لمناسبة انعقاد مؤتمر مؤسسة الفكر العربي (فكر 6) في البحرين خطر لي هذا السؤال، الذي يبدو مغرقاً في التشاؤم، والانسحاب أو السلبية إذا شئتم: أين المفكِّر العربي هذه الأيام؟ هل ابتلعه المال الرائج أم الفقر المدقع؟ أم ابتلعته رمال السياسة العربية، التي قال عنها هذا المفكِّر ذات مرة إنها تبتلع الجبال والجمال، فلماذا تفقد قدرة الابتلاع إذا تعلَّق الأمر بمفكِّر أو أديب أو شاعر، يُنظّر أو يصرخ أو «ينعق»..!؟
أعرف، كما قد تعرفون، أن الفعل الفكري العربي المعاصر تعطَّل عند محطة ما متأخرة، لا أتبين ملامحها ولا أستطيع أن أسميها باسمها أو أصفها بصفاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لأنها ملتبسة في ذهني، ولأنها، ربما، توارت ببطء حتى صار محالاً أن أشعر بغيابها الكامل. ما أعيه هو أنني لم أعد أستدني كتاباً فكرياً عربياً يناقش المسلمات، أو يقوض ما استقرت عليه المنقولات، أو يرفع من قدر مدركاتي ووعيي بما حولي من متناقضات وضبابيات.
قد يكون هناك مفكِّر عربي «آني» يقبع الآن في السويدا من سوريا أو سوهاج من مصر أو القيروان من تونس أو الحديدة من اليمن أو عنيزة من السعودية. لكنه، أي هذا المفكِّر الآني، يترمّد هناك حيث يتكاثر رش ماء اليوميات والتفاهات على وهجه وحضوره. يرسل هذا المفكِّر أفكاره ورؤاه ثم ترتد إليه كرجع صدى في هذا الوادي العربي السحيق، الذي تكسرت فيه الأقلام والأفكار والرؤى، بل والأحلام، على نصال التسلق الفكري والنفاق السياسي والركض خلف كسرة خبز تسد رمق الحال والعيال.
ومن الناس من يقول إنك تبحث عن المفكِّر العربي بصورته التقليدية. تبحث عنه في صور عهد النهضة العربية، أيام كان المفكِّر يلبس عباءة الوقار ويمشي بين الناس مبشراً بالمن والسلوى والحياة العربية العزيزة الكريمة، المشارِكة في صناعة حضارة اليوم، لكن هذا المفكِّر انقرض. وحتى في الغرب لم يعد المفكِّر النجم المبشر موجوداً كما كان: صانعاً للمدارس الفكرية ومهيجاً الشبيبة خلف مدرسته الجديدة وأفكاره المضادة للمدرسة السائدة. تبدَّلت أمور الفكر والمفكِّرين، وأصبح صانع المدارس الإدارية والاقتصادية والتقنية هو السيد، وهو، أي الصانع الجديد، كثير بكثرة الجامعات والمعاهد ومراكز البحوث. ولذلك لن تعثر أبداً على ذلك المفكِّر الذي كان يصنع حلوى الأفكار ويوزِّعها عبر المدن والدول في أعراس القراءة والتفكُّر.
غابت أعراس التفكُّر وغاب معها المفكِّر في شرق العالم وغربه. والعالم العربي، من هذا الشرق أو هذا الغرب، يجوز عليه ما يجوز على صنَّاع حلوى الأفكار في كل مكان من عالم اليوم، المسحوق بقوة هائلة خلف الرساميل والامتيازات المادية، المجتمعية والفردية.
إذن أصبح لدينا الآن صنَّاع كلمات لا صنَّاع أفكار، والكلمات سهلة، فبمقدور كل إنسان أن يجلس إلى طاولته ويرسل منها ما شاء مما تتلقفه المطابع ودور النشر وتبيعه معلباً من أجل تسلية أو صحة أو حياة أفضل. ألا ترى كيف يجلس بعضهم منفوخاً يكسوه ريش الطواويس يوقِّع كتابه الفخم في معرض للكتاب..؟ مع انك إذا قرأت هذا الكتاب تعرف أنه لم يكِّلف كاتبه ساعات، وربما كتبه من ضجره أثناء الرحلة من القاهرة أو الرياض إلى نيويورك. الكاتب أصبح سهلاً والقارئ أصبح أسهل، ولذلك ضمرت الأفكار لحساب الكلمات، التي تتدفَّق من أفواه الأقلام بسخاء وبلادة لم تعرفها البشرية من قبل.
تغيَّر الزمن، أيها السادة القراء، وتبدَّلت حال الفكر والمفكِّرين. ولكيلا أسرف في تشاؤمي، أقول ربما أكون على خطأ، فإذا كانت القراءة بذاتها، بصفتها فعلاً بشرياً مرموقاً، مهددة، فإن الكلمات، حتى السهلة التي يكتظ بها عالم اليوم، مهددة بالانقراض. وبالتالي يصبح دفن المفكِّر في مقبرة التاريخ مشروعاً ومباحاً. أقصد ذلك المفكِّر الذي كان يضع كل شيء على محك التفكر: الإنسان والتاريخ والجغرافيا.. والحياة برمتها.