ملف العدد

الظل

  • 93b
  • 95a
  • 95b
  • 95c
  • 95d
  • 96a
  • 96b
  • 97d
  • 98aaa
  • 98c
  • 99a
  • 99b
  • 99c
  • 99d
  • 99e
  • 100a
  • 100b
  • 101b
  • 101c
  • 101dd
  • 102b
  • 102c
  • 102e
  • 88aa
  • 89a
  • 90a
  • 91b
  • 91c
  • 92a
  • 92b
  • 93a
  • 93aa
  • 93aaa

يكاد الظل أن يكون أحجية بحد ذاته. فهو يولد ويتحرك ويكبر ويصغر، ومع ذلك فهو ليس كائناً حياً.
إنه الشيء الوحيد الذي لا يُلمس ولا يوزن ولا طعم له ولا رائحة، حتى أن تسميته شيئاً تخضع للنقاش. ومع ذلك، فإنه طالما شغل الإنسانية، وصاغ الكثير من نظرتها إلى الكون، ولعب دوراً قد يكون من أبرز الأدوار التي لعبتها عناصر الطبيعة في صياغة الثقافة الإنسانية، حتى أنه شكَّل الأساس الذي قامت عليه فنون بأسرها.
وبسبب حضوره الدائم في جوارنا حيثما كان هناك ضوء، فإن العين، وهي الأداة الوحيدة القادرة على إدراك وجوده، قلَّما تلتفت إليه، لأن وجوده هو أشبه بتحصيل حاصل . ولذا، يصطحبنا فريق القافلة في هذه الرحلة إلى الظل، ليسلِّط الضوء على عالم نسجه أساساً غياب الضوء نفسه.

وما الظل غير هذه المساحة التي يُحجب الضوء عنها، لوجود شيء بينها وبين مصدر الضوء، وهي مساحة لا شكل لها إلا بعض ما تكتسبه تبعاً لشكل الشيء كما يتحدد عند أطرافه لا أكثر ولا أقل. وهل من أقل؟

ورغم ذلك فقد احتل الظل مكانةً لا يستهان بها في النفس الإنسانية.. وكانت لهذه المكانة انعكاسات واسعة في الفن والأدب. وجاء ذكره في القرآن الكريم: ‭}‬ألم ترَ إلى ربّك كيف مدَّ الظل ولو شاء لجعله ساكناً ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً * ثم قبضناهُ إلينا قبضاً يسيراً‭{‬. سورة الفرقان الآيتان 45 و46.

والحقيقة أن للظل دوراً مهماً في الخيال الإنساني، إضافة إلى أن الأشكال التي يأخذها مثيرة للاهتمام بحد ذاتها. ورغم أنه يتشبه بالأصل ، وهو أمر لا مفر منه، إلا أنه في شكله شيء آخر له جماله الخاص وحضوره المميز.. فهو يتبع الضوء فيتحدد على الجهة المعاكسة له. وبامتداده المشطور له في حالة سكون الأصل وقعاً حسياً مرهفاً، وأما في حركته فهو يُضحك أحياناً ويخيف أحياناً أخرى. وهناك ما يشبه السيناريو المفترض للحظة اكتشاف الواحد منا للظل للمرة الأولى. قد يحدث مع البعض ولا يحدث مع البعض الآخر. قد نتذكره كحادثة وقد لا نتذكره. وذلك لحظة يكتشف الطفل الظل.. وحتمية الظل، حين يكون في الخلاء يلعب ويلاحظ هذا الذي يتبعه دون فكاك. ويحاول الهروب منه ذات اليمين وذات اليسار، إلى الأمام وإلى الخلف ولكن هيهات. ظلك معك.. معك!

ويكون لهذه التجربة أحياناً في نفس الطفل وقعاً عميقاً ربما لا يظهر على وجهه ولا يتنبه لأبعاده حتى هو نفسه. إذ إن الذي حدث له وهو يحاول التخلص من ظله، عرّضه لنوع من الصدمة اليقينية بأن هناك أموراً في الحياة ليس بمقدور الإنسان فعل شيء حيالها، مهما حاول. وخيرٌ له ألا يحاول. أنت لا تستطيع أن تتخلص من ظلك.. ولا من أي ظل.

تأمّل الظل. فالظل الساكن يوائم، بشكل ما، المزاج التأملي. وهو في أكثر أشكاله شيوعاً -ولو في هذا شيء من التفاوت- مساحة رمادية تمتد لمسافة ما تطول عن الأصل أو تقصر. وفي هذا الظل الملقى فيه شيء من الوجد . تتأمل الوجود. فالظلال، وكأنها صدى لهذا الوجود، تعطيه روحانية ما تبحث عنها.

والحقيقة أن الظل لا يكون دائماً خارج الشيء، بمعنى أنه يبدأ من طرفه ويبتعد عنه حسب موقع النور. فكل الأشكال الثلاثية الأبعاد إذا وقع عليها الضوء من جانب، تظهر جوانب مضاءة أكثر من غيرها، ويبهت هذا الضوء تدريجياً حتى يصبح ظلاً كاملاً على جهتها البعيدة عن النور، وبمعزل عن الظل الذي يظهر على مكان وقوفها. ولهذا فإن دراسة الرسم الكلاسيكي تبدأ برسم الأشكال ثلاثية الأبعاد ومن أهم أصولها تعلّم التظليل وهو الذي يعطي للشكل الهندسي أبعاده كما هو معروف.

أما في المخاطبة الأدبية فقد اتخذ الظل مدلولات مختلفة وأحياناً متناقضة: فقد حمل الظل معنى الأثر فيقال إن هذه القضية قد ألقت بظلالها على الوضع، وفي الكتابة العادية نجد التعبير الشائع في ظل الظروف الراهنة للدلالة على أثر ظروف ما على مرحلة معينة. ويشبه رفيق شخص ما بظله، خاصة إذا كان صاحب الظل له بعض المكانة، فيقال إن فلاناً لا يتجول إلا وظله معه.

كيف ينشأ الظل؟
لا شك في أن الظل كان إحدى أولى الظواهر الطبيعية التي تنبه لها الوعي البشري. فمن داخل الكهوف والأكواخ التي انعكست على جدرانها ظلال الناس بفعل نيران التدفئة والطهو.. إلى السهول المفتوحة حيث سقطت أشعة الشمس على أجسامهم وأجسام الحيوانات والأشجار من حولهم، كان الظل حاضراً دوماً كظاهرة مستحقة للاهتمام والتفسير. ومنذ البداية، كان الظل رديفاً للراحة تحت شجرة، وللهرب من شعاع الشمس الحارق.

فهم الإنسان أن الظل ينشأ عندما يوضع جسم ما بين مصدر للضوء وأي سطح آخر يسقط عليه هذا الضوء. لكن هذا التفسير البسيط تبلور في الواقع عبر قرون من الملاحظة والدراسة، وكان حاسماً بدوره في تفسير ظواهر الضوء والإبصار. وخصوصاً حين ساد اعتقاد بأن الضوء إنما يخرج من العين المبصرة ليقع على الأجسام المرئية. وتبين لاحقاً خطأ هذا الرأي، واتضح أن الضوء يصدر من الشمس -أو سواها- لينعكس عن الأجسام ثم يرتد إلى العين التي تراه فترسل الصورة إلى المخ.

وبشكل أكثر تفصيلاً، يعرَّف الظل بأنه منطقة ينحجب فيها الضوء القادم من مصدره بسبب اعتراض جسم ما لمسار الضوء. ويكون الظل عبارة عن إسقاط داكن ثنائي الأبعاد ومعكوس -يمينه شمال وشماله يمين- يأخذ شكل هذا الجسم المعترض، ويحتل مساحة تتناسب رياضياً مع بعد هذا الجسم عن السطح الذي يقع عليه الظل وعن مصدر الضوء. فكلما ضاقت الزاوية بين مصدر الضوء والسطح العاكس للظل، ازداد طول الظل. وكلما قرب الجسم من مصدر الضوء، كبرت رقعة ظله. كما أن هيئة الظل تتأثر بتنوع مواصفات السطح العاكس له. وأخيراً، فإن تباين الألوان في البيئة من حولنا كما تلتقطه أعيننا ما هو إلا تأثير ظلّي تشكله انعكاسات الضوء من مصادره المختلفة. كما أن لون الظل يتباين في حلكته بتباين نفاذية الجسم الذي يعترض مسار الشعاع الضوئي. فالظل الذي تخلفه شاشة قماشية مثلاً يختلف عن ذلك الذي يحدثه جسم مصمت كجدار حجري مثلاً. من هنا كان لنا أن نفهم كيف تتباين الظلال التي تتركها الغيوم في السماء عن تلك التي تخلقها المظلات الصناعية. ونظرياً فإن كل ما يعبر الفضاء بيننا وبين الشمس يخلف ظلاً على الأرض، بما في ذلك الطيور والطائرات. لكن هذه الظلال قد تكون أسرع أو أدق من أن تلتقطها أعيننا.

المصادر الكبرى للضوء والظل
هناك ثلاثة أجرام سماوية يسعها أن تشكِّل ظلالاً على الأرض. وهذه الأجرام هي الشمس والقمر وكوكب الزُهَرة. وإذا كانت الظلال التي يشكلها كل من الشمس والقمر مشاهدة عياناً، فإن وصول ضوء الزهرة إلى الأرض بشكل يسمح تكوين ظلال للأجسام التي يقع عليها يمثل حقيقة علمية مفاجئة للكثيرين.

ولكي نفهم لِم يشكِّل الزهرة ظلالاً في حين لا تفعل ذلك باقي الكواكب والنجوم أو التوابع الصناعية اللامعة في الفضاء، علينا أن نعي بعض القواعد العلمية. فهناك ما يسمى بالقدر الظاهري أو (مقدار الظهور -Apparent Magnitude) وهو مقدار سطوع الأجسام السماوية كما تُرى من الأرض. فالشمس وهي ألمع جرم في السماء هي أكثر سطوعاً من القمر بمقدار 400 ألف مرة، ما يفسِّر غياب القمر والنجوم في ذروة النهار. أما سطوع كوكب الزهرة، فهو طبعاً أقل من سطوع القمر، ولكنه يبقى ملحوظاً.

فخارج المدن بعيداً عن (التلوث الضوئي) الذي تحدثه الأضواء الصناعية، وإذا كانت السماء صافية وكان كوكب الزهرة في أقصى سطوعه وأقصى بعد له عن الشمس بالنسبة للأرض (دورة تتكرر كل 19 شهراً)، فإنه سيظهر في السماء قبل الشروق أو الغروب في هيئة نقطة مضيئة كبيرة. وسيسعك أن ترى ظلك الشخصي وقد أسقطته هذه النقطة عريضاً وشاحباً باهتاً على الأسطح فاتحة اللون أكثر مما هو الحال بالنسبة لظلك تحت ضوء القمر. وتختلف (بصرياً) طبيعة ظل الزهرة عن ذلك الذي يشكله ضوء الشمس. فظل الزهرة صادر عن (نقطة) منيرة، في حين تنتج ظلال الشمس والقمر عن (أقراص أو أجسام دائرية) مضيئة.

تلخص هذه الملاحظات البديهية في مجملها دهراً كاملاً من الملاحظة والدراسة. فالمعرفة البشرية تكاملية وتراكمية. وهذه التفاصيل الأولية بخصوص الظل ما هي إلا قمة جبل جليدي من المعارف والقوانين التي تكونت عبر الممارسة والتجريب وعبر سلسلة من الاستخدامات الفيزيائية والفنية. ولعل الباهر في الظل تحديداً أنه كظاهرة طبيعية ذات تطبيقات متعددة في الحياة العملية قد تجاوز هذه المكانة ليخلق وعياً وثقافة خاصين به في تراث الشعوب كما سنرى.

خسوف وكسوف ومزاول شمسية
قد يكون الإنسان فهم الظل الذي يراه يومياً أو اعتاد عليه. فظلال الأشجار والموجودات وتفاوت أطوالها مع حركة قرص الشمس على مدار اليوم أوحت للإنسان استغلال هذه الظاهرة في تحديد معيار للوقت. فكان ذلك أول التطبيقات العلمية المباشرة للظل.

تعود أقدم الإشارات لاعتماد المزولة الشمسية إلى الحضارة الفرعونية قبل الميلاد بألف وخمسمائة سنة. وهناك من يعتقد بأن الإنسان استخدم الظل لتحديد الوقت منذ 5000 سنة قبل الميلاد. وقد عرفت المزولة انتشاراً كبيراً حول العالم وحتى بعد ظهور الساعة الميكانيكية. كما أنها كانت محورية في الحضارة الإسلامية لأنها أعانت على تحديد مواعيد الصلاة خلال النهار.

إلا أن هناك ظواهر أخرى مقترنة بالظل شكلت للعقل البشري معضلات حقيقية وتأثرت بها حضارات معينة على نحو مطلق. أشهر هذه الظواهر الظليّة الخارقة ظاهرتا الخسوف والكسوف. فالأرض والشمس والقمر في أثناء دورانها حول بعضها يحصل أن تقع ثلاثتها على خط واحد، ليتحقق التعريف العلمي للظل الوارد أعلاه حيث الشمس هي مصدر الضوء فيما يتبادل كل من الأرض والقمر دوري السطح الحاجب للضوء والسطح العاكس للظل. وحيث أن الأرض والقمر جرمان كرويان، فان أشعة الشمس الساقطة عليهما تخلف وراء كل منهما ظلاً مخروطي الشكل تبدأ قاعدته من الجرم بينما يمتد رأسه المستدق بعيداً في الفضاء، ويطلق على هذا المخروط اسم مخروط الظل . كما يتشكل في الوقت نفسه خلف كل من الأرض والقمر مخروط ثانٍ ناقص أو مقطوع الرأس.. يحيط بمخروط الظل لكن يعاكسه في الوضعية. ويسمى هذا المخروط الثاني بـ مخروط شبه الظل لأنه أقل إعتاماً من مخروط الظل. وبحسب موقع الأجرام الثلاثة من مناطق الظل هذه، تتحقق ظواهر الخسوف والكسوف بشقي كل منها: الكلي والجزئي.

هذه التفسيرات العلمية، أدرك بعضها البابليون قبل الميلاد، فتمكنوا من حساب ما يعرف بـ دورة Saros وهي المدة الزمنية التي يستغرقها القمر ليصل إلى ذات نقطة الخسوف أو الكسوف وتبلغ 18 سنة و11 يوم و8 ساعات. وتعامل أقوام آخرون مع هذه الظاهرة الفلكية على نحو مفعم بالغيبية قد تصل إلى حد الخرافة. فالصينيون كانوا يعتقدون بأن تنيناً عملاقاً يبتلع القمر إلى حين. وشعوب أمريكا اللاتينية قبل الاستعمار الأوروبي كالمايا والآزتك كانت تعبد الشمس مطلقاً، وتعتبر الخسوف محض مؤشر على غضب الآلهة ونقمتها. هذه التبريرات المقترنة بتلك الظواهر صاغت الكيفيات التي تطورت بها هذه الحضارات علمياً وفكرياً، وصاغت الأنماط الاجتماعية والأخلاقية التي حكمت تعايش هذه الشعوب مع بعضها ومع جيرانها أيضاً.

الظل بين العلم والخرافة
تفاوت فهم الناس لظواهر الظل، وكون الظل في الأساس مقدمة للظلمة التي هي نقيض الضياء، كل ذلك خلق بعداً أسطورياً للظل في الوعي الإنساني.

في كثير من الحضارات نجد الظل قريناً للغموض والسر وللموت ذاته أيضاً. ولا تزال رواسب هذه المعتقدات موجودة في وعينا الجمعي. حيث يكرس معنى الظل كرديف للخطر والهيمنة السرية كما سنرى على سبيل المثال. فعبر حضارات مصر القديمة واليونان أيضاً، استخدم مصطلح أرض الظلال للإشارة إلى العالم الآخر الذي ينتقل إليه الموتى. فعند اليونان، كانت أرض الظلال مملكة هيديز حيث تقاسي الأرواح الشريرة صنوف العذاب. وعند الفراعنة فإن أرواح الموتى تتجه ناحية الغرب.. حيث تختفي الشمس ويحل ظلام أبدي. المفاهيم ذاتها موجودة عند شعوب أمريكا الجنوبية الأصلية حيث يعتبر الظلام إشارة لوجود عالم آخر مواز لعالمنا إنما مخيف وبلا ضياء يغادر إليه الأموات.

وحتى فيما يتعلق بهذه الحياة الدنيا، فإن تفاعل الثقافات مع الظل لم يسلم أيضاً من فخ الخرافة. فالخطو على ظل الزعيم أو الكاهن الممتد على الأرض كان يعد خطيئة كبرى عند كثير من القبائل البدائية حول العالم. باعتبار الظل امتداداً روحياً وغيبياً لجسم صاحبه. وفي أوروبا خلال العصور الوسطى كانت تتم، من نفس المنطلق، معاقبة ظل النبيل عوضاً عن جسمه كإجراء تحايلي يجنبه الأذى الفعلي.

وثمة فرق أيضاً بين (الظل – Shadow) والظليلة (Shade) أو الظل الطارئ الخفيف. وفُسِّر ذلك في بعض الحضارات القديمة على أنه حضور للأشباح وسواها من الكائنات الخفية. أو أنها رسل يبعث بها الموتى من عالمهم لغرض حماية الأحياء أو الانتقام منهم. ونسجت في ذلك أساطير وخرافات لا نهاية لها حول العالم.

هذه الممارسات والمعتقدات بغض النظر عن منطقيتها إلا أنها تلفت انتباهنا للقيمة الأسطورية والغيبية للظل، والتي انعكست حتى مع تطور المعارف على المنتوج الفكري والفني للإنسان المعاصر.

قيمته الفنية غيَّرت تاريخ الفن
نقل عن الرسام الانطباعي رينوار قوله: ليس هناك ظل أسود. الظل دائماً له لون. ففي الطبيعة لا يوجد غير الألوان، والأبيض والأسود ليسا لونين . هذه الرؤية للطبيعة هي التي سمحت للانطباعيين بإنشاء مدرستهم الفنية القائمة على تغيُّر الألوان في المكان الواحد من خلال تغير الضوء الذي يسقط عليه. فكان لهم منهجهم الخاص في التعامل مع الظلال المختلف تماماً عمَّا كانت عليه الحال في المدارس الفنية السابقة. ولكن موقف الانطباعيين من الظل ولونه ودوره في اللوحة لم يكن غير منعطف في مسيرة بدأت منذ فجر النهضة الفنية في إيطاليا قبل ذلك بنحو خمسة قرون.

فمنذ مطلع القرن الرابع عشر، سعى الرسَّامون الإيطاليون إلى تطوير التقاليد البيزنطية في فن الرسم من خلال تحقيق أكبر قدر ممكن من مشابهة الواقع، عبر رسم المشاهد بأبعادها الثلاثية (وليس ببعدي الطول والعرض فقط). وكان الرسام جيوتو رائداً في هذا المجال، إذ أسس لدراسة جانبين يسمحان بتحقيق هذا الهدف، وهما تغيّر حجم الشيء المرسوم كلما ابتعد أو اقترب من عين الرسام، والدور الذي يلعبه الضوء في إنارة جانب منه أكثر من جانب آخر. وبسرعة حذا حذوه معظم الفنانين، ولم يمضِ قرن من الزمن إلا وتمكَّن بعض الفنانين مثل أنطونيلو دي ميسيتا من رسم صورة شخصية شبه فوتوغرافية في أمانتها للواقع. ومنذ ذلك العصر، أصبح الظل عنصراً أساسياً في فن اللوحة يستوجب الدراسة والإتقان في التعامل معه على قدم المساواة مع اللون والخط. وأكثر من ذلك، يمكن القول إنه بدءاً من أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، كان التعامل مع الضوء والظل العامل الرئيس في شهرة فنانين كبار وحتى مدارس فنية بأسرها، مثل المدرسة الهولندية بشكل خاص، حيث نرى فنانين تنحصر عبقريتهم في رسم المشاهد الداخلية على ضوء الشمس الشاحبة في تلك البلاد الشمالية، مثل فيرمير، في حين اعتمد بعضهم بشكل أساسي على ضوء الشموع للإنارة والتظليل، كما هو حال رامبرانت. غير أن ذروة الدور الذي لعبه الظل في فن الرسم، كان في القرن السادس عشر، عندما أسس الرسام الإيطالي كارافاجيو مذهباً فنياً عُرف باسم المضاء والمظلم ، ويقضي برسم مشهد داخلي مضاء بمصدر واحد كشمعة أو مشعل مثلاً، والاكتفاء برسم بعض الحواف المضاءة من المشهد، وإغراق الباقي في الظلام. ومن أشهر الفنانين الذين ساروا على خطى كارافاجيو وبالغوا في إظهار التناقض بين المضاء والمظلم نذكر الفرنسي جورج دي لاتور. ولكن أهمية هذا المذهب الفني تكمن في أنه من خلال تعتيم الظلال، بدت مشاهده بشكل عام عبارة عن مساحات ملونة مقطعة ومتناثرة وغالباً ذات تركيب يتميز بكثرة المنحنيات والالتواءات.. فكانت بذلك الأساس الذي قامت عليه مدرسة الفن الباروكي ككل التي عاشت لنحو قرنين من الزمن، قبل أن يعود رسم الظلال إلى عقلانيته وواقعيته في المدرسة الكلاسيكية وكل المدارس اللاحقة التي اهتمت، أياً كانت درجة اهتمامها بمشابهة الواقع.

أساس ثقافة الصورة الحديثة
يمكن أن يجادل البعض بأن الظل كان هو أول أشكال المؤثرات البصرية (الخدع السينمائية لاحقاً). وهذا رأي متسق مع التسلسل التاريخي لتطور فن القصّ البشري: الإلقاء فالمسرح فالرواية المكتوبة وأخيراً الفلم السينمائي. عبر كل هذه المراحل كان الظل حاضراً كعامل مساعد أو محوري. وهنا تحضرنا تجارب الأطفال حين يسلط بعضهم كشَّافاً يعمل بالبطارية على وجهه من الأسفل لتعطي الظلال ملامحه صبغة مخيفة لأقرانه.. هذه الخدعة كانت الأولى في عوالم المسرح وفي الأفلام الصامتة كذلك.

والحقيقة أن الظل في التراث الأدبي يكاد يتجاوز مكانة المؤثر البصري أو العامل المساعد ليغدو أصلاً تتمحور الحبكة حوله. فمشهد الظلال المتراقصة على الجدران خلف لهب المشاعل أو ضوء الشموع.. لترسم هياكل وحوش أسطورية وكائنات خيالية ولدت من رحم الظلمة.. هذا المشهد خلدته قصص الرعب والإثارة. كما أنه ليس أسوأ -بالنسبة للمشاهد- من اللحظة التي يتسلل فيها ظل الوحش المجهول من خلف البطل الغافل.. حتى لو اتضح أن القادم لا يمت لجنس الوحوش بصِلة. هذه اللقطة التعليقية – suspension scene قد كرَّستها السينما في مشاهد لا تُنسى.

حتى قبل السينما، فإن الصورة الفوتوغرافية الأولى كما قرَّر المؤرخون هي تلك التي التقطها الفرنسي نيسافور نيابس من شرفة منزله عام 1826م. تلك الصورة على رداءتها، ليست إلا خربشات ظلية.. ظلال المباني والشارع.. وظلال الظلال ذاتها!! ومع تطور تقنيات التصوير الضوئي من الأبيض والأسود إلى الملون، ومن الفلمي إلى الرقمي، فإن المبدأ يظل نفسه: نحن نلتقط انعكاس موجات الضوء (الألوان) التي ما هي إلا تدرجات الظلال. الصورة الضوئية ما هي إلا توثيق للظل. وكي نستوعب هذا الرأي يسعنا أن نرجع بذاكراتنا قليلاً إلى أيام غرف التحميض المظلمة.. يسعنا أن نتخيل أن كل الصور في مثالنا هي أحادية اللون (بالأبيض والأسود). كانت فنيّات التحميض آنذاك تتطلب من المصور أن يعالج الصورة بحيث تكون الظلال داكنة أكثر أو أقل، ومناطق السطوع أنصع أو أبهت، على النحو الذي توحي له به قريحته الفنية. هذه المهمة صارت تتكفل بها اليوم معالجات الكاميرات الرقمية وبرمجيات تحرير الصور مثل برنامج (Adobe Photoshop). لكننا يسعنا أن نتأمل روائع لفوتوغرافيين عظماء مثل أنس آدامز أو هنري كارتييه بريسون لنستمتع بطريقة قراءة هؤلاء لتدرج الظل بين الأبيض والأسود وأن نسقط القراءة ذاتها على الإبداعات الفوتوغرافية الملونة.

وفي الحقبة ما قبل الرقمية كذلك، فإن الصور كانت تُسجَّل على أفلام لتتم معالجتها وطباعتها على الورق لاحقاً. هذه الأفلام كانت تسمى بـ النيجاتيف أو (الصورة السالبة). بالنسبة للقطات الاحترافية فإن (النيجاتيف) هو بمثابة المعيار لمدى توازن اللقطة من ناحية توزيع الإضاءة عبر مساحة الكادر. هذه الصورة السالبة يسعنا أن نعتبرها كذلك على أنها عكس للظل. إنها بكلام آخر ظل للظل ، حيث تظهر الظلال الغامقة ساطعة بها. التأمل في فلسفة النيجاتيف هذه، يأخذنا إلى أبعاد أخرى من التفكر. وافتراض وجود عوالم مضادة ذات قيم مادية معكوسة هو تصور مأخوذ من هذه الفلسفة وذو حضور عميق في أدب الخيال العلمي وفي الفلسفة وعلم النفس المعاصرين أيضاً.

لكن بعيداً عن التبريرات الفلسفية لماهية الصورة الضوئية، فإن الظل يبرز كمحور أوحد في نمط شهير من أنماط التصوير.. ألا وهو (السيلويت – Silhouette). حيث يتم التقاط صورة الجسم البشري أو المشهد الطبيعي مع تعمد جعل مصدر الإضاءة -الشمس أو سواها- خلف الجسم المراد تصويره تماماً. واللقطة الناجمة عن هذا الأسلوب تكون خالية من ملامح صاحبها. إلا أن صورة الظل هذه هي ذات تأثير درامي وجمالي باهر. وجرى استغلالها هي الأخرى في العديد من الروائع الفوتوغرافية والسينمائية الخالدة.

وأساس لفن مسرحي
الظل قابل للإنتاج، إذ ثمة ظل صناعي لا يتطلب إيجاده إلا مصدراً صناعياً للنور. هذه الطواعية الظلية للتحكم البشري كرَّست مكانة الظل كوسيلة تجريب وترفيه على مر العصور والحضارات، وكرَّست مكانته الوجدانية أيضاً كوسط فني مدهش وجامح بقدر ما يسمح به جموح المخيلة البشرية ذاتها.

التجارب البدائية للعب بالظل لا يزال يمارسها الأطفال حول العالم: وضع الأكف في مجرى شعاع الضوء وصنع ظلال تشبه أشكال الحيوانات ووجوه البشر. وتطورت هذه التجارب عبر الزمن وعبر أكثر من صعيد وإن كانت لم تزل متمتعة ببهجتها الأولى. والتطبيق الترفيهي الأشهر والمبني على هذه الفكرة هو مسرح الظل .

تأتي الإشارات المدوَّنة الأولى لدمى مسرح الظل من الصين زمن حكم سلالة هان الذي امتد بين عامي 200 قبل الميلاد و220 بعد الميلاد تقريياً. ودافع هذه العروض الأولى كان الترفيه بطبيعة الحال عن الأباطرة وإخراجهم من حالات إحباطهم، قبل أن ينتشر هذا الفن ويكتسب شعبية بين العامة.

وكانت دمى الظل ذات حضور محوري أيضاً في الثقافة الملاوية (إندونيسيا وماليزيا)، حيث كانت تُصنع من جلود الحيوانات في هيئات الأبطال الأسطوريين. وتدور المسرحيات كصراعات بين قوى الخير والشر لترسيخ القيم الأخلاقية بين النظّارة. هذا الفن الملاوي يحظى حالياً بتقدير عالمي باعتباره أول أشكال الرسوم المتحركة كما نعرفها اليوم. وقد تم اعتماد فكرة هذه الدمى والتي تعرف في اللسان المحلي بـ Wayang Kulit أو جلود الظل من قبل منظمة (الأونسكو) عام 2007م كأحد رموز الحضارة الحِرفية البشرية التي لم تزل باقية إلى يومنا.

ومن الصين انتقل هذا الفن إلى فرنسا عبر الإرساليات خلال القرن الثامن عشر لتُفتتح مسارح تعرض هذه الظلال الصينية كما عرفت في باريس ومارسيليا. وازدهرت هذه المسارح أكثر خلال القرن التاسع عشر بالذات في ضاحية الملاهي الشهيرة Montmartre.

وتحتفظ الذاكرة التاريخية بعروض شهيرة قدمها ملهى القط الأسود عام 1880م، أشرف عليها الفنان هنري ريفيير بمساعدة 20 فنياً آخرين. وقد مثلت هذه العروض أساسات لمسرحيات فنية كبرى لاحقاً.

وخيال الظل
أما فيما يخص المشرق العربي والإسلامي، فقد عُرفت مسرحيات خيال الظل بأسماء أخرى عديدة منها ظل الخيال و خيال الستار ، وانتشرت بين العامة كفن شعبي انتقل إلى العالم الإسلامي من الشرق الأقصى عبر بلاد فارس. وكما كان الحال مع دمى الشرق الأقصى، تم اعتماد الجلود المجففة بعد تلوينها لصنع شخوص هذا المسرح الذي مثّله ستار من القماش الأبيض تحرك الدمي من ورائه فلا يظهر للمشاهدين سوى ظلها. وكان محرك الدمى يعرف بأسماء عدة منها المخايلي .

يشير الدكتور شوقي ضيف إلى أن العرب عرفوا خيال الظل للمرة الأولى خلال القرن السادس الميلادي في العصر العباسي؛ ليفد إلى مصر زمن الفاطميين في القرن الحادي عشر ويزدهر تحت حكم الأيوبيين والمماليك. وخلال تلك الفترة، عُرفت تمثيليات خيال الظل باسم الـ بابات ومفردها بابة . ويُعد شمس الدين بن عبدالله محمد ابن دانيال الموصلي أشهر من كتب البابات وطور مسرح خيال الظل في تلك الحقبة. وهو طبيب وشاعر قدم إلى القاهرة من الموصل في عهد السلطان الظاهر بيبرس فراراً من الزحف المغولي. ولا تزال ثلاث مخطوطات من التي كتبها ابن دانيال محفوظة حتى وقتنا الحاضر وهي طيف الخيال الموجودة بدار الكتب المصرية بالقاهرة، و عجيب غريب و المتيم والضائع اليتيم مع خلاف حول نسبة هذه الأخيرة إليه. كما بقيت بعض الدمى من بينها واحدة من العصر المملوكي محفوظة بالقسم الإسلامي في متحف برلين.

كان العصر العثماني هو العصر الذهبي لخيال الظل في الشرق الإسلامي. إذ أُعجب العثمانيون بفن خيال الظل فاستقدموا العديد من فنانيه من القاهرة إلى إسطنبول لإقامة عروضهم هناك. وانتشرت تلك العروض كذلك عبر العالم العربي واستمرت حتى بدايات القرن العشرين.

وفي ظل الثقافة التركية ظهرت كلمة كراكوز التي حرّفت إلى أراكوز واستخدمت عبر الامتداد العربي طوال قرون للإشارة إلى دمية الظل. وتقول الأسطورة إن كراكوز وعَيواظ كانا اسمين لرجلين حقيقيين عاشا في مدينة بورصة التركية في عهد السلطان أورخان، وعملا في مشروع لبناء مسجد بأمر منه. إلا أن الرجلين كانا كثيري الثرثرة والتهريج لدرجة أن حواراتهما الكوميدية المطوّلة قد شغلت بقية العمال تماماً وعطلت المشروع. وحين وصلت هذه الأنباء إلى السلطان أمر بشنقهما؛ لكنه سرعان ما ندم وأصيب بكآبة دفعت أحد رجال بلاطه إلى إنشاء شاشة في وسط القصر أخذ يرمي من خلفها بظل أحذية كراكوز وعيواظ مع مصاحبتها بالأصوات والحركات لمواساة السلطان!

وسواء كانت هذه القصة حقيقية أو متخيلة، تظل الشخصيتان الخياليتان كراكوز وعيواظ بالغتي التأثير في ثقافة ذلك العصر. إذ ان علينا أن نتنبه إلى أن مسرح الظل مثَّل في ذلك الوقت وسيلة الإعلام المرئي الوحيدة. وكان هذا المسرح من أهم وسائل الترفيه وقُدّم في المقاهي والساحات بل وحتى المناسبات الخاصة كحفلات الزواج والختان. لكن تأثير خيال الظل تجاوز الإطار الترفيهي. فكما كان مؤلفو تمثيليات خيال الظل يكتبون ويرتجلون لجمهورهم ما يخفف عنهم وطأة الحياة وبشكل عفوي بعيد عن تزويق الكتاب وخيالات الشعراء، فقد كانت الحوارات بين كراكوز الساذج وعيواظ الذكي حافلة أيضاً بالإسقاطات التي تساير نبض الشارع وتعبر عنه إزاء تطورات الأحداث السياسية والاجتماعية.. ما عرّض المؤلفين ولاعبي خيال الظل إلى الاضطهاد والملاحقة من قبل الحكام. فقد أحرقت جميع شخوص خيال الظل بأمر من السلطان جقمق عام 1451م لتعرضها بالنقد إلى السلطان ونظام حكمه في مصر. كما أن السلطات الفرنسية بعد استعمار الجزائر منعت مسرحيات خيال الظل تماماً. وبحسب المؤرخ عادل أبو شنب، فقد ساير خيال الظل تقلبات الحياة الاجتماعية والفنية. فمع أنه لاقى من جانب الحكام والسلاطين حظوة وقبولاً في بادئ الأمر، إلا أن الإقبال الشعبي عليه ما لبث أن أرداه في مهاوي العبث الرخيص والبذاءة. حتى إن علية المجتمع وعقلاءه لم يكونوا يشاهدون خيال الظل إلا عندما يشعرون بالحاجة إلى التبذل! ومن هنا نشأ ازدراء تواريخ الأدب لهذا النوع من الأدب الشعبي.

الظل في الأدب المكتوب
مع تطور تقنيات السرد وظهور القصة والرواية ترسخت بطولة الظل كمقابل نظري للغموض والسوداوية في تركيبة الشخصية القصصية. كلنا نتذكر قصة صاحب الظل الطويل حول فتاة تغرم بـ ظل رجل! هي تحب الرجل وتقترن به في نهاية القصة، لكنها لا تعرف شخصيته الحقيقية إلا متأخراً جداً مع أنها تتعلق منذ بداية الأحداث بظله الطويل أو ذي الساقين الطويلتين المثير للإعجاب. وفي هذه الحبكة القصصية لفتة جديرة بالاعتبار. ذلك أن الظل وفي السياق العقلي هو مرادف أيضاً للشخصية الموازية أو الافتراضية. الرجل ربما كان في الأصل قصيراً وربما كان صبياً غير بالغ أصلاً. لكن الفتاة اقتنعت بأن الظل الطويل هو لرجل طويل.. ووسيم وثري أيضاً. الظل أتاح لها قالباً تسترسل في بناء خيالاتها عبره.. ومن حسن حظها فإن خيالاتها هي بالذات قد طابقت الواقع!

الظل يعبِّر إذاً عن الشخصية الافتراضية، وهو تعبير دارج في السياقين الشعبي والأدبي. ولعلنا نذكر أيضاً رواية الرجل الذي فقد ظله الشهيرة لفتحي غانم التي نشرت عام 1968م، وتناولت التغيرات التي طرأت علىالمجتمع المصري في تلك الفترة وكيف برزت شرائح اجتماعية ثم ما لبثت أن ذوت ولم يعد لها أثر. في ذات السياقات أيضاً فإن الظل يعبِّر عن الشخصية المهيمنة.. وكل ذلك في إطار السرية والخفاء. من ذلك التعبير فلان يعيش في ظل والده . مثل هذه التعابير تستند في الأساس إلى كيانات عُليا مهيمنة وفائقة بحيث لا يسعنا إلا أن نقارب ظلالها . هذه التيمة محورية في أعمال أدبية من قبيل حكومة الظل للسعودي منذر القباني، و محاربو الظل للأمريكي توم كلانسي، وفي شخصيات أساسية في ثقافة الصورة المعاصرة مثل الرجل الوطواط المعروف أيضاً بـ فارس الظلام الذي تطورت حبكته، كما أقر بوب كاين مبتكر الشخصية، متأثرة ببطل هزلي آخر حمل اسم الظل كمحارب غامض للجريمة مجهول الشخصية وذو قدرات فائقة، ظهرت بدءاً كمسلسل إذاعي أمريكي في ثلاثينيات القرن الماضي.

لوجهه المحبَّب اسم آخر الفيء
بخلاف النظرات المعقَّدة والمركَّبة التي نظرت فيها الثقافات والفنون إلى الظل، تتبسط نظرة الإنسان المتجول في مكان مشمس وحار إلى الـظل ليصبح شيئاً جذَّاباً والحضور في كنفه أمراً مرغوباً. إنه الفيء ، الاسم الآخر للظل الذي يقتصر في دلالاته على ما هو لطيف ومحبَّب إلى النفس التي أرهقها حر أشعة الشمس.

ولم يكتف الإنسان بالظلال التي توفرها له بيئته الطبيعية أو المدنية، بل عمد إلى صنع المظلة. هذه الأداة التي تستمد اسمها بالكامل من الظل نفسه. حتى في الإنحليزية فإن كلمة Umbrella مشتقة من umbra اللاتينية والتي تعني الظل . إنها (أداة لتوليد الظل) وجودها متحقق به كما تؤكد تسميتها الأخرى: الشمسية . إنها متواجدة حيث الشمس ساطعة ومحرقة.. وهي تقاوم هذه الشمس بنظيرها المضاد لها.. بالظل.

قد يجادل البعض بأن مظلته لا تظهر إلا في الأيام المطيرة.. لكن هذا ليس إلا تنويعاً آخر على مقام الظل. المظلة مسؤولة عن إيجاد مكان ظليل.. وجاف لحاملها. ولعله من المثير للاهتمام كيف أن للمظلة، وللحاجة إلى الظل عموماً تأثيراً واضحاً على الأزياء عبر العصور. فالقبعة وغطاء الرأس عموماً ليس إلا شكلاً آخر للمظلة.. بما في ذلك العمامة والغترة العربية. وأغطية الرأس هذه كلها، كما الأزياء، تطوَّرت لتخدم أغراضاً جمالية واجتماعية متنوعة. إلا أن دورها الوظيفي في حماية رأس مرتديها واضحة. ويتجلى ذلك في المناطق حيث يشكِّل التعرض المباشر للشمس خطراً محتملاً، والتي يندرج النطاق العربي تحت بندها. وبالوصول إلى البيئة الصحراوية فإننا نستحضر أيضاً قيمة معنوية أخرى للظل في الوعي الجمعي لسكان هذه البيئة. فبالرغم من أن الظل، وكما أسلفنا سابقاً، يرمز إلى الغموض والمجهول وللخطر الخفي المتربص، إلا أنه في عقلية ابن الصحراء بالذات يبرز كرديف للحياة وللنجاة.

الظل في الصحراء القاحلة المنبسطة التي تصليها الشمس بلا رحمة
لا يتوافر إلا في جوف كثيب رملي لا تلبث الرياح أن تزحزحه، أو حيث الشجر.. حيث الماء بلغة أخرى. للظل إذاً قيمة قيِّمة حيوية في حضارة الصحراء. من البديهي أن نلاحظ كيف توالدت حواضر الصحراء التقليدية حيث مقومات الظل الطبيعي: الماء والشجر، وكيف واصلت هذه في تدعيم رصيدها من هذا الظل عبر اعتماد طرز معمارية قائمة على المساحات والأفنية الداخلية المزروعة والهياكل المسقوفة في المنازل وحتى في الأسواق على حد سواء. ولعله من المثير للاهتمام أن نلاحظ أيضاً كيف تحوَّل الظل إلى قيمة ترغيبية ورمز للمكافأة في هذا الإطار كما يتجلى مثلاً في القرآن الكريم الذي يَعِد بالظل الوارف ضمن نعيم الجنة، بل ويستخدم الصيغة التوكيدية في وصفه كما في قوله تعالى: ‭}‬والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلاً ظليلاً‭{‬ – سورة النساء، آية 57.

أضف تعليق

التعليقات