تبدو لنا الحِرفة كما تتجلى في الحياة العملية للبشر على أنها ذات بُعدين، وكلا البُعدين يتعلقان بالعمل اليدوي للإنسان، فالبُعد الأول فردي، بمعنى أن هناك حِرَفيَّاً ما يقوم بإنتاج سلعة ما بكاملها، وعلى الرغم من ذلك فإنها تُعرض وتُباع على الجمهور. وإذا أخذنا علاقات العمل كمقياس في الحِرفة، فسنجد أن البُعد الثاني اجتماعي، بمعنى قيام مجموعة من الأفراد بإنتاج سلعة أو سلع محدَّدة. وتتميز الحِرفية بأنها تصقل مهارات الإنتاج لدى الفرد أو مجموعة من الأفراد عبر فترة زمنية متطاولة، بحيث تصبح إرثاً ثقافياً يميل إلى الجمود نسبياً. ويقسم البعض العمل البشريّ إلى عمل يدوي، وآخر ذهني.
ولكن يبدو أن تكرار إنتاج ذات السلعة بذات المقاييس والمواد يسلب من صانعها أو صانعيها فكرة الإبداع، وكل عملية إبداع ربما يشترط فيها أن تكون أصيلة، بمعنى أن تكون مغايرة وجديدة ولا يمكن تكرارها، ويبدو أن كل حِرفة تحتاج إلى نموذج يكون حافظاً للمقاييس، وبالتالي تحضر في الذهن مُثُل أفلاطون، وكيف سحب من القدرة البشرية تلك الاستطاعة على المغايرة رغم قوة السعي. إن الإبداع في الحِرفة يتمثل في المنتج الأول، وهناك بصمة ما في سلعة ينجزها حِرفي بحب لأول مرة.
ولعل البعض منا يعرف أن الحِرفة في المجال التطوري قد أخذت مساحة واسعة من أسواق المدن العربية في القرون الوسطى، ونجد مثالاً على ذلك أنه في كل المدن الجديدة التي أنشأها العرب في امتدادهم وتوسعهم التاريخي في الفترة الإسلامية (كالكوفة مثلاً)، قد تفردت مساحة محدَّدة لممارسة الحِرف المعروفة في ذلك الوقت، أما في بغداد فقد تم تنظيم تلك الحِرف بطريقة أخرى، حيث يترأس كل حِرفة شيخ يكون مسؤولاً عن تقاليد تلك الحِرفة وضبطها وإصدار رخص لممارستها، فنجد شيخ النجّارين وشيخ النسّاجين وشيخ الحدّادين، وقد كان هؤلاء النفر من شيوخ الحِرف يضعون مقاييس صارمة للمنتج السلعي، ويقفون ضد التغيير إلا في أضيق نطاق، ولعلنا نجد في التراث ما يتسلل لنا من قصص عن تلك المنتجات التي توضع في مكان ما أمام بوابة قصر من قصور الأمراء وتُترك فترة من الزمن، فإذا لم يلحظ أحد أي عيبٍ فيها فإنها حينئذٍ تُعتمد.
وما زال الحرفيون هم الجوهر الحقيقي الذي يمكن من خلاله إنشاء الصناعة، ولكن عبر كسر شروطها في العمل الحِرفي الثابت، ونجد أن النجارين وباقي الحرفيين مثلاً يستعينون بعمال يساعدونهم في إنتاج الأبواب والخزانات، ويوظفون المنتجات الصناعية في عملهم، وعند محاولتنا للتفريق بين الحِرفيّ والفنان، فسنقع في تشابه الاستعانة بالمنفذين مثلاً عند النحاتين في تنفيذ النصب، وعند الخطاطين في ملء فراغات الحروف، وعادة ما يقع خلاف بين الفنان والمنفذ الحِرفي، فالفنان يملك حرية التصوُّر للعمل، بينما المنفّذ مقيد بحِرفيته ومدى تكلفة العمل وهامش الربح لديه، ويبدو كأن الفصل بين المساعدين الحِرفيين والفنانين، قد ساعد الفنان على إبقاء تقنية الفن المحضة منفصلة تماماً عن الحِرفة بترك تنفيذ الأعمال اليدوية. وبالتالي نجد نقطة التقاء بين الحِرفيّ والفنان في عملية التنفيذ.
يرى البعض أن أصل الفنون كان لتنظيم العمل، ولكنها انفصلت مع باقي الفنون الجميلة عن غرضيتها لتقوم ببث التجربة الجمالية على حدة بعيداً عن الأصل الأول لذلك الفن، وكلما اشتبكت الفنون البصرية والصوتية والموسيقية، تعقّد الفن. وللفن صلات اجتماعية أيضاً، وقد يفهم البعض صعوبة وضع تعريف جامع شامل للفن بذاته، ومنذ اليونانيين القدماء تم التمييز بين العمل الذي ينتج أدوات، وبين العمل المحاكي الذي لا ينتج أي شيء واقعي، وإنما يقدِّم تمثيلاً فحسب، وربما لذلك أمكن تصوُّر الفن على أنه نوع من اللعب، وقد يمكننا فهم بعض الشروط المطلوبة التي تحد عملية الإبداع، مثل الأصالة، التي تعني الجديد والمغاير لكل ما حوله من تجليات الفن، كما تعني إنتاج الجميل الذي يؤثر في نفوس المتلقين وتفاعلهم مع العمل الفني، كما أن تلك الأصالة أو الفرادة لا يمكن إعادتها بشكل مطابقة مطلقة، وإن أمكن في الرسم تصوير العمل ضوئياً، وربما محاولة استنساخه حرفياً، ولكن المتخصصين يمكنهم كشف محاولة التزوير، بينما يحتفظ العمل الأصلي بقيمته. بينما المادة أو الخامة تقاوم الخضوع للإبداع في الفن، وبالتالي فإن التسرع والسهولة ليسا من صفات الفن، ولكنهما يرتبطان بالحِرفة. ولربما نجد أن الفنان لم ينفصل عبر تاريخ الفن عن الحِرفية التي كانت سائدة في عصور النهضة الأولى إلا مؤخراً في عصر الحداثة، ولعلنا نعرف كثيراً من أسماء الفنانين العظام الذين كانوا يشتغلون في الورش كمساعدين، وكان منهم مايكل أنجلو مثلاً. وسنجد ذات الصعوبة في تعريف الحِرفة أيضاً، ذلك أنها عمل إنساني يدوي يهدف إلى سد الحاجات اليومية، ومنتجات الحِرفة تخضع عادة لمقاييس دقيقة، ومتكررة، وتكرارها عادة ما يكون سهلاً، ويستجيب للطلب ويتكسب منه، ومن هنا يمكن تفهم التشابهات بين الحِرفة والفن.
ويبدو أن هناك صلة وثيقة بين الفن والحِرفة، فالفنان (الرسام) مثلاً لا بد له أن يوظف مهارات يدوية في التعامل مع الفرشاة والألوان، وتوظيف معارف تتعلق بالمادة التي سيرسم عليها، مثل القماش وخلافه، أو التعامل مع الأزاميل والأدوات الكهربائية المستخدمة في فن النحت مثلاً. كما يمكن أن تتضح معالم هذه العلاقة بين الفن والحِرفة في الخط العربي بشكل واسع، وربما يعطي الخط اليدوي الذي يعتمد على القصب في الكتابة مثالاً على ذلك المران الذي يقوم به الخطاط ضمن مقاييس حِرفية في عملية تشكيل القصب وتشذيبه ومعرفة مقاييسه.. الخ، كما أن هناك دربة خاصة لتشكيل الحروف وعلاقتها بالنقطة مثلاً، وذلك أثناء التدريب لاكتساب المهارة، وتقع الحِرفة في ارتباك عندما تواجه بالإبداع حتى في تشكيل الحروف. ولكن هناك من الخطاطين من يحيل الخط العربي في ذاته إلى لوحة فنية، بمعنى ألَّا يشكِّل الخط من حيث المنظور استطالة أو عمودية باردة، بل يمكن أن يضيف إليها ما يجعلها تعبّر عن موضوع معالج فنياً.
اترك تعليقاً