(المعارك الأدبية) بين الهجاء والدعابة والسخرية!
ساهمت المجلات الأدبية في توجيه الأدب العربي الحديث نحو بعض الاتجاهات الفكرية العامة، وكان لهذه الاتجاهات أثرها البارز في حركة الأدب وتطوره خلال النصف الأول من القرن العشرين، فقد طرحت تلك الفترة على المجلات قضايا ثقافية وفكرية وسياسية عديدة.
لقد احتضنت المجلات الأدبية هذه المذاهب والآراء باختلاف مشاربها، وعبّرت عنها، وأتاحت لها منابر مؤثرة في جمهورها المؤثر بدوره .. وهو جمهور الأدباء والمثقفين!
مما يلفت النظر أن هذه المذاهب المتباينة والمتنازعة تعايشت جنباً إلى جنب في المجلة الواحدة أحياناً، بلْ وفي إنتاج الأديب الواحد في أكثر الأحيان!
وامتازت هذه المعارك بطابع الهجاء والدعابة والسخرية، لكنه هجاء رفيع، ودعابة فكهة، وسخرية حلوة .. تجلّت في مناقشات أدبائنا وكُتّابنا المشاهير، أمثال: الدكتور هيكل باشا، والمازني، والعقاد، وزكي مبارك، وأحمد أمين، والرافعي، والمنفلوطي، ولطفي السيد، وعبد العزيز جاويش، وشكيب أرسلان، ومحمد كُرد علي، وغيرهم من الأدباء الذين ملأوا الدنيا وشغلوا الناس!
حلبة الصـــراع الأدبي
كانت معاركهم الأدبية والفكرية أشبه بحلبة تتقاذف فيها الكرة بين أيدي وأرجل اللاعبين على غير هدى، ودون وجود مكان محدد للمرمى!
فلا عجب أن نجد أديباً منهم يخوض معركة طاحنة مع أديب آخر، ثم نراهما يتحالفان معاً في معركة أخرى ضد كاتب آخر! فطبيعة المعركة وأهدافها هي التي كانت تتحكم في سير وتوجهات الأدباء! فمثلاً، التقى العقاد مع طه حسين ضد (أحمد شوقي). لكن سرعان ما نراهما يخوضان معركة ضد بعضهما. كما تصارع الرافعي وزكي مبارك ضد (طه حسين) لكن سرعان ما نراهما في أتون معركة حامية الوطيس!
وإذا بحثنا في دوافع المعارك الأدبية، لم نجدها خالصة لوجه الفكر، وإنما وقع أغلبها تحت سيطرة دافعين كبيرين: الخصومات السياسية، والخلافات الشخصية.
ذلك أن الخلاف بين المعسكرات السياسية قد جعل طائفة من الكُتّاب تنحاز إلى هذا الجانب، وطائفة تنحاز إلى الجانب الآخر .. ولذلك كانت أغلب أحكام هذه المعارك تدل على التناقض! فالرأي هنا مقيّد بوجهة نظر وظرف معين؛ فإذا اختلف هذا الظرف تغيّر الرأي!
بالرغم من ذلك؛ فإنّ هذه المعارك، كانت خيراً للأدب، فقد حثّت على التجويد، وميّزت الخبيث من الطيّب، وفتحت باب السجال والنقد، ومعارضة الآراء على نحو شيق وجذّاب، وكشفت عن حقيقة النفوس وطبائعها!
حسنات المعارك الأدبية
من حسنات هذه المعارك الأدبية، أنها أثمرت عن ألفاظ جديدة بديعة، وعبارات عجيبة مثيرة، تبعث في النفوس البهجة والسرور، وتفرض على صاحبها الضحك والقهقهة!
من ذلك، قول (زكي مبارك): لقد ظنَّ طه حسين أنه انتزع اللقمة من فم أطفالي، فليعلم حضرته أنَّ أطفالي لوْ جاعوا لشويتُ طه حسين وأطعمتهم من لحمه، إنْ كان يجوز أكل لحم الكلاب!
وقوله لأحمد أمين: لعلَّ أحمد أمين يريد امرأة فيلسوفة لها عرقوب كشهر الصوم في الطول، ولها عين كعين العميصاء تعينه على سهر الليالي إلى أن يبزغ “فجر الإسلام”!
وقوله لعبد الله عفيفي: إذا دخل الأزهر وقفت لقدومه قواعد النحو صفاً صفاً فكانت المنصوبات في جانب، والكرفوعات في جانب، وقد تصدمه (المجرورات) من شماله إذا دخل من الباب الذي كان يُسمّى المزينين!
ويقول –أيضاً- عن كتابات لطفي السيد: هي لفظ مركب مقيّد بالوضع العربي!
هذا؛ ويقول “الرافعي” في نقده لطه حسين: مهّد الدكتور طه لرأيه بأن أعلن لشيخ الأزهر ولعلماء الدين أنه مثلهم مسلم، ثم قال و”الفرق بيني وبين الشيوخ أنني مسلم حقاً أفهم الإسلام على وجهه”. فيا أرض ابلعي فهذا مستنقع لا رجل!
بينما يقول (توفيق الحكيم) عن معركته مع طه حسين بعد انتهائها: إنَّ الخصومة بيني وبين طه حسين كانت خصومة أدبية صرف، ولكن الدكتور طه أراد أن يقحم فيها عنصر السياسة ليظهرني في صورة (يهوذا) ويظهر نفسه في صورة المسيح!
وقد كانت بين (المازني) و(طه حسين) معارك كثيرة وسخريات لاذعة، منذ هاجم (المازني) غريمه طه حسين، ووصفه بما وصف به شعراء الجاهلية، وقال فيه: “إنَّ الشك في وجود شخصية طه حسين سيكون يوماً أشبه بشك طه حسين في شخصية امرئ القيس وعنترة، وذلك حين يقال الشيخ طه حسين والأستاذ طه حسين والدكتور طه حسين، وحين ترى صورته بالعمامة والطربوش والقبعة، وإنَّ الناس سوف يقولون إن هناك شخصيات ثلاث تحمل اسماً واحداً، ومن هنا يسري الشك في الأسماء جميعاً”!
وحين رفض طه حسين تجديد عقد الدكتور زكي مبارك وفصله من الجامعة، هاجم (المازني) طه حسين بشدة، وقال: لوْ كنتُ أقول الشعر في هذه الأيام لرثيتُ طه حسين، فإنه يُخيّلُ إليّ أنه قد مات طه الذي عرفته وأحببته وأكبرته، وجاء غيره الذي أُنكره!
أعنف معارك القرن العشرين!
لعلَّ من أعنف المعارك الأدبية التي شهدها القرن العشرين؛ تلك التي دارت رحاها بين (العقاد) و(الرافعي) وكان آخر كلماتها هي قول العقاد للرافعي: “إيه يا خفافيش الأدب: أغثيتم نفوسنا أغثى الله نفوسكم الضئيلة، لا هوادة بعد اليوم، السوط في أيدينا، وجلودكم لمثل هذا السوط قد خُلِقتْ، وسنفرغُ لكم أيها الثقلان”.
كما هاجم (العقاد) الدكتورة (بنت الشاطئ) التي عقَّبتْ على كتابه “المرأة في القرآن” وردَّ عليها بمقالة قوية، عنوانها: اسكتي يا امرأة!
فردت بنت الشاطئ بمقال طويل -وكان ذلك في شهر رمضان- بعنوان “اللهمَّ إني صائمة”!
وهاجم العقاد –أيضاً- دعاة الشعر الحر وقصيدة النثر هجوماً عنيفاً، أمثال: “صلاح عبد الصبور، وعبد المعطي حجازي،” وقال: لنْ أردّ بعد اليوم على أدعياء الشعر!
وانتقد –العقاد- أحمد شوقي نقداً مُراً لاذعاً، فقال: إنه لا يصلح إلاَّ أن يكون شاعراً للأمراء وأروقة القصور، وأنه استطاع أن يقحم اسمه على الناس بالتهليل والتكبير والطبول والزمور في مناسبة وبغير مناسبة وبحق أو بغير حق!
كما يفتح (العقاد) النار بضراوة على (سلامة موسى) فيقول: سلامة موسى يكتب ليحقد ويحقد ليكتب، ويدين بالمذاهب ليربح منها .. ويشتري الأرض ويتجر بتربية الخنازير ويسخّر العمال ويتكلم عن الاشتراكية التي تحرم الملك وتحارب سلطان رأس المال ..!
وعلى الرغم من إعجاب (طه حسين) بكتابات (المنفلوطي) إلاَّ أنه أعلن عليه الحرب بلا هوادة في سلسلة مقالات شهيرة بعنوان “نظرات في النظرات”؛ اتهم المنفلوطي بالجهل والسرقة الأدبية، والتغرير بالناس وتضليل القرّاء، وكثرة الأنانية في أقواله، وأنه أبعد الناس عن توخّي الحقيقة، وأحبهم لاصطناع الخيال سبيلاً إلى غايته …!
أشهر المعارك الضارية!
إن الباحث في تاريخ المعارك الأدبية والفكرية -التي دارت رحاها في القرن العشرين- يكاد يغرق وسط هذا المحيط المتلاطم الأمواج، فلم يستطع أحد بعد أن يحيط علماً بموضوعات هذه المعارك، فضلاً عن أن يحصي أسماء من شاركوا فيها، واصطلوا بنيرانها!
لكن هناك معارك معروفة، ربما لشهرة المتصارعين، منها على سبيل المثال، لا الحصر:
معركة (الوحدة العربية) بين طه حسين، وعبد الوهاب عزام، ومحب الدين الخطيب.
معركة (مصر بين الفرعونية والعربية) بين أحمد حسن الزيات، وعثمان جلال.
معركة (العروبة والمصرية) بين ساطع الحصري وطه حسين.
معركة (تمصير اللغة العربية) بين مصطفى صادق الرافعي، ولطفي السيد.
معركة (الكتابة بالحروف اللاتينية) بين عبد العزيز فهمي، ومحمد كُرد علي.
معركة (كتابة السيرة بين التاريخ والأسطورة) بين الدكتور هيكل، وطه حسين.
معركة (التراث الشرقي يكفي أوْ لا يكفي) كانت بين عبد الرحمن الرافعي وعباس العقاد.
معركة (إمارة الشِّعر) شارك فيها كثير من الأدباء، حتى أسفرت عن 30 معركة نقدية!
معارك (الأسلوب والمضمون) بين الرافعي، وسلامة موسى، وطه حسين، وشكيب أرسلان، وخليل السكاكيني، وكرد علي.
معارك (النقد الأدبي ومذاهبه) اشترك فيها جميع الأدباء والنقاد والشعراء وحتى القراء!
المعارك بين (المجددين والمحافظين) شارك فيها أدباء العصر بمختلف مشاربهم!
معارك (النقد حول الكتب) حيث احتدمت المعارك على أشدها حول بعض الكتب التي أصدرها أدباء ذلك العصر، ومن هذه الكتب التي أشعلت المعارك -ومازالت- جذوتها لم تنطفئ:
كتاب (الخلافة وأصول الحكم) للشيخ علي عبد الرازق، وكتاب (الشعر الجاهلي) لطه حسين، وكتاب (النثر الفني) لزكي مبارك، وكتاب (أوراق الورد) للرافعي، وكتاب (ثورة الأدب) للدكتور محمد حسين هيكل باشا، وكتاب (مع المتنبي) للشيخ محمود شاكر، وكتاب (مستقبل الثقافة) لطه حسين .. وغيرها من الكتب الشهيرة!
الاعتذار بين المتخاصمين
اللافت للانتباه؛ أن هؤلاء الأدباء والكُتّاب، بعد انتهاء المعارك التي تدور رحاها بينهم، وانطفاء جذوتها، نراهم يقرّظون كتابات بعضهم البعض، ويثنون على أساليب بعضهم البعض أيضاً .. بلْ نراهم يكتبون عن بعضهم مقطوعات أدبية، وقصائد شعرية من الثناء والمدح المبالغ فيه -وهم الخصوم الألدّاء، وأُباة الضيْم والأنفة- من ذلك على سبيل المثال:
كتب الرافعي يقول عن غريمه طه حسين: “أمَّا طه حسين فليس بالضعيف الذي نتوهمه، فهو في أشياء كثيرة حقيق بالإعجاب، كما هو في غيرها حقيق باللعنة”!
وكتب توفيق الحكيم في الصفحة الأولى بجريدة الأهرام نعياً جيّاشاً لغريمه طه حسين، يقول فيه “فجيعة الأدب العربي في عميده العظيم .. وفجيعتي أكبر في أخ قديم كريم، وإذا كان اللسان العربي منذ نطق أدباً سوف ينطق إلى آخر الدهر اسم طه حسين وفضله على لغة العرب، فإنَّ لسان القلب لن يكف عن ترديد ذكراه ما بقيت على قيد الحياة”!
وكتب رجاء النقاش في جريدة الجمهورية مقالاً بعنوان “محامي العباقرة” يحمل شهادة مهمة وثناءً حاراً الأستاذ العقاد، جاء فيه: “ولكنني أحب أن أقول هنا كلمة أؤمن بها للحقيقة والتاريخ، إنني واحد من الذين أخطأوا في حق العقاد، وأعترف صادقاً مستريح الضمير- أن العقاد محامي العباقرة، وأكبر وأجل ثروة فكرية عرفها القرن العشرين ..”.
ونلمس علاقة المودة والصفاء بين طه حسين والعقاد، فبمجرد أن سمع طه حسين بموت العقاد، أسرع بكتابة مقالة نشرها في جريدة الجمهورية بتاريخ 13/3/1964م قال فيها “ما أشدّ ما كان بينك وبيني من خصام في السياسة أحياناً، وفي الأدب أحياناً، وما أحلى ما كان بينك وبيني على ذلك من مودة وإخاء .. أنت أيها الأخ الكريم، والصديق الحميم، والزميل العزيز، ملأت الدنيا حقاً وشغلت الناس حقاً، وستشغلهم بعد وفاتك أكثر مما شغلتهم في حياتك ..”.
لعلَّ هذه صورة مصغرة عما شهدته حياة الأدباء الكبار في القرن العشرين، ويبقى هناك الكثير والكثير الذي يحتاج إلى من يكشف عنه النقاب، ويزيل عنه الستار .. كيْ تستفيد منه الأجيال في معترك الحياة الباقية!
محمَّد عبدالشَّافي القوصي
مصر
الألعاب كوسيط تعليمي
تعقيباً على مقال «دور ألعاب الفيديو في تعلُّم اللغات» المنشور في زاوية «لغويات» في عدد القافلة 4. مجلد 64. يوليو/ أغسطس 2015م.
عند الحديث عن ألعاب الفيديو، لا يمكننا إغفال المبيعات الكبيرة التي تحققها معظم الشركات المصنِّعة للألعاب، والنجاح والانتشار الفائقين اللذين حققتهما منتجاتها. وهذا ما لفت أنظار الأكاديميين المتخصصين للتوجه إلى منحى تعليمي جديد، وهو استخدام هذه الألعاب كوسيط تعليمي.
فكان من المبادرات الأولى في هذا المجال مشروع «ألعاب للتعليم» (Games – to – Teach) الذي دشَّن عام 2001م، ثم مبادرة (Education Arcade). وكان هدف المشروع تطوير ألعاب فيديو تعليمية بمستوى يقارن بألعاب الفيديو التجارية الرائجة.
وكان من نتاج هذا المشروع أن وضع باحثوه الخطوط العريضة لتصميمات 15 لعبة تعليمية، موجَّهة للمفاهيم الدراسية المختلفة. ومن ثم انتهوا إلى التطوير الكامل للعبتين واختبارهما في إحدى المدارس الثانوية بولاية بوسطن الأمريكية.
اللعبتان هما: «فائق الشحنة» (!Supercharged) و«المخبر البيئي» (Environmental Detective). وبحسب مجلة تكنولوجي ريفيو الصادرة عن معهد (MIT) تبيَّن أن الطلبة الذين تدرَّبوا على هاتين اللعبتين كان أداؤهم أفضل من أقرانهم الذين لم يتمرسوا على «اللعبتين».
وتجدر الإشارة إلى أن لعبة «حضارة» وهي إحدى الألعاب التجارية الرائجة، ذات منحى تعليمي لا يُخطَأ. إذ إنها تتبع 6 آلاف عام من تاريخ العالم، وتتيح للاعبيها أن يتابعوا السيناريوهات التاريخية التي كان يمكن أن تحدث، وذلك باستخدام اللعبة لأسلوب «ماذا لو؟».
ولقد جذب التوجه التعليمي للعبة «حضارة» الباحث في مشروع «ألعاب للتعليم»؛ فدمجها في مقرر دراسة التاريخ بإحدى المدارس الثانوية بولاية بوسطن. ووجد أن الطلبة الذين لم تكن تجذبهم دراسة مادة التاريخ أقبلوا بشدة على ممارسة اللعبة بسيناريوهاتها المختلفة، كما أنهم تمكنوا من تحقيق فهم عام جيد لأثر العوامل الجغرافية والتقنية (ذات العلاقة بتصنيع الأدوات) على تطور الحضارات.
وفي السعودية في أواخر عام 2015م، تم إطلاق لعبة «عالم أريب» أول لعبة تعليمية ترفيهية تم برمجتها بأيدٍ سعودية موجهة للطلاب الصغار، وتعدُّ الأضخم في عالم إنتاج الألعاب التعليمية العربية.
فيما ستصدر شركة «المفكرون الصغار» قريباً؛ وهي شركة حرصت منذ تأسيسها على إصدار برامج تعليمية ترفيهية ناطقة باللغة العربية ذات محتوى سمعي – بصري للأطفال؛ تطبيق لعبة القراءة المبكرة لاستخدامها في تعليم الأطفال في المنزل والمدرسة.
ففي الترفيه، حققت ألعاب الفيديو نجاحاً هائلاً. وفي التعليم، حققت نجاحاً مماثلاً.
أريج المحفوظ
القطيف
حول غزو الحمقى
بعدما قرأت بدقة مقالة الدكتور حمد بن ناصر الموسى «أهو غزو الحمقى كما يقول أمبرتو إيكو؟» المنشورة في عدد مارس / أبريل 2016م، لم يكن بإمكاني إلا أن أثني على كل حرف ورد فيها، وأن أجيب عن السؤال المطروح في العنوان: «نعم، إنه بالفعل غزو الحمقى».
ففتح أبواب النشر أمام كل من يمتلك هاتفاً ذكياً، دون أن يكون عقله كذلك، أغرق وسائل التواصل الاجتماعي بكميات عملاقة من «القمامة الثقافية»، حتى إن الثمين القليل جداً، بات يحتاج إلى «هاشتاغ» للفت النظر إلى وجوده هنا أو هناك.
فقبل نحو سنوات ست، عندما أسست صفحتي على «فيسبوك»، كنت أعتقد أنها ستكون منبراً لتبادل الأفكار حول شؤون مهنية تهمني، ويهمني أن أروِّج لها، كما يهمني الاطلاع على ما يمت إليها بصلة أو بأخرى. وانهالت طلبات الصداقة من أناس أعرفهم في الحياة الواقعية، وأحرجني رفضها، فقبلتها مرغماً. والنتيجة؟
طوفان من الصور الفوتوغرافية لأناس، وأين تناولوا طعامهم أمس، وصور لأطفال مرضى مشفوعة بطلب الدعاء لشفائهم، وصور أخرى ميلودرامية لبؤساء العالم، وغيرها لمشاهير لا يعنينا أمرهم في شيء. حتى باتت الأقوال المأثورة التي كنا نقرأها قديماً على أوراق الروزنامات، أفضل الموجود.
فكلمة «النشر» التي كانت تعني إقدام مثقف أو مفكر على توزيع عصارة فكره على عدد كبير من الناس، صارت تستخدم «لنشر» صورة طفل تعبيراً عن إعجاب أمه به. والأمر يبقى أفضل و«أرقى» من إطلاق الأخبار الكاذبة والرخيصة والشائعات والترويج لها عمداً أو جهلاً.
اليوم، باتت علاقتي بـ «فيسبوك» كما وصفها أحدهم، بأنها تشبه العلاقة بالثلاجة. نذهب إليها في أوقات الملل لعلنا نجد فيها شيئاً طيباً. وفي معظم الأحيان، لا نجد شيئاً يهمنا، فنبحث عن تسلية أخرى.
لقد آن الأوان لإنهاء الاحتفاء بعظمة وسائل التواصل الاجتماعي، وآن الأوان إلى التطلع بشكل واقعي إلى ما تنطوي عليه وإلى حقيقتها، بعيداً عن دهشة بسطاء العالم الثالث بكل ابتكار تقني جديد.
عثمان رأفت
الإسكندرية