مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مارس - أبريل | 2020

الاقتصاد الدائري منخفض الكربون
دور الابتكار التقني في تجسير فجوة الكربون


نظمي محمد الخميس

في الثلاثين من أكتوبر من العام الماضي 2019م، أعلن صاحب السمو الملكي الأمير عبدالعزيز بن سلمان، وزير الطاقة، عن طرح المملكة لمفهوم “الاقتصاد الدائــري المنخفــض الكربــون” في إطار “مبادرة مستقبل الاستثمار”.
يقدّم هذا التقرير قراءة عن ماهية هذا المفهوم وأهميته، كونه الأكثر موضوعية وواقعية، لمعالجة معضلة النمو الاقتصادي العالمي وكبح التغير المناخي. كما يستعرض دور الابتكار التقني في تجسير فجوة الكربون عبر حزمة من التقنيات المتكاملة والتحوُّل من نموذج اقتصاد خطي تُستخدم فيه المواد ثم يُتخلص منها، إلى نموذج دائري يعتمد على خفض الاستهلاك، وإعادة الاستخدام والتدوير، وتحويل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون إلى صور أخرى من الطاقة، لإتمام دورة الكربون بكفاءة.

يعمل الاقتصاد الخطي على أساس استخراج مواد أولية بكميات كبيرة وتحويلها إلى سلع واستخدامها حتى يتم التخلص منها نهائياً كنفايات. بينما يعمل الاقتصاد الدائري على التقليل من استخراج الموارد الأولية وتحويلها إلى سلع ومشاركتها ومن ثم تحويلها وتدويرها إلى مصادر طاقة أخرى أو مواد أولية بحيث تقل كمية النفايات التي يجب التخلص منها إلى الحد الأدنى.

يسعى المفهوم لتغيير نموذج عمل استخدام الوقود الأحفوري الحالي “بتخضيره” للإسهام في تقليل مخاطر التغير المناخي ومنع وصول تركيز غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي “لنقطة اللاعودة”. وفي الوقت نفسه، إبقاؤه المصدر الرئيس للطاقة الموثوقة للاقتصاد العالمي، حيث يُعدُّ سيناريو الدرجتين المئويتين لانخفاض الغازات الدفيئة مقيداً جداً لنموذج عمل استخدام الوقود الأحفوري الحالي، بينما يشكِّل استهلاك الوقود الأحفوري جزءاً مهماً لاستدامة نمو الاقتصاد العالمي.

التغير المناخي واختلال توازن دورة الكربون الطبيعية
يحدث التغير المناخي نتيجة لخلل كبير جداً في التوازن بين الكربون الموجود في سطح الأرض والغلاف الجوي، فمثلاً تؤدي زيادة تركيز الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي إلى تغيّر الصفات الفيزيائية والكيميائية لليابسة والمحيطات وكذلك التكتلات الثلجية الكبيرة. يشتمل الوقود الأحفوري على البترول والغاز الطبيعي والفحم، وينتج عن التحوُّل البطيء للكربون العضوي المترسَب في الصخور الرسوبية، وبصفة أساسية البقايا الأحفورية للكائنات البحرية والبرية. هذا التحوُّل يستغرق ملايين السنين ولا يمكن تجديد الوقود الأحفوري بالمعدل الذي يستهلك به. يعد حرق الوقود الأحفوري الذي يستخدم في توليد الكهرباء، والمواصلات، وصناعة الحديد والصلب وإنتاج الأسمنت، مُسهماً رئيساً في إطلاق مزيد من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي. ينتقل الكربون من الوقود الأحفوري إلى الجو عندما يتم حرقه كمصدر للطاقة. يدخل معظم الكربون في الغلاف الجوي كغاز ثاني أكسيد الكربون ويحتجز بمعدل أسرع من إزالته مما يؤدي إلى تراكمه وزيادة تركيزه باطراد.
قبل أن يبدأ النشاط الصناعي بعد الثورة الصناعية منذ عام 1860م في إطلاق كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون في الجو، كان معدل امتصاص وفقدان ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي عند نقطة توازن مختلفة بين كميتي الكربون في سطح الأرض والغلاف الجوي. أدى هذا النشاط الصناعي المتزايد إلى اختلال كبير في تدفق الكربون بين الغلاف الجوي وسطح الأرض، وطبعاً باتجاه الأول. في الجانب المقابل، ما كان للثورة الصناعية أن تحقق التغير الهيكلي لاقتصاديات الدول المتقدِّمة بالانتقال من الحالة الزراعية إلى الصناعية وتواصل النمو بهذا الزخم من غير استخدام الوقود الأحفوري.

أصبح في حكم المؤكد عند الباحثين أن مستقبل بيئة الأرض بات يعتمد على التحوُّل من النمط الاقتصاد الخطي إلى الاقتصاد الدائري منخفض الكربون.

معضلة النمو الاقتصادي وكبح التغير المناخي
إن علاقة الوقود الأحفوري بالتنمية الاقتصادية وثيقة وقوية. لذلك لا يمكننا دراسة دورة الكربون وإدارتها من منظور العلوم الطبيعية فقط، لأن دورة الكربون ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتنمية والنمو الاقتصادي العالمي، حيث الحاجة إلى موارد الطاقة والغذاء. إن التقييم العلمي لأي سياسات تتعلق بالتغير المناخي تحتاج إلى استيعاب عديد من الدوافع الاجتماعية والاقتصادية. بدأت هذه العلاقة عندما استطاع الإنسان استبدال المجهود البشري بالآلة كنتيجة لابتكار استخدام الفحم لتشغيلها في بداية الثورة الصناعية، وتطور لاحقاً لاستخدام كل من الغاز الطبيعي والنفط كمصدر للطاقة في الصناعة وتوليد الكهرباء والمواصلات وكذلك في قطاع الخدمات. بالإضافة إلى هذه العلاقة العضوية، هنالك علاقة تناسبية؛ فكلما زاد عدد السكان، زاد النشاط البشري، فيزداد معه استهلاك الوقود الأحفوري. إن تقييد التنمية الاقتصادية أو النمو الاقتصادي ليسا خيارين مطروحين لخفض انبعاثات الغازات الدفيئة. من جانب آخر، إن زيادة متانة موثوقية النفط تنبع من التأثير الإيجابي المتبادل بين النفط والاقتصاد العالمي، فالعلاقة بينهما ليست لعبة صفرية، فلن ينمو الاقتصاد العالمي بالتخلي عن الوقود الأحفوري، خاصة النفط، على المدد المختلفة لانعدام البدائل الاقتصادية.

انبعاثات ثاني أكسيد الكربون منذ انطلاق الثورة الصناعية المصدر:
Global Carbon Project, Expert(s) (Gilfillan, et al.) Statista 2019 ©

الاقتصاد الدائري للكربون
يُعرف الاقتصاد الدائري، عموماً، على أنه جملة الجهود والممارسات التي تهدف إما إلى الحد من استنزاف الموارد الطبيعية الناضبة أو المتجدِّدة، عندما يكون معدل استهلاكها أكبر من معدّل تجددها، وكذلك إلى تقليل الآثار الجانبية السلبية للاستهلاك البشري. وبهذا التعريف تبرز نقاط متعدِّدة:

  • خصوصية استهداف أي مورد طبيعي بالجهود الرامية لإغلاق حلقته في الطبيعة بالاقتصاد الدائري.
  • تقاطع الدوائر الطبيعية والاقتصاديات الدائرية للموارد المختلفة فيما بينها.
  • جعل ديمومة استهلاكه من قبل الأجيال القادمة على أنها الهدف الأوحد.
  • تعدّد الطرق لتحقيق هذا الهدف.

قد لا تختلف المجتمعات البشرية المتعدِّدة على معظم هذه النقاط، ولكنها حتماً تختلف حول أفضل السبل لتحقيق هدف ديمومة الاستهلاك. وتبرز في إطار الطرق المختلفة للمحافظة على القيم الاقتصادية والاجتماعية لأي مورد طبيعي، وبالتالي ديمومته، ثلاث سبل أساسية مختلفة:

  1. الاستخدام الراشد وتدوير استخدامه.
  2. الاستخدام المتعدّد والممتد، الذي يتضمّن تجويد صناعته لإطالة فترة استخدامه وإعادة تصنيعه عن طريق الابتكار التقني.
  3. تغيير أنماط الاستهلاك وتطوير نماذج للمشاركة في الاستخدام.

وهنالك طريقتان لمعالجة الاختلال في دورة الكربون الطبيعية:

  1. الحد من النشاطات المتسببة في الانبعاثات.
  2. تدوير ثاني أكسيد الكربون الذي سبب الاختلال.

يُعرف الاقتصاد الدائري، عموماً، على أنه جملة الجهود والممارسات التي تهدف إما إلى الحد من استنزاف الموارد الطبيعية الناضبة أو المتجدِّدة، عندما يكون معدّل استهلاكها أكبر من معدّل تجدّدها، وكذلك إلى تقليل الآثار الجانبية السلبية للاستهلاك البشري.

إن الحد التام من هذه النشاطات سيؤثر سلباً على الاقتصاد، وهذا ليس الحل الأفضل. كما أنه لا يمكن تدوير كل غاز ثاني أكسيد الكربون في دورة الكربون السريعة، لصعوبة إنشاء غطاء نباتي قادر على امتصاص واستيعاب كمية الانبعاثات الحالية للوصول للتوازن. ولذا لا بد من:

  1. الحد المتدرج من النشاطات التي تؤدي إلى الانبعاثات.
  2. ابتكار وسائل اقتصادية لتدويره “صناعياً” أو ما يطلق عليه بالاقتصاد الدائري للكربون.

بين “الاستدامة العميقة” و”إزالة الكربون العميق”: مدرستان وأفكار متعدِّدة
إن الهدف من تبني الاقتصاد الدائري للكربون هو إعادة دورة الكربون الطبيعية إلى مستوى توازن الكربون بين سطح الأرض وغلافها الجوي، بحيث يحافظ على استدامة التوازن الحيوي القائم. وضمن هذا الإطار، يدور النقاش حول تعريف الاستدامة بما يشبه حرب الأفكار. وهنالك مدرستان رئيستان للتصدي لتحدي التغير المناخي: الراديكالية والواقعية.

المدرسة الراديكالية، حيث يسعى نشطاء البيئة المبالغون إلى الترويج لتفسيرهم الخاص “الاستدامة العميقة” وذلك من خلال مسار الحد الكلي من غازات الدفيئة أو “إزالة الكربون العميق” من خلال الدعوة إلى وقف استخدام الوقود الأحفوري بشكل دائم واستخدام الطاقة المتجدِّدة والمركبات الكهربائية، كبديل للفحم والنفط والغاز الطبيعي، من غير النظر إلى ما يمثله ذلك من آثار اقتصادية واجتماعية سلبية على الاقتصاد العالمي. يقوم نموذج العمل لديهم على قطع الرباط العضوي بين الاقتصادات الوطنية والوقود الأحفوري عن طريق استخدام عوائد ضرائب الكربون العميقة في جعل بدائل الوقود الأحفوري على أنها هي الحل.

هناك ضرورة للاستثمار في البحث العلمي الممنهج والفعّال نحو حزمة التقنيات اللازمة لإقفال دائرة الكربون وتدوير غاز ثاني أكسيد الكربون صناعياً لتشمل تخضير النفط والحفاظ على قيمته واستخدامه عي اقتصاديات الهيدروجين وتقنيات خزن الطاقة المتعدِّدة.

أما في المدرسة الواقعية، يرى الواقعيون أن “إزالة الكربون العميق” هو طريق يؤدي إلى تنمية غير مستدامة، سواء اقتصادياً أو اجتماعياً، وأيضاً، هو طريق محفوف بالمخاطر البيئية، وقد يؤدي إلى نتائج كارثية على الاقتصاد العالمي والحضارة الحديثة، وبدلاً من ذلك يقترحون اعتماد مسار متدرج للتخفيف من الغازات الدفيئة باتباع “سيناريو الدرجتين المئويتين” من دون تجاوز الحد الأقصى في 450 جزءاً في المليون مكافئ ثاني أكسيد الكربون عن طريق برمجة خفض الانبعاثات المسموح بها عالمياً. أيضاً، ولضمان نجاح هذا المسار، يجب الاعتماد على الابتكار التقني في خفض الانبعاثات الناتجة عن الاستخدام الحالي للوقود الأحفوري، حتى تنضج التقنيات التي تحدُّ من الانبعاثات، كمسار مستدام متكامل مع تقنيات بدائل النفط، والتي لا تمثل بديلاً اقتصادياً محتملاً على المدى المنظور. كذلك، فإن الاستثمار الاقتصادي في استخدام التقنيات الانتقالية مثل “تقنيات استغلال ثاني أكسيد الكربون” وتقنيات التقاط الكربون، واستخراج الهيدروجين، من خلال البحث العلمي المثابر، يمثل النواة الاستراتيجية للمدرسة الواقعية.

توظيف الابتكار التقني في “تخضير النفط”
ضمن هذا الإطار من النقاش، تبنّى المجتمع الدولي جملة سياسات تهدف إلى قطع العلاقة العضوية بالتدريج بين الوقود الأحفوري والاقتصاديات الوطنية. فقد تبنّى، مثلاً، “الاستخدام الراشد” وتغيير أنماط استهلاك الوقود الأحفوري كالسياسات المقيدة للاستخدام أو تقنين استخدامه عن طريق فرض أدوات السوق لتسعير الكربون (نظام تجارة رخص الانبعاثات أو ضرائب الكربون)، وتبني سياسات كفاءة استخدام الطاقة، وسياسات أخرى تهدف إلى تبني بدائل الوقود الأحفوري لتحويل اقتصادياتهم نحو مسار قليل أو منعدم الكربون. إجمالاً، وعلى الرغم من النجاحات المحدودة والمتفاوتة لهذه السياسات، فإنها في المحصلة لم تستطع خفض الانبعاثات إلى المستوى المستهدف في سيناريو الدرجتين بقطعها الرباط العضوي بين الاقتصاد العالمي والوقود الأحفوري. فهذه الحلول لم تكن كافية لإيقاف نمو استهلاك النفط أو الغاز أو الفحم، حيث ما زالت العلاقة المتبادلة بينها من جهة والاقتصاد العالمي من جهة أخرى متينة. فعلى المدى المنظور، لن تستطيع مصادر الطاقة المتجدِّدة المتغيرة المدعومة، وعلى الرغم من نموها المتسارع، في أن تكون بديلاً للفحم أو الغاز في مجال توليد الكهرباء، بل على العكس، فهي تحتاج للمولدات الغازية، مثلاً، للحفاظ على موثوقية الشبكة الكهربائية. أما السيارات الكهربائية فهي لم تصبح إلى الآن بديلاً اقتصادياً للسيارات التي تعمل بالاحتراق الداخلي وإن نموها سيعتمد على تغير أنماط ملكية وسائل النقل إلى التشاركية. وأما الحلول الأخرى، كزيادة كفاءة استخدام الطاقة في قطاع المواصلات وفرض أدوات السوق لتسعير الكربون، فهي تحد من نمو الطلب على الوقود الأحفوري، ولكنها حتماً لن تكون قادرة على قطع العلاقة العضوية بين الوقود الأحفوري والاقتصاد العالمي، بل قد تقوّيه لعدم جاهزية البدائل. آن الأوان لاستخدام الابتكار التقني الموجَّه ضمن الاقتصاد الدائري للكربون في تغيير نموذج العمل الحالي بابتكار طرق جديدة لاستهلاك الوقود الأحفوري دون إطلاق الغازات الدفيئة للغلاف الجوي. لأن الوقود الأحفوري ما زال يشكِّل عنصراً أساسياً للنمو الاقتصادي والتنمية في العالم، لا بد من الاتفاق على أن الوقود الأحفوري في حد ذاته، ليس هو المتسبِّب في خلل دورة الكربون الطبيعية، بل بدلاً من ذلك، لا بد من استحداث نموذج عمل جديد يهدف إلى مواءمة كيفية استخدامه بين الاقتصاد والتغير المناخي. لحسن الحظ، تُعدُّ كيمياء المواد الهيدروكربونية ذات طبيعة مرنة، فإنه من الممكن تطويعها بنموذج عمل اقتصادي قوي، لكي تتماشى مع سياسات الحد من التغير المناخي، عبر إطلاق عملية الابتكار التقني للوصول إلى هذا الهدف. إن من بين الحلول للحفاظ على النفط، وحتى تحسين موقعه، كمصدر رئيس للطاقة وسلعــة ذات مردود جيوسياسي متصاعد، هو تعزيز أواصر العلاقة بين الطلب على النفط والاقتصـاد العالمي عن طريق توظيف الابتكار التقني للوفاء بسياسات التغير المناخي وتثبيط التكلفـة التعادلية لبدائل النفط أو ما يصطلح عليه بتعبير “تخضير النفط”. من جهة أخرى، لن ينجح الابتكار التقني في تجسير دورة الكربون إلا إذا كان يستهدف استحداث نموذج عمل مختلف تماماً لاستخدام الوقود الأحفوري. فالاستهداف الجزئي لنموذج عمل استخدامه الحالي، لن يكون حلاً جوهرياً، وسوف يؤدي بمرور الوقت إلى الإذعان للمدرسة الراديكالية.

الابتكار التقني وعولمته
يعرف الابتكار التقني على أنه عملية منهجية تهدف بالوصول بالأفكار المبتكرة عبر تجسيدها بنجاح في المنتجات والخدمات والعمليات إلى المرحلة التجارية. وتتميز الأنماط الحديثة للابتكار التقني بالديناميكية والتعقيد الشديدين، فهي تعكس الطبائع المتعدِّدة وغير المتجانسة للأنشطة الاقتصادية، وتنوّع نماذج الابتكار التقني بين القطاعات والبلدان.
لذلك لا بد من التوجه لصالح الاستثمار في البحث العلمي الممنهج والفعّال نحو حزمة التقنيات اللازمة لإقفال دائرة الكربون وتدوير غاز ثاني أكسيد الكربون صناعياً، بحيث لا تقتصر على تخضير النفط والحفاظ على قيمته فحسب، بل لتشمل إمكانية خلق أسواق إضافية لاستهلاكه، كاستخدامه في اقتصاديات الهيدروجين وتقنيات خزن الطاقة المتعدِّدة.

آن الأوان لاستخدام الابتكار التقني الموجَّه ضمن الاقتصاد الدائري للكربون بابتكار طرق جديدة لاستهلاك الوقود الأحفوري من دون إطلاق الغازات الدفيئة للغلاف الجوي.

الفكرة الرئيسة لهذه الاستراتيجية هي تكامل حزمة من التقنيات بإعادة تعريف كيمياء استخدام النفط، مثلاً باستخراج الهيدروجين وكذلك البتروكيماويات مباشرة من النفط، وكذلك تعريف ثاني أكسيد الكربون كلقيم محتمل لكثير من الصناعات ذات العائد الاقتصادي، وهذا ما يسهم بدوره في تعويض تكلفة التقاط ثاني أكسيد الكربون.
إن المنهجية في الابتكار التقني تهدف إلى الفعالية من حيث التكلفة بتكامل التقنيات، وتحسين سلسلة قيمة استخدام الوقود الأحفوري في مجال الطاقة، والاستعداد للاستثمار بعيد المدى في البنية التحتية المطلوبة. بالإضافة إلى ذلك، في هذه المرحلة، هناك حاجة ماسة لسياسات الدعم المباشر وسياسات الدعم الحكومية غير المباشرة لاحتضان هذا الهدف والتغلب على العوائق التي تحول دون اعتماده. كلها عوامل مهمة لإنشاء مسار ابتكار تقني يصل إلى تحسين التكلفة التعادلية لنموذج العمل الجديد. في هذه المرحلة المبكرة من البحث العلمي وتطوير التقنية، يُعدُّ إجراء تحليل تقني اقتصادي شامل أمراً حيوياً لتوضيح الإمكانات طويلة الأجل لتحقيق هذا الهدف.
ولأن معضلة التغير المناخي والاقتصاد عالمية الطابع، فإنه من الأجدى عولمة عملية الابتكار التقني لتحسين التكلفة التعادلية لسلسلة القيمة للنفط وكذلك تطوير العلاقات والتواصل العلمي مع مجتمعات الأعمال.
إن إنشاء شبكة عالمية للابتكار التقني في الاقتصاد الدائري للكربون سوف يساعد على تضافر الجهود ويساعد على تسريع وتعميق وتوسيع نطاق تخضير النفط، ويقلل من تشتت عملية الابتكار التقني، لا سيما وأن الهدف الاستراتيجي مشترك ويكمن في كبح التغير المناخي دون الإضرار بالاقتصاد العالمي. للابتكار المعولم منافع عدَّة تتضمَّن: المشاركة المعرفية، تقليل مخاطر الاستثمار في البحث العلمي، وكذلك تساعد على توسيع نطاق البحث العلمي وتسريعه. ولذلك، فإن المشاركة في موارد البحث العلمي تساعد على تقليل تكلفة عملية الابتكار وتقليل احتمالات الفشل فيها.

حزمة التقنيات المتكاملة اللازمة لإقفال دائرة الكربون
نموذج النفط

وسط تداعيات التصاعد المتزامن لسياسات التغير المناخي والتحسن التدريجي للتكلفة التعادلية لبدائل النفط في قطاع المواصلات، وعلى الرغم من تعثرهما الآني، فإنهما لا يزالان يمثلان معاً خطراً محتملاً على مستقبل النفط على المدى البعيد. وهنا لا بد من الأخذ بعين الاعتبار والتمعُّن في مدى وديناميكية تأثير هذه السياسات والبدائل على الطلب على النفط. فالمتمعن لهذين البُعدين المؤثرين يلحظ مباشرة التفاعل المتبادل بين كل من التقدُّم التقني والعوامل الجيوسياسية والاقتصاد.
إن تخضير النفط لا بد وأن يكون هدفاً استراتيجياً للتحوط مستقبلاً وتجنب حجزه القسري في باطن الأرض. يشمل تخضير النفط تكامل حزمة التقنيات التالية:
أ – التقاط ثاني أكسيد الكربون.
ب – تقنيات استغلال ثاني أكسيد الكربون وخزنه. ج – استخراج الهيدروجين من النفط.
د – الاشتقاق المباشر للبتروكيميائيات من النفط.
تتمتع هذه التقنيات بمستويات مختلفة من عملية الابتكار التقني فبعضها في مستوى متقدِّم كتقنيات استخراج الهيدروجـين من النفـط عن طريـق “عملية نفث بخار الماء عالي الضغط”، وبعض تقنيات استغلال ثاني أكسيد الكربون، كما أن بعضها لا يزال في مراحل أولية كبعض تقنيات التقاط الكربون والاشتقاق المباشر للبتروكيميائيات من النفط.
إن تكامل هذه التقنيات كلها في سلسلة قيمة واحدة، لمعرفة الجدوى الاقتصادية، لا يزال في مرحلة جنينية.
غالباً، ما يتم اعتبار التكلفة المرتفعة وراء عدم انتشار مثل هذه التقنيات على نطاق واسع. إن ابتكار تقنيات قادرة على التقاط الكربون وبتكلفة منخفضة وموثوقية عالية سيُعَدُّ، بلا شك، انجازاً كبيراً. الهدف من هذه التقنية هو التقاط على الأقل ما نسبته %90 من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الناتجة عن استخدام الوقود الأحفوري في توليد الكهرباء والعمليات الصناعية، وكذلك استخراج الهيدروجين من النفط عبر تقنيات تسمى بتقنيات “نهاية الأنبوب”، ومنعه بالتالي من دخول الغلاف الجوي. بدأت مرحلة الاستغلال التجاري لهذه التقنية في بداية هذه الألفية كوسيلة لالتقاط الانبعاثات عند توليد الكهرباء من الفحم، وكنتيجة لفرض ضريبة الكربون ونظام تجارة رخص الانبعاثات، المقيدتين للانبعاثات. في مجال توليد الكهرباء، تتوقَّع وكالة الدولية للطاقة (IEA) على قدرة هذه التقنيات بتقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية بنسبة %19. أما في مجال تكامل التقنيات الأربع، فهنالك إمكانية لاستخدام الهيدروجين في التقاط ثاني أكسيد الكربون مما يزيد كفاءة وجدوى هذا التكامل.
إن تخفيض تكلفة التقاط الكربون يمكن أن تلعب دوراً أساسياً في تمكين استخراج الهيدروجين من النفط وكذلك توليد الكهرباء من الغاز والفحم الخالي من الانبعاثات.
عندما يتم التقاط غاز ثاني أكسيد الكربون، يمكن استخدامه كمدخل صناعي لعدد كبير من التطبيقات الصناعية والزراعية المختلفة، بحيث يكون استخدامه ذا جدوى اقتصادية، وتعويضاً عن التكلفة المرتفعة لالتقاطه، بالإضافة إلى خزنه في مكامن النفط والغاز الناضبة أو مكامن المياه المالحة. المقصود من استغلال ثاني أكسيد الكربون الملتقط هو توظيفه في سلاسل قيمة متعدِّدة لإنتاج منتجات أو خدمات ذات قيمة اقتصادية. إن تقنيات استغلال ثاني أكسيد الكربون تشمل جملة تطبيقات في المرحلة التجارية وكذلك تطبيقات أخرى لم تنضج بعد، وما زالت تخضع لمزيد من البحث والتطوير. إجمالاً، لا تزال أسواق استغلال ثاني أكسيد الكربون صغيرة نسبياً، ولكنها كثيرة التعدُّد والتنوُّع وفي قطاعات عديدة، ويمكن أن تؤدي بالمحصلة إلى استحداث قيمة اقتصادية عالية، ما زالت حتى الآن غير مستغلة. فمثلاً، يمكن استخدامه في الاستخراج المعزَّز للنفط ومعالجة المعادن وفي صناعة الأغذية، مثل: المشروبات الغازية، التجميد السريع المبرد، والتثبيت الحيوي. بالإضافة إلى ذلك، قد يحل محل البخار لتدوير مولدات الكهرباء كبديل عن البخار. يمكن أن يكون استخدامه اقتصادياً في تخزين الطاقة الكيميائية وتحسين بعض العمليات الكيميائية وكذلك إنتاج الهيدروجين. أيضاً، يمكن أن يستخدم في معالجة مياه الصرف الصحي، ويكون بديلاً تجارياً للأحماض المعدنية في الحد من درجة الحموضة، ويسهم في تخفيض التكلفة. كذلك يمكن استخدامه في تحسين إنتاجية زراعة البيوت المحمية والزراعة العضوية. أهمية استخراج الهيدروجين من النفط
تنبع أهمية تقنية استخراج الهيدروجين من النفط لسبب رئيس وهو أن الهيدروجين يمكن أن يشكِّل بديلاً لاستخدام البنزين والديزل في محركات الاحتراق الداخلي. من المتوقع أن تكون هذه التقنية بديلاً اقتصادياً وأكثر استدامة من استخدام بطاريات الليثيوم في السيارات الكهربائية، كما أنها تستطيع اختراق أسواق خزن الطاقة ذات الأهمية المتزايدة بالرغم من أن التقاط غاز ثاني أكسيد الكربون من نهايات أنابيب مولدات الفحم والغاز الكهربائية مجدٍ اقتصادياً، فإن حلقة الاقتصاد الدائري للكربون لن تكتمل إلا باقتصاديات الهيدروجين، لا سيما وأن النفط يستخدم غالباً في قطاع المواصلات في المحركات “السيارة” ذات الاحتراق الداخلي المثيرة لانبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون (حوالي %20 من الانبعاثات) التي يتعذر اقتصادياً، حتى الآن، التقاطه منها بفعالية.
لكي يتم ذلك، لا بد من تعزيز اقتصاديات سلسلة القيمة العالمية لاستخراج الهيدروجين من النفط للوصول إلى التكلفة التعادلية لجعل النفط المصدر الرئيس لإنتاجه بالمقارنـة مع الغـاز الطبيعي والبدائل الأخرى. لا بد وأن يكون على قائمة الأولويات تعزيز الشراكات الاستراتيجية مع أصحاب التوجه المشترك بين كل من المنتجين والمستهلكين لجعل الهيدروجين مصدراً رئيساً للطاقة في مجالات المواصلات وتعزيز موثوقية إنتاج الكهرباء وجعله المصدر الرئيس لتخزين الطاقة. إن الاختراق المبرمج والمدروس والموجَّه للاقتصاديات القابلة لاستهلاك الهيدروجين عند تكاليف مرتفعة نسبياً، في البداية، ذو بعد استراتيجي عميق، لا سيما وأن هذه الاقتصاديات هي في الغالب من محاربي استخدام النفط.

تكامل حزمة التقنيات الأربع المتكاملة: التقاط ثاني أكسيد الكربون، وتقنيات استغلال ثاني أكسيد الكربون وخزنه، واستخراج الهيدروجين من النفط، والاشتقاق المباشر للبتروكيماويات من النفط،
المصدر: كاتب المقالة

أهمية اشتقاق البتروكيماويات من النفط
إن الهدف من الاستثمار في الابتكار التقني في الاشتقاق المباشر للبتروكيماويات من النفط هو استيعاب النمو المحتمل في البتروكيماويات وإنشاء أسواق جديدة لاستخدام النفط والتحوط لمستقبله باشتقاق أكبر كمية من المركبات ذات القيمة الاقتصادية الكبيرة. والهدف من هذه التقنية هو الاشتقاق المباشر، أي ليس عن طريق المصافي التقليدية، لأكبر كمية من البتروكيماويات من النفط عبر استخدام تقنية محفزات متطورة، لتكون أكثر اقتصادية من استخدام النافثا الحالي.
إن تكامل تقنيات الاشتقاق المباشر للبتروكيماويات من النفط مع تقنيــات استخـراج الهيدروجين منه لا يجب استبعادها، إذ من الممكن أن يكونا توأمين اقتصاديين مهمين على المدى البعيد لاستخدام النفط لاستغلال كل من الهيدروجين للطاقة والكربون للمركبات الكيميائية في نموذج عمل مختلف. أهمية الجهد الدولي المشترك لنجاح الابتكار التقني
في الخلاصة، ما رشح من اتفاقية باريس الإطارية و”الإسهام الوطني المحدّد” لجميع الدول من خفض للانبعاثات وتطبيقها، لم يرق حتى الآن إلى المستوى المستهدف على أساس الدرجتين المئويتين، فما زالت هناك فجوة كبيرة لا بد من جسرها. أضف إلى ذلك، انسحاب الولايات المتحدة منها، وإن كان غير واضح مدى تأثيره، والتباين العميق بين الكلمات والأفعال بشأن تطبيق السياسات، يهدِّد بتجريد هذه الاتفاقية من مضمونها من حيث الثقة المتبادلة والعمل الدولي المشترك. فهذه مؤشرات إلى وجوب انتهاج توجه مختلف تماماً وعدم تكرار تجارب الماضي.
إن إعادة التوازن لدورة الكربون لن يعني ببساطة الكهربة التامة، إذ تتطلب معظم الأنشطة الصناعية إما الكربون في كيميائها أو الحرارة العالية، التي لا يمكن توفيرهما اقتصادياً بالكهرباء. بالإضافة إلى ذلك، ليس من المنطقي من مفهوم الاستدامة استنزاف الموارد المعدنية الناضبة ذات التدوير غير المجدي، لأجل إحلال الكهربة التامة في قطاع المواصلات. آن الأوان لاستخدام الابتكار التقني الموجه ضمن الاقتصاد الدائري للكربون بابتكار طرق جديدة لاستهلاك الوقود الأحفوري من دون إطلاق الغازات الدفيئة للغلاف الجوي.

أهم المصادر:

• IPCC, 2014: Climate Change 2014: Synthesis Report. Contribution of Working Groups I, II and III to the Fifth Assessment Report of the Intergovernmental Panel on Climate Change [Core Writing Team, R.K. Pachauri and L.A. Meyer (eds.)]. IPCC, Geneva, Switzerland, 151 pp.
• IEA, 2019: World Energy Model: Scenario analysis of future energy trends. IEA
• Hydrogen Council, 2019: Hydrogen Council website: Hydrogencouncil.com
• Sciencing, 2019: What Human Activities Affect the Carbon Cycle?”. Sciencing.com
• NASA, 2019: The Human Factor: Understanding the Sources of Rising Carbon Dioxide. Nasa.gov
• World Economic Forum, 2015: Can we rebalance the carbon cycle while still using fossil fuels?. Weforum.org
• Styring S. Styring D. , 2011: “Carbon Capture and Utilisation in the green economy: Using CO2 to manufacture fuel, chemicals and materials” Centre For Low Carbon Futures.
• Tryfonas Pieri, Alexandros Nikitas, Arturo Castillo-Castillo and Athanasios Angelis-Dimakis, 2018: Holistic Assessment of Carbon Capture andUtilization Value Chains. Environments Journal.
• Dargin, Justin, 2019: Developing a green economy in Saudi Arabia. Petroleum Economist.
• Anna Hankin, Gonzalo Guillén Gosálbez, Geoff H. Kelsall, Niall Mac Dowell, Nilay Shah, Shoshana Z. Weider and Kieran Brophy, 2019: Assessing the economic and environmental value of carbon capture and utilisation in the UK. Institute For Molecular Science and Engineering.
• Ulf Bossel, Baldur Eliasson, 2010: Energy and the Hydrogen Economy. Working Paper.
• UNEP, 2006: THE HYDROGEN ECONOMY A non-technical review. United Nations Environment Programme.
• Jason Vaughan, 2013: Defining Technological Innovation. Chapter 2 of Library Technology Reports (vol. 49, no. 7) “Technological Innovation: Perceptions and Definitions”
• Sarita Nayyar, Sean de Cleene, Lisa Dreier, 2018: Innovation with a Purpose: The role of technology innovation in accelerating food systems transformation. World Economic Forum Prepared in collaboration with McKinsey & Company.


مقالات ذات صلة

ظهر مفهوم ريادة الأعمال الخضراء حديثاً، نتيجة لنمط الإنتاج والاستهلاك وطريقة الحياة التي فرضتها الثورات الصناعية المتعاقبة، التي أدَّت إلى تغيُّراتٍ جذرية على العصر الذي نعيش فيه، لم تكن موجودة عند انطلاق الثورة الصناعية وريادة الأعمال التقليدية، تمثَّلت في تغيُّر مناخي خطير يهدِّد الحياة على الكرة الأرضية، واستنفاد لمواردها الطبيعة، وغير ذلك من الآثار السلبية.وقد […]

لصناعة السفر والسياحة أهميّة هائلة في الازدهار الاقتصادي والاجتماعي، فهي تنشئ فرص عمل، وتوفِّر وظيفة فريدة للمرأة وللأقليّات والشبان أيضاً، وهي عنصر أساسي في إجمالي الناتج المحلي، تعتمد عليه الدول. كما تواصل السياحة تَصَدُّر توقعات النماء العالمي على المدى الطويل، مع دخل كبير يبلغ 1.5 بليون دولار من السياح الدوليّين في 2019م. وكان قطاع السفر […]

يُشير الذكاء الاصطناعي إلى تقنيات تُحاكي ذكاء الدماغ البشري، وأي آلة تقوم بوظائف عقل الإنسان. وظهر المصطلح في عام 1956م، ثم تبعه مصطلح “تعلم آلة” بعده بثلاث سنوات. ولأهميته، فمن المتوقع أن يتضاعف الإنفاق العالمي على تقنيات الذكاء الاصطناعي، حيث سينمو من 50.1 بليون دولار في 2020م إلى أكثر من 110 بلايين دولار في 2024م. […]


0 تعليقات على “الاقتصاد الدائري منخفض الكربون”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *