كما أن للتكنولوجيا وجهها المشرق، فلها أيضاً جانب آخر يتمثل في مخاطر لم تكن في الحسبان عند ظهورها، أو بقيت في الظل لوقت طويل بفعل بريق الفوائد التي نجنيها من هذه التكنولوجيا. غير أن وصول هذه المخاطر إلى مرحلة تهديد الإنسان بشكل مباشر أو التسبب بخسائر ملموسة، يضعها تحت دائرة الضوء. وهذا هو حال الحطام المداري الذي بات يشغل العلماء ويؤرقهم، ليس فقط بشأن سلامة الرحلات الفضائية، بل أيضاً سلامة الإنسان على الأرض.
تتلخَّص قضية الحطام المداري في أن هناك حالياً ملايين الأجسام الصلبة تدور في الفضاء الخارجي حول الأرض، وهي ناجمة عن إطلاق الصواريخ والرحلات الفضائية. وتشكِّل هذه الأجسام مخاطر على الأقمار الاصطناعية ومحطات الفضاء العاملة؛ بسبب احتمال ارتطامها بها. إذ إن هذه الأجسام تسبح في الفضاء بسرعة تبلغ 28000 كيلومتر في الساعة، وهذا ما يجعل قطعة صغيرة تمتلك قوة تدميرية كبيرة لتحطيم الأقمار الاصطناعية. فعلى سبيل المثال، إن طاقة جسيم من الألومنيوم يبلغ حجمه 3 مم مكعب ويسير بسرعة 10 كم/ ثانية، تعادل طاقة كرة بولنج تسير بسرعة 60 ميلاً / ساعة أو (27 متراً في الثانية). حتى أن بقع الطلاء الخفيفة جداً يمكنها أن تلحق الضرر بالمركبات الفضائية عندما تسير بسرعات كبيرة. ففي إحدى رحلات مكوك الفضاء ارتطمت مواد بنوافذ المركبة الفضائية، ما أدَّى إلى أضرار فيها وتم استبدال هذه النوافذ لاحقاً وعندما جرى تحليل هذه المواد، ثبت أنها بقع طلاء. وقال كبير علماء “ناسا” نيكولاس جونسون عن نفايات الفضاء إن الخطر على البعثات الفضائية يأتي من الحطام الصغير الذي لا يمكن اقتفاء أثره.
ظهوره وفئاته الثلاث
ظهر الحطام المداري في منتصف القرن العشرين مع بداية سباق الفضاء. وأخذ ينمو ويتزايد حتى أصبح خطراً يهدِّد جميع المركبات الفضائية، ولكن على نحو استثنائي محطة الفضاء الدولية والسفن الفضائية المأهولة. ويؤكد عالم الفيزياء الفلكية دونالد كسلر “أن خطر البيئة الفضائية الحالية ينمو بازدياد على المركبات الفضائية وروَّاد الفضاء”.
وفي عام 1978م وضع كسلر نظرية أطلق عليها اسم “متلازمة كسلر”، وتقول إنه إذا كانت كثافة الحطام المداري في المدار المنخفض للأرض عالية، فإن كل تصادم ينتج حطاماً فضائياً سيزيد من احتمال التصادمات إلى حدٍ بعيد. وهو يصف من خلالها التضارب المتسلسل والمتولد ذاتياً. وبالتالي، فإن مضاعفة القمامة الفضائية في المدارات تُعد من الآثــار الخطيـرة التي تجعـل من استكشاف الفضـاء وحتى استخدام الأقمار الاصطناعية أمراً بالغ الخطورة.
ونتيجة لاختلاف أحجام الحطام المداري وقوته، ميًز العلماء بين ثلاث فئات:
إن الجزء الأكبر المكوَّن للقاذفات هو الوقود والأجسام التي تحويه؛ إذ يتم إحراق الوقود خلال رحلة الصعود إلى المدار، أما الخازنات الحاوية له التي تتكوَّن من مراحل متعدِّدة فيتم التخلص منها تباعاً في الفضاء، ومعظم هذه الأجزاء يتم احتراقها في الغلاف الجوي خلال سقوطها تحت تأثير الجاذبية الأرضية
الفئة الأولى، تدور في مدار منخفض، ويزيد طولها على 10 سم. وهذه الفئة من الحطام هي مراقبة ومتتبعة من قِبل شبكة مراقبة الفضاء الأمريكية بواسطة الرادارات والتلسكوبات البصرية من الأرض. ويتم حصرها وتصنيفها في مدوّنات، كما يفعل الفلكيون مع النجوم والكواكب، مما يسمح بمتابعة حركتها ومداراتها لتفادي الاصطدام بها. وقدّر الباحثون عددها بأكثر من 29000 جسم، منها الأقمار الاصطناعية البائدة التي لم تعد لها فائدة، وأجسام الصواريخ المستهلكة.
والفئة الثانية، هي التي يطلق عليها الحطام القاتل، لأنها كبيرة بما يكفي لتحطيم قمر اصطناعي، لكنها صغيرة جداً بحيث لا يمكن تعقبها، وتتراوح أطوالها ما بين 1 و10 سم، ويصل عددها إلى نحو 670000 قطعة.
أما الفئة الثالثة، فتضم الأجسام التي يقل قطرها عن 1 سم، ويقدَّر عددها بنحو 170 مليون جسم، وتكون المركبات الفضائية محمية ضدها، إلا أن لها القدرة على إحداث أضرار فيها.
ولكن لأنَّ معظم هذه النفايات هي بقايا أقمار اصطناعية، فإنها تدور معها في الاتجاه نفسه، وعادة يكون الدوران من الغرب إلى الشرق، وهذا ما يخفض احتمالات الارتطام. غير أن الأقمار الاصطناعية في مدار ما، قد تصطدم بالحطام من مدار آخر متقاطع معه، ويكون الاصطدام شديداً ومدمِّراً.
حوادث حصلت فعلاً
هناك عديد من الحوادث التي فاقمت من مشكلة النفايات الفضائية. ففي 11 يناير 2007م، اختبرت الصين صاروخاً مضاداً للأقمار الاصطناعية بإطلاقه لتدمير قمر اصطناعي كان مخصصاً لرصد الأحوال الجوية، وانتهت مهمته، ونتج عن التحطيم 800 جسم بمقاس 10 سم أو أكبر، ونحو 40000 قطعة ما بين 1 و10 سم، ونحو مليوني جزء بطول 1 مم.
وفي يوم 10 فبراير 2009م، اصطدم القمر الروسي Kosmos-2251 البائد، الذي كان يسير بسرعة 11.7 كم/ ثانية، مع قمر الاتصالات الأمريكي التجاري يريديوم Iridium 33، على ارتفاع 776 كم فوق سيبيريا، ونتج عن التصادم تدمير القمرين، وأكثر من 2000 قطعة تم تعقبها .
مصدر الحطام
إن المكوّنات الكبرى في الصواريخ هي الوقود والخزانات التي تحويه. ويتم إحراق الوقود خلال رحلة الصعود إلى المدار، أما الحاويات التي تُستهلك على مراحل متعدِّدة فيتم التخلص منها تباعاً في الفضاء. ومعظمها يحترق في الغلاف الجوي خلال سقوطه تحت تأثير الجاذبية الأرضية؛ لكن جزءاً منها يصل إلى مدار مستقر يظل يدور فيه حول الأرض لفترة طويلة. وتؤلف هذه الحاويات ما نسبته %17 من مجموع الحطام الكبير.
ومن مصادر النفايات الفضائية أيضاً الأقمار الاصطناعية المعطوبة، وتشكِّل %22 من المخلفات، والأشياء المتعلِّقة بالمهمات الفضائية مثل الأدوات التي فقدت بواسطة الروّاد خلال الأنشطة خارج المركبات الفضائية، وحوادث التكسير التي يمكن أن تكون عرضية أو مقصودة وتمثل %19، إضافة إلى الحطام المتهشم الذي يُعد أكبر مصدر للقمامة المدارية ويشكِّل حوالي %42 منها، ويشمل بشكل خاص البطاريات وقشور الطلاء. وهناك ثلاث دول هي المسؤولة عمّا يقرب من %95 من الحطام المداري، وهي الصين (%42)، الولايات المتحدة (%27,5)، وروسيا (%25,5).
لا حل في الوقت الحاضر
على الرغم من تفاقم مشكلة الحطام المداري، إلا أنه لا توجد حلول جادة لهذه المعضلة حتى الآن. وهناك طريقتان للحد من النفايات الفضائية: التخفيف، والاستئصال. الأول يقضي بتقليل إنتاج حطام جديد، وذلك عن طريق تخفيض كمية الأجسام المتعلِّقة بالبعثات الفضائية على سبيل المثال. أما الثاني فيكون بإزالة الحطام بسحبه إلى الغـلاف الجـوي أو جمعــه بواسطــة أجهـزة من صنع الإنسان .
تاريخياً، كانت الولايات المتحدة الأمريكية رائدة في التخفيف من قمامة الفضاء. وقد لاحظت سياسة الفضاء الأمريكية هذا الأمر منذ عام 1988م، وكانت إدارة الطيران والفضاء الأمريكية أول من وضع المبادئ التوجيهية للتخفيف من النفايات الفضائية عام 1995م.
طُرح عديد من أفكار الحلول المستقبلية للتخلص من الحطام الفضائي، منها على سبيل المثال قذائف الليزر التي طرحت من قبل وكالة ناسا، حيث توضع المدافع في أحد أقطاب الأرض
وقد ركَّزت الجهود المبذولة للحد من الحطام المداري على التخفيف بدلاً من إزالته. وعلى الرغم من أن تقليل قمامة الفضاء مهم؛ لكن الدراسات تشير إلى أنه لن يكون كافياً على المدى الطويل. ففي بحث حديث لوكالة “ناسا” حاكت فيها إزالة الحطام خلال 200 سنة المقبلة، ظهر أن قطعاً معيَّنة من النفايات ستكون أخطر من بعضها، وإنها على الأرجح سوف تتسبَّب في إحداث تصادمات. وتشير نتائج هذه الدراسة إلى أن الخطر المتشكّل من الحطام يمكن أن ينخفض بشكل ملحوظ بواسطة الإزالة السنوية لعدّة قطع كبيرة من المدارات المهمة.
إضافة إلى ذلك، طُرحت أفكار كثيرة للتخلص من الحطام المداري. منها على سبيل المثال قذائف الليزر التي اقترحتها وكالة “ناسا” وتقضي بوضع المدافع في أحد قطبي الأرض، إذ يكون هناك الغلاف الجوي أرق، فترسـل المدافـع الليزرية نبضات مضغوطة من الفوتونات لإخراج الأجسام بعيداً عن طريق المركبات الفضائية، وليس تحطيمها. ولكن فكرة بناء منشأة الليزر اللازمة لذلك تتطلَّب تعاوناً دولياً .
واقترح علماء من سويسرا فكرة مركبة فضائية سموها “Clean space one”، وهي مصممة لالتقاط وإمساك الحطام، باستخدام الشباك والتوجه بها إلى الأرض. وفي أثناء مرورها بالغلاف الجوي، سوف تحترق المركبة وحمولتها من الحطام.
وفي العام الماضي، وضعت وكالة الفضاء الأوروبية خططاً لإطلاق مركبات نقل آلية إلى الفضاء، من دون روّاد، مزوَّدة بأجهزة استشعار بصرية قادرة على الكشف عن القمامة، وتجميعها وإعادتها إلى الأرض .
ويقترح بعض الباحثين من جامعة “تسينغوا” في الصين قدَّموا فكرة بناء صاروخ يجمع القمامة ويحوِّلها إلى وقود. وقد سمَّى العلماء هذا التصور بـ “محرك الحطام” إذ إنه يلتقط الجسيمات الصغيرة وأي شيء يقل قطره أقل من 10 سم بمساعدة شباك، ثم تنقل النفاية إلى وحدة الاحتواء المليئة بأدوات الجلخ، فتتولى هذه طحن الحطام إلى مسحوق بوجود حرارة عالية، ما يؤدِّي إلى الفصل بين الأيونات المشحونة السالبة والموجبة، فيتولد تيار كهربائي يستخدم لدفع الصاروخ. وقد وصف عديد من الخبراء هذه الفكرة بأنها مثيرة للاهتمام وخطوة في الاتجاه الصحيح.
ومع كل ذلك، يتضح مما سبق عدم وجود حل جذري لهذه المشكلة العالمية، وإنما حلول ما زالت تتطلب كثيراً من العمل والاهتمام من أجل تطبيقها وإخراجها إلى النور في أقرب وقت ممكن.
اترك تعليقاً