مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
سبتمبر – أكتوبر | 2021

(غاودي) معماري الألوان.. ومدينة برشلونة


د. عبدالهادي سعدون

يعود الفضل إلى المعماري الكاتلوني أنطوني غاودي، في وضع هندسة العمارة الإسبانية في واجهة الحداثة العالمية، كما استطاع أن يجعل من عصره عصراً لامعاً ورائداً لفن العمارة الأوروبية الحديثة. ويمكن لكل من يزور مدينة برشلونة أن يرى أكثر من ثمانية عشر صرحاً معمارياً كبيراً ومهماً ودالاً، إضافة إلى صروح معمارية أخرى أصغر، جميعها من تصميم هذا المعماري الفريد.
يتناول هذا الموضوع أبرز خصال أعمال غاودي ويحاول البحث عن جذور أهم مواصفات عمله المعماري والعناصر الحاسمة في أسلوبه الفني.

تشكِّل حياة أنطوني غاودي، حقلاً واسعاً في البحث والتنقيب والكتابة في كل مناسبة، لأن لهذا المعماري قصب السبق بوضع هندسة العمارة الإسبانية في واجهة الحداثة العالمية، كما استطاع أن يجعل من عصره (نهايات القرن التاسع عشر) عصراً لامعاً ورائداً لفن العِّمارة الأوروبية الحديثة. ومن المعروف أن إلصاق صفة الحداثة على أعمال هذا المعماري الفذ لم يأتِ لأنه قد سبق عصره ـ وهو بالفعل كذلك ـ بل لأن أعماله كانت ولا تزال موضع تقدير ودهشة ودراسة لنهجها المتفرد وتقنيتها الفنية العالية حتى يومنا هذا، بحيث أصبح مزاراً يومياً من قبل السائح والدارس والمهتم. وهي سمة الأعمال الفنية الكبرى عندما تتجدَّد رؤيتها مع مرور الوقت ولا تنتهي بمجرد انتهاء عصرها.

الحديث عن أنطوني غاودي (Antoni Gaudí) هو الحديث عن خصلتين مهمتين: التجديدية في الفن المعماري الهندسي في إسبانيا وأوروبا، والثانية مرتبطة بالأولى من خلال كونه كاتالونياً (إقليم القومية الكاتلونية شرق إسبانيا، لغة وتاريخ وثقافة مغايرة عن الإسبانية) وعلاقته بمدينة برشلونة مكان نشأته وحضوره الراسخ كفنان ومحطة تجديداته المعمارية الفنية الرصينة والباقية حتى يومنا هذا كعلامة مميزة للمدينة ومركز استقطاب سياحي عالمي. لذا من الصعب على كل زائر أو باحث في فنون غاودي المعمارية أن يفصل الفنان عن مدينته، وكأنهما توأمان لا يُذكر أحدهما دون الآخر. بتعداد لكل ما تركه في مدينته برشلونة، نستطيع حصر أكثر من ثمانية عشر صرحاً معمارياً كبيراً ومهماً ودالاً، إضافة إلى صروح معمارية أخرى أصغر، بدءاً من عام 1879م بتصميم مصابيح شوارع مدينة برشلونة، مروراً بتحف فنية معمارية مثل: بناء جمعية العمال، صيدلية جلبرت وسولير، كاسا بيسينز، قصور جويل، مدرسة تاراسياناس، كنيسة العائلة المقدسة، كاسا غالبيت، برج بيلاسغوار، فيلا مياريس، كاسا باتيللو، وحتى آخرها (بناية مجمع جويل) عام 1915م.

شغف بالتفاصل
يُعدُّ أنطوني غاودي من أشهر المعماريين الذين تعلَّقوا بمدينة برشلونة، وعلى الرغم من أنه قد ولد في مدينة رويس في منطقة كتالونيا عام 1852م، إلا أنه بنى حياته وذائقته وفنه في برشلونة حتى وفاته فيها عام 1926م. تعكس أعماله أسلوبه المعماري الفريد من نوعه، حيث تركزت في المدينة التي تعلَّق بها وترك جل أعماله الفنية والمعمارية شاهدة عليه وعلى زمنه وعلى فرادة هذه المدينة. يظهر في معظم أعمال غاودي الشغف الكبير تجاه العمارة والطبيعة والتدين. وقد كان يعتني بكل تفصيل من تفاصيل تصميماته، وقد عُرف عنه فكرة الدمج في تصميمه، وهي مجموعة من الحِرف التي كان يتقنها مثل: أعمال الخزف، الزجاج الملون، صهر الحديد، والنجارة. وقد قدَّم تقنيات جديدة في معالجة المواد نفسها كما عليه في أنواع الفسيفساء والقطع الخزفية. لقد أصبح غاودي جزءاً من الحركة الكتالونية الحداثية التي بلغت ذروتها في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وقد تعدت أعماله التيار الحداثي لتتوجه بطراز أصيل متأثر بالطبيعة. لم يعد غاودي مجرد معماري معروف في عصره، بل أصبح المجدِّد الأكبر في كل عصور مدينته برشلونة، ليجعل منها اسماً في تاريخ كاتلونيا وإسبانيا والغرب الأوروبي.

عناصر الانجذاب والتناقض
إن أي تقرب مستفيض من حياة غاودي وأعماله لا بد وأن ينبني على قواعد أساسية جديرة بالانتباه والتدقيق: حياته المتطاولة بين شخصيته الغريبة النافرة وبين أعماله الفنية والسياق التاريخي المستمد من الرؤى الاجتماعية المتاخمة لها وتلك التي نشأ فيها. هذه المظاهر لا تفترق كثيراً، بل إنها رموز متداخلة في حياته كما عليه الأثر التراجيدي في التقاليد الدينية واعتقاداته النفسية الأولى. إن أي توثيق لأهم عناصر الانجذاب والتناقض في شخصيته، ومن دراسة مبسطة لقراءة ردود أفعال العديد من معاصريه سواء في كتاباتهم مباشرة عنه أو عن فنون عصره، يقدِّم كشفاً مهماً للدارسين من خلال الغوص في وثائق وشهادات تخدم في هذا المجال، والتي سيخرج منها تأكيداً لشخصية غاودي الحية، الغنية، المتناقضة والجريئة كأي فنان كبير. فهو شخصية واقعية، إنسانية وحدّية في المواجهة، لكن ليس ببعيد عن كل هول وجنوح واضطراب أو تفرد الخيال الشعبي، بكل ما فيه من أساطير وغرائب وتضخيم ممكن ضمن إطار النظرة المجتمعية. كما أنه فنان شديد الارتباط بتقاليده الدينية رغم نزوحه المثالي الواضح آنذاك، ارتباطاته الذهنية المضطربة وتعلقه بنزعات التفكير الخلاقة من خلال تناسل جمعياتها وتقاليدها في مجتمع إسبانيا والمحيط الكتالوني في مدينة برشلونة.

من جانب آخر، في محاولة البحث عن جذور أهم مواصفات عمله المعماري، فلا بد من الرجوع لفهم علاقة الفنان بأبيه، ومدى تأثيرها في جعل الابن أكثر التصاقاً للاهتمام بالفنون المساعدة في المعمار، والحيلولة دون الابتعاد عن الروح المحلية ومرجعية الفنون الشعبية، أو ما تسمى حينها بالحياة البدائية. ومن هذه النقطة، فكل من رأى أعمال غاودي في (العائلة المقدسة)، أو في الحدائق والقصور والبيوت الشخصية على امتداد مدينة برشلونة، سيلاحظ وعيَه المتميز لالتقاط أفضل ما في الفنون البدائية والشعبية ومزجها بما يهمه من عناصر بيئية وحيوية متداخلة مع البُنى الخاصة بالمدينة المعاصرة. كما لا يخفى امتداد التأثير ليشمل اطلاعه وتأثره الواسع على خبرة فناني المشرق في إظهار الألوان في فنونهم الشعبية مما تم تخصيص دراسات عديدة في هذا الشأن، أو في نقاط الالتقاء والتواصل في البيئة المتوسطية على أقل تقدير، مع ترجيح التأثر بالفنون الإسلامية عموماً، خاصة تلك التي لها علاقة بما يسمى بالفنون الإسلامية المتأخرة، أي الفنون المدجنة، أو ما سيلتقطها الإسبان لاحقاً وينجحون بها ضمن مدرسة المعمار المدجن الجديد. أي وضع المحلية والنظرة الإسبانية بتعاشق وتأثر بالفنون المدجنة مع إضافات وتنسيقات أخرى لها دلالات محلية خالصة.

عنصران حاسمان
من يتقرب من عوالم غاودي الفنية، لا بد وأن يتلاقى مع عنصرين حاسمين في أعماله، وهما: الجذر المديني، والإيمان الفطري. تلك الطبيعة الغامضة والمتناقضة في شخص غاودي بجعل الإيمان الديني مسألة حياتية أكثر منها طقساً كنسياً، ومنها ما نراه في معماره وكثرة خدماته الفنية في الأبنية الكنسية والأديرة والتجمعات الدينية، مما يخلق صلة لا يمكن تجاهلها في الربط ما بين المعماري وطبيعة روحيّته الحية. ومنها بالطبع أولى أعماله المصممة في هذا الاتجاه في (دير بوبليت) وكنيسة سانتا ماريا في برشلونة. من خلال هذا ومن جملة معلميه وأساتذته في التأمل ودراسة معمارهم، نستخلص أسماء مثل فيولي دوك (الذي أخذ عنه المنطق البنائي في المعمار)، وجون روشكين (زخم الأسلوبية الخاصة والبروز الخارجي)، ووليم موريس (ارتباطه بعنصر الفن الشعبي والفنون التطبيقية).

لكن شهرة غاودي ومعرفته المتزايدة ومن ثم تطبيقاته على أرض الواقع لم تحقق قفزتها إلا بعد التعرف على مرشده وممول أعماله أوزيبي جويل، الذي كسب فيه صديقاً وسنداً دائماً تكاد تشبه علاقتهما علاقة لورينزو العظيم مع بوتشيلي أو مايكل آنجلو، مما حدا بالبعض ليطلق على تلك العلاقة: “رابطة فكرية، أستاتيكية جمالية وشعورية”. بعد هذه الصداقة سينجز غاودي لاحقاً وهو في عمر 31 عاماً، بتمويل من جويل، أغلب أبنيته المعمارية الموجودة حتى اليوم في مدينة برشلونة، ومنها عمله المعماري المسمى (كاسا بيسنس) الذي يبرز لغة غاودي القوية، الشكل المطعم كلياً وبمواد مختلفة وجديدة في فنه المعماري مثل الحجر والسيراميك والطابوق. هذه الطفرة والتميز المعماري الجديد سيكونان حاضرين في عمله الحداثوي الآخر بشكل أوسع، إذ استطاع جويل أن يدفع غاودي لإبداع أهم أعماله التجديدية وهو المسمى (بالاو جويل/ أي قصر جويل) عندما سيتضح عبره أستاذيته المعمارية وسيوسع من مفهومه في المعمار نسبه للضوء والسطوع وتعدد الألوان والأشكال غير المستقيمة، والذي سيكون لأسلوبه هذا موضع الاختلاف والهجاء والتهجم من قبل النقَّاد الناقمين على فكرة التجديدية، قبل أن يدركوا عبقريته ويشيدوا بها فيما بعد ذلك بعقود. ولكنه بتقدُّمه في السن سيصبح غاودي أكثر تزمتاً وسيعمل ببطء شديد وسينغلق على نفسه لأسباب ذهنية ودينية مقلقة، إلى درجة أنه في أعوامه الأخيرة سيلجأ للاعتراف يومياً في كنيسة مدينته ومن ثم ميله للالتقاء بـ باب روما، الذي سيلتقيه حقاً. ومن ذلك توجهه ـ وإن لم يتم أغلبها قبل وفاته ـ لإرساء فن عمارة كنسي معاصر في برشلونة وسينتهي المطاف بتخطيطاته أن يتناقلها تلاميذ له ومجايلين له في التطبيق والنقل والتحوير.

جاذبية عالمية.. وإرث إنساني
تتمتع أعمال غاودي اليوم بجاذبية عالمية، وهناك عديد من الدراسات المخصصة لفهم عمارته. وحتى اليوم هناك عشّاق لأعماله من المعماريين والعامة على حد سواء. وتُعدُّ تحفته الفنية، كنسية لاساغرادا فاميليا “العائلة المقدسة” واحدة من أكثر المعالم زيارة في إسبانيا بعد التحفة المعمارية الإسلامية الممثلة بـ (قصر الحمراء). وقد اعتبرت اليونسكو في فترات متباعدة سبعة من أعماله المعمارية بمثابة تاريخ معماري وإنساني عالمي مشترك.

كان غاودي رجلاً ملتزماً وتتخلل أعماله عديد من الصور والمعتقدات الدينية لهذا أطلق عليه لقب “معماري الرب” لما تركه من آثار فنية لها علاقة بالمعمار الكنسي والديني في مدينته برشلونة.

لقد تعسرت حياة وأعمال غاودي على عديد من الباحثين، بحيث لم يستطع أحد منهم أن يضعها في قالب واحد، لأنها لم تكن متاحة لأي تصنيف في بؤرة تمعن معينة، فقد كان هو وأعماله خارج التصنيفات في عصره تماماً. وبعيداً عن صرامته العملية وحياته الروحية المتناقضة، ننقل ما يذكره أغلب كتَّاب سيرته كحادثة طريفة عن غاودي وشخصيته القلقة، وهو أنه التقى يوماً بالكاتب والمفكر الإسباني المعروف ميغيل دي أونامونو (الباسكي الأصل)، وكان غاودي في مناقشته لـ أونامونو يصر على الحديث بلغته الأصلية (الكتالانية) وهي ما لا يفهمها أونامونو، ولم تنجح المحاولات في رده وتصحيحه، ولكنهما بعد حينٍ توصلا لصداقة عميقة عندما شرع أونامونو بصنع عصافير من الورق المقوى، مما استهوت غاودي فكرة مشاركته اللعبة والتعبير عن مزاجه الحقيقي، إلى درجة أن غاودي قد احتفظ بعصافير أونامونو الورقية معه حتى مماته ككنز شخصي نادر.


مقالات ذات صلة

التحول الكبير في أفريقيا، حيث تعرَّف الأفارقة على فنون وتقنيات وإبداعات لم يألفوها، وظهرت اللوحة الفنية، التي كانت أعجوبة حيَّرت العين الإفريقية.

يستطيع المتأمل في تجربة محمد الفرج بسهولة ملاحظة ملمح يتكرَّر في أعماله، وهو أن الفنان لا يتورَّع عن كشف الذهنية التي أوصلته إلى تنفيذ عمله الفني.

صاحب حركة النهوض التي عاشتها الثقافة العربية، أثناء القرن التاسع عشر وامتدادًا إلى العقود الأولى من القرن العشرين، تدفق عدد من المفاهيم أوروبية المنشأ التي قُدّر لها أن تغيّر مسار الثقافة العربية نتيجة لجهود العديد من المترجمين والباحثين والمفكرين لا سيما من تعلم منهم في أوروبا أو أجاد لغات أجنبية. وهذه المفاهيم كثيرة ومتنوعة تمتد […]


0 تعليقات على “(غاودي) معماري الألوان.. ومدينة برشلونة”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *