تفتِنُنا اللُّغةُ أو تَجرحنا – كما يقول بارت -؛ لكن هل فكرتَ بالنصِّ الذي يُحرق كاتبه بفعلِ اللُّغةِ – بوصفها أداةً -؟ الكلمات بمثابة الجسيمات؛ فهي التي تُشكِّل طاقةً حركيّة في اللغة، وكلّما تكاثرت بعشوائية وتسبّبت باهتزاز النَّص بمجرّد تفريغها تنشأ حينها حرارةٌ لُغويّة يصعب مقاومة غَلَيانها الفاتن؛ حتّى تدفع الكاتبَ دَفْعاً جنونيّاً لكتابة ما يُمثّله وما لا يُمثّله، ترشده للمنطق في عبارة وتحرفه عنه في عبارةٍ أخرى، حتى لربما يجد الكاتب نفسه يراقب مدهوشاً كيف تدفع شرارةُ الكلمة أختَها النَّقيضة بصفاقةِ اللَّامنطق؛ بل إنها لَتُلزِمُه بتحديث دماغه لاعتمادها في نظامِه اللغويّ بلا تمحيص، وقد يقف مُلزماً في أكثر من موضعٍ ويتحسّس هذه الحرارة مُستلذّاً ليُصفّق لقدراته الخلّاقة دون أن يعبأ بما يتّسق في النصِّ وما يُخلخله أو يُذيبه حتى!
هل كتبتَ مرةً رسالةً شاعريّة لشخصك المُفضّل وقادتك اللغةُ لكلامٍ رقيقٍ بالغ العذوبة إلا أنّك – نفسيّاً – لم تختبره أصلاً [وبالتالي فهو لا يمثّلك]؟ هل أعادتك الحاجةُ الفَجّة لقراءتها مُجدداً فخوراً بها وكأنها من نِسلك العظيم فكابرتَ نفسيّاً لئلا تواجه حقيقة أنها لا تُمثّلك، وأنكَ لم تختبرها أصلاً، وأنك كنتَ محض غاوٍ تحت جبروت اللُّغة وكلّما خضتَ تسويغاً وقعتَ في ذات المكابرة مجدداً؟
وهذه اللّذة الفارهة تُلهيك عن واقعة أنها لم تعد رسالةً شاعرية، بل نصّاً أدبيّاً محضاً، ومع ذلك فإنك مسؤولٌ – ما حيَت العلاقة بشخصك المُفضل – بإثبات وتحقيقِ وتبريرِ ما تقوّلتَ فيها وما جِلت. وأنك قبل إرسالها لن يسعك نفسيّاً أن تتجاسر فتتنازل عن كلمةٍ واحدة؛ لأنها – بسحرها الخالص – وحدةٌ لغوية إيقاعيّة متكاملة؛ سيهزّها أن تتراجع حتى عن جملةٍ اعتراضيّة، كونك قد أعلنت بمجرد إنهائها تبنّيها دفعة واحدة وكأنها دستورٌ تُلزم نفسك – والآخر – فيه.
أما أنت أيها الكاتب واللغةُ وقودك الأوّليّ، ستجد نفسك في كل مرةٍ تقف بحماسة الأديب أمام نصّه الموعود رهيناً بين ما قيل: “ليس هناك أدب دون أخلاقٍ للُّغة” وبين كلام بارت – في سياق حديثه عن التدفّق اللغويّ عند الكتابة -: “نكتب بشهوتنا، وأنا لا أنتهي من الاشتهاء”! وحتى لو كنتَ مُحتشَداً بالفكرةِ الخام التي أردتَ أن تُعلنها قولاً واحداً للملأ فإنها ستنصهرُ بفعل اللغةِ مرَّةً ومرتين، وستُحمِّلُكَ ما قصدتَ وما لم تقصد. وتبقى الكاتب القادر الذي – برغم ذلك – ينصاع مُختاراً للغةِ ذائباً بلا نهج يوجّهه لتسويغٍ واقعيّ أو حتى أدبيّ.
أما أنا فإني قد تنازلت عن نصوصٍ لا نهائيّة اعترافاً بسلطويّة هذه اللذّة، ونجاةً منها، أقول إنها نجاة، وهو هروب القادر المتواضع أمام سيّده وإنْ تسيّدتُ غفلةً مرةً ومرتين.
أتذكّر أني دخلت في دائرة تطهير كاملة من نمط الكتابة الأدبيّة عندما شرعت في كتابة أبحاثي في الماجستير بعد تحذير ممنهج في مسيرتي كاملة من هذا النوع من الكتابة، حتى تحرزت كعالمٍ كيميائي أمام مكوّنات خطرة دقيقة من وقوع المستسلم في اللغة، وذلك بالتعلّق بصلب المعلومة النقيّة، ولا شيء غير المعلومة المراد إيصالها، وكلما بدت جافةً أصبحت نافعةً للمشاركة ولامست قعر المقصود. كما أتذكّر محاولاتي الشرسة في الخروج من تلك الدائرة لدائرة التطهّر من نمط الكتابة الأكاديمية، كان خروجاً دامياً، ناقصاً بالضرورة. بدليل ما نشرته من مقالات جافة آنذاك – وبدليل صياغتي لهذه الجملة -، مقالات جيّدة لغويّاً ودلاليّاً ومنطقيّاً بشهادة مَن أحترم علمهم وعقلهم، ولكنك بعد قراءتها ستشعر بالعطش لأي قطعة أدبيّة تُنعش دماغك بها بعد تجربة الجفاف تلك.
لن أزعم بأن هذه المقالة توازي القطعة الأدبية المزعومة، بل إنها محض هياج لُغويّ استمر لشهرين كاملين لم أقاوم التمتُّع به طيلة هذه الفترة.
هذا الهياج اللُغويّ الفائر قد يفصلك عن ذاتك فصلاً ناعماً في اللحظةِ التي تنوي التعبير عنها، وعَن فكرتك الخام الأولى التي طُبخَت في دماغك أيّاماً وبمجرد الشروع في كتابتها انتهيتَ إلى نصٍّ ذي فكرة مختلفة كليّاً؛ كهذه المقالة مثلاً.
اترك تعليقاً