في الأول من يونيو من العام الجاري، افتتح متحف “الإرميتاج” في روسيا معرضاً عالمياً تحت عنوان “الذكاء الاصطناعي والحوار بين الثقافات”، شارك فيه أربعة عشر فناناً من ثماني دول إضافة إلى الدولة المضيفة. وتمثل الفن السعودي المعاصر في هذا المعرض الذي استمر لمدة شهر، بأعمال بارزة للفنانة لولوة الحمود، إضافة إلى رفيقتها دانية الصالح، جاورت أعمال ماريو كلينجيمان من ألمانيا وسون شون من الصين، وتيم فويد من كوريا الجنوبية ورسام الكمبيوتر الأمريكي جوناثان موناغان ونوريميتشي هيراكاوا من اليابــان. الأمر الذي يشكِّل مناسبة لزيارة الفنانة لولوة الحمود واستكشاف ما آلت إليه مسيرتها التي بدأت قبل عقدين من الزمن.
لولوة الحمود من الفنانات السعوديات المتميزات في التعبير الإبداعي بالأشكال الهندسية المجرَّدة، وتُعد واحدة من روَّاد الفن المعاصر في المملكة، إذ إنها سافرت في العام 1994م إلى لندن لدراسة الفن التشكيلي، عندما لم يكن هذا الفن يحظى بالاهتمام الذي يحظى به اليوم.
وتسعى الحمود من خلال أعمالها المعاصرة إلى استكشاف القواعد الخفية للإبداع الفني من خلال الأنماط الهندسية، وكذلك باستخدام الحرف والزخرف العربي، وذلك في سياق فكري يتماهى مع الطبيعة الإنسانية الشرقية، ويجمع بين الفن والعلم والروحانية.
أسلوب متفرِّد
ترى الحمود أنه يمكن للهندسة أن تكون وسيلة تعبير فني متحررة من القيود العلمية الصارمة، وأنها تتيح للفنان الابتكار اللامحدود. إذ يمكن للهندسة أن تتخطى المادة وتصل إلى ذرى الروح. وهذه الروح هي التي تجذب الفنان إلى البحث، حيث تتاح له تجربة مستوى أعلى من الوعي السائد، وذلك بتوظيف الخطوط والأشكال المنتظمة لإنشاء توليفات شكلية وزخرفية لا حصر لها، وتسمح بإلهام الحوار الداخلي عند الفنان.. وعند المتلقي أيضاً.
يرتكز أسلوب الفنانة، في بعض أعمالها، على إبداع تنويعات من الأشكال والخطوط والحروف العربية، غالباً ما تكون غنية بالألوان والحركة. وتكون المواد الحسية فيها ذات لغة جمالية مبهجة. ولهذه الغاية فهي تستعين بوسائل الإعلام المتعددة كأدوات ترفع من جمالية تعبيراتها الفنية المتشابكة.
وتنحاز الحمود في أعمالها إلى الهندسة الخطية والفراغية باعتبارها منهلاً كبيراً يتيح لها التجديد في الأشكال التجريدية التي تبتكرها، وتحويلها إلى تركيبات معقَّدة توحي بالدقة والانتظام، وتعطي إحساساً بالتوازن المتحرك والثابت. فتستخدم الرياضيات الإسلامية “علم الجبر والخوارزميات والمتتاليات الحسابية والهندسية”، والتقليدية لتفعيل لغة الاتصال الفني المرئي. كما تعمل على تفكيك الزخرفة الإسلامية إلى أنماط جديدة مثيرة للاهتمام وممتعة للمشاهدة، تماماً كما تفكك الحروف العربية مستنتجة أبعادها الرمزية، ومن ثم تحوّل هذه الرموز إلى خطوط بسيطة، كمادة بناء جديدة لتصاميم مستحدثة.
الهندسة الإسلامية مصدر لغة مجرَّدة
في تفسير الأشكال الجمالية في أعمالها التي تبدو منفتحة جداً على أساليب الفن المعاصر بتجريب وتسخير التقنيات الإلكترونية المبتكرة حديثاً، تقول الحمود: “أعتبر البحث عن أنماط هندسية إسلامية هو مصدر إلهامي”. فتصميماتها تستند إلى المعرفة المتراكمة من مختلف المعارف والعلوم في جميع أنحاء العالم الإسلامي. وترى أن هذه التركيبات المعقَّدة، التي تتصل بتكرار الأشكال الجمالية الأساسية، لا تمتثل تماماً للقواعد الهندسية الصارمة، بل تجلب إحساساً فريداً بالتحرر منها. وتضيف في ذلك “لقد سحرني هذا المستوى من التجريد، وأعتقد أنه من الممتع أن أقضي طوال حياتي، وأنا أعمل على إنشاء فن بهذه الطريقة”.
“أنظر وأتعامل مع الفن على أنه رسالة جدية جداً، مثله مثل الطب والهندسة، لذلك هو الذي يبقى تراثاً للأجيال من بعدنا، لا سيما وأن فن الحروفيات العربية والفن الإسلامي بشكل عام هو فن عالمي، وهو متبنى من حضارات وثقافات مختلفة، ولذلك هو واصل إلى كل الثقافات في مختلف أنحاء العالم”.
وتتعمق في نظرتها إلى هذا المسعى فتقول: “إن اللغة المجردة تحرر الفرد من قيود الزمان والمكان، وكذلك من المشاعر والتجارب التي تأتي بينهما، لأنها لغة أبدية تهتم بالتوازن والانسجام والخلود، إنها ببساطة لغة منخرطة مع قوانين الوجود الخفية”.
ولا بد لمن يتأمل في أعمال الحمود من أن يثير مسألة تكرار العناصر الجمالية في أعمالها، كما هو الحال أمام عملها الكبير “الكيان والوجود”. وحول وظيفة هذا التكرار تقول الفنانة: “لقد تفهمت ماهية التكرار من دون رتابة ونمو أعداده بلا حدود، ولكن مع تباينات بنسب تكميلية.. لهذا لم أكرِّر أو أستنسخ التصاميم التي قام بها الفنانون المسلمون منذ قرون سابقة، لكنني بدلاً من ذلك استخدمت معادلة رياضية معقَّدة تعتمد على مزيج من اللغة العربية المكتوبة والهندسة التحليلية والفراغية، ومن دون شك فإن اللغة العربية هي واحدة من أكبر الملهمات في الفن”.
واستلهام الخط العربي أيضاً
وبموازاة استلهام الأنماط والأشكال الزخرفية الإسلامية، ثَمَّة حضور واضح للخط العربي في بعض اللوحات المجردة، يتأرجح ما بين التقاليد الكلاسيكية والرؤية المعاصرة، من دون الجزم بانحياز الفنانة إلى أحدهما أكثر من الآخر.
فعن الخط العربي تقول: “إنه في قمة هرم الفنون الإسلامية. فهو بدأ وتطور من خلال كتابة النص القرآني المقدَّس، ولم يدخر الخطّاطون جهداً في محاولاتهم لجعله أجمل ما يمكن، سعياً منهم إلى تقريبه من جمال النص”.
في عملها “الأسماء الحسنى” مثلاً، تستعير الفنانة بعض الحروف أو الكلمات. ورغم استلهامها الفنون الإسلامية، إلا أنها تعنى بالتكوين الهندسي المجرّد، كالمربع والمعين ومتعدّد الأضلاع وغيرها. وتصنع من هذه الوحدات أعمالها الفنية. وتضيف أحياناً، وفق التراكيب والأشغال، كتابات ذات معانٍ وفق نظام يضع العمل في سياق الوحدة التي يتجزأ منها المعنى أو الحالة البصرية الجمالية.
وتفسّر الحمود طريقة تناولها الخط العربي بقولها إن الكتابة العربية تتضمَّن قواعد ومبادئ هندسية تبدأ من نقطة وتمتد إلى خطوط ومنحنيات. ولذا، فهي تولّد أفكاراً ومعاني لا حصر لها. ففن تشكيل الخط بالنسبة لها يعبِّر عن الحياة والمشاعر الروحية، وعن محاورة للنفس وليس للبصر فقط.
فن يجسّد الديمومة المبتغاة
تقودنا إشارة الفنانة إلى البعد الروحي أو الفكري الذي تستقيه من الهندسة وتراث الخط العربي إلى الاستفسار عن الخطاب الذي تسعى إلى إيصاله من خلال هذه الأعمال، فتقول: “اخترت فناً يعبِّر عن إيماني، لا عن مشاعري. هناك فن وقتي يعبِّر عن مشاعر وقتية زائلة، وهناك فن آخر صامد وأزلي يجسد الديمومة وعلاقة الروح بخالقها، وهذا ما أحاول الوصول إليه والاشتغال عليه”.
يقول الناقد والمفكِّر الفرنسي رينيه هويغ، إن الوصول إلى العالمية في الفن غير ممكن من دون الانطلاق من المحلي. وبالفعل، فإن أعمال الحمود التي يجتمع فيها استلهام الهندسة الإسلامية والخط العربي لطرح أسئلة إنسانية عامة حول الوجود وعلاقة الإنسان بالكون بلغة بصرية معاصرة، ضمنت لها بعدها الإنساني العام، فلاقت أينما كان الاهتمام نفسه الذي لقيته في بيئة مولدها. واستقر بعض هذه الأعمال في “متحف القارات الخمس” في ميونيخ بألمانيا، وبعضها الآخر في “متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون” (لاكما)، كما ضمنت لها حسن الاستقبال في المزادات العلنية التي أقامتها دور مثل كريستيز وسوثبي في دبي ولندن.
نظرتها إلى حال الساحة الفنية
“ما ننتجه تراث للوطن وللعالم”
ختاماً، ولدى سؤالها عن رأيها في تطور الحراك الفني في المملكة، قالت الحمود: “عندما بدأت بممارسة الفن في بلدنا، لم تكن هناك أقسام أو دورات خاصة لتدريس الفن في مؤسسات التعليم العالي. وعندما كنت طفلة، كنت أرسم لنفسي فقط. وعندما كبرت ورغبت في دراسة الفنون لم تكن هناك، ومع الأسف مؤسسات متخصصة في هذا المجال. وكنت في حيرة من أمري.. وبناءً على إصرار والدي درست علم الاجتماع”.
وتضيف: “الفن المعاصر في السعودية يتطور حالياً بشكل كبير. ففي السابق، كان الفنانون يعملون بشكل فردي. وقليل من الناس كانوا يهتمون بالمجال الفني. ولكن الوضع تغيَّر اليوم، فقد أصبح دعم الفنون أحد أولويات وزارة الثقافة ضمن رؤية 2030”.
وتختتم حديثها بالقول: “لقد أصبحت الرياض على قناعة بأهمية الفن أكثر من أي وقت مضى. فأنا مثلاً كنت خلال السنوات الماضية أشارك في المعارض حول العالم بمفردي، وبجهد شخصي بعكس مشاركاتي هذا العام، المدعومة رسمياً من وزارة الثقافة. إن الفن ضرورة من ضرورات الحياة وما ننتجه اليوم هو تراث للوطن والعالم في المستقبل”.
سيرة مختصرة
لولوة عبدالرزاق الحمود من مواليد الرياض.
حصلت على بكالوريوس في علم الاجتماع من جامعة الملك سعود بالرياض عام 1988م، وعلى بكالوريوس في تصميم الاتصالات المرئية والتصميم الجرافيكي من الكلية الأمريكية في لندن عام 1997م.
في عام 2000م، حصلت على درجة الماجستير في “تصميم الاتصالات المرئية في الفن الإسلامي” من كلية الفنون والتصميم بلندن.
تولت تنظيم فعاليات ثقافية عديدة منذ عام 1999م، كما أشرفت على معارض فنية في لندن منذ عام 2001م.
عملت على مشروع تعليمي مع متحف لندن عام 2006م.أشرفت على أول معرض سعودي للفن المعاصر تحت عنوان “إيدج أوف أرابيا” عام 2008م، الذي أقيم في غاليري بروناي في لندن. وشاركت في تنظيم معرض “نبط” الشهير في شنغهاي 2010م.
شاركت في عديد من المعارض العالمية في لندن وشانغهاي وباريس ولوس أنجلوس. وطرحت أعمالها في مزادات عالمية عديدة.
اترك تعليقاً