أسئلة حول الإبداع مشتركة بين أربعة موضوعات
أثارت انتباهي أربعة موضوعات نشرتها مجلتكم الغرَّاء في عددها 6 / المجلد67 نوفمبر/ ديسمبر 2018م. ورغم أن الموضوعات كانت متفرِّقة في أقسام مختلفة من المجلة، لكني أعتقد أن هناك قاسماً مشتركاً بينها.
أهمية الخصوصيات المحلية
أول هذه الموضوعات هو ورشة العمل التي عُقدت في مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء). وكما أُسهب في التقرير حولها، فإن موضوع هذه الورشة مهم، والتقرير استفاض في شرح مراميها ونتائجها، وكانت كلها إيجابية وجيِّدة ومشوّقة.
أودّ أن أذكر هنا أن الأساليب والأنماط المعتمدة في هذه اللقاءات وورش العمل طوّرت في بلدان غربية، ولمشاركين ذوي خصائص اجتماعية تختلف جذرياً عن مجتمعاتنا على مختلف الصّعد. ولكني أسارع إلى القول إن هذا لا يعني مطلقاً أن الفوائد التي ذكرها المشاركون لم تتحقَّق أو قليلة الأهمية.
من المهم الاستعانة بذوي الخبرة والاستفادة من تجارب الآخرين. ولكني اعتقد أنه ليس من المنطق تطبيق ما يصلح لألمانيا مثلاً على معضلات مشابهة في منطقة الشرق الأوسط. وأزعم أن الأسباب جليَّة حتى في القضايا التكنولوجية. إذ إن التطور هو نتاج جهد مجتمعي تراكمي عام، ولا يتحقق بوصفة جاهزة يمكن تجربتها هنا وهناك.
يمكنني هنا أن أفصل ما أعني بذكر مثال في الجانب الطبي، وهو اختصاصي المهني لفترة تزيد على 45 سنة. نسمع أن كلية طب في هذا المكان أو ذاك في الشرق الأوسط تطبِّق نظام كلية طب كورنيل أو طريقة التدريس المسماة أُسلوب حل المعضلات (Problem-Based Learning). علماً أن هذه الأنظمة التعليمية قد بنيت على تجارب لفترة عقود لخريجي نظام تعليمي مختلف جذرياً. النظام التعليمي برمته في بلادنا، منذ الروضة وحتى نهاية الثانوية، لم يتبدَّل عملياً منذ 100 سنة، ويعتمد الحفظ والمحاكاة التامة. وقد ينجح طلبة الطب العرب في دراستهم، بل قد يبزون أمثالهم من الأجانب. ولكن الموضوع لا يتعلَّق بنظام تدريس الطب بل بمعرفة إن كان هذا النظام ينتج أطباءً قادرين على معالجة المشكلات الصحية في بلادهم، وليس المشكلات الصحية في بلاد أخرى.
وهذه الأفكار عن الحداثة والتفاعل بين الأجيال تقودنا إلى المنشور في زاوية “بداية كلام” (صفحة 14). حيث ناقش المشاركون موضوع التفاعل بين الجديد والقديم. وكما أوضح المشاركون فإن التفاعل معقَّد ولا يمكن اختزاله بنعم أو لا. والأهم من ذلك، أنه يتجاوز تقنيات المعلوماتية الحديثة إلى المعاني والقيم.
وفي قسم “كتب من العالم” (صفحة 18) ذكرت القافلة كتاب عنوانه “ضد الإبداع “. وذكر تقريظ الكتاب أن المؤلِّف مهتم بآثار الإبداع على المجتمع كله، أكثر بكثير من معناها الاصطلاحي أو قيمته للأفراد المبدعين وموقعهم في المجتمع. وأعتقد أن رأي المؤلِّف مهم جداً، لأن كثيراً من أنماط التطوير والإبداع حتى في الدول الغربية لم تقدِّم أي مؤشرات على أن نتائجها حققت تقدُّماً مجتمعياً ملموساً. وهذا لا يعني أن المشاركين في مثل هذه الفعاليات لم يحصلوا على فوائد علمية أو مهنية، ولكن يبقى السؤال: هل تحقَّق المرجو؟ وهو تحسين الأداء الكمي والنوعي للمؤسسات المشاركة ومندوبيها؟ وفي غياب أي دليل علمي أو عملي قاطع يبقى التساؤل بدون اجابات واضحة.
وهذا يقود إلى مقالة “الطب القائم على الأدلة” (صفحة 41) الذي كان من روَّاده آركي كوكرين المذكور. ومن الجدير بالذكر أن هناك مؤسسـة علمية دولية مركزها في مدينة أوكسفورد في بريطانيا ولها فروع في مختلف بلاد العالم تسمى تعاونية كوكرين (Cochrane Collaboration). وتقيّم هذه المؤسسة دورياً الدراسات الطبية المنشورة في مختلف أنحاء العالم فيما يتعلَّق بالمداخلات الطبية العلاجية والتشخيصية واستعمال العقاقير واللقاحات ومعالجة كثير من الأمراض الشائعة وغيرها. ومن يراجع ما نشر وهو موجود على الشبكة العنكبوتية، قد يستغرب ضعف الأدلة العلمية والفعالية السريرية للكثير مما يمارس حالياً حتى في الدول المتقدِّمة.
أختم مداخلتي بالقول إني لم أقصد انتقاد أو الحط من قدر أي مداخلة توسِّع المدارك والمعارف. ولكن الأحدث والأفضل تقنياً ليس بالضرورة الأنجح والأصوب. فلا بد من الالتزام بالمقاييس الواضحة المبنية على أساليب التقييم العلمـي الصحيـح لتقييم الاحتياجات ومقدار ونوعيـة المعرفة المكتسبة والمقترحات لتحسين الخدمات المقدَّمة، إضافة إلى ضرورة الابتعاد عن التهويل والتهليل الإعلامي والتجاري.
د. هشام القصاب – المملكة المتحدة
من ثقافة شارع السمسم إلى ثقافة بابا بيج
لا شك أن مواليد الثمانينيات يذكرون هيمنة التلفزيون على طفولتنا. ولا أنسى تسمّري أنا ورفيقاتي أمام الشخصية المحبَّبة “نعمان” في برنامج: “افتح يا سمسم”.
يرى كثيرون أن التلفزيون يعيق تطوّر بعض النواحي العقلية واللغوية لدى الطفل إذا تجاوز جلوسه الوقت المسموح أو الملائم؛ بسبب انعدام التواصل والتفاعل الحقيقي بينه وبين البيئة المحيطة، ومع أفراد العائلة كالأبوين. وفي هذا الصدد، كتب الباحث فردريك زمرمان أن الفترة الزمنية التي يقضيها الطفل أمام التلفزيون ليست بذات الأهمية التي يحدِّدها المحتوى الذي يقدِّمه البرنامج الذي يشاهده الطفل كمتغيّر في رفع مستواه الأكاديمي أو المعرفي. وهذه الدراسة وغيرها تركّز على التطوّر المعرفي، حيث سعى التربويون إلى إيجاد صلـة بين ما يشاهده الطفل وما يكتسبه، ويختلط ببنائه المعرفي سلباً أو إيجاباً.
ويبقى السؤال المنطقي: لماذا ينجذب الطفل لمشاهدة التلفزيون؟
حول أهمية الانخراط
يقول هيملويت: “التلفزيون يُغري الطفل ليعرف أكثر”. وهذا يقودنا إلى ما يسمى بـ “الانخراط أو قدرة الطفل على الانسياق أمام الشاشة”، سواءً كان أمام برنامج هادف أم برنامج تسلية فقط. وقد استخدم التربويون هذا المصطلح كمفتاح لتصمم من خلاله برامج الطفل التعليمية على التلفاز. فانخراط الطفل بحواسه يعني التعلّم، وقد انتشر هذا المصطلح من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، حيث أدّى انخراط المشاهد فيها، إلى استمرار وجوده على المنصة ونجاحه. ففي فنلندا أحرز الأطفال أعلى مستوى في الفهم ومهارات القراءة؛ بسبب أن المعلّم استخدم الأفلام التربوية باللغة غير المحلية، مما دفع الطلاب إلى التركيز على الترجمة في أسفل الشاشة. ويقول التربويون في هذا الخصوص إنه يمكن للإعلام المُشاهَد بكافة صوره القديمة والحديثة أن يكون وسيلة تعليمية عالية الجودة بجدارة بسبب قدرته على تحريض الطلاب على الانخراط.
في عام 1960م، ظهرت اهتمامات التربويين بدراسة أثر الإعلام بجميع أشكاله وتطوراته على الطفل. وكان أساس تلك الدراسات مقتبساً من أفكار (نظرية التعلّم الاجتماعي). وإذا كانت الدراسات الأولية قد توصّلت إلى أهمية الفكرة المقدّمة للطفل من خلال الشاشة بغض النظر عن المدّة الزمنية، فماذا عن الأفكار المقدّمة من خلال اليوتيوب؟ وهل يمكننا قياس تلك النتائج عليه؟
أهمية التواصل مع البيئة الحقيقية
أجرت أستاذة في جامعة تكساس قياساً للعلاقة بين المحتوى الإعلامي للطفل على اليوتيوب والآيباد وأثره على الإنجاز الأكاديمي وتشتت الانتباه. ووجدت أن التصميم الجيّد لما يشاهده الطفل من قِبَل المدرسة عبر اليوتيوب وغيره، قد يساعد على رفع إنجاز الطفل الأكاديمي ويقلّل من مخاطر تشتت الانتباه الذي يتعرّض له. كما أنّ دانيال أندرسون وهو أستاذ في جامعة ماساتشوستس يجيب في دراسة له عن السؤال التالي: ما تأثير مشاهدة الطفل للفيديوهات على اليوتيوب وغيرها من الوسائل الحديثة في وقت الراحة والفراغ على قدراته الإدراكية؟ فيقول إن ذلك يعتمد على ما يشاهده الطفل على عمر الطفل. فمثلاً، يحتاج طفل الثالثة إلى التواصـل الحقيقي مع العالم حولـه، وإلى أشياء ملموسة ليتعلّـم، وإلى تجارب يختبرها بنفسه من خلال حواسه، وباختصار: هو بحاجة إلى درجة عالية من التفاعل الاجتماعي المدروس.
وقد أدلت الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال بدلوها في هذا الشأن، حيث تشير -في اتفاق مع ما ذهب إليه أندرسون- إلى أنّ تطوّر الخلايا العصبية لعقل الطفل يبدأ منذ الحمل ويستمر خلال السنوات الست الأولى لعمر الطفل، وتحتاج الخلايا العصبية في الدماغ للتغذية من نوع خاص لتستمر بعمل تلك الوصلات العصبية بين الخلايا، التي تُشكّل الفرق الحاسم بين قدرات طفل وآخر. فالطفل يحتاج إلى التواصل الفعّال مع البيئة الحقيقية من خلال اللعـب بالرمـال، والتركيبـات، وتحسـس الأشياء بحواسه لتطوير تلك الخلايا العصبية، وانشغال الطفل في السنـوات الأولى من عمره بالآيباد واليوتيــوب والهاتـف المحمول يحرمه من ذلك التواصل.
وعلى الرغم من أصابع الاتهام الموجّهة ضد اليوتيوب، إلا أنّ بإمكانه أن يقدّم تجربة مثمرة تحتاج فقط إلى وضع قواعد منطقية بخصوص استخدامه، فالطفل يراقب، ويتعلّم، ويطبّق. وبغض النظر عن الحقبة الزمنية وما يشاهده الطفل وكيف يشاهده، يبقى المحتوى داءً ودواءً من شارع السمسم إلى برامج أكثر تعقيداً على اليوتيوب يعشقها الأطفال مثل بابا بيج، وقناة تشوشو!
د. فاتن العلق
اترك تعليقاً