين لغويين يدَّعي كلٌ منهما الأفضلية وعلو المقام أو الأسبقية على الكيان الآخر؟
الفرق في المظهر الخارجي فقط
يَعُدُّ البعض المقارنة بين العامية (اللغة المحكيّة) والعربية الفصحى شيئاً من الماضي، مع تقدم التعليم المدرسي وانتشاره، والفرق بينهما يدخل في إطار الشكل والمظهر الخارجي لا غير، إذ يمكن نقل المحكيّة إلى الفصحى بسهولة، كما لو أننا نقوم بترجمة داخل اللغة نفسها تقريباً، هذا إذا لم تكن الفصحى النوعَ الرسمي والمكرَّس بقوانين عامة من إحدى اللهجات التي ترسَّخت مع كثرة التداول ومرور الوقت، كما يمكن كذلك تحويل العربية الفصحى إلى المحكية كما يجري أحياناً في تناول نصوص مترجمة أو كلاسيكية قديمة وإعدادها للمسرح أو التلفزيون، فيما يميل أساتذة اللغة العربية إلى الخشية من تراجع الفصحى إزاء طغيان اللغات الأجنبية، الإنجليزية خاصة، واللهجات المحكية، داعين إلى تبسيط الفصحى والمزج بينها وبين المحكيّة أثناء التدريس. في حين أننا نجـد الدراما التلفزيونية تميل نحو تفضيل الكتابة بالمحكيّة، لاعتبارات تتعلَّق بسهولة التلقي الجماهيري.
ولإعادة النقاش حول هذه المسائل، طرحنا الأمر على كلّ من: الكاتب والمترجم هفال يوسف، وأستاذة اللغة العربية في البيت العربي بمدريد ناديا جلاد، والكاتب المسرحي والتلفزيوني هوزان عكّو. يرى هفال يوسف أن “للحديث عن الفصحى والمحكية استطالاتٍ كثيرة تحيل الباحث إلى الدراسات المقارنة حول الشفاهيّة والكتابيّة، والمحكي والمكتوب. وفي هذا السياق تبدو المفاضلة بين اللغتين الفصحى والمحكية نافلة على أكثر من صعيد، وأحياناً تكون ذات طابع أيديولوجي، إذ لكلٍّ منهما فضاؤها، وتركيباتها ودلالاتها، والعلاقة بينهما أقرب إلى التكامل منها إلى التضاد”.
“المفاضلة بين الفصحى والمحكية النافلة أقرب إلى التكامل”
ففي الحقيقة إننا نتعامل باللغتين معاً، والقول إن هناك لغة للتفكير والكتابة فحسب، ولغة أخرى للمشاعر والحياة الشعبية واليومية، هو قول في غير محله وليس دقيقاً إذا فكرنا في الأمر على نحو عميق. فهل نحن عديمو التفكير عندما نخوض حديثاً عادياً باللغة المحكية؟ بالتأكيد لا، والصحيح هنا أننا نمزج بين شكلين للتعبير أحدهما يأخذ صيغة عربية فصيحة، والثاني يأخذ شكل المحكية.
فيما تقول الأستاذة ناديا جلاد مشيرة إلى حالة ثنائية اللغة والتعايش بينهما “لغتنا المحكية، هي لغتنا الأُم وطريق تواصلنا مع الآخر، وهي الوسيلة التي نعبِّر بها عن مشاعرنا. وبالتأكيد نحن أقدر على الشرح والاستفسار عن كثير من الأمور باستخدامها. بينما نستخدم العربية الفُصحى التي نقوم بتعلمها فيما بعد للقراءة والكتابة والعمل”.
تعلّم المحكية والفصحى
من البيت إلى المدرسة
مما لا شك فيه أن العربية الفُصحى تحمل موروثاً ثقافياً وأدبياً جميلاً انطبع في أذهاننا لعدة أسباب، منها أن آدابنا كُتبت وما زالت تُكتب بهذه اللغة، ومنذ الصغر يتم تعليمنا التذوق بها. وأيضاً، النظرة الدونية للغات المحكية بشكل عام، حيث إن الفكرة السائدة في مجتمعاتنا هي أن الشخص المثقف هو من يتقن العربية الفُصحى.
وفي سياق الاختلاف بين الحالتين، بين مجالي الكتابة التي تستدعي التأمل والتناول المنطقي على قواعد راسخة والكلام الذي يغلب عليه الطابع المباشر والعفوي، يرى هفال يوسف أنه “على الرغم من أن أسبقية الكلام على الكتابة تبدو أمراً بدهياً، سواء في السياق التاريخي أم في الحياة المعيشة، إلا أن هناك من يرى، مثل الفيلسوف الفرنسي دريدا مثلاً، أن العلامات اللغوية لم تظهر إلا مع الكتابة، الأمر الذي يضع الكلام الشفاهي خارج خانة اللغة. وبالفعل، تفتقر اللغة المحكية إلى الصرامة والمعايير المحكمة التي تميّز الفصحى”.
وفي هذا الإطار نجد أن الحاضن الأول للطفل لتعلّم لغةٍ ما، هو بيته. ثم يتدرج في عملية التعلم حتى يصل للمرحلة الدراسية، وغالباً ما تكون في عُمر الثلاث سنوات، وحتى هذه السنّ يستخدم داخل المدرسة لغته التي تعلَّمها في بيئته الأولى. وهكذا، فإننا نتعلم لغاتنا المحكية قبل تعلم العربية الفُصحى. مما يعني أننا لا نبدأ باستخدام الفُصحى إلا في سنّ متأخرة نسبياً، وذلك حين تبدأ المناهج الدراسية بتدريسها كمادة أساسية.
أما عن أساليب تعليم العربية الفصحى خارج البلاد العربية تقول ناديا جلاد إن “طلاب اللغة المحكية الشامية (مثلاً)- تندرج سوريا ولبنان وفلسطين والأردن تحت هذا الاسم – أغلبهم من عائلات أحد والديها من أصل شامي، حيث يتواصلون مع أسرهم بالمحكيَّة، وأيضاً هناك نسبة كبيرة من الطلاب المهتمين بهذه اللغة المحكية ممن يعملون في المنظمات غير الحكومية والجمعيات الإنسانية. في البداية، يقوم الطالب بتعلم الكتابة والقراءة بالحروف العربية الأبجدية ولكن اللغة المستخدمة داخل الفصل هي اللغة الشامية. هناك بعض المناهج التي وُضعت من قبل متخصصين باللغة الشامية لتعليمها لطلاب العربية غير الناطقين بها مع بعض المواد السمعية والبصرية كالمسلسلات والأفلام والمسرحيات والبرامج الحوارية التي تُقدم بهذه اللغة”.
وتشير جلاد إلى الصعوبات التي تواجهها قائلة “هناك تحدٍّ آخر نواجهه، ويتمثل في عدم تجانس المستوى المعرفي للطلاب الذين يتعلمون المحكية الشامية، فهناك طلاب على دراية بالعربية الفُصحى، لكنهم ليسوا قادرين على فهم الناطقين باللغات المحكية، وبعضهم ليس لديه فكرة عن اللغة العربية، وبعضهم الآخر كان قد سمع إحدى اللغات المحكية في محيطه مراراً، لكنه ما زال غير قادر على النطق بها. ما نحاول تحقيقه من خلال عملنا هو الوصول بالطالب إلى اكتساب الطلاقة في كل من المهارات الشفوية والكتابية. كل هذه الصعوبات تدفع بنا لإعادة النظر في العملية التعليمية للغة العربية لتسهيل الأمر على أبنائنا بالدرجة الأولى، ومن ثم على الطلاب الناطقين بها”.
ومما يدعو إلى الملاحظة راهناً أننا نجد اللغة المحكيَّة، مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، تتمكّن بسهولة من ترجمة وابتكار واستدماج مفردات جديدة، بحيث يستطيع المرء التواصل بها مع آلاف الناس، إلا أنه ليس في الإمكان استعمالها في تأليف كتاب في الفلسفة أو الفيزياء، مثلاً لا حصراً، ناهيكم عن تباعد بعض اللهجات داخل اللغة الواحدة نفسها، كالمغاربية والشامية على سبيل المثال، بحيث يتعسّر التفاهم لولا الفصحى.
خصوصية الكتابة للدراما التلفزيونية
من جهة أخرى وفيما يتعلّق بالكتابة الإبداعية للتلفزيون، وخاصة المسلسلات الدرامية، يستعيد الكاتب التلفزيوني والمسرحي هوزان عكو تجربته وبدايات عمله متسائلاً كيف يمكن لكاتبٍ أن يفكّر بالفصحى ويكتب بالعامية، أو أن يحافظ على الانسجام بين الوصف الفصيح والحوار العامي، قائلاً “لم تكن تجربتي الشخصية سهلة. بدايتي كانت في المسرح وكان البحث حينها عن لغة غير مقعَّرة ولا خطابية تصلح أن تكون حواراً أقرب إلى ما يقوله الناس. لم يكن ثمة أي تعارض صارخ بين الوصف الفصيح والحوار الفصيح”.
لكن الانتقال إلى الدراما التلفزيونية فرض قطع تلك العلاقة بين المحكي العامي والفصيح أو تطويرها لتسهيل تمرير النص إلى التنفيذ؛ بما أن قرّاء هذا النص هم قرّاء غير محترفين يتناولون النص كمادة للتنفيذ أكثر مما هي نص سردي للقراءة. “لم يخلُ الحوار في بداية كتابتي للدراما التلفزيونية من آثار الحوار المسرحي الفصيح، وهذا ما كان يتطلب مزيداً من الإعادات والحذوفات؛ إذ إن تطوير العلاقة بين الوصف الفصيح والحوار العامي أشبه بالسير على مزلاج بعجلتين؛ لا يمكن السير بواحدة منهما فقط (تُستثنى من ذلك الأعمال التاريخية بطبيعة الحال). وفي الوقت نفسه أسهمت الفصحى في تطوير الحوار العامي. فالتحدي الأكبر يكمن في الوصول إلى لغة عامية عميقة لا تكون مباشرة وخطابية. هذا التحدي هو ما يُسمَّى باللغة الثالثة؛ تلك التي تجمع بين لغة النخبة التي ما عادت شائعة ولغة العامة التي تنتشر بقوة”. ويضيف الكاتب عكو شارحاً الأسباب الكامنة وراء شيوع اللغة المحكية في الأعمال الدرامية مؤكداً أن “الخلط بين العامية والفصحى، والفصحى التي تنحو إلى العامية يبدو أقرب إلى المتلقي وهو المشاهد هنا بطبيعة الحال. فلن يقبل مشاهد في القرن الواحد والعشرين، بالأحرى لن يقتنع بحوارات تدور في شوارع مدينتــه الصاخبــة، أن يكون الحديث بها فصيحاً. باعتبار أن الدراما موجّهة كمادة سهلة للعامة تتطلَّب طريقة تفكير بالحوار تختلف عن الأنماط السردية المعهودة. وتحقيق الانسجام والتوافق بين العاميّ والفصيح أساسي في هذه اللغة الثالثة”.
ما يصلح لوسائل التواصل الاجتماعي لا يصلح لتأليف كتاب في الفيزياء.
وقصارى القول، كما يبين هفال يوسف أن “اللغة المحكية هي لغة الحياة اليومية، التي تعتمد على الفكر والتعبير الشفاهيين، وتحيل المعنى إلى سياق الكلام، في حين يرتكز المعنى في الفصحى في اللغة نفسها. هذا يعني أن اللغة المحكية قد تصل في قدراتها التعبيرية إلى مستوى الفصحى، لكن فقط في حال كان السياق مألوفاً بين المتحادثين، كما في الحياة اليومية، وضمن البيئات المتماثلة التي تستخدم كلمات لها الدلالات نفسها. من جهة أخرى سيبدو المتفاصح في الكلام في الحياة اليومية، خارج إطار المؤسسات الرسمية، أقرب إلى الدَّعيّ، إن لم يعدّه الناس مجنوناً أو قادماً من عالمٍ آخر”.