ما هي الحرية من الداخل؟ أو الفضاء الداخلي الذي فيه يبدع الفنان ويقفز على كل الحواجز؟ ما هو الإلهام الذي يغوي كل هؤلاء ويجعلهم يكتشفون عصب الجمال ومغزاه العميق؟
ليس هناك إجابات محدَّدة يمكن التعويل عليها والرجوع إليها دائماً، إنها مسألة معقَّدة وغير متزنة على الدوام.
إذا كانت الحرية ضرورية للفعل الإبداعي فإن تصنيفها والتقاطها ضمن مشهد واحد فقط، هو أمر ينافيها. فقد سُئل المصوِّر الفوتوغرافي ميشا غوردن عن القوام الذي يعكس أفكاره ومشاعره الخاصة، فأجاب: “إني إنسان بسيط يثق بحدسه”. لم يكن يحتاج هذا الفنان الذي ابتكر أسلوبه الخاص وأحدث إشارة فارقة في عالم التصوير إلى أكثر من التسليم لحدسه، تلك المنطقة المتمدّدة إلى أقصى أرواحنا وقد لا يتمكن بعضنا من الإخلاص لها واتباعها خوفاً من الفشل أو من قواعد بشرية خاصة.
سيحب بعضهم أن يكون حراً في خيالاته، أن يخوض التنوّع والغموض، ويكتشف تلك المناطق في ذاته التي لن يجرؤ على البوح بها لكنه سيحوِّلها إلى قصص وصور ومعزوفات. إنه يعالج الحالة البشرية التي تتقصى الحقيقة، ويحيلها إلى الفنون والمعارف التي أنتجها بفعل حريته الخاصة. كما قد يذهب بعضهم إلى النزيف.. ينزف بلا توقف كما في تجربة الشاعر أمل دنقل الذي كان يعاني من حصارين: الأول منعه من السفر والآخر السرطان. فظل دنقل يكتب كما لو أنه ينزف بغزارة وحرارة، واستطاع أن يبتكر عالمه الحر حينما استوحى قصائده من رموز التراث العربي، وكأنه يسخر بعمق من التاريخ والحاضر ويمد لهما لسانه!
وقد يكون في الحفر عميقاً، في حالة البحث اللا منتهي، في المشي على الطريق بلا أحزمة أمان والمجازفة بكل ما هو ممكن والذهاب إلى ما هو أبعد من الحدود.
سألت مرة النحَّات السعودي محمد الثقفي هل تروِّض الحجر وتتغلَّب عليه؟ فقال: “لا يمكنني أن أكون كذلك، لست في تحدٍ مع الحجر أو الطبيعة، أنا أبحث وأستكشف، وأتنقل بين حواسي عبر المادة لأجعلها تتنفس بالفكرة. هكذا أكون حراً معها وبها”.
لا يمكن لأحد أن يحدِّد مبدأ الحرية التي يحتاجها الفنان كي يبدع، إنها خاصة به. وهو فقط من يستطيع تكوينها واستحضارها. هو فقط من يسمح لها بأن تتملكه بوحشية أو برقة. إنها تماماً كالشغف الذي يصعب تحديد مكانه في روحه، تجره وتغرقه في تفاصيل هلوساته ووجعه وكل ما يمكن أن يسكن أداة الإبداع لديه.
زهراء الفرج
المملكة العربية السعودية
المآذن النجدية
تعقيباً على موضوع “المآذن.. فن هندسة البناء الرأسي في العمارة الإسلامية”، أودُّ أن أشير إلى أنه فات الكاتب التطرُّق إلى واحد من طرز بناء المآذن الأقرب إلينا، وأعني بذلك مآذن المساجد التقليدية في نجد.
فقد تميَّزت هذه المآذن بطراز خاص، فهي في معظم الأحيان قصيرة، تخلو من الزخارف، وغالباً ما كان السلّم المؤدي إلى أعلاها يبنى على إحدى جهاتها من الخارج.
وكانت هذه المآذن، كما هو حال كثير من الأبنية التقليدية في نجد، تبنى من الحجر عند أساساتها، ومن ثم من الطوب المصنوع من الطين والقش والمجفف بالشمس، ومن ثم تُجصص بطبقة من الطين لتغطية الطوب. وهذا هو الطراز الذي ظل قائماً في المدن والقرى النجدية منذ ما قبل خمسة قرون على الأقل وحتى مطلع القرن العشرين.
سليمان السلمان
المملكة العربية السعودية
طلب الشهرة … آفة أم فطرة؟
كان أرسطو يقول إن الإنسان كائن اجتماعي بالضرورة. وهو قول ينسجم مع الحس السليم، وقد وافقه القولَ كلُّ الفلاسفة وعلماء الاجتماع. فابن خلدون يرى أن “الإنسان مدني بالطبع”، ويشرح ذلك قائلاً: “أي لا بد له من الاجتماع الذي هو المدينة في اصطلاحهم وهو معنى العمران”. وأما وجود إنسانٍ منعزل على طريقة “حي بن يقظان” فهو مجرد أسطورة. فالإنسان سيهلك لو لم يولد في كنف مجتمع.
الحقيقة أن الإنسان بطبعه يرغب في أن يكون “حاضراً” في الناس؛ وهذا سبب سعي بعضهم في طلب الشهرة. فالإنسان القديم كان يعيش مع جموعٍ من الناس، كما يعيش كل حيوان آخر وكل طير في قطيع أو سرب. وانعزال شخص عن الجمع يعني موته وهلاكه. كان إنسان الكهف لا يملك أعضاءً جارحة قوية كالمخالب أو الأنياب وكانت أداتهم الأهم في حماية نفسه وأهله ضد هجوم المفترسات والجوارح هو العقل! فالعقل هو الأداة التي تميِّز الإنسان. وعلى أية حال، فإن الإنسان القديم كان بمجرد أن يتوه أو ينعزل عن الجماعة يصبح فريسة لأشرس حيوان بالقرب!
أعتقد أن البشرية توارثت هذه الخصلة: الخوف من الانعزال. وحتى في أيامنا هذه، فالانعزال والغياب مؤذيان للنفس البشرية.
الخوف من الانعزال
الانعزال هو غياب الشخص عن الجماعة، وعكسه الحضور والظهور. فلو تأملتَ سلوك كثير من البشر لوجدتَ أنهم – في علاقتهم ببعض- يتوخون الحضور ويطلبون الشهرة. وطلب الشهرة ليس سوى تكريس وتأكيد الحضور. صحيح أن للشهرة غايات كثيرة، لكن الأصل الفطري لها هو الخوف من الانعزال الذي ارتسم في جينات كل البشر. فالطفلُ الرضيعُ يبكي فوراً إذا صحا من نومه ولم يجد حوله أحداً. وأي إنسان يوضع في مكان مهجور ينتابه الرعب والهلع.
في مجالسنا الاعتيادية، يميل كل شخص إلى أن يكون “حاضراً” وبارزاً، ويكره أن ينزوي في ركن قصيّ لا يتكلم ولا يعلم عن وجوده أحد!
هذه الرغبة الدفينة لدى الإنسان في أن يكون حاضراً بين الناس مرتبطة بظاهرة اجتماعية مهمة وهي التقليد. ويرى كثير من علماء الأعصاب والدماغ أن الطفل مزوَّد بنظام للتقليد، وأن الأطفال المصابين بالتوحّد يفتقرون لخاصية التقليد. ويرى عالم الاجتماع الفرنسي الشهير جابريال تارد أن التقليد (وعكسه الإبداع) هو السائد بين الناس، سواء تقليد الطفل لأبويه ومن هم في مقامهما كالمعلمين، أو تقليد الأقران؛ حيث يختلط الناس ببعضهم بعضاً فيؤثرون في بعضهم بعضاً. وحتى فيما يتعلَّق باكتساب اللغة، فإن الطفــل يتعلَّم اللغة من خلال التقليد ومحاكاة الآخرين. ولكن تشومسكــي، عالم اللسانيات المعروف، يرى أن الطفل مزوَّد بقدرة لغوية كامنة هي التي جعلته قادراً على تقليد الغير ومحاكاتهم في تكوين وبناء الجمل الصحيحة نحوياً. فاللغة من ثم ظاهرة اجتماعية، ولو افترضنا أن إنساناً ولد ونشأ في جزيرة منعزلة، وأنه استطاع النجاة والبقاء، فإنه لن يستطيع أن يتكلم أو يحوز أي لغة.
الشهرة الطبيعية والشهرة المرضية
يتردَّد بين الناس كثير من العبارات والأمثال التي تعبِّر عن رغبة الإنسان الكامنة في أن يظل حاضراً واجتماعياً. مثلاً، لدينا المثل السائر “مع الخيل يا شقرا” و”حشر مع الناس عيد”، ونحو ذلك من أمثال. إن البقاء مع الناس بل الموت معهم أفضل من البقاء أو الموت وحيداً.
المبالغة في طلب الشهرة ليس شيئاً طبيعياً بل ثقافياً. فالشهرة الطبيعية هي تلك التي يطلب فيها المرء مردوداً طيباً على ما قام به من إنجاز؛ فالكريم يجود بماله طلباً للثناء والمجد، وهذا حق طبيعي تماماً، فكل إنسان يطلب من الآخرين أن “يعترفوا” به، وأن “يقدِّروه” ولولا ذلك لما أبدع أحد وما أنجز أحد.
أما الشهرة الـمَرَضية فهي التي ينالها أشخاص لم ينجزوا شيئاً ولم يبدعوا شيئاً … واللوم لا يقع عليهم في نهاية المطاف بل على من يهتفون لهم.
شايع الوقيان
كاتب سعودي
عضو الحلقة الفلسفية بالرياض
اترك تعليقاً