في العدد الثالث من المجلد الثاني، في ربيع الآخر 1374هـ “ديسمبر 1954م”، نشرت القافلة تحقيقاً من جزأين بقلم جوزف صدقي بعنوان “بيروت… هذه اللؤلؤة على شاطئ المتوسط”. نقتطف هنا بعض ما جاء فيه:
ذهب العلماء في تفسير اسم بيروت مذاهب شتى، فاشتقّه بعضهم من “بروتا” وهي كلمة آرامية معناها السرو أو الصنوبر لوجود أشجارهما منذ القدم في جوار بيروت. وزعم البعض أنها سميت كذلك تخليداً لذكرى الآلهة الفينيقية “عشتروت” التي كان السرو رمزاً لها. أما أرجح الآراء وأقربها إلى التصديق هو الرأي القائل إنه مشتق من البئر، وهو يجمـع في العبرانية بـ “بئروت” أي الآبار، بالنظر إلى وفرة الآبار التي حفرها الأقدمون في أحيائها وضواحيها، وقد ورد اسم بيروت لأول مرة في أثر هيروغليفي محفـوظ اليوم في المتحف البريطاني.
ازدهار وقلق
ازدهرت بيروت في عهد الرومان والبيزنطيين فزينوها بالبنايات الفخمة. واشتهرت بصورة خاصة بمدرسة الحقوق التي كانت تلقّب عهدئذٍ بأم الشرائع والتي اشترك بعض أساتذتها في وضع مجموعة شرائع جوستانيان، وهي المدرسة التي دمرها زلزال عام 555 تدميراً كاملاً.
ما كادت بيروت تستجمع قواها وتختم جراحها في ظل العرب فتتمتع بالرخاء والازدهار، حتى دهمتها الحروب الصليبية التي فرضت عليها حصاراً طويلاً مراً، ما كان سبباً في تضاؤل عدد سكانها، وبالتالي في وقف نموها وازدهارها. لكنها سرعان ما استعادت مجدها السابق كمدينة ذات مركز تجاري وعلمي في عهد الأمير فخرالدين الكبير (1590-1635م) وكان عدد سكانها قد بلغ عندئذ الخمسة آلاف نسمة.
في العام 1831م عرجت جيوش إبراهيم باشا على بيروت، وكانت تعرف في العالم العربي بـ “القرية الكبرى” ذات المركز التجاري والثقافي المرموقين. وفي ذلك العهد نعمت بيروت بالأمن والاستقرار وحصلت فيها الإنشاءات العمرانية مما زاد في انتعاشها التجاري. وعلى أثر اضطرابات العام 1860م، نزحت عائلات كثيرة عن قراها في الجبال إلى بيروت بحيث أصبح عدد سكانها في عام 1881م يزيد على 75 ألف نسمة.
وكان تدفق الأجانب بعد حوادث 1860م عاملاً أساسياً في ازدهار العاصمة تجارياً، وتأسس في ذلك العهد البنك العثماني والمحكمة التجارية ومحكمة الاستئناف، وأنشئ رصيف آخر للبواخر “المساجري مريتيم”، وكذلك قامت شركة فرنسية بإدارة الكونت “بارتوي” بفتح طريق بيروت-دمشق. وفي العام 1875م قامت شركة إنجليزية بجر مياه الشرب من نهر الكلب إلى بيروت بواسطة أنابيب حديدية.
بعد الحرب العالمية الأولى وما أعقبها تدفّق السكان على بيروت من المناطق اللبنانية، ثم جاءت هجرة الأرمن والأكراد، ثم الفلسطينيين بعد نكبة 1948م، فإذا ببيروت تضم أكثر من نصف مليون نسمة في عامنا الحالي (1954م).
مدينة فوق التلال
تقع بيروت على مجموعة تلال تمتد من نهر بيروت حتى الروشة، وتصعد تدريجياً من شاطئ البحر حتى رأس بيروت. ثم تعود وتنحدر بامتداد يصل إلى طريق صيدا.
وتزدحم بيروت بسكانها الـ 550 ألفاً. وإذا عرفنا أن عدد سكان الجمهورية هو مليون وثلاث مئة ألف نسمة فتكون بيروت نصف الجمهورية.
وقد سبَّبت هذه الزحمة متاعب للمسؤولين… فكانت هناك أزمة مياه وتلفون وكهرباء وأزمة سير.
ويتألَّف سكان العاصمة من مزيج عجيب غريب في العادات والمذاهب والأجناس والقوميات. وتعانق القبعة الطربوش ويختلط الشروال بالملابس الإفرنجية، غير أن جميع هؤلاء يعيشون مع بعضهم بعضاً في انسجام وسلام ووئام.
وتبدو بيروت في أناقتها وبذخها في فنادقها العصرية وفي نوادي الفروسية والنوادي الرياضية وسباق الخيل وصيد الحمام وفي بولفاراتها وحدائقها ومتنزهاتها وحماماتها كأنها “باريس الشرق”.
مدينة الإشعاع الفكري
ويطلق على بيروت اسم “مدينة الإشعاع الفكري” لأنها تضم 3 جامعات كبرى، هي: الجامعة اللبنانية، والجامعة الأمريكية، وجامعة القديس يوسف. وتضم أيضاً عدداً كبيراً من معاهد التعليم المهني، ومن كليات التدريب التي تستقطب طلاباً من مختلف أنحاء العالم العربي. وفي بيروت عدد كبير من الإصدارات من الكتب والمجلات الأسبوعية والشهرية، وعدد أكبر من المطابع ودور النشر، التي جعلت من بيروت مثوى للكُتَّاب والمؤلفين.
وهكذا فإن بيروت بفضل علومها ومثقفيها وجامعاتها ومينائها الذي يُعدُّ عروس الموانئ في شرقي المتوسط والذي تؤمه البواخر من جميع أنحاء المعمورة، وبفضل مطارها الدولي الذي يُعدُّ من أحدث المطارات في العالم والذي بلغ ما هبط فيه من سيَّاح وزوار وترانزيت في العام الفائت 250 ألف نسمة، وبحكم وضعها الجغرافي كملتقى لحضارات شرقية وغربية، أصبحت باباً لآسيا والشرق وسوقاً طبيعياً للبلاد العربية.
هذه هي بيروت عاصمة لبنان التي ستظل محط أنظار الشرق والغرب، اللؤلؤة المشعّة أبداً على شاطئ البحر.
اترك تعليقاً