عن الثقافة أتحدَّث، وأتصورها كرة مضيئة تنير حياة الإنسان المعنوية، وهي من صنعة المتراكم عبر التاريخ، مقابل الشموس والأقمار الطبيعية التي تنير فضاءه المادي. والرهان الأعظم لثقافتنا العربية هي أن تتحرَّك مؤشراتها لتتوجه نحو المستقبل، دون أن يعني ذلك –كما يرجف بعض المتخوفين- قطيعة معرفية مع الماضي، لأن الحالة العربية تأبى هذه القطيعة، وبخاصة في الشقّ الإنساني، أما في شق العلوم الطبيعيّة فإنها ضرورة محتومة؛ لأن نظريات العلم تعتمد على تكذيب اللاحق للسابق أو على الأقل تعديله، بينما تعتمد العلوم الإنسانية على التنامي والتراكم لا المحو والاستبدال.
فإذا استحضرت مثلاً قطرة من رحيق ثقافتنا الشعرية التي لم يكن للعرب علم غيرها، تراءت لي مثل النجوم الهادية في سماء الفكر، تدعو للتأمل وتثير الإعجاب المتجدد، مثل قول الشاعر القديم:
والمرء ساعٍ لأمر ليس يدركه
والعيش شُحّ وإشفاق وتأميل
فبين متاهة المستحيل التي تتطاير كالسراب أمام سعي الإنسان الدؤوب لتحقيق طموحاته، تبدو الحياة كلها وكأنها حزمة من الضنى والبخل، ولوعة من الأسى والإشفاق، ونفحة من الطموح والأمل؛ تلخص بكلمات وجيزة مكثفة وبليغة عيون الحكمة وجوهر الفلسفة.
ولا يفيدني في شيء أن أقرأ روائع الشعر المحدث من دون أن أختزن في مأثوري هذه الكلمات الجوامع. على أن هذا المستقبل الذي أغني له لن يولد فجأة، فأجنّته مزروعة في رحم الواقع منذ زمن، واللحظة الراهنة حبلى به، وعلينا أن نجعل ولادته سهلة طبيعية وليست عسيرة قيصرية.
وسبيلنا إلى هذا اليسر الجميل أن نسعى لتشكله بصيغ متناغمة مع منظومة القيم الحضارية في تراتبها العصري وأولوياتها الضرورية؛ إذ لكل فترة تاريخية هيكل محدَّد، تتقدَّم إحداها لتقود حركة بقيتها، وأحسب أن الحرية بتجلياتها السياسية في الديمقراطية وتداول السلطة، والاقتصادية في تحقيقها للكفاية والعدالة، والاجتماعية في تحريرها للثقافة وإطلاقها لطاقات الفرد من كسر قيود المكان والزمان بالتناغم مع حركة المجتمـع، هذه الحرية هي التي أصبحت تقود بقية منظومة القيـم. فبوسعنا أن نقيس خطواتنا عليها، فكلما حققت تقدُّماً نحوها كانت صحيحة رشيدة، أو نكست عنها كانت متخلفة خاطئة.
من هنا صار هدف العلم تحرير الإنسان من قيود الضرورة، لتمكينه من السيطرة على نفسه وعلى الكون من حوله، وقد كان هذا العلم على رأس المنظومة من القرن التاسع عشر حتى تنازل عن عرشه للحرية، واتسع مجاله كي يضمن تحقيق أكبر قدر من العدالة والإنتاج التكنولوجي الباهر.
وإذا كانت هذه العدالة هي الميزان الذي تقيمه المجتمعات المتقدِّمة ليحكم علاقاتها الداخلية، فإنها ما زالت حلماً بعيد المنال في علاقاتها الخارجية المحكومة بنزعة السيادة والتفوق. لكن يظل أعتى التحديات التي تواجه الثقافة العربية هي الفجوة الرهيبة بين الصفوة النخبوية والقاعدة العريضة لأبناء الشعب التي لم تترسخ في أعماقها منظومة القيم العصرية وتصل إلى درجة الإيمان بها والتمثل الحقيقي لها.
ما زال الخطاب الثقافي العلمي المستنير غير مترسب في قاع المجتمع، ولم يتمكن من وجدان أبنائه المحرومين من ثماره، هذه الفجوة هي التي استغلتها بعض جماعات الإسلام السياسي لتتذرع بدعوة حماية الدين للقفز على السلطة وتزييف الوعي الحضاري واستغلال عواطف الجماهير لتكريس الجهل والخرافة والتخلف واستعباد الناس، والحط من شأن المرأة وإقامة التناقض بين الدين والعلم والحرية.
وليس هناك من سبيل لتجاوز ذلك سوى بالتعليم والإعلام الرشيد والفن الجميل. وقد كان طه حسين عبقرياً حين ربط بين التعليم ومستقبل الثقافة، ودعا إلى ضرورة تعميمه وتعميقه، فمراحل التعليم هي التي تطبع الفكر وتبني العقل وتكوّن الوجدان، وإذا كان لي أن أختار بيتاً واحداً من الشعر العربي أؤكد به مفهوم السببية باعتباره حجر الأساس في الفكر العلمي، لاخترت قول الشاعر:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها
إن السفينة لا تجري على اليبِس
فتجديد التفكير الديني عن طريق عقلنته لدى العامة ليقوم بوظيفته الأخلاقية ويضم مذخوره الروحي إلى حصاد الفنون الجميلة والآداب الرفيعة، هو الذي يضبط إيقاع الثقافة العربية كي تسهم في الشراكة الحضاريّة المعاصرة، كما أسهمت في فترات ازدهارها الماضية، دون أن نغفل أن سرعة حركة التحديث اليوم لن تنتظر من لا يخوض رهان المستقبل ويستعد لمفاجآته بمعرفة ووعي وشجاعة.
اترك تعليقاً