حياتنا اليوم

أرصفة المدن..

ذاكرة وهوية!

المشي أصل الحكاية. فلا بد للمشاة في المدن وشوارعها من رصيف يمشون عليه، يحمل أقدامهم بخطواتها المتسارعة أو المتثاقلة، الواثقة أو المتردِّدة. يستقبل من كل صوب العابرين والقاطنين والمسافرين والوحيدين والمصحوبين أيضاً، ويبسط صفحته أمام الجميع بالتساوي ومن دون مفاضلة إلى أن يسلّمهم بأمان من مكانٍ إلى آخر.

لا يفرِّقُ الرصيف بين الغني والفقير والسعيد والحزين والتائه والمتسوِّل، والمنتظر والمتسكِّع، وغيرهم ممن يقتسمون المشي عليه أو يلجأون إلى الانتظار على حافته أو يفترشونه أحياناً. كل ذلك يجعل الرصيف جزءاً من يومنا، وله حصة من عاطفتنا، حتى إن الشاعر السوري الراحل محمد الماغوط قال فيه : “أحب التسكُّع ومقاهي الرصيف، لكني أحبُّ الرصيف أكثر”، وفي القصيدة نفسها أفرط الماغوط في تغزّله بالرصيف إلى حدٍّ وصفه بالحنان فقال: ” على هذه الأرصفة الحنونة كأمي أضع يدي وأقسم بليالي الشتاء الطويلة”.

هي إذاً علاقة عميقة الجذور ومتداخلة بين الإنسان والرصيف.تتجاوز ظاهرها الوظيفي والمادي، لتصبح ذات مغزى ودلالة ثقافية واجتماعية لها رجعها في الذاكرة والوجدان، بالإضافة إلى أثرها في الحياة اليومية والمدينية. فكيف ظهر الرصيف وما حاله في بلداننا العربية وهل ما زالت له مكانة في المدن ولدى ساكنيها؟

الرصيف.. مساحة منذورة للمشي
لم يكن هناك شيء اسمه الرصيف قبل أن تتأسَّس المدينة، لتصبح بعدها الأرصفة من أهم مرافق المدن وواحدة من أركان تصميماتها الأساسية. وأصل الأرصفة أنها كانت طريقة لرسم الحدود في المدن القديمة بين الطرق والمباني، لكن مع تطوُّر المدن وتزايد الحاجة إلى ممرات جديدة بدأ يتبلور الدور الوظيفي للرصيف.

وللرصيف أهمية كُبرى يستمدّها من وظيفته الأساسية كممشى للراجلين، فهو يلعب دوراً مهماً في تعزيز أمن المشاة وتنظيم حركة السير والوصل بين شارع وآخر بعيداً عن السيارات والمركبات التي يمكن أن تشكِّل خطراً على الراجلين.

لم يكن هناك شيء اسمه الرصيف قبل أن تتأسَّس المدينة، لتصبح بعدها الأرصفة من أهم مرافق المدن وواحدة من أركان تصميماتها الأساسية.

ويفترض في الرصيف أن يتسم بتصميم هندسي بسيط وغير معقَّد ليسهل المشي عليه. وفي الوقت نفسه، ينبغي أن يتميَّز بشكل جميل يتسق مع المنظر العام للمدينة. لكن وظيفة الرصيف في كثير من المدن أصبحت تتعدَّى المشي، فتجده قد تحوَّل إلى سوق لعرض البضائع أو ملجأ للمشرّدين والمتسوِّلين الذين يكاد المشاة يتعثَّرون بهم، فيما تجد في كثير من المدن، خصوصاً الأوروبية منها، الرصيف بمنزلة مسرح  تُقدَّم عليه العروض الفنية والموسيقية. وهنا يكمن الفرق بين رصيف وآخر وفقاً للإعلامي والشاعر المغربي نور الدين بازين الذي يقول للقافلة: “الرصيف في المدن العربية ليس هو الرصيف في بلدان أوروبا وأمريكا، نحن أمة تحتل بسطات باعتها المتجوِّلين وكراسي مقاهيها أرصفة المدن، فارتمينا بخطواتنا نحو الشارع نزاحم السيارات والدرَّاجات، واختلطت علينا الأمور، حتى إننا لم نَعُد نميِّز بين الرصيف وبين الشارع”.

يمكن القول إن هذا التباين بين أرصفة المدن وطرق استعمالها يجعل الرصيف عنواناً للمدينة، واستخداماته تعكس طبيعة أهلها، حتى إنه قد يجوز القول “قل لي كيف هو الرصيف، أقول لك كيف هي المدينة” وهو ما يؤكِّده نور الدين بازين قائلاً: “مشاعر المارين على رصيفنا ليست هي نفس مشاعر المارين على رصيف المدن الغربية، فأرصفتنا جافة وعبوسة وكأنها بذلك تعكس نفسية أصحاب الأقدام التي تطؤها صباحاً ومساءً. وعليه فهي مرآة الوطن بكل تجلياته”.

بداية ظهور الرصيف
على الرغم من أن الحضارة الرومانية العريقة انبثقت عن مجتمع زراعي صغير، إلا أنها وضعت أسس كثير من المظاهر العمرانية الحديثة ولعل الرصيف واحد منها. إذ أُنشئت الأرصفة أولاً في روما القديمة في إجراء كانت الغاية منه أن تقوم بدور حاجز أو مساحة فاصلة تفصل الطريق عن الساحات والمباني، لكن ما لبث الرصيف أن أصبح الجزء المفضَّل لدى المشاة الذين وجدوه آمناً بعيداً عن مسار العربات المجرورة وسيلة النقل الأكثر شيوعا آنذاك. وتطوَّرت هذه المساحة في مرحلة لاحقة، فأصبحت مكاناً يتجمَّع فيه الناس من أجل مشاهدة الاستعراضات التي تُنظَّم بشكل دوري، وكانت هذه الأرصفة تُبلّط في الغالب بالحجارة التي ما زالت تستعمل في كثير من الأحياء الأوروبية إلى يومنا هذا. ومن ثمة أصابت عدوى الأرصفة باقي مدن أوروبا.

من بين هذه المدن، العاصمة الفرنسية باريس التي تُعدُّ أيقونة العمارة الأوروبية، وقد اعتنى المهندس “هوسمان” الذي أعاد تصميم المدينة أيّما عناية بشوارعها العريضة وأرصفتها الأنيقة وممراتها اليسيرة، وكان هو من جعل الأرصفة تُبنى في عاصمة الأنوار، لتكون على هيئتها الحالية، ولتجعلها واحدة من التحف المعمارية التي فتنت الشعراء والكُتَّاب والمفكِّرين، من بين هؤلاء الشاعر شارل بودلير، إضافة إلى المفكِّر والتر بنيامين الذي يُعدُّ واحداً من الذين فكَّكوا بنية هذه المدينة، فكانت باريس عنده مدينة للتسكُّع وعاصمة للقرن التاسع عشر، حتى إن أشهر كتبه الفكرية جاء تحت عنوان: “باريس عاصمة القرن التاسع عشر: كتاب الممرات”.

واليوم، تستمر العناية بأرصفة العاصمة الفرنسية، وربما أكثر من أي وقت مضى. فعند تجديد الأشجار في جادة الشانزيليزيه، كشف الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، وكان آنذاك عمدة المدينة، أن زراعة كل شجرة وصيانتها ورعايتها لمتوسط عمرها تبلغ نحو ثلاثة ملايين فرنك فرنسي، أي ما كان يوازي ستمائة ألف دولار!.

الرصيف عند العرب
على مستوى الدول العربية، وعلى الرغم من شهرة العرب بإنشاء أجمل مدن العالم وبراعتهم في البناء والعمارة منذ القديم، ما جعل العمارة العربية والإسلامية تحظى بشهرة كبيرة، ظلَّ الرصيف وافداً حديثاً مقارنة بتاريخ العمارة الإسلامية، لكن ابن خلدون الذي أسهب في الحديث عن العمران والمدن وشروط بنائها، رأى أنه “يجب أن يُراعى في بناء المدينة تأمين وسائل الحماية وجلب المنافع وتسهيل المرافق”. ولما كان الرصيف من المرافق التي تسهِّل حياة الناس في المدن، فقد انتشر لاحقاً عبر مختلف شوارع المدن العربية والإسلامية، خصوصاً تلك التي استعان بعضها بمهندسين غربيين. ففي مصر مثلاً، أحضر الخديوي إسماعيل المهندس الفرنسي “هوسمان” من أجل تخطيط مدينة الإسماعيلية وتصميم مرافقها حتى إنها لُقِّبت بباريس الصغرى بسبب معمارها وشوارعها وأرصفتها الشبيهة بباريس.

وحالياً، ومع التقدُّم الذي عرفه العمران، فإن الأرصفة في المدن العربية عرفت تغيراً كبيراً على مستوى الشكل والتصميم والمواد المستعملة في رصفها وتبليطها. كما أصبحت تُضاف إلى الأرصفة أصص النباتات والأشجار والأضواء لتزيينها، وأحياناً مجسمات فنية أو كراسي للعموم، بالإضافة إلى إحاطتها بأسيجة حديدية قصيرة على مستوى بعض المقاطع.

أرصفة متهالكة وأخرى مستعمرة
يلاحظ زائر المدن العربية من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق  تهالك كثير من الأرصفة، مما يشوِّه المنظر العام للمدينة ويهدِّد سلامة المارة الذين يضطرّون إلى المشي في الطرق المخصَّصة للمركبات. بل إن هناك أرصفة توجد في نفس الشارع، لكن تبليطها يختلف من زاوية لأخرى بسبب إنشائها أو ترميمها خلال فترات متباعدة أو رصفها وفق تصاميم مختلفة تتباين بين المربعات الإسفلتية والحجارة الإسمنتية والزليج أو غيرها، بالإضافة إلى تقلُّص مساحات هذه الأرصفة في عدد من المدن على حساب توسعة الشوارع أو الطرقات، فيما تبلغ مساحات مواقف السيارات والمركبات أضعاف مساحة أرصفة المشاة. بل إنّ في بعض البلدان العربية أصبح الرصيف يستعمل موقفاً لركن السيارات، وكثيراً ما يتم إلحاقه دون وجه حق بمساحات المقاهي، أو يستعمره الباعة المتجوِّلون. ويحدث ذلك وسط تجاهل المجالس البلدية، التي لا يحرص عدد منها على مراقبة الرصيف.

وبالإضافة إلى تضاؤل مساحتها واحتلالها من طرف الغير، تعاني أرصفة كثير من المدن العربية مشكلات تتعلَّق بتشجيرها بشكل عشوائي. إذ يتم غرس أشجار ونباتات كيفما اتفق وسط الرصيف مما يعيق حركة المارة. كما أنَّ كثيراً من البلديات تتعامل مع الأشجار على الأرصفة وكأنها أعمال فنية، فتشذّبها وفق أشكال هندسية مثل الكرات أو المكعبات. وهو تصميم عفى عليه الزمن في المدن الأوروبية التي ابتكرته، فكيف الحال، وظل الأغصان الكبيرة هو حاجة ماسة للمشاة في بلادنا العربية الحارة؟

فالرصيف ليس فقط تلك المساحة المنبسطة التي تجاور الطرق وحواف الشوارع، بل تشمل بالإضافة إلى ممرات المشاة، المزروعات التي تزيِّن المدن، ومواقف السيارات والحافلات وإشارات المرور واللوحات الإرشادية وأيضاً الممرات الخاصة بالأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة التي لا يتم الاعتناء بها كما ينبغي في كثير من المدن العربية.

الرصيف.. دلالات متعدِّدة
أرصفة المدن مثلها مثل ساحاتها العمومية، شاهدة على تاريخ المدينة وحاضنة لأهم الأحداث التي عرفتها. وغالباً ما يكون مآل الرصيف ترجمة للوضع في هذه المدينة أو تلك. ومن هنا يكتسي الرصيف أهمية كبرى في المدينة وفي التعبير عن هويتها وحفظ ذاكرتها. وفي  المملكة على سبيل المثال، يرى الإعلامي السعودي يحيى مفرح زريقان أنه “رغم وجود الرصيف على نحو أقل في كثير من المدن والأقاليم، إلا أنَّ له مكانته الملموسة خصوصاً في مدن السواحل والموانئ”، ويؤكِّد زريقان على الدلالات العميقة للرصيف ثقافياً واجتماعياً في المملكة.إذ إنَّ الرصيف يشكِّل جسراً نحو المعرفة، وله ارتباط وثيق بالنسيج الاجتماعي، ويقول : “الاهتمام بالرصيف والإصرار على وجوده له أهمية كبرى لأنه يترجم ما يموج به الشارع المحلي”.

من أجل الحرص على وجود الرصيف في المدن وتفعيل وظائفه، أصدرت مجموعة من الدول العربية دلائل أو قوانين تنظِّم بموجبها بناء الأرصفة وترميمها وتحدِّد شروطها ووظائفها.

أستاذ التاريخ في سلطنة عمان عماد الراشدي، يقول إنه على الرغم من توسُّع المدن ودخول السيارات إلى الحياة، فإن الأرصفة ما زالت حاضرة ولها دورها في جمالية المدن. غير أنه يشدِّد على أن ما يوجد منها لا يكفي. وفي بعض الأماكن تكاد تكون مُنعدمة، وهو ما يسهم في رفع نسبة الخطر الذي يتهدّد المشاة، كما ينسف جمالية المدينة ومنظرها العام. ويتأسّف الراشدي لوجود شوارع تخلو من أي رصيف، لأن ذلك يعقّد الحياة اليومية ويصيب مفاصل السير بالشلل، كما يقول، لكنه في الوقت نفسه يؤكِّد على الدور الذي اضطلع به الرصيف في حياة الناس الثقافية والاجتماعية.

ومن أجل الحرص على وجود الرصيف في المدن وتفعيل وظائفه، أقدمت مجموعة من الدول العربية على إصدار أدلة أو قوانين تنظِّم بموجبها بناء الأرصفة وترميمها وتحدِّد شروطها ووظائفها، ومن بينها الدليل الذي أصدرته وزارة الشؤون البلدية والقروية على مستوى المملكة العربية السعودية تحت اسم “دليل تصميم الأرصفة”.

فعلى الرغم من أهمية الرصيف كمرفق مهم من مرافق المدينة، إلا أنه ما زال لا يعكس طبيعة المدن العربية وثقافتها. خصوصاً وأنَّ الأرصفة لا تشغل بشكل حقيقي بال المهندسين المعماريين والبلديات على حدٍّ سواء. وهذا قلق عبَّر عنه المهندس الفرنسي جيرارد سانسوليو صاحب كتاب “أرصفة الحرية، الأزقة فضاء الجمهورية”، وهو القلق نفسه الذي ينبغي أن ينتاب المهندسين في الدول العربية والمسؤولين عن المدن، حتى يتم الحفاظ على الرصيف ويُعاد إليه ألقه الخدماتي والدلالي.

 

 

أضف تعليق

التعليقات