العين جزءٌ من أعضاء الجسم، وقد يأتي وصفها غالباً مع بقية أعضائه بشكلٍ عام، أو ضمن وصف أعضاء الوجه بشكل خاص، إلا أنها تحظى باهتمام كبير وحضور خاص في لغة الفن والأدب. ذلك أنها محط التركيز والاهتمام عند نظر الناس إلى بعضهم بعضاً، وما تعكسه العين من تعابير وملامح وأوصاف تمثِّل دلالات متفرِّدة وعميقة لشخصية الإنسان وانفعالاته وحالته النفسية أو المزاجية، ولذا نجد الروائيين لا يكادون يغفلون وصف العيون تحديداً لشخصياتهم الروائية.
في هذا المقال، استحضار لبعض النماذج من حالات الوصف لعيون شخصيات روائية، وكيف وظَّفها الأدباء والروائيون في السياقات المختلفة.
يُعدُّ وصف الشخصية الروائية، في أبعادها الجسمية والنفسية، من أهم عناصر خلق تلك الشخصية، التي تجعلها تتجسد ملامحها شكلاً ومعنًى؛ لكي تخلد في الذاكرة. وإذا كان الوصف الجسدي يحتل مكانته المهمة عند الروائي في تقديم شخصيته في بُعدها الشكلي بكل تفاصيل الجسد، فإن العين قد احتلت مكانة خاصة في هذا الوصف. وفي المقابل، نجد في عالم الشِّعر، فالشعراء قد تفنَّنوا في وصف عيون المحبوبة، خصوصاً في قصائد الغزل التي تنحاز للوصف الجمالي، لذا تنافس الشعراء – منذ القدم – في وصف المعشوقات، وكلٌّ يبتكر صورته الشِّعرية التي يريد فيها تخليد عينَي حبيبته، وغالباً ما اقتصر ذلك الغزل في وصف عيون المرأة، واستبعد – بشكل كبير – وصف عيون الرجل. وإذا كان للشِعر دوره في الوصف الجمالي للعين، وأحياناً في الهجاء، فكيف كان وصف العين في السرد؟
وظيفة وصف العيون في الرواية
لا شك أن وظيفة الوصف في السرد مختلفة تماماً عن وظيفته في الشِّعر وأغراضه المختلفة، لذا جاء وصف العين في الروايات بأشكال وصفات متعدِّدة، كلها تحاول أن تعزِّز ملامح الشخصية الموصوفة، جاعلةً الملامح الجسدية واضحة في ذهن القارئ. والعين جزءٌ من أعضاء الجسد، لذا يأتي وصفها غالباً مع بقية أعضاء الجسد بشكل عام، والوجه بشكل خاص، ولذا يحرص الروائي على أن يتوافق أو يختلف وصف العين مع بقية أعضاء الوجه بحسب معطيات الشخصية. وفي حالات نادرة، يكتفي الروائي بوصف العين فقط، وهذا غالباً ما يأتي مع الشخصيات العابرة والهامشية، التي تحضر في مشاهد محدودة في الرواية.
وصف العين في الروايات لا بد أن يعبِّر عن الشخصية، وإلا أصبح وصفاً زائداً بلا معنى. لذا غالباً ما يحافظ الروائي على التناغم بين وصف العين وطبيعة الشخصية ودورها في النص الروائي. أحياناً يحدث في وصف العين بعض المفارقة، وسنجد ذلك يتجلى في رواية (موسم الهجرة إلى الشمال)، حيث نلاحظ أن هناك مفارقة بين وصف عينَي مصطفى سعيد الناعسة وبين شخصيته في الرواية.
وفي المقابل، نجد أن الروائي قد يكرِّس صفات الشخصية وطبيعة دورها من خلال وصف العينين، وهذا ما نجده في روايات أجاثا كريستي، بينما تصف المحقق هيركيول بوارو: “رأسه بيضاوي الشكل، عيناه الخضراوان كعيون القطط”، وفي موقع آخر نجد هذا الوصف: “رفعت وجهي غاضباً، فرأيت وجهاً يطل من الجدار إلى يساري، ورأساً بيضاوي الشكل مكسوّاً بشَعر أسود كثيف يثير الريبة وعلى الوجه شاربان کبيران وعينان يقظتان تحدقان”. ونلاحظ هنا أن أجاثا كريستي حافظت على وصف الرأس بالبيضاوي، بينما كان هناك اختلاف في وصف العينين، ولكن ذلك الوصف لا يخرج عن سياق ملامح شخصية المحقق؛ حيث العين تشبه عيون القطط أو العينين اليقظتين.
دستويفسكي والتوغل
في وصف العين
الروائي الروسي دستويفسكي كعادته لا يستحضر التفاصيل كالروائيين الآخرين، بل يذهب بعيداً في الوصف. فمثلاً في رواية (مذلون مهانون) وصف تفاصيل وجه بطل روايته، ومنها العينان: “كان كل شيء في وجهه يجعل منه رجلاً في منتهى الوسامة، شكل وجهه البيضاوي المشبع بالسمرة، وأسنانه الرائعة، وشفتاه الصغيرتان الدقيقتان المرسومتان بعناية، وأنفه المستقيم الممتد قليلاً، وجبهته العالية التي لا يعلوها أدنى تغضن، وعيناه الرماديتان الواسعتان”.
جاء وصف العين في الروايات بأشكال وصفات متعدِّدة، كلها تحاول أن تعزِّز ملامح الشخصية الموصوفة، جاعلةً الملامح الجسدية واضحة في ذهن القارئ.
هذا الوصف المختزل لم يشبع رغبة دستويفسكي في التعبير عن ملامح شخصية بطله الروائي، فعاد مرَّة أخرى ليتعمق في وصف العينين الذي لم يكن مجرد وصف شكلاني، لكنه وصف يقرأ البُعد النفسي في تلك الشخصية، وكيف أن تلك العينين لا تخضعان لسلطة جسده: “عيناه الرماديتان الواسعتان هما الوحيدتان اللتان لا تخضعان لإرادته تماماً، بخلاف باقي أعضائه، فحتى لو شاء أن ينظر إليك نظرة لطيفة رقيقة، فإن أشعة أخرى فظة تظهر إلى جانب تلك اللطيفة الرقيقة. أشعة أخرى فظة ومرتابة وحاقدة ومتشككة”.
العين والصورة السلبية
للشخصية الروائية
غالباً ما يحاول الروائي أن يكرِّس الصورة السلبية لشخصيته الروائية في ذهن القارئ، ووصف العين من أكثر الأوصاف الجسدية وضوحاً، فهي تكشف عن ملامح الشخصية. ولذا نجد أن هناك توافقاً بين الوصف السلبي للعين وبين الشخصيات السيئة. في رواية (الرهينة) لمطيع دماج نجده يصف ملامح شخصية نائب الإمام بكل الأوصاف السلبية، منها وصفه لعيني تلك الشخصية: “كان متكئاً بكرشه المنفوخ وبعينيه الجاحظتين وشفتيه المتدليتين كأن ورماً خبيثاً أصابهما”. وهذا الوصف السيئ أيضاً نجده عند نجيب محفوظ في رواية (زقاق المدق) في وصفه لشخصية المعلِّم كرشة صاحب السلوك المنحرف، حيث يصف عينَي المعلم كرشة في مشهده مع ذلك الشاب بهذه الأوصاف، وهي أوصاف تناسب المشهد وتناسب الحالة النفسية التي كان عليها المعلِّم كرشة.
الآخر عندما يصف عيون الآخر
لم يتكلف خوان رولفو في رواية (بيدرو بارامو) كثيراً في وصف عينَي بطلته، حيث كتب: “وكانت عيناها مثل عيون جميع الناس الذين يعيشون على الأرض”، وهذا الوصف في عاديته يبدو معبِّراً ومتناغماً مع تعاطي الروائي مع شخصيته في تلك الرواية. ولكنه – في الرواية نفسها – يتجلى في وصف عيون الشخصية الأخرى: “تأملته بعينها نصف الرماديتين، نصف الصفراوين، اللتان تبدوان كأنهما تحزران ما الذي داخل المرء”.
أما في رواية (نهاية علاقة غرام) للروائي غراهام غرين، نجد ذلك الوصف الرقيق لعينَي سارة بطلة الرواية، وهو وصف يتناسب مع رهافة تلك الشخصية: “تساءلت أين رأيت – من قبل – تلك العينين الاعتذاريتين الرقيقتين”. وعلينا هنا أن نقول ونذكر أن وصف العيون في أي رواية يلعب دوراً في تشكيل صورة المتلقي/القارئ عن الشخصية الموصوفة، لذا قرأنا الوصف الرقيق لعينَي سارة؛ لأنه جاء من خلال عشيقها في الرواية. وهو ليس عشيقاً فقط، بل هو أيضاً كاتب؛ لذا كانت له قدرة على ذلك الوصف المبتكر.
لكن في (امتداح الخالة) للروائي ماريو بارغاس يوسا، نجد هذا الوصف الصادم من لوكريثيا للمراهق ألفونسو، وهو وصف مبرر بحسب سياق الحكاية، فلقد كانت تراه المراهق الشيطان: “هو ذا ألفونسو قد رجع. كان يحمل دفتراً في يده. قدَّمه إليه دون أن يقول شيئاً وهو ينظر إلى عينيه بثبات، بتلك النظرة الزرقاء شديدة الهدوء والسذاجة التي تقول عنها لوكريثيا إنها تجعل الناس يشعرون بأنهم قذرون”.
في (ذهب مع الريح) تتجلى البراعة
من أكثر حالات البراعة في وصف عيون الشخصيات الروائية، ما كان في رواية (ذهب مع الريح) للروائية مارغريت ميتشل، حيث جاء بأشكال مختلفة وفي حالات مختلفة بحسب سياق السرد، ففي افتتاحية الرواية بدأت الروائية مباشرة في وصف سكارلت ذلك الوصف الصادم قائلةً: “ولم تكن سكارلت أوهارا بالفتاة الجميلة”، لكنها استدركت: “ولكن قلَّما كان الرجال يدركون ذلك حين كانت تفتنهم بسحرها الأخَّاذ). ثم أخذت تصف ملامح عينَي سكارلت، وهي لا تكتفي بوصف شكل ولون العين، بل تعطي إيحاءً للقارئ بطبيعة هذه الشخصية من خلال نظرات عينيها، “أما عيناها؛ فكانتا خضراوين شاحبتين لا تشوبهما صفرة، تلمعان بنظرات نافذة كالسياط، في طرفيهما قليل من الزيغ، وفوقهما حاجبان أسودان غليظان مائلان إلى الأعلى، مشكِّلينِ خطّاً منحرفاً مثيراً في بشرة وجهها البيضاء بياض زهرة الماغنوليا”.
غالباً ما يحاول الروائي تكريس الصورة السلبية لشخصيته الروائية، ووصف العين من أكثر الأوصاف الجسدية وضوحاً وكشفاً عن ملامح الشخصية.
لكن عندما يتوغل القارئ في قراءة الرواية، سيصادف كيف كانت سكارلت تنظر إلى ذاتها وإلى عينيها بالتحديد، وهي نظرة تتوافق مع شخصية سكارلت: “فلقد كانت تعرف أن عينيها كانتا تبدوان أحياناً كعينَي قطة جائعة”. ولأن سكارلت كانت المرأة الغيور من كل النساء، وغيوراً تحديداً من شخصية ميلاني، وهي ليست غيرة البغضاء بقدر ما هي غيرة الحسرة من النقصان في الطمأنينة الذي تشعر به سكارلت وتنعم به في مقابل ميلاني، لذا كانت سكارلت ترى عينَي ميلاني بهذه الرؤية: “التي كانتا عينَي امرأة سعيدة، امرأة يمكن للزوابع أن تعصف بها دون أن تكدر نواة وجودها الراضية”. ولا تكتفي سكارلت بهذا الوصف لعينيَ ميلاني، بل تستحضر وصف عشيقها ريت بتلر وكيف يرى عينَي ميلاني: “آفتهما أنهما كانتا كشمعتين؟ ها، أجل، كعملَين طيبين في دنيا فاسدة. نعم، لقد كانتا کشمعتين، شمعتين منعزلتين عن كل ريح، ضوئين ناعمين”.
تأثر الروائي في وصف شخصياته الروائية
ربما يبجل الروائي إحدى شخصياته دون أن يتقصد ذلك، وربما يصل الأمر إلى حد أن طبيعة الشخصية تؤثر في الكاتب، لذا نجده يصفها باستحياء. لذا يشعر القارئ، عندما يصف نجيب محفوظ الست أمينة بطلة الثلاثية، أنه وصفها بوقارٍ، وليس من عادة نجيب محفوظ الوصف الوقور لأجساد بطلات رواياته: “كانت في الأربعين، متوسطة القامة، تبدو كالنحيفة، ولكن جسمها بض ممتلئ في حدوده الضيقة، لطيف التنسيق والتبويب. أما وجهها؛ فمائل إلى الطول، مرتفع الجبين، دقيق القسمات، ذو عينين صغيرتين جميلتين تلوح فيها نظرة عسلية حالمة”.
وفي المقابل، رواية (قصة موت معلن) رغم أنها تحكي عن تفاصيل حادثة قتل، إلا أنها ممتلئة بالمرح. كان ماركيز يروي عن أبطال تلك الرواية باستخفاف سواء القتلة أو المقتول سانتياغو نصار، وهذه الحالة انعكست على وصفه شخصيات روايته بمرح.
أما رواية (أورلاندو)، فكان أورلاندو الشخصية الملتبسة سواء في تكوينه الجسدي أو النفسي، لذا لم تفرط فيرجينيا وولف في كتابة أوصافه الجسدية دون أن تضع ذلك الالتباس كجزء من الوصف، لذا قالت عن عينَي أورلاندو: “ولكن يا للأسى، لا يمكن لهذه اللوائح التي تصف هذا الجمال الشاب أن تنتهي دون ذكر الجبين والعينين. ويا للحسرة أن يندر أن يخلق الناس خالين من مثل تلك الأشياء الثلاثة معاً، فنحن لو نظرنا إلى أورلاندو وهو واقف عند النافذة، علينا أن نعترف أن له عينين كالبنفسج المندَّى، واسعتين حتى ليبدو الماء كأنه يطفح منهما ويوسعهما”.
التكرار في وصف العيون
ما أكثر وصف العيون عند تولستوي في رواية (آنا كارينينا)، وهو وإن كان وصف – في بداية الرواية – عينَي آنَّا كارينينا بذلك الوصف الكلاسيكي والمختزل: “امرأة رائعة الجمال، عيناها رماديتان، شفتاها نضرتان هدلاوان، شعرها أجعد فاحم”. لكنه بعد ذلك تجلى في وصف عيون شخصيات روايته، وإن كان أحياناً يكرر الوصف. لكن ما يُلاحظ على أوصاف العيون هذه أنها تأخذ ملامح التعب والكآبة: “عيناه الحزينتان المتعبتان”، و”ينظر إليها بعينين ضارعتين”. ولكن ذلك الوصف عند تولستوي قد يأخذ حالة من العمق في وصف انفعالات الشخصية، وهذا ما لاحظته دولي على آنا وهي تزر عينيها: “ولاحظت دولي عندما زارت آنا ظهور عادة جديدة عندها؛ فقد رأت أن آنا تزر عينيها عندما يدور الكلام حول الجوانب العاطفية من حياتها. تماماً كأنها تزر عينيها من حياتها؛ كي لا تراها كلها”.
ما من رواية تكرَّر فيها وصف العيون مثلما تكرَّر في رواية (الخيط الرفيع) لإحسان عبدالقدوس، وقد يُعدُّ التكرار الذي حضر 69 مرَّة إسرافاً في وصف العيون.
وما من رواية تكرر فيها وصف العيون مثلما تكرر في رواية (الخيط الرفيع) للروائي إحسان عبدالقدوس، وقد يُعد ذلك التكرار الذي حضر 69 مرَّة إسرافاً في وصف العيون، فما من مشهد في الرواية إلا واستحضر العين وتداعياتها. وهذا كثيرٌ على رواية عدد صفحاتها لا يتجاوز 132 صفحة. ولكن هناك مبرِّر – قد يقبل به البعض – بأنه كان يناسب حالة بطل الرواية عادل الذي كان إنساناً منغلقاً على ذاته مشغولاً بتفوقه الدراسي، ثم التفوق الوظيفي. وعندما وجد (منى) بطلة الرواية انطلق في تأملها وتأمل الحياة، وذلك التأمل كان ينطلق من العينين.
ولأنه من الصعب استحضار كل تلك الأوصاف التي وردت في الرواية، لكن نستحضر بعضها، ونلاحظ أن هناك تنوعاً في الوصف بحسب أحداث الرواية، وإن كان قد وقع في تكرار ذات الوصف في بعض الأحيان. وكان إحسان عبدالقدوس ابتدأ وصف عادل بهذه الصورة: “لا يزال كما كان تلميذاً في المدرسة السعيدية؛ نفس الرأس الكبير والوجه النحيل ذي الجلد الأصفر المشدود ونفس الشفتين الرقيقتين الباهتتين والعينين الواسعتين اللتين تبرقان في ومضات خاطفة خلف نظارته السميكة”. ثم تداعى استحضار العين: “ولكنهم عرفوه دائماً بعينين ساهمتين غير واعيتين، لا تلتقطان شيئاً خارج الكتب، وقد نظر إليها، وهامت عيناه تطوف بها”.
أما في رواية (خان الخليلي)، فقد كان نجيب محفوظ يكرِّر هذا الوصف عن عيون نوال بطلة الرواية: “عينان نجلاوان”، فهو يقول عن أحمد عاكف الذي رأى نوال لأول مرَّة: “ولم يكن رأى من وجهها سوى عينيها. استقرت عليهما عيناه لحظة حين التفاتته إليها. عينان نجلاوان ذواتا مقلتين صافيتين، وحدقتين عسليتين، وبدتا لغزارة أهدابهـما مكحلتين يقطران خفة وجاذبية، فحركتا مشاعره”.
“وأراد أن يتخيل صـورة كريمة العطار، فذكر فجأة وهو لا يدري، السمراء الحسناء ذات العينين النجلاوين”. “وهكذا أحبها. أحبها لعينيها النجلاوين ونظرتها اللطيفة الساذجة وخفة روحها”. وفي مشهد آخر يقول: “حسبه أن يملأ عينيه من معاني السذاجة والخفة تسكبها عيناها النجلاوان”. كذلك يقول: “ووضحت صورتها في مخيلته بعينيها النجلاوين ذواتي الصفاء والسذاجة والخفة، عينان تنطق نظراتهما بالتساؤل”.
عندما يكون بطل الرواية شخصية إشكالية، فلا يمكن للروائي أن يهمل الوصف الجسدي لتلك الشخصية. ومن أهم أجزاء ذلك الوصف، العين.
إن هذا التكرار في ذكر وصف العينين النجلاوين يبدو مبرَّراً؛ فأحمد عاكف الشخصية التي نالها الحظ السيئ في الحياة، فخسر المجد الوظيفي والإبداع في الكتابة، بل وكان حظه سيئاً مع المرأة، فاكتفى في علاقته مع نوال بالنظر، ولم يجرؤ من الاقتراب منها؛ لذا كانت مخيلته لا تستجلب من ملامح نوال إلا العينين اللتين كانتا سر شغفه. وفي المقابل عندما تعرف رشدي عاكف على نوال، لم نجد نجيب محفوظ يستحضر وصف عينَي نوال؛ لأن رشدي اقترب منها اقتراباً حميميّاً، وأصبحت حاضرة بتفاصيلها في حياته، وليس في مخيلته كما كانت في مخيلة أحمد عاكف.
عيون زوربا
عندما يكون بطل الرواية شخصية إشكالية، فلا يمكن للروائي أن يهمل الوصف الجسدي لتلك الشخصية. وفي الروايات الكلاسيكية، سنجد تفصيلاً دقيقاً في هذا الوصف، ومن أهم أجزاء ذلك الوصف هو وصف العين. ففي رواية (زوربا اليوناني)، وهي رواية للكاتب نيكوس كازانتزاكيس، لا يمكن للمؤلف أن يغفل عن ذكر وصف عينَي زوربا تلك الشخصية الشهيرة التي أصبحت أيقونة في الشخصيات الروائية العالمية؛ فنلاحظ منذ المشهد الأول لظهور زوربا في الرواية، هذا الوصف: “كان هناك شخص غريب يقارب الستين من العمر، طويل جدّاً ونحيل، جاحظ العينين، قد ضغط أنفه على اللوح الزجاجي وراح ينظر إليَّ. وكان يحمل تحت ذراعه صرة صغيرة مسطحة قليلاً. ما أثارني فيه أكثر من أي شيء آخر، هو عيناه الحزينتان، القلقتان، الساخرتان والمتوقدتان”. ثم يستحضر وصف العينين مرَّة أخرى: “نظرت إليه بتمعنٍ. خدان أجوفان، فك قوي، وجنتان ناتئتان، شعر شائب مجعد، وعينان حادتان متقدتان”. ولم يكتفِ بذلك الوصف السابق، بل أخذ يقرب الكاميرا من وجه زوربا في مشهد آخر ويصف عينيه: “وكانت عيناه مسمرتين على عينيَّ. عينان صغيرتان مستديرتان، ببؤبؤيين داكنين، وفي بياضهما عروق صغيرة حمراء. شعرت بهما تخترقاني وتفتشانني بنهم”.
الوصف النرجسي
هل من الممكن أن تصف الشخصية الروائية ذاتها، ويكون ذلك الوصف غارقاً في النرجسية؟ قد يحدث هذا أحياناً، نجده في رواية (امرأة من روما) للروائي الإيطالي ألبرتو مورافيا؛ فقد جعل بطلة روايته تصف نفسها، كأنها تشاهد ملامحها في المرآة: “كنتُ -وأنا في السادسة عشرة من عمري- قطعةً من الجمال الحق، فقد ضاق وجهي البيضاوي عند الصدغين وازداد عرضه أسفلهما بقليل. واتسعت عيناي الرقيقتان المستطيلتان”. لكن الوصف الجميل، الذي يعزِّز جمال الشخصية الروائية النسائية، نجده في رواية (جين إير): “كانت فارعة الطول، جميلة الصدر، منحدرة المنكبين، ولها جيد طويل رشيق، وبشرة زيتونية سمراء صافية وأسارير ترشح نبلاً، وعينان واسعتان سوداوان متألقتان تألقاً جواهريّاً). فهنا نلاحظ ذكاء الساردة؛ فقد مررت الحالة الأرستقراطية لتلك البطلة عندما ربطت بين تألق عينَيها كتألق جواهرها، وهو تعبير ينم عن حالة الثراء لتلك الشخصية.
لكن الأمر في وصف العين لا يأخذ في كل الأحوال بعداً جماليّاً خالصاً، فقد تكون هناك إشارة إلى عيب خلقي أو ما شابهه. ففي رواية (البعث) للروائي تولستوي، نجده يقدِّم هذا الوصف: “كان التناقض بين بياض بشرتها وسواد حدقتيها يبرز بريق عينيها الجميلتين اللتين كان في إحداهما حَوَل خفيف”.
العيون تعري المشاعر الكامنة
“كلّ ما قد يُخفيه الصوت تطلقه نظرة واحدة”، أما تولستوي ومن خلال وصف نظرات عيني بطله فرونسكي، فهو يرصد انفعالاته ومشاعره وكيف قرأتها آنا بتلك الدقة: “ابتسم فرونسكي قائلاً: “إنك تماماً تهددينني. إنني أتمنى فقط أن لا أفارقك”، وعندما نطق هذه الكلمات الرقيقة لاحت في عينيه نظرة حقد باردة لإنسان ملاحق وضار. لاحظت آنا هذه النظرة وأدركت معناها وهمهمت قائلة: “هذا معناه التعاسة”.
أخيراً، عالم الروايات ممتلئ بوصف العيون، ومن الصعب تتبع كل موضع وصفت فيه العيون في الروايات، أو حتى الإلمام بدلالة حضورها، سواء من تلك الروايات التي استحضرت في عناوينها مفردة العين، مثل: (دموع في عيون وقحة) لصالح مرسي، (تأملات في عين ذهبية) لكارسون ماكولرز، (عيون الظلام) لدين كونتز، (عيون قذرة) لقماشة العليان، (عين حمورابي) لعبداللطيف ولد عبدالله، وغيرها. أو من خلال حضور الوصف في داخل النص الروائي.
لكن كل ما ذُكر في هذه المقالة ما هو إلا استحضار لبعض النماذج من حالات الوصف، وتذكير للقارئ بعيون شخصيات روائية قد قرأها في روايات واختزلتها ذاكرته.
مقال رائع بطريقة وثري بطريقة لا توصف، اعطت لمحة لست فقط عن ابداع الكاتب بل وتفانيه في الكتابة وايصال هذه التحفة الفنية
مقال جميل،وطريقة سرد جميلة وسلسة