تماماً كما في شخصية وجدة، اختار كتاب سيناريو ”المحارب العربي“ شخصية بطل شاب يعيش في ظل العادات والتقاليد التي تتعارض مع طموحه وأهدافه، رغم اختلاف الوسط الذي يعيش فيه كل منهما. فقد ظلت وجدة في محيطها وبيئتها وكانت تحاول تحقيق طموحها هناك، أما الشاب هنا، ويُدعى أنمار، فهو سعودي يعيش في وسط أمريكي. لكن بيئته الأصلية متغلغلة في محيطه الأسري وتطوق حياته. فإلى أي مدى يمكنه أن يذهب ضد التقاليد والعادات؟
هناك وجه شبه آخر، لكنه ينطوي على اختلاف في البناء الفلمي والمحصلة، فكلا البطلين اتخذ من الرياضة طموحاً جعلهما يصطدمان بعادات وتقاليد وأعراف البلد.
ويتضح الاختلاف بينهما أيضاً في واحدة من النقاط الجوهرية التي تعود إلى بساطة حكاية وجدة التي لم تخرج عن محيطها ومحليتها، لكنها مست أحاسيس كثير من المشاهدين بسبب شعور القهر الذي تم تجسيده وتكثيفه برقة وهدوء. أما هنا، فالبطل أنمار المولود والمقيم في أمريكا حيث يدرس الهندسة، يتمنى أن يصبح لاعب كرة بارزاً، ويحُلم بأن يُعيد أمجاد أبطال بلاده. ويَعُدَّه المدرب الأمريكي -الذي قام بدوره الممثل باتريك فابيان- لاعباً مذهلاً، فهو يُصر على طموحه، وعلى أن يتمكن يوماً ما من تمثيل السعودية. لكن والده يعامله بجفاء، ويقرِّر إعادته إلى السعودية بعد نهاية الفصل الجامعي الأول لاستكمال دراسته في جامعة الملك عبدالعزيز.
تماماً كما في ”وجدة“، حاول سيناريو ”المحارب العربي“ إضافة لمسات من خفة الظل والمرح والبراءة على شخصية أنمار رغم معاناته وتحمله القسوة في صمت، وذلك من خلال مشاهده مع صديقه الأمريكي الذي يحتمي في كرمه بشكل هزلي. ومع ذلك فإن المحصلة النهائية لا يمكن مقارنتها بـ “وجدة”. إذ إن التيمة الرئيسة في هذا الأخير هي حول عدم المساواة بين المرأة والرجل واستبعادها وتهميشها ومعاناتها من القهر، وهي قضية تهم كثيراً من المنظمات الحقوقية والرأي العام في البلدان الأوروبية.
صراع الأجيال
أما”المحارب العربي“ فيدور حول أسرة سعودية من ثلاثة أفراد، الزوجين وابنهما يقوم بالشخصيات الرئيسة -الأب والابن- ممثلان مصريان هما أمير المصري الذي تربى ويعيش في إنجلترا . ويجسِّد دور الأب الممثل المصري المقيم بأمريكا أيمن السمَان.
ينهض الصراع بالفلم على فكرة الاختلاف بين الأجيال الذي يصل إلى الصراع بين رغبات الآباء وطموحات الأبناء. وفي الوقت نفسه تزداد أهمية الفكرة عندما ندرك أن الآباء يرتكبون في حق أبنائهم أخطاء كبيرة بسب الخوف الزائد أو بسبب عدم الثقة، ويجعلنا نتساءل كيف يستمرون في ذلك حتى عندما يدركون أن أبناءهم هم نسخة عنهم في شبابهم؟
نقطة الصراع الداخلي هذه، لم يمنحها صناع الفلم ضوءاً كافياً، لكن يُحسب للفلم أنه حاول رسم شخصية الابن كشاب ملتزم بثقافة بلده الأصلي، حتى عندما يقسو والده عليه فإنه لا يرفع صوته ولا يعامله بفظاظة. ويخضع لقرار والده بأن يعود إلى السعودية ليستكمل دراسة الهندسة، ويضحي بطموحه في أن يُصبح لاعب كرة مشهوراً في أمريكا. أما الجزئية الأهم التي تُحسب للسيناريو فتمكن في أنه رغم طاعة هذا الشاب لوالديه، فإنه لم يكن ضعيف الشخصية، بل كان ذكياً طموحاً، كما كان قادراً على الدخول في معارك دفاعاً عن كرامته وصورته كعربي بشكل يشي بغيرته على هويته وكبريائه.
أشياء أخذت من الفلم
على الطرف الآخر، كانت هناك بعض التفاصيل التي انتقصت من السيناريو وأضعفته، مثل شخصية الأم. كذلك طرح السيناريـو بعض التساؤلات اللمَّاحة دون أن يقدِّم إجابـات عنها، مثــل: ما الفائدة من بناء الأبراج العالية الطويلة في الشرق الأوسط رغم كبر واتساع مساحتـه؟ أو تساؤلاتـه عن حريـة المرأة وما حدودها في السعوديــة؟ – وبالطبع هناك قرارات لصالح المرأة صدرت بالسعودية لم يلحق الفلم بها. إضافة إلى أن المأزق الحقيقي الذي يواجه السيناريو هو أنه يلعب على سقف توقعات الجمهور، فخيال المُشاهد يسبق دائماً السيناريو ويتوقع أغلب أحداثه، وهو أمر مثير للدهشة، خصوصاً وأن هناك طرفاً أمريكياً شارك المخرج أيمن خوجة في كتابة السيناريو هو أليسون والتر.
عن هوية الفلم وجنسيته
صنفت الدعاية فلم ”المحـارب العربي“ على أنه أمريكي سعودي، بل أول فلم أمريكي سعودي. فهل هذا صحيح؟
تتحدّد هوية الفلم بهويته الثقافية والإنتاجية، ورغم أن أبطاله الأساسيين مصريون وأمريكيون، فهو من إخراج السعودي أيمن خوجة، وإنتاج السعودي محمد علوي. فهل حقاً ”المحارب العربي“ فلم أمريكي سعودي؟! أم شريط سينمائي سعودي خالص؟
للإجابة عن ذلك، نستحضر من التاريخ تجربة الشراكة المصرية السعودية في الإنتاج السينمائي، التي تنحصر فعلياً في تجربة وحيدة تتمثل في الشريط السينمائي ”عصفور من الشرق“ الذي أُنتج عام 1986م وقام ببطولته كل من نور الشريف وسعاد حسني وتوفيق الحكيم للمخرج يوسف فرنسيس، إذ شاركت في إنتاجه المخرجة السعودية سميرة خاشقجي، بل كانت صاحبة الحصة الأكبر في الإنتاج. ولكن لم يتم الإفصاح بشكل رسمي آنذاك – وفق تصريح مُوثق من الراحل نور الشريف لكاتبة هذه السطور، لأن القانون المصري في ذلك الوقت كان يرفض أن تزيد حصة الشركات الأجنبية عن %49.
ومن المعروف أيضاً أن السينما المصرية في عدد غير قليل من أفلامها -خصوصاً منذ أواخر السبعينيات وطوال الثمانينيات والتسعينيات- كانت تعتمد في إنتاجها على رأسمال سعودي تحت اسم “سلفة التوزيع“، إذ كان المنتج المصري يتحصل على سلفة من الموزع السعودي لكي يبدأ تصوير الفلم. وكان هذا يتطلب بدوره موافقة الموزع السعودي على كثير من الخطوط والتفاصيل المتعلقة بسقف العمل، حتى إن تحديد أبطال الفلم أيضاً كان رهينة موافقة الموزع الذي كان يُصر -حتى يضمن استعادة أمواله- على اختيار نجوم لهم شعبية كبيرة في بلده ولو لم يكونوا مناسبين للدور. وهذه التجارب المعروفة باسم “سلفة الإنتاج“ أو ”سلفة التوزيع“ لم تجعل من تلك الأفلام إنتاجاً مصرياً سعودياً مشتركاً، بل كانت أفلاماً مصرية، إذ لا يُعدّ الموزع السعودي شريكاً في الإنتاج رغم تدخله في السيناريو وإطلاق يده في اختيار الأبطال.
الأمر نفسه ينطبق على ”المحارب العربي“ فهو فلم تم تصويره في عشرين يوماً فقط. ويبدو أنه غير مكلف في ميزانيته، بل يبدو فقيراً إنتاجياً. وهو ما يطرح تساؤلاً حول تصريحات بعض فريق العمل عن مشاركة 120 من صنّاع السينما في هوليوود في إنتاجه؟! فماذا كانوا يقصدون بذلك؟ هل قيام الفنانين والفنيين الأمريكيين بالعمل في الفِلم -مثل المشاركة في كتابة السيناريو أو التمثيل أو المونتاج ووضع الموسيقى، وما خلاف ذلك من أمور فنية- يجعل الفلم إنتاجاً مشتركاً؟؟!
علمياً وسينمائياً يتم تحديد جنسية الفلم وفق رأس المال المنتج به، من دون إغفال هوية مخرجه، ويتم تحديد هويته الثقافية وفق تيمته وموضعه الذي يدور بالأساس حول أسرة سعودية تعيش في أمريكا، كما أن مخرجه ومنتجه سعوديان، إذاً هو فلم سعودي تماماً، وليس بحاجة لأن يحمل الهوية الأمريكية لكي يعبر الصالات. لأن ”وجدة“ عبرها بقوة ورُشح للأوسكار وهو يحمل هويته السعودية فقط، من دون أن يتكئ على أي هويات دولية.
اترك تعليقاً