مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يناير – فبراير | 2019

“شَيطنة” كيس البلاستيك


عبود عطية

في مواجهة أزمة النفايات البلاستيكية التي تواجه العالم، أعلن الاتحاد الأوروبي في ديسمبر الفائت عن قراره بمنع “عشرة منتجات بلاستيكية ذات الاستخدام الواحد” بحلول عام 2021م. وقبل ذلك، ولمناسبة اليوم العالمي للمحيطات في الثامن من يونيه، ثار ضجيج عالمي مصوّر يرثي حال بحار العالم بسبب النفايات البلاستيكية.
طبعاً، لا يمكن لعاقل إلاَّ أن يثور غضباً وحزناً لما آلت إليه حال البحار. ولكننا لسنا هنا لمناقشة القرار الأوروبي ولا للبحث فيه، بل للإشارة إلى ما قادنــا إليه التفكيـر في “مشكلة البلاستيك” التي جعلت من الكيس الصغيـر “شيطان” البيئة، ورمزاً لكل مساوئ هذه القضية.
لا نعرف التكلفة البيئية لاستبدال أكياس البلاستيك بأكياس من الورق القابل للتحلل، وما يتطلبه ذلك من أشجار ستُقطع لصناعة هذا الورق وعيدان قطن الأذنين من الخشب وغير ذلك.. ما نعرفه هو أن المشكلة الحقيقية ليست في “البلاستيك”، بل في “الاستخدام الواحد”.
ذهب خيالنا وتفكيرنا إلى البحث عما يمكنه أن يكون بديل كيس البلاستيك، الورق؟ القطن؟ الخيش؟ كلها تبدو غير عملية بيئياً ومكلِّفة.
في البلدان التي منعت استخدام أكياس البلاستيك في البقالات، تُعتمد أكياس مصنوعة من ألياف بلاستيكية تشبه القماش، يضاف ثمنها إلى المشتريات، لحض المستهلك على إعادة استخدامها مرة ثانية وثالثة.. ولكن هذه الأكياس سميكة ويجب حملها باليد عند التوجه إلى التسوق، الأمر الذي يفضِّل الكثيرون تلافيه ودفع ثمن كيس آخر..
ولكن ماذا عن إعادة استخدام كيس البلاستيك الشفَّاف الذي نعرفه اليوم؟ إنه رقيق جداً وخفيف الوزن، يمكن طيه ووضعه في الجيب أو حقيبة اليد، واستخدامه مرّات ومرّات، وربما أكثر من الأكياس المدفوعة الثمن التي تُطل علينا اليوم.
مشكلة كيس البلاستيك هي في رخص ثمنه حتى إن المتاجر تعطيه مجاناً. ولأننا في حضارة الاستهلاك هذه بتنا نخلط بين ثمن الشيء وقيمته، لم يعد لكيس البلاستيك أية قيمة في نظرنا، ولا أسف عليه عند إعادة استخدامه مرة ثانية وأخيرة حاوية للنفايات المنزلية، ونبقي الأسف لحال البحار والمحيطات.

عندما يصبح الهدر نمط حياة
إن تحسّن مستويات المعيشة في معظم دول العالم خلال السنوات الخمسين الماضية، أدى إلى فقدان الإحساس بقيمة الأشياء الصغيرة، (يدل على ذلك تعاملنا مع كسر النقد الورقي من نقود معدنية التي نحجم عن حملها معنا ونتركها في البيوت لنتبرع بها لاحقاً). وفقدان الإحساس بقيمة الأشياء الصغيرة أدى إلى تفشي الهدر في كل شيء: هدر في استخدام الموارد الطبيعية من طاقة ومياه، وهدر في استخدام المنتجات الزراعية والأطعمة والملابس والمنتجات الصناعية ومنها.. البلاستيك.
الذين هم اليوم في الخمسينيات والستينيات من العمر يذكرون من دون شك كم أن المنديل الورقي كان مهماً في صغرهم، لا يُستخدم إلا عند الضرورة القصوى، وما كان يعنيه شراء قطعة ملابس جديدة أو امتلاك سيــارة. وبالتطلـع إلى الجيل الصاعـد اليـوم، يمكننـا أن ندرك كم تبدلت النظرة إلى الاستهلاك.
طبعاً، هناك مستويات من الوعي عند الشعوب وخاصة الشباب، قادرة على أن ترفع أية قضية إلى مستويات عالمية، وسلاحها في ذلك وسائل التواصل الحديثة المتفلتة من معظم الضوابط. وفي الأنظمة السياسية الغربية، حيث لا بد للحكام من أخذ اهتمامات الناخبيـن في الحسبـان، صـارت معدلات الذكاء والحكمـة وحسن النوايــا على وسائل الاتصال الاجتماعي (وهي معدلات متوسطة جداً إن لم نقل إنها أقل من المتوسط) هي التي ترسم حيّزاً معيّناً من السياسات الحكومية.
وعندما يثير الرأي العام قضية بيئية من خلال الصور الفوتوغرافية المحزنة والمثيرة للغضب، من دون أن يتطلع إلى نمط حياته هو الذي كان سببها، يصبح كيس البلاستيك عنوان أزمة عالمية وشيطانها. نرجمه، ونعتقد أننا قضينا عليه، ولكن والـده لا يزال حياً، واسمه “الهدر”.


مقالات ذات صلة

حينما وصل إلى علمي توقف مجلة “القافلة”، استشعرت أن لبنة ثقافية انهارت. فهذه المجلة أحد الأسس التي دلتني أو دفعتني إلى غواية الكتابة، كما فعلت بالكثيرين.

ثَمَّة في تاريخ الأوطان والدول والمجتمعات، محطات لا يمكن تجاوزها أو المرور عليها دون التوقف عندها والاستلهام من أمجادها والامتنان لرجالاتها الذين صنعوها. إن استحضار واستذكار أحداث تاريخية لها قيمتها وطنياً، هو من الأمور المطلوبة والمحفِّزة لمزيد من الاعتزاز والفخر والانتماء لدولة تأصل تاريخها لقرون، دولة امتدت جذورها وبُنيت قواعدها على أساس راسخ من الإيمان […]

بات تطوير سوق العمل وتغيير معادلاته أمراً حتميّاً يتعيّن دعمه من كافة صانعي القرار، وقد كشف تقرير دولي للوظائف عن أن هناك ثماني مهن تُدرِّب عليها كليات ومعاهد تقنية دون الجامعية في السعودية، دخلت في ترتيب الوظائف الأعلى دخلاً.. فما مستقبل التخصصات التقنية والمهنية في المملكة؟ وهل هناك تلبية لحاجة السوق المحلية إليها؟ وماذا عن […]


0 تعليقات على ““شَيطنة” كيس البلاستيك”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *