الذين يعرفون صحراء الربع الخالي جيداً، يعرفون واحدة من ظواهره الطبيعية النادرة، ألا وهي السبخات الملحية التي تتشكَّل بفعل تدفق السيول من الجبال، ملتقطة الأملاح من الصخور، وعندما تترسب هذه المياه في أرض منبسطة يتبخر الماء تاركاً وراءه مساحات بيضاء تُرصّع الصحراء. وواحدة من أجمل هذه السبخات هي سبخة البحر الصافي في سلطنة عُمان، المميزة ببلوراتها الملحية الكبيرة اللامعة دائماً تحت شمس السماء الصحراوية الزرقاء.
تتمتع سلطنة عمان بتنوُّع طوبوغرافي وجيولوجي فريد، جعل من بيئاتها ومعالمها الطبيعية مقاصد سياحية بكل ما فيها من جبال خضراء وأخرى جرداء وعرة وصحاري وأودية وشلالات وشواطئ وطيور وحيوانات. كثير من التكوينات الطبيعية في السلطنة تجتذب الجيولوجيين ومحبي السفر والمغامرات والاكتشاف. ومن بينها السبخات الملحية في صحراء الربع الخالي، التي يعرفها كل من زار هذه الصحراء العظيمة، والتي تختلف كثيراً عن بعضها بعضاً، إلا أن منها ما يتخذ شكلاً باهراً للنظر، يشد المصورين الفوتوغرافيين إليه، رغم ما ينطوي عليه ذلك من خطورة قد تصل إلى نقطة اللاعودة منها. وواحدة من أشهر هذه السبخات، ومن أكبرها في الجزيرة العربية هي “سبخة أم السَّمِيم”، التي قصدها المصور العُماني هيثم الشنفرى، المتخصص في تصوير الحياة الطبيعية والفطرية في عُمان، ليوثق بعدسته هذه الظاهرة الطبيعية ذات المظهر الأخّاذ والنادر.
الرحلة من مسقط
يقول الشنفرى: “أنا كمصور، أبحث عن الأشياء التي تمّيزنا، وكان الهدف من رحلتنا إلى أم السميم، توثيق حالة نادرة جداً تتعارض مع الصورة النمطية المألوفة لصحراء الربع الخالي على أنه مؤلف من كثبان رملية فقط، وهي السبخات الملحية المختلفة جداً عن محيطها الرملي. وصورت مع زملائي حالة طبيعية نادرة الحدوث شهدها الربع الخالي، في هذه المنطقة الواقعة شمال غرب سلطنة عُمان”.
ويضيف هيثم: “أما الهدف الثاني من الرحلة فكان توثيق الأحوال المناخية التي مرّت بها سلطنة عُمان، في “منخفض الثجاج”، وهو من أقوى المنخفضات التي أثرت على شمال السلطنة. ولله الحمد وفقنا في رحلتنا، في ظل الأجواء الجميلة التي صادفناها في صحراء الربع الخالي”.
وإضافة إلى الشنفرى، ضم الفريق الذي قام بهذه الرحلة إلى سبخة أم السميم، أربعة من هواة الرحلات هم: أحمد الطوقي، وأحمد الشكيلي، وزاهر السيابي، وحكيم الزدجالي. وانطلق الخمسة من مسقط باتجاه منطقة أبي الطبول القريبة من الحدود مع المملكة العربية السعودية.
انطلق الفريق من العاصمة مسقط، وبعد اجتيـاز أكثر من 450 كيلومتراً، وصل إلى منطقة أبي الطبول التي تبعد 20 كيلومتراً فقط عن الحدود. وتوقفوا أمــام بحـر من الملح الأبيض يمتد حتى الأفق.
سبخة أم السَّمِيم
تُعدُّ هذه السبخة من أكبر السبخات الداخلية في الجزيرة العربية، إذ يبلغ طولها أكثر من 100 كم بقليل. وكانت قد لفتت أنظار كثير من الرحالة الأجانب الذين عبروا صحراء الربع الخالي، أو مرُّوا بها وهم يجوبون أنحاءه الجنوبية الشرقية، فكتبوا عنها. ويُعدُّ السير ويلفريد ثيسيجر (Wilfred Thesiger) أول رحالة بريطاني يتعرف على هذه المنطقة من خلال رحلته إلى عُمان في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، كما وصف الرحالة فون ريد (1843م) الجزء الجنوبي الشرقي من الربع الخالي، وتحدث عن سبخة أم السميم والرمال المتحركة المحيطة بها وسماها “البحر الصافي”.
وعلى الرغم من الجمال الذي تنطوي عليه سبخة أم السميم، إلا أنها تُعدُّ خطرة جداً. إذ لا يمكن اجتيازها إلا من طريق محدَّدة. كما أن فيها كثيراً من الرمال المتحركة والأراضي الرخوة غير المستقرة التي تكوَّنت نتيجة تجمع مياه الأودية والأمطار.
كيف تتكوَّن بحار الملح هذه؟
السبخات، كما يعرف الجميع هي أراضٍ قلوية تشكَّلت بمرور الزمن بفعل ما حملته إليها السيول الموسمية من أملاح ومعادن ذائبة من الجبال والأودية التي مرّت بها ورسّبتها في هذا الموضع أو ذاك.
وتدل الأبحاث العلمية والمخبرية التي أجريت على مكوّنات سبخة أم السميم أنها تحتوي على أملاح متعدِّدة، منها: الصوديوم والكالسيوم والمغنيسوم والبوتاسيوم والفوسفور والكلوريدات والكبريتات والبيكربونات والنترات وحتى البورون بشكل ثانوي. كما تعيش فيها كائنات مجهرية ميكروبية وقشرية تتكيف مع الوسط الملحي الذي يميزها. لكن هذه السبخة وغيرها تتعرَّض لمعدلٍ عالٍ من تبخر المياه. ونتيجة لتبخر محتواها المائي، ينتج تجمع للأملاح المختلفة بتراكيبها الكيميائية التي تتبلور لتشكل في النهاية طبقة القشرة الصلبة للسبخة.
يقول الشنفرى: “هذه الظاهرة الطبيعية لافتة للنظر على المستوى الجمالي بشكل خاص. ففي النهار، وتحت أشعة الشمس، تبدو باهرة ببياضها وبريقها. أما ليلاً، فهي تجعلك تراها من مسافة بعيدة بيضاء مضيئة، كبياض قرص القمر عندما يكون بدراً. لكنك عندما تصل إليها لا تجد أي ضوء، ولا أية أجسام مضيئة. وهذا يرتبط بوجود الفسفور بتركيزات عالية في التربة الملحية”.
ويضيف: قضينا ليلتيـن كاملتيـن في الصحـراء، لتوثيق هذا المشهد الجميل الذي أبهرنا، حتى إننا تذوقنا هذا الملح الذي لا نعرف ما هو فعلياً، ولا أي من مكوناته”.
وتبقى الحقيقة، أنه توجد في عُمان والصحـراء العربية عموماً غرائب جيولوجية كثيرة. فهي غنية بالتضاريس الطبيعية المتنوِّعة التي تعرض فصلاً جميلاً وحافلاً من التاريخ الجيولوجي المكتوب على صفحات الجبال والكثبان والسهول والوديان. وكان لعدسة هيثم الشنفرى، المصور العماني، إسهام قيم في توثيق الجمال الطبيعي في واحدة من بيئات عُمان الجميلة.
تصوير: هيثم الشنفري
اترك تعليقاً