يمر القطار بصحبة صوتين، صوت عجلاته المعدنية على السكة، وصوت صفارته القوية التي لم تتغيَّر منذ أن ظهر، تاركاً خلفه خطين صامتين من حديد.
ظهر قبل قرنين من الزمن، ولا يزال يتطوَّر ويجوب بقاع الأرض المختلفة، ويغيِّر وجه العالم.
هو أول وسائل السفر والنقل السريعة، وسبق في ذلك السيارة والطائـــرة بزمن طويــل. وهو أكثر من ذلك..
إنه حاوية تجمع لبعض الوقت أناساً من مختلف المشارب، آتين من أماكن مختلفة ومسافرين لغايات مختلفة. وفي هذا الجانب، فهو أشبه بمكان يمكن للعلاقات الإنسانية أن تختمر وأن تتحوَّل من حال إلى حال. وهذا ما استثمرته الآداب والفنون خير استثمار.
في هذا الملف، يأخذنا فريق القافلة في رحلة على سكك الحديد في العالم، ليستكشف المكانة التي احتلها القطار في اقتصادات الدول وثقافات شعوبها وآدابها وفنونها.
يحتل القطار مكانة مهمة في ربطه البلاد الشاسعة المساحات، وفي تحريكه عجلة النقل والاقتصاد فيها، وحتى في تعزيز الروابط بين المناطق والمدن والبلدان، تصل إلى حد أن قياس التقدُّم في بلد ما قد يكون من عناصره الأساسية، أن فيه شبكة واسعة ومتطورة من سكك الحديد.
إذ لا يمكن أن نتخيّل تقدماً صناعياً واقتصادياً، لا سيما في البلدان المتطورة، وحتى الزراعية الكبرى، لولا وسيلة النقل هذه، التي مكّنت الأمريكيين من توسيع استيطانهم نحو الغرب الأمريكي، والتي تربط مناطق أكبر بلاد العالم مساحة: الاتحاد الروسي. بل لا يمكننا، حين نتحدَّث عن الاتحاد الأوروبي، أن نُغفل تلك الشبكة الكثيفة من خطوط سكة الحديد. أما الصين والهند، فإن نهوضهما الاقتصادي يواكبه عامل حاسم، وهو توسيع شبكات سكة الحديد فيهما.
ولكن القطار هو أكثر من ذلك، فتاريخه يؤكد على أن أهميته أكبر من أن تُحصر في الجانب الاقتصادي.
فلأن السفر في القطار يطول عادة لساعات، وبعض الرحلات العابرة للبلدان قد تستمر أياماً، يصبح القطار أشبه ببيت متحرك: إقامة، استرخاء، تناول الطعام، والتأمل عبر النافذة لأوقات طويلة. ولكن الذين يشاركون المسافر في هذا البيت ليسوا أقرباءً ولا معارف. ولهذا يتحوَّل القطار إلى بيئة للاكتشاف والتعرف وللاحتكاك بأناس وقضايا غير متوقعة، والتفاعل مع غرباء. ويتفرغ المسافر تماماً لذلك، إذ يكون قد انفصل عن ارتباطات حياته اليومية ولم يكن قد وصل بعد إلى مشاغله المرتقبة في وجهته. ولذا، احتل القطار منذ اختراعه مكانة خاصة في وجدان كل من سافر على متنه يوماً، ويتجلَّى ذلك في الآداب والفنون بشكل خاص. لأن عالم القطار الجميل يتسع لما لا يمكن لا للبيت ولا لأية وسيلة سفر أخرى أن تتسع له.
نشأة هذا القطاع
إنجلترا هي الأب الشرعي لبناء سكك الحديد في العالم وتطويرها. ففي عام 1814م، بنى جورج ستيفنسون قاطرته البخارية الأولى، وبدأت أول تجربة للنقل على سكك الحديد في ذلك العام نفسه، في مقاطعة ويلز البريطانيّة الجنوبية واستُخدمت القاطرة في جرّ عربات مشحونة، بسرعة خمسة أميال في الساعة (نحو 8 كلم/ ساعة)، وفي عام 1825م نجح ستيفنسون في استصدار مرسوم بإنشاء أول خط سكك حديد في العالم بين ستُكتون ودارلنغتُن في إنجلترا، وكان طول الخط آنذاك 38 ميلاً (61 كلم) ووزن القطار 80 طنّاً، وقد كان النجاح الذي صادف هذا المشروع حافزاً لإنشاء خط آخر لنقل الركاب بين ليفربول ومانشستر في عام 1830م، ثم انتشر النقل بسكك الحديد بسرعة مذهلة، إذ لم يأتِ عام 1836م حتى بلغت أطوال سكك الحديد في إنجلترا وحدها 1000 ميل (1609 كلم) وفي أنحاء العالم 11500 ميل (18,500 كلم)، أما في الولايات المتحدة فقد استُخدمت القطارات البخارية على سبيل التجربة عام 1825م، وكان افتتاح أول خط فعلي في أمريكا عام 1830م، وفي مصر عام 1852م، وفي آسيا عام 1852م، وفي أستراليا عام 1854م.
ومع بداية القرن العشرين تطوَّرت سكك الحديد تطوراً كبيراً من حيث البنية التحتية، فقد أنشئت الخطوط المزدوجة وتحسّنت العناصر الهندسية لتخطيط السكك وقاطرات الجر والعربات، وأدخل تحسن كبير على عربات الركاب فصُنعت من الحديد بدلاً من الخشب. وكانت أقصى سرعة للقطارات في عام 1905م هي 144 كلم/ ساعة، واستُخدمت قطارات الديزل أول مرة في أمريكا عام 1925م، أما قطارات الديزل المزوَّدة بمحركاتٍ كهربائية فقد بدأ استخدامها عام 1934م .
ميّزات سكة الحديد
والنقل والانتقال بسكة الحديد أرخص، وأسرع، وآمن، وأنسب لنقل الحمولات الثقيلة مسافات بعيدة:
• النقل الأرخص
النقل بسكة الحديد هو أرخص وسائل النقل، بالمقارنة مع الوسائل الأخرى. ومعظم الإنفاق في القطارات هو في طبيعة النفقات الثابتة. وكل زيادة في حركة النقل بالقطارات يقابلها انخفاض في معدل التكلفة. والنقل بالقطار اقتصادي أيضاً من حيث استخدام العمالة في تشغيله، فسائق واحد، وحارس واحد يكفيان لنقل كميات من البضاعة أكبر بكثير من العمالة المماثلة في أي وسيلة أخرى.
أقدم قطار في العالم
أقدم قطار في العالم لا يزال يعمل حتى اليوم هو في الهند، وينشط في المواسم السياحية بين نيودلهي ومدينة ألوار في راجستان، ويحمل اسم “فيرّي كوين”.
فهذا القطار التاريخي صنع في إنجلترا عام 1855م. وخلال الثورة الاستقلالية عام 1857م، حوله الإنجليز إلى قطار عسكري. ثم عاد ليعمل كقطار مدني، ولكن من دون اسم حتى عام 1895م، حين سمَّاه الإنجليز “فيرّي كوين”.
وفي العام الماضي، أعيد تأهيل هذا القطار الذي لا يزال يعمل على البخار، وأعيد إلى الخدمة مجدداً في رحلات يومية، وغالبية الذين يستخدمونه هم من السيَّاح نظراً لارتفاع ثمن التذكرة.
• النقل الآمن
النقل بسكة الحديد هو أكثر وسائل النقل أماناً. وتشير الإحصاءات العالمية إلى أن احتمالات الحوادث بالقياس إلى عدد الركاب، أقل بكثير من الاحتمالات في النقل الجوي، وحتى البحري. وسكة الحديد لا تتأثر بعوامل المناخ، كالشمس والمطر والثلج، وما إليها.
تطورت سكك الحديد مع بداية القرن العشرين تطوراً كبيراً من حيث البنية التحتية، فقد أنشئت الخطوط المزدوجة وتحسّنت العناصر الهندسية لتخطيط السكك وقاطرات الجر والعربات، وأدخل تحسن كبير على عربات الركاب فصُنعت من الحديد بدلاً من الخشب
• النقل الأوسع
قدرة القطارات على نقل الحمولات الثقيلة كبيرة للغاية. وسعة القطار مرنة جداً حسب الحاجة، إذ يكفي لزيادة الحمولة أو تقليصها التحكم بعدد المقطورات التي تجرّها القاطرة.
• الفوائد الاجتماعية
إن إنشاء سكة الحديد وخطوطها وتشغيل القطارات هو من المشاريع الضخمة. فالقطار يؤدي عديداً من الخدمات العامة للسكان. فحمولة القطار التي تعمل بمبدأ “حمِّل ما يمكن للخط والقطار أن يحمل”، تجعله في مصلحة الفقراء من عامة الناس، وهو بالتالي حاجة وضرورة وطنية، على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي.
• الفوائد الإدارية
يكثر في العالم، حيث خطوط سكة الحديد متطورة، استخدام الموظفين الرسميّين والإداريّين القطار، وحتى موظفي المؤسّسات الخاصة، فهذا يسهّل حركتهم في أنحاء البلاد، من أجل أداء الخدمات المطلوبة منهم، أو المهام التي يسعون إلى أدائها.
• التوظيف والتشغيل
توفّر خطوط سكة الحديد فرص عمل كثيرة لكل من الإداريّين والموظفين المهرة والعمال غير المهرة. ففي العالم المتقدّم على هذا الصعيد يشتغل الملايين في هذا القطاع، الذي يعدّ مصدر الرزق لعائلاتهم.
معالجة الفقر والبيئة
ومع كل النواحي الإيجابية والسلبية، يرى البنك الدولي، أن النقل بسكة الحديد وسيلة “ذكية” في حمايتها للمناخ، وأنها أكثر الطرق لنقل البضائع والركاب فاعلية. فسكة الحديد تعزّز النمو الاقتصادي، وتقلّل كثيراً من بث غازات الدفيئة، التي تسبب الاحتباس الحراري. فالقطارات هي الأدوات “النظيفة” التي تنقل ملايين الركاب وملايين الأطنان من البضائع عبر بلدان العالم، وعلى مسافات قصيرة وطويلة، وهي أيضاً تربط القارات بعضها ببعض.
كان عزت العابد الدمشقي من أهم من أشار إلى إنشاء سكة حديد الحجاز. وكان يرى لإنشاء السكة فوائد عديدة، منها تسهيل الحج بدل من استخدام قوافل الإبل التي تستغرق 40 يوماً من المعاناة بين دمشق والمدينة
ومن أجل جعل سكة الحديد أجدى، وأعم فائـدة لكل من سكان المدن الذين ينتقلون إلى أماكن عملهم، أو مديري المصانع الذين يشحنون البضاعة، يدعم البنك الدولي تطوير سكك الحديد، بمعالجة ثلاثة تحديات:
• الإصلاحات في طريقة تنظيم خطوط سكك الحديد وتمويلها، بما في ذلك الحوكمة المحَسَّنة وتعزيز المنافسة، التي تؤدي إلى خدمات أفضل وأسعار أدنى.
• ربط خطوط سكة الحديد بشبكة النقل العامة في البلاد. وهذا غالباً ما يتطلّب استثمارات جديدة في محطات القطار ومقاصدها النهائية (terminals)، وأسلوباً جديداً في التفكير بتشبيك خطوط سكة الحديد بشبكة الطرق العامة، والموانئ والمطارات، ومواقع مؤسسات الأعمال الكبرى.
• إجراء الأبحاث في شأن أثر سكة الحديد على الفقر. فبفهمٍ أفضل لقدرة سكة الحديد على معالجة الفقر، يمكن للوزارات ومخططي التنظيم المدني أن يتخذوا قرارات أكثر حكمة، في شأن سياسات الاستثمار.
أفخر قطارات العالم
خلال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، سعى حُكَّام العالم إلى امتلاك قطارات خاصة بهم، وقد تميزت هذه القطارات بالفخامة. فكانت تُكسى من الداخل بالخشب الثمين المزخرف، وتؤسس بالمخمل الأحمر أو الجلود الطبيعية، وتتدلى من أسقفها ثريات من البلور.
معظم هذه القطارات الفاخرة التي امتلكها ملوك أوروبا سابقاً باتت في عهدة المتاحف. غير أن حفنة منها لا تزال تعمل تجارياً في مكان آخر من العالم: الهند.
فقد بنى مهراجات الهند سابقاً عدداً كبيراً من القطارات الخاصة، تملّكت الدولة بعضها، وتستخدمها اليوم لنقل الضيوف الرسميين إلى بعض المواقع السياحية. غير أن بعضها الآخر بات في حوزة شركات خاصة، تسيّره في رحلات سياحية باهظة التكاليف بين بعض المدن الهندية.
ومن هذه القطارات الفاخرة نذكر “قصر على عجلات”، و”العربة الذهبية” و”قطار الشرق الملكي” و”مهراجا أكسبرس”. وهذا الأخير ليس قديماً بل تم بناؤه قبل سنوات ليكون فاخراً وحديثاً، حتى إنه يضم من جملة ما يضم نادياً صحياً.
تنظِّم هذه القطارات رحلات سياحية تُراوح بين ثلاثة وثمانية أيام. وتبلغ تكلفة السفر على متنها لهذه المدة ما بين 3 و12 ألف دولار للفرد!
نمو قطاع سكة الحديد
وفيما بين الحسنات والسيئات في القطاع، فإن الفوائد يبدو أنها تغلب، ونتيجة لذلك، السكة الحديد تنمو باطّراد في العالم.
يقول بيان صحافي لاتحاد سكك الحديد الدولي (UIC : Union Internationale des Chemins de fer)، إن احصاءات عام 2010م التي أرسلها الأعضاء إلى الاتحاد، تبيّن أن ثمة نمواً في معدل حركة النقل بالسكك الحديد، بلغت نسبته %3,4، بالطن/ كيلومتر، في قطاع الشحن العالمي، وهذا ما يؤكد تعافي الاقتصاد والتجارة (بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008م). أما أرقام نمو نقل الركاب فتشير إلى قفزة نسبتها %3,5 بالراكب/ كيلومتر، لا سيما بسبب تنمية خطوط سكة الحديد في آسيا، وعلى الأخص في الهند.
من المتوقع أن ينقل “قطار الحرمين السريع” نحو 11 مليون راكب بين الرياض وجدة إلى مكّة المكرمة والمدينة المنورة
أما روسيا فأبدت حيوية كبيرة في تنمية سكك الحديد، بزيادة نسبتها %8 في عام 2009م، مما ينم عن دينامية فائقة في قطاع الشحن، الذي يمثل تقريباً نسبة الربع من مجمل الشحن في العالم، بالطن/ كيلومتر. ونما القطاع في الولايات المتحدة وكندا بنسبة %4، حيث يمثل نحو %25 من مجمل قطاع الشحن في العالم بالطن/ كيلومتر. وفي الصين، التي تملك نسبة %70 من مجموع الأطنان المشحونة بسكة الحديد في آسيا (وأوقيانية)، كانت نسبة نمو هذا القطاع %3. وفي الهند، التي طورت شبكتها بسرعة كبيرة، بلغت نسبة نمو قطاع الشحن بسكة الحديد %9، تليها مباشرة، من حيث النسبة، كازاخستان، بـ %8. وبلغت نسبة الزيادة في أوروبا (باستثناء كومنولث الدول المستقلة) %7، وهذه نسبة استمرت على حالها في جزء كبير من عام 2011م في أوروبا. أما حصة النمو في إفريقيا، فبلغت نسبتها %1,5.
وفي مجال نقل الركاب، ظلت نسبة النمو على حالها عام 2010، بفضل النمو الثابت في آسيا، لا سيما الهند، التي شهدت نسبة نمو بلغت %8، والصين التي بلغت نسبة النمو فيها %0,4.
أرقام أوروبية
وتشير الأرقام الأوروبية التي نشرت في شهر ديسمبر عام 2017م، عن الحركة بين عامي 2006 و2016، إلى أن الشحن بالقطارات في دول الاتحاد الأوروبي هبط هبوطاً شديداً عام 2009، إثر الأزمة المالية العالمية التي ضربت أسواق المال عام 2008، لكن حركة الشحن تعافت بعد ذلك، وأخذت تنمو نمواً مقبولاً، حتى بلغت عام 2016: 403 مليارات طن / كيلومتر.
يتبيّن من هذا الجدول أن الدول الخمس الأولى على القائمة العالمية هي دول شاسعة المساحة، ومتقدِّمة صناعياً. لكن عند مراجعة التطور التكنولوجي في الخطوط، يتضح أن الصين هي الدولة الأولى من حيث كهربة خطوطها، يليها الاتحاد الروسي. ويلفت الانتباه إلى أن الولايات المتحدة لا تملك كثيـراً من الخطـوط المكهربة، وهذا يعود لكونها سبّاقــة إلى إنشـاء خطــوط سكة الحديــد، التي باتــت الآن تحتــاج إلى تحديث.
من سكة الحجاز إلى قطار الحرمين
في عهد السلطان عبدالحميد العثماني كان عزت العابد الدمشقي من أهم من أشار إلى إنشاء سكة حديد الحجاز. وكان يرى لإنشاء السكة فوائد عديدة، منها تسهيل الحج بدل من استخدام قوافل الإبل التي تستغرق 40 يوماً من المعاناة بين دمشق والمدينة، وكان الحجاج يأتون إلى دمشق من الأناضول ووسط آسيا والعراق وفارس والقوقاز. أما الغرض الثاني فهو تسهيل نقل الجنود والمعدات لإحكام السيطرة العثمانية، بعدما استـولى الإنجليـز على مصر وقناة السويس.
وفي مارس 1900م، أصدر السلطان فرمانه لإنشاء سكة حديد الحجاز بين دمشق والمدينة المنورة. فأرسل القنصل البريطاني في دمشق رسالة إلى حكومته يقول فيها إن إنشاء السكة أمر مستحيل! وكانت المعوقات التي رآها: طبيعة الأرض الصحراوية ونقص المياه والتكاليف المالية؛ لكن في المقابل كان ثمة حماسة للمشروع.
وبدأ التنفيذ، فمسح مختار بك، المهندس التركي، الطريق فوجد الأنسب اتباع خط قوافل الإبل القديمة (حج الشام) مع بعض التعديلات البسيطة.
وشارك في العمل في المشروع، ما بين 5000 و7000 عامل، معظمهم من الجيش العثماني. وافتُتح في إسطنبول معهد متخصص لتخريج مهندسي سكة الحديد من أجل هذا المشروع، ومن أجل غيره، مما لم يتح تنفيذه بسبب خسارة الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى.
انطلق الخط من دمشق، وتفرع من بصرى جنوب سوريا إلى خطين، أحدهما كان يتجه غرباً نحو فلسطين، والآخر نحو سهل حوران وصولاً إلى درعا ثم إلى المفرق والزرقاء وعمّان ومعان في الأردن، إلى أن يدخل أراضي الحجاز، حيث ينتهي بالمدينة المنورة.
ومرت السكة بأودية كثيرة. فكان لا بدّ من إنشاء جسور وعبّارات، بلغ عددها نحو 2000 جسر وعبّارة، جلها تقريباً عُملت من الحجر المنحوت من البيئة الصحراوية، لصعوبة استيراد الإسمنت وتصنيعه على المكان. وكثير من الجسور الحجرية الجميلة باقٍ في حالة جيدة.
كذلك أنشئت محطة كل 20 كيلومتراً، وأحياناً أقل، لحراسة السكة. وحُفرَت في الغالب بئر أو أنشئ خزان لحفظ الماء في كل محطة.
وافتُتح الخط عام 1908م، في احتفال رسمي، ونقل الحجاج من دمشق إلى المدينة في خمسة أيام، لكنه لم يعمل سوى تسع سنوات، إذ دُمِّر عام 1916م، في الحرب العالمية الأولى، وطويت صفحته منذئذ.السكك الداخلية
انطلقت فكرة إنشاء سكة الحديد في المملكة في الأربعينيّات من القرن الماضي، عندما برزت الحاجة إلى إنشاء ميناء تجاري على ساحل الخليج لنقل البضائع المستوردة إلى مستودعات شركة الزيت العربية الأمريكية، أرامكو. وتضمنت الفكرة التي تقدَّمت بها الشركة إنشاء خط لسكة الحديد من الدمام إلى الرياض، وميناء تجاري كبير يمكنه استقبال السفن الضخمة التي تنقل مستلزمات أعمال صناعة النفط ومعداتها.
بدأ تنفيذ المشروع في 21 أكتوبر 1947م. وفي 20 أكتوبر 1951م (أي بعد 4 سنوات) افتُتح الخط في الرياض في احتفال رسمي حضره جلالة الملك عبدالعزيز، وولي العهد آنذاك الأمير سعود بن عبدالعزيز، يرحمهما الله، وحشد كبير من المسؤولين. وظلت سكة الحديد منذ ذلك الوقت تعمل تحت إشراف أرامكو مدّة من الزمن، حتى ألحقت بوزارة المالية في عام 1966م، وسُمّيت وقتها: مصلحة السكة الحديد.الشبكة تتوسّع
يبلغ طول شبكة الخطوط الحديدية في المملكة اليوم 1775 كيلومتراً، وتربط المنطقتين الشرقية والرياض. وتنقل قطارات المؤسسة سنوياً ما يزيد على 1.3 مليون راكب، و350 ألف حاوية، أي أكثر من %80 من الحاويات الواردة إلى منطقة الرياض عبر ميناء الدمام، ومليوني طن من البضائع العامة، وهي منقولات تحتاج إلى نحو 500 ألف شاحنة لنقلها على الطريق. وتشمل الخطوط التي تشغّلها المؤسسة خط نقل الركاب الذي يبلغ طوله 733 كيلومتراً، ويربط الرياض بالدمام مروراً بالأحساء وبقيق، وخط شحـن البضائع ويبلغ طوله 556 كيلومتراً، ويبدأ من ميناء الملك عبد العزيز بالدمام لينتهي في الرياض، مروراً بالأحساء وبقيق والخرج وحرض والتوضيحية.
علاوة على هذا، تربط الخطوط الفرعية التي يبلغ مجموع طولها 486 كيلومتراً، بعض مواقع الإنتاج الصناعي والزراعي وغيرها بموانئ التصدير وبعض المناطق السكنية. ويتوقع أن ينمو عدد الركاب وحركة الشحن بعد بدء الرحلات لمشاريع التوسعة القائمة والمخطط لها، فقد زاد عدد الحاويـات المتداولـة على الجسر البري على 700 ألف حاويـة نمطية، أي ما مجموعه 8 ملايين طن من المشحونات.سكة حديد الشمال
بدأ مشروع هذه السكة في عام 2006م، وانتهت على مراحل، وجرى تدشينها رسمياً في نوفمبر من العام الماضي 2017م، وبدأ مؤخراً تسيير رحلات الركاب المنتظمة من الرياض باتجاه مدن الشمال. وتولت تنفيذ هذا المشروع وتشغيله الشركة السعودية للخطوط الحديدية “سار”.
يبلغ طول هذه السكة التي بلغت تكلفة إنشائها 10 مليارات ريال، نحو 2400 كيلومتر. وهي تربط حدود المملكة الشمالية مع الأردن بالعاصمة وأيضاً بالساحل الشرقي على الخليج العربي. فمن الرياض ينطلق مسار باتجاه الشمال حتى القريات على الحدود الأردنية، ويمر بكل من المجمعة والقصيم وحائل والجوف. ومن موقع مناجم الفوسفات في حزم الجلاميد بالقرب من عرعر، ينطلق مسار آخر باتجه الجنوب ليتصل بالمسار الأصلي قريباً من الجوف، ويواصل إلى القصيم، حيث ينعطف بمسار جديد باتجاه الشرق مروراً بمناجم البوكسايت في منطقة القصيم، وينتهي في مرافق شركة “معادن” في رأس الخير على الخليج العربي.
ويُعوّل على هذه السكة أن تؤدي دوراً اقتصادياً كبيراً في نقل خامات المعادن مثل الفوسفات والبوكسايت المستخرجة من المناطق الداخلية إلى مرافق التكرير والتصدير على ساحل الخليج العربي، إضافة إلى نقل الركاب واختصار مدة السفر من الحدود الشمالية إلى الرياض بثماني ساعات فقط.قطار الحرمين
في شهر يونيو من العام الجاري 2018م، تم تدشين قطار الحرمين رسمياً، وبدأ منح تذاكر سفر مجانية لمدة ثلاثة أشهر للمسافرين بين مكة المكرًمة والمدينة المنوّرة.
وعلى الرغم من أن خط هذا القطار هو أقصر خطوط السكك الحديدية في المملكة، إلا أنه من المتوقع له عند تشغيله بالكامل أن يكون أكثرها حيوية ونشاطاً، خاصة عندما يتم وصله في المستقبل بخط الرياض- المزمع إنشاؤه، بحيث يمكن لعدد المسافرين والحجاج والمعتمرين الذين سيستخدمونه أن يصل إلى نحو 11 مليون راكب سنوياً.
يبلغ طول خط قطار الحرمين 450 كيلومتراً، ويمتد من مكة المكرّمة إلى المدينة المنوّرة مروراً بمدينة جدة ومدينة الملك عبدالله الاقتصادية في رابغ. وتطلب إنشاؤه بناء أربع محطات حديثة في المدن الأربع، إضافة إلى محطة خامسة ستبنى لاحقاً في مطار الملك عبدالعزيز الدولي في جدة. وقد أخذ تصميم هذه المحطات بعين الاعتبار الأعداد الضخمة من المسافرين المرتقبين في السنوات المقبلة.
وعند تشغيل هذا الخط بكامل طاقته، سيكون على سكته 35 قطاراً، يتألَّف كلّ منها من قاطرتين و13 عربة بطاقة استيعابية تتجاوز 400 راكب في كل قطار. كما تضمن مشروع هذا الخط إنشاء مركز متخصص للتدريب على الأعمال التي يتطلبها تشغيله وصيانته، سعياً إلى توطين الوظائف فيه.قطار الجسر البري (الرياض- جدة)
في شهر مارس من العام الماضي 2017م، أعلنت الشركة السعودية للخطوط الحديدية “سار”، عن انتهاء وضع التصاميم لمشروع إنشاء خط حديدي يصل الرياض بمدينة جدة، ووجهت الشركة في نوفمبر من العام نفسه دعوات لشركات عالمية لتنفيذ هذا المشروع الذي من المقرَّر أن يبدأ في العام الجاري.
سيبلغ طول هذا الخط 958 كيلومتراً، وسيستخدم للشحن ولنقل المسافرين. وسيكتسب أهمية كبرى بفعل ربطه لسكة حديد الشمال بقطار الحرميـن، وبخط الرياض – الدمام، ما سيحوّل عملياً كل سكك الحديـد في المملكـة إلى شبكة واحدة متصلة ببعضها بعضاً.
متاحف القطارات
يحظى القطار وتاريخه بعدد من المتاحف قد يكون الأكبر في العالم بعد متاحف الفنون والآثار. ففي أوروبا توجد متاحف للقطارات في 29 دولة، وفي آسيا في 15 دولة، وفي الأمريكيتين في 9 دول… وأكثر من ذلك، ففي كل من هذه الدول عدة متاحف وليس واحداً. ففي أمريكا يوجد 110 متاحف للقطار، وفي اليابان 13 متحفاً، وفي ألمانيا 36 متحفاً، وفي السويد 21 متحفاً…غير أن أضخمها عالمياً اثنان: في بريطانيا وفي فرنسا.
يحتوي متحف القطار “كيدرمنستر” في بريطانيا على مجموعة كبيرة من التحف الفنية الخاصة بسكة الحديد، تعود إلى أيام القاطرات البخارية، قبل استخدام الديزل، ثم الكهرباء، بدءاً بالساعات التي كانت تستخدم لضبط مواعيد السفر، إلى إشارات مرور القطارات، ومن الصور الفوتوغرافية إلى الرسوم الفنية، وغير ذلك، مما يستغرق وقتاً طويلاً لمشاهدته. وقد جُمِعت موجودات المتحف من كل أنحاء بريطانيا، البلد العريق في سكة الحديد.شيدت هذا المتحف شركة “غريت وسترن ريلوي” عام 1878م، لكن من أجل تخزين الحبوب في الطابق السفلي، لحساب مطاحن الحبوب القريبة من المكان، وفي أحد جوانب البناء كان هناك خط سكة حديد، وفي الجانب الآخر طريق معبّدة. وقد تحوّل المبنى عام 1960م إلى مخزن لطرود البريد التي ينقلها القطار، ثم إلى متحف، افتتح عام 1990م.
ويفاجأ زوار المتحف في كل مرة عند زيارته، بمعروضات جديدة لم يشاهدوها من قبل، لأن تزويده مستمر بلا انقطاع، بكل ما يستجد في قطاع سكة الحديد، والقطارات. والصور والكتب والمجموعات في المحفوظات متاحة للجمهور وللباحثين والدارسين أيضاً. وفي المتحف قسم للهدايا والتذكارات لمن يطلب شيئاً منها.
وفي مدينة ميلهوز الفرنسية، يوجد أكبر متحف للقطارات في أوروبا، وهو “متحف الشركة الوطنية للسكك الحديد”. أطلق فكرة إنشاء هذا المتحف الصناعي الفرنسي جان – ماتيس هورنبرغر عام 1964م، وتم افتتاحه عام 1971م. وجرت توسعة المتحف على دفعات، كان آخرها عام 2016م، بحيث وصلت مساحته إلى 50.000 متر مربع. وهو يضم اليوم 151 قاطرة ومقطورة من مختلف الحقب والطرز، إضافة إلى آلاف المعروضات الأخرى.اللوحة الحُجَّة
ثمة نقاش في تاريخ الفن لا يمكن حسمه تماماً، وهو حول ما إذا كان تدخل الزبون في عمل الفنان وتوجيهه له يسيء إلى العمل الفني أم لا. وفي كل مرة يدور هذا النقاش بين النقاد والمؤرخين تقفز إلى الواجهة لوحة “وادي لاكوانا”.
رسم هذه اللوحة الفنان الأمريكي جورج إيناس في عام 1856م، بناءً على طلب شركة “ديلاوير” و”سكة الحديد الغربية” في أمريكا، على أن تمثل المحطة الجديدة التي تم تدشينها. فرسم الفنان أولاً موقع المحطة التي ينتهي عندها خط القطار. غير أن “ديلاوير” أصرت على تعديلها، بحيث تظهر أيضاً الخطين الإضافيين اللذين تعتزم إنشاءهما لاحقاً. وتحت ضغط العميل، رضخ الفنان وأضاف الخطين المتقوسين في مقدمة اللوحة، الأمر الذي يرى النقاد أنه نقل اللوحة إلى مستوى أفضل بكثير على صعيدي الخطاب والتوازن. وحظي الفنان بتقدير على عمله هذا نقله إلى مصاف كبار أساتذة الرسم في عصره. وتحوَّلت لوحته إلى حجة خالدة في جعبة الذين يرون أن توجيهات الزبون يمكنها أن تحسّن عمل الفنان.قصة محطة
“متحف أورساي” هو الاسم الحديث العهد نسبياً لما كان يعرف في العاصمة الفرنسية باسم “محطة أورساي”، وهو يشير اليوم إلى ثاني أشهر متحف في باريس بعد متحف اللوفر.
تم بناء هذه المحطة عام 1900م، وجرى افتتاحها لمناسبة المعرض الكوني الذي أقيم في باريس تلك السنة، وكانت أول محطة في العالم تسيّر قطارات كهربائية.
كانت هذه المحطة منطلق الرحلات المتجهة صوب جنوب فرنسا. وظلت تؤدي دورها بفاعلية حتى أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي، عندما راح دورها يتضاءل، لأن القطارات كبرت وصارت أطول من أرصفتها. فتراجع دورها، حتى توقفت عن العمل نهائياً عام 1973م.
في عام 1977م، قرَّرت الحكومة تحويل مبنى المحطة ذي الواجهة الحجرية الأنيقة والسقف الزجاجي، إلى متحف يأوي أعمال الانطباعيين ومعاصريهم، وتحديداً كل الأعمال الفنية التي تعود إلى ما بين عامي 1848 و1914م. وتم تدشين المتحف الجديد في عام 1986م، وهو يضم اليوم ما لا يضمه أي متحف في العالم من أعمال الانطباعيين، ومنها على سبيل الثال لا الحصر: 86 لوحة لمونيه، 56 لوحة لسيزان، 81 لوحة لرينوار، 24 لوحة لفان غوخ، 48 لوحة لكوربيه، 43 لوحة لديغاس.. وآلاف اللوحات والتماثيل لمئات الفنانين من هذا المستوى.
القطار في الأدب العالمي
لا مجال لتعداد كل الأعمال الأدبية التي يلعب القطار دوراً حاسماً فيها، فهي أكثر من أن تحصى. ظهرت غداة ظهور القطار ولا تزال تتدفق حتى يومنا هذا. ولذا نكتفي بالإشارة إلى عيّنات مختلفة من هذا الحضور الشديد التنوُّع والتلوّن.
من مسرح للأحداث إلى مصدر للإلهام
ففي رواية ليو تولستوي (1828-1910م) “آنا كارنينا”، يلعب القطار دوراً ثانوياً عابراً في البداية، ثم دوراً ختامياً حاسماً في حياة البطلة، وهي امرأة من نبلاء روسيا القيصرية، تعيش حياة حافلة بالأحداث والمشاعر المتناقضة من الحب والكراهية والخيانة والانتقام، تكشف خبايا النفس البشرية بكل أبعادها وأعماقها.
وتوحي الرواية في أحداثها، أن آنا كارنينا حفظت في ذاكرتها وقائع حادثة شاهدتها، لعامل في محطة قطار، وقع تحت عجلاته ومات، لتستعيد الذكرى حين قرَّرت الانتحار في آخر الرواية، عندما تصيبها هلوسات تدفعها إلى أن ترمي بنفسها تحت عجلات القطار.
ولعب القطار من الناحية الأدبية دوراً كبيراً في حياة كثير من الأدباء والشعراء والفلاسفة والكُتَّاب والفنانين الذين لا ينكرون فضل القطار عليهم في تطوّرهم الأدبي. فالفنان الإسباني سلفادور دالي الذي كان يكنُّ كل الحُب لزوجته جالا، كان يركب معها القطار ويجوب أرجاء أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية كي يجد الوقت ليتحدَّث معها، تاركاً مرسمه وراء ظهره، ولقد بلغ عشقه للقطار أنه أظهره في كثير من لوحاته التي أثرى بها عالم الفن.
أما الأديب التشيكي المولد فرانز كافكا الذي توفي عام 1927م، فذكر مراراً أن عديداً من قصصه ورواياته وُلدت أفكارها إما داخل القطار وإما بإيحاء منه، مثل مجموعته “سور الصين” التي فكَّر في كتابتها وهو في القطار حين شاهد ذلك السور.
والشاعر الروسي أندريه فوزنيتسكي الذي ولد في روسيا عام 1933م، وهو أحد روَّاد الحداثة في الشعر المعاصر، كان يركب القطار في يوم من أيام صيف عام 1978م، فألهبت ملكته الشعرية تلك السيدات والفتيات اللواتي كن يركبن القطار، وأوحى ذلك إليه بديوان شعر سمَّاه “ديوان الإغراء”، أما ملحمته الشعرية “المهرة” التي بدأ كتابتها عام 1958م فقد ولدت فكرتها في القطار وشرع في كتابتها فيه وأنهاها في القطار أيضاً عام 1959م.
وفي عام 1887م، خرج علينا الأديب غرهارت هاوبتمان بقصته الرائعة “تيل عامل القطار” التي تدور حول الموظف الصغير الذي تحيط به شبكة حديد ضخمة تكبله. وذات يوم تقع كارثة للقطار أمام عيني تيل تصرع ضحاياه بلا أدنى رحمة، فيصف الكارثة وصفاً كما لو أنها حفلة سحر وشعوذة تأخذ خلاله الطبيعة بثأرها من الإنسان وتبيّن له حدود إمكاناته ساخرة من إيمانه بالتقدم.
وإذا كان الإلهام في الحقيقة عاملاً نفسياً لا يقتصر على الأدب ويلد أعمالاً في الرسم أو الموسيقى أو التاريخ، فإن كثيراً من الكُتَّاب والأدباء والشعراء والباحثين أمثال الأمريكي روبرت لويل والإسباني فرناندو دي روخاس وآخرين يرون في القطار مصدراً كبيراً للإلهام، وعنصراً من عناصر التشويق في الأدب.
كان الأديب الفرنسي أنطوان دوسانت إكزوبيري مراسلاً صحافياً. وفي عام 1940م أُرسِل إلى إسبانيا، وبينما كان يستقل القطار وقع للقطار حادث مروع أصيب فيه إصابات بالغة كادت أن تودي بحياته، وبعدما تماثل للشفاء أقسم ألا يركب القطار مرة أخرى، وعاد إلى معشوقته الطائرة، وهذا الحادث دفعه إلى كتابة روايته الجميلة “الطيران إلى باريس” ثم كتب سيرته الشخصية في قصته “الأمير الصغير” عام 1942م ذاكراً فيها لماذا أصبح يكره القطار. وعاد إلى التنقل بواسطة الطائرة، التي سقطت به عام 1944م وأدت إلى وفاته.
وتروي الكاتبة الإنجليزية غيليان أفيري أنها كانت تستقل القطار يومياً لترى عديداً من الصور والمواقف الاجتماعية التي تعينها على اكتشاف أبطال رواياتها، ومنها روايتها البديعة “سكة الحديد المفقودة” التي تروي قصة أسرة تقضي إجازتها في ريف على حدود ويلز، وتعثر هذه الأسرة على آثار خط حديدي فرعي لقطار كان مستخدَماً في الماضي ثم اندثر. وتتبَّعت الأسرة الخط الذي أدى بها إلى الوصول إلى مجموعة من النصب الصخرية التذكارية في شارع ريفي، وأيضاً لوحات تذكارية تصوّر عائلة قديمة من العائلات التي كانت تستقل ذلك القطار.وفي عام 1985م حاز الألماني “كلود سيمون” جائزة نوبل في الآداب عن مجمل أعماله الأدبية الجميلة خصوصاً روايته “القصر” التي بُنيت أساساً من بدايتها إلى نهايتها على القطار، بل إن معظم أحداث الرواية –إن لم تكن كلها– تدور فيه.
وبين محطة القطار والقطار نفسه تدور أحداث رواية الأديب الإيطالي إيتالو كالفينو التي تحمل عنوان “مسافـر في ليلة من ليالي الشتاء” واصفاً وصفاً دقيقا حال القطـار ومحطاتـه وركابه في ليالي الشتاء الباردة والمعتمة.
في 4 أكتوبر عام 1883م غادر أول قطار من محطة الشرق في باريس قاصداً إستنبول، وأصبح أشهر قطار في العالم وذا مكانة في الأدب العالمي، إذ إنه داعب مخيلة عديد من الأدباء والكُتَّاب، ومن أشهرهم الكاتبة الإنجليزية أغاثا كريستي (1890 – 1976م) التي كتبت روايتها الذائعة الصيت “جريمة قتل في قطار الشرق السريع”، عام 1934م، وتُعد أشهر رواية للكاتبة كريستي. تبدأ الرواية باستدعاء رئيس وزراء إنجلترا للمحقق البلجيكي هيركيول بوارو ليعود إلى البلاد، يركب المحقق القطار السريع في طوروس بسوريا، وفي مساء اليوم التالي، يسمع المحقق صرخة في القطار، فيسرع للتحقق من الأمر، ليجد جثة تلقت 12 طعنة، ويبدأ المحقق في كشف لغز الجريمة، ويتبع ذلك توقف القطار عن مواصلة الرحلة.
القطار على سكة السينما من هوليود إلى بوليود
لم يغفل فن السينما القطار لما فيه من تشويق بالنظر إلى التقاء غرباء مدة طويلة من الوقت، لا سيما في السفرات البعيدة. كذلك استلهم كُتَّاب القصص والسيناريوهات القطار، بوصفه مكان التقاء يجمع أنماطاً من الناس والنفسيات المختلفة، الآتين من خلفيات متباينة في ظروف شديدة الغنى بالألوان والاختلاف.
فاللافت في الروايات التي تناولت القطار بشكل أو بآخر، أنها تحوَّلت في معظمها إلى أفلام سينمائية. فرواية “آنا كارنينا” التي ظهرت في الأدب الروسي عام 1877م، إلى فلم سينمائي أخرجه عام 2012 البريطاني جو رايت. وبدأ الفلم بمشهد انتحار آنا كارنينا تحت عجلات القطار، وهي حادثة تقع في الأصل في نهاية الرواية. وحاز الفلم أربع جوائز “أوسكار” وست جوائز من الأكاديمية البريطانية للأفلام، وغيرها.
أما رواية أغاتا كريستي “جريمة قتل في قطار الشرق السريع”، فقد صورتها السينمــا مرتين كانت المرة الأولى عام 1974م، في فلم أخرجه سيدني لوميت، ونــال شهرة واسعة بفعل تضمنه حشداً من كبار النجـوم العالميـين من بينهم لورين باكال وإنغريد برغمان والبرت فيني وبيتر أوستينوف وشون كونري وفانيسا ريدغريف وجاكلين بيسية وغيرهم.أما المرة الثانية فكانت في العام الماضي 2017م، وكان مخرجه هذه المرة كينيث براناغ، وهو من بطولة جوني ديب، وبينيلوبي كروز، وبجانبهما جودي دنش، ومشال فايفر، وغيرهما من الأسماء المرموقة.
ومن أشهر أفلام هوليوود، التي تدور قصتها كاملة تقريباً في القطار، فِلْم “معبر كاسندرا” وهو فِلْم أمريكي من ساعتين وتسع دقائق مليئة بالتوتر والرعب، عُرِض عام 1977م، وأخرجه جورج ب. كوستاس، وكتب قصته مع روبرت كاتس. أما أبطاله فهم صوفيا لورين، ورتشارد هاريس، ومارتن شين.
ويروي الفلم بكثير من الإثارة والإخراج المتقن، قصة قطار في شمال أوروبا، تستولى عليه مجموعة مسلَّحة من الإرهابيين، وهم يحملون معهم جراثيم مرض قاتل شديد الفتك، وسريع الانتشار. وتحتار السلطات أولاً فيما تفعل بالقطار، وهو ينطوي على هذا الخطر الداهم، ثم يقرِّر المسؤولون العسكريون أن يدمِّروا القطار بمن فيه من المسلحين الإرهابيّين والركاب الأبرياء، عندما يقترب القطار من جسر قديم غير مؤهّل هندسياً لحمله والمرور عليه.
ومن أفلام المغامرات التي تجري حوادثها على متن قطار هناك الفلم التلفزيوني الذي أنتجته محطة “بي بي سي” عام 2013م في جزأين بعنوان “سرقة القطار الكبرى”. ويروي قصة السطو التاريخي كما وقع فعلاً على قطار البريد الملكي البريطاني في عام 1963م، عندما كان في طريقه من غلاسكو إلى لندن، وفاز خلالها اللصوص بغنيمة تقدَّر بنحو 2.6 مليون جنيه إسترليني.
وفي السينما المصرية، لا يمكن لمؤرخي الفن السابع أن يغفلوا فِلْم: “باب الحديد”، الذي تدور أحداثه كلها في محطة للقطار.
قصة الفلم (1958م) تجري كلها في محطة للقطار، وما حولها من بائعي صحف وسندويشات وزجاجات ماء، وما إلى هذا، لخدمة ركاب القطار. ألّف القصة عبد الحي أديب، وأخرج الفلم، ومثل فيه دور البطولة المخرج المبدع الراحل يوسف شاهين، إلى جانب هند رستم وفريد شوقي وصفية ثروت. وتم ترشيحه هذا لجائزة الأوسكار لأفضل فلم غير أمريكي.وصولاً إلى السينما الهندية
وفي السينما الهندية قائمة لا تنتهي من الأفلام التي يحتل القطار عنوانها. منها “مومباي أكسبرس” الذي يعود إلى عام 2005م، وهو من نوع أفلام المغامرات، يدور حول قصة اختطاف وفدية، من إخراج سينجيتام راو، وبطولة كمال حسن ومانيشا كوارالا.
وهناك أيضاً “شيناي أكسبرس” (2013م)، الذي لعب بطولته شاروك خان وأطلق إلى النجوميـة بطلتـه ديبيكا بادوكان. ويدور هذا الفلم حول مغامرة رومانسية تبدأ بين شاب مسافر على متن قطار لتنفيذ وصية جده، فيلتقي فتاة وحيدة هاربة من مشروع زواج لا تريده.
واللقاء العابر على متن قطار كمنطلق للقصة هو ما نراه في فِلْم “عندما التقينا” الذي أخرجه امتياز علي عام 2007م، وقام ببطولته شهيد كابور وكارينا كابور.
وأخيراً وليس آخراً، هناك فلم “دارجيلينغ أكسبرس”. وهذا ليس فلماً هندياً، بل هو إنتاج أمريكي مصوّر بشكل شبه كامل في الهند. أخرجه ويس أندرسون عام 2007م، ومن تمثيـل أوين ولسون وأدريان برودي وأنجيليكا هيوستن. ويروي قصة ثلاثة أخوة يعبرون الهند على متن قطار للوصول إلى أمهم التي تعيش في أحد الأديرة في أقصى شرق البلاد.
اترك تعليقاً