يمثل تاريخ 18 أبريل 2018م بداية النشاط الفعلي لصالات السينما في المملكة. وبالنسبة لكثير من وسائل الإعلام العالمية، فإن لحظة تدشين معالي وزير الثقافة والإعلام الدكتور عوّاد بن صالح العوّاد لأول صالة سينما تجارية في المملكة تُعد لحظة فاصلة، وعتبة أولى، في علاقة السعوديين بالسينما. لكن بالنسبة للسعوديين أنفسهم، خاصة السينمائيين، فتُعد هذه اللحظة تتويجاً رائعاً لعلاقة مميَّزة جمعتهم بالسينما وبالفنون عموماً منذ سنوات طويلة.
بدأت أولى إشارات هذه العلاقة قبل نحو 80 سنة من عاصمة السينما العالمية هوليود، مع خليل الروّاف الذي قادته الظروف إلى الوقوف أمام نجم السينما الأمريكية جون واين، ممثلاً في فلم بعنوان “أنا أغطي الحرب” (I Cover the War) الذي صدر عام 1937م.
فترة اللقاءات العابرة
وقد روى الروّاف تفاصيل هذه اللحظة “الطارئة” في كتابه “صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث” الصادر عن دار جداول. وهي لحظة طارئة بالفعل، لأن الروّاف الذي سافر إلى أمريكا في ذلك الوقت لم يكن يخطِّط للعمل في السينما، ولم يهدف سوى إلى مرافقة زوجته الأمريكية التي تعرّف عليها في العاصمة العراقية بغداد. وبسبب مشكلات اعترت زواجه، وجد نفسه وحيداً مفلساً في مدينة لوس أنجلوس، وتعرّف على لبناني يعمل هناك في استوديوهات “يونيفيرسال”، ليُثمر اللقاء عن عمله في الفِلْم مقابل 1600 دولار أمريكي.
يشير هذا اللقاء العابر بسينما هوليود في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي إلى تسامح المجتمع السعودي وقبوله للفن السابع من دون التعقيدات التي نشأت لاحقاً. يؤكد ذلك المؤرخ الفرنسي جورج سادول في كتابه المهم “تاريخ السينما”، حيث أشار بشكل سريع إلى وضع السينما في المملكة حتى العام 1966م –وقت صدور النسخة العربية من الكتاب- قائلاً إن للسينما حضوراً لدى العائلات السعودية الغنية وأيضاً للمقيمين في المجمعات السكنية الغربية شرقي البلاد. ويذكر سادول أن البكرات السينمائية الأصلية للأفلام المصرية تجد طريقها باستمرار نحو المدن السعودية الكبيرة، تلبية للطلب المتنامي على السينما من طرف أبناء العائلات الميسورة. وقد كان لأرامكو السبق في هذه المرحلة، حيث وفَّرت صالات سينمائية في مجمعاتها السكنية، كما أسهمت في صنع أفلام سينمائية لأغراض بحثية وتوعوية، لكنها تحمل مواصفات الفلم ومن أشهرها فلم “الذباب” الذي صدر عام 1950م.
التلفزيون وسينما الأحواش
في عام 1965م، انطلق بث التلفزيون السعودي، وبدأ فصل جديد من علاقة السعوديين بصناعة الأفلام بمفهومها الشامل. وظهر جيل من الفنانين السعوديين الذين صنعوا أفلاماً اجتماعية تحت اسم سهرات تلفزيونية. وكان من رموز تلك الفترة المخرج الراحل سعد الفريح الذي أخرج فلْماً بعنوان “تأنيب الضمير” عام 1966م، إلى جانب أعمال درامية أخرى جعلته أحد أهم من صنع الفلم في المملكة رغم أن أعماله جاءت في إطار تلفزيوني. وبموازاة ذلك استمر النشاط السينمائي في النمو وتطوَّر إلى حد تأسيس دور عرض سينمائية في أحياء جدة والطائف، ومن أهمها الدور التي أسسها فؤاد جمجوم منتصف الستينيات الميلادية، وسينما فطاني، وسينما السحاحيري، وغيرها.
حضور دور العرض السينمائي وانتشارها في المملكة، وبشكل خاص في المنطقة الغربية، جاء تحت اسم “سينما الأحواش”. وهي عبارة عن دور عرض بدائية، تعرض بشكل أساسي الأفلام المصرية إلى جانب أفلام أمريكية شعبية. وقد أدى شيوع هذا النوع من الدور البدائية إلى اهتمام الأندية الرياضية في مختلف مناطق المملكة بتنظيم عروض سينمائية في مقراتها، حتى إنها أصبحت ميداناً للتنافس بينها. ومما يذكر في هذا الاتجاه، التنافس الذي كان قائماً بين ناديي الهلال والنصر في مدينة الرياض، حيث كانا ينظمان عروضاً سينمائية، كل في مقره، وكان كل نادٍ يحرص على جذب الجمهور بأفلام مهمة.
يقول فيصل الذياب -وهو صاحب فيديو “الذياب” في الرياض- إن قيمة التذكرة في ذلك الوقت كانت تصل إلى أربعة ريالات. وبصفته المسؤول عن تزويد نادي النصر بالأفلام في تلك الفترة، يقول إن إدارة النادي كانت تشترط عليه توفير الأفلام الجديدة أولاً بأول لضمان الجذب المستمر للجمهور. وكانت العروض يومية لفلم واحد فقط. أما في نهاية الأسبوع، فكان العرض لفِلمين بسعر تذكرة واحدة. ولم تخرج الأفلام المعروضة عن أفلام رعاة البقر والأفلام البوليسية وبعض الأفلام العربية الشهيرة مثل فِلْم “الخطايا” لعبدالحليم حافظ.
بدء الاحتراف المتحرِّر من التلفزيون
حتى ذلك الحين من سبعينيات القرن الماضي، لم يظهر سينمائي سعودي بشكل صريح وغير مرتبط بالتلفزيون مثل عبدالله المحيسن. كان المخرج المحيسن أول سعودي يصنع أفلاماً سينمائية لكي تعرض في مهرجانات سينمائية. فهو درس السينما في “معهد لندن للفلم”، وحصل على دبلوم عالٍ في الإخراج السينمائي عام 1975م، وكان قد التحق خلال الفترة نفسها، بين عامي 1972 و1975م، بالأكاديمية الملكية البريطانية للتلفزيــون، حيث قضى ستة أشهر أخرى استقى فيها الأساسيات النظرية المتعلقة بصناعة الأفلام. ثم تدرَّب عملياً ومارس عملية الإنتـاج والإخراج مع عدد من المصورين السينمائيين المحترفين الموجودين في لندن عام 1975م. ثم عاد في السنة نفسها إلى المملكة، ليؤسس “الشركة العالمية”، ومنها انطلق ليصنع أفلاماً وثائقيـة ناجحة مثل “اغتيال مدينة” عام 1977م.
من الفيديو إلى المواقع الإلكترونية
في بداية الثمانينيات الميلادية، بدأ فصل جديد في علاقة السعوديين بالسينما، وذلك مع انتشار جهاز الفيديو الذي أدخل الفلم السينمائي إلى أغلب البيوت السعودية. وعلى الرغم من أن هذا الجهاز أضر بنشاط دور العرض في الأندية وأحواش السينما حتى أجبرها على التوقف تماماً، إلا أن ارتباط أفراد المجتمع بالسينما لم يتوقف، بل زاد بشكل كبير لسهولة اقتناء شريط الفيديو. وفي ذلك الوقت، كان الفنان سعد خضر قد انتهى من تصوير أول فلم سعودي طويل بعنوان “موعد مع المجهول” برفقة المخرج المصري نيازي مصطفى. تم تصوير الفلم داخل المملكة، ولعب فيه سعد خضر دور شرطي يتعرّض لمؤامرة تستهدف إنهاء مسيرته الوظيفية. ومع أن الفلم حمل مواصفات سينمائية حقيقية إلا أنه لم يجد فرصته للعرض، وتم تقسيمه إلى عدة أجزاء ليكون مناسباً للتوزيع عبر شرائط الفيديو.
جهاز الفيديو وما ارتبط به من سوق كبيرة عبر محلات الفيديو المنتشرة في كل حي من أحياء المدن السعودية، كان مرحلة مهمة في تاريخ السينما في المملكة. فمن خلاله تمكّن السعوديون من متابعة أحدث إنتاجات السينما الأمريكية والمصرية والهندية بشكل أوسع مما كان سابقاً. وبفضل هذا الاطّلاع المكثف، نشأ جيل من الفتيان الصغار الذين عاشوا على الوجود التلقائي لجهاز الفيديو في حياتهم، فشاهدوا الأفلام العالمية وارتبطوا بها خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، في انتظار الثورة الرقمية التي ستأتي مع الألفية الجديـدة، والتي سيعلنون من خلالها عن أنفسهم وسينقلون علاقة السعوديين بالسينما نحو فصل جديد أكثر ألقاً وإبداعاً.
حضور دور العرض السينمائي وانتشارها في المملكة، وبشكل خاص في المنطقة الغربية، جاء تحت اسم “سينما الأحواش”. وهي عبارة عن دور عرض بدائية، تعرض بشكل أساسي الأفلام المصرية إلى جانب أفلام أمريكية شعبية
كان موقع “سينماك” الإلكتروني الذي انطلق عام 2000م تتويجاً لشغف أولئك الشباب بالسينما. ففي تلك الفترة كان هاني السلطان -يرحمه الله-، يدرس في جامعة الملك سعود بالرياض، ويتابع السينما بشغف كبير، ويبحث عمّن يشاركه هذا الشغف. فأسس موقع “سينماك”، وأدهشه اكتشاف عشرات السعوديين من مختلف مناطق المملكة يشاركونه ولعهُ بالأفلام، ومن بينهم عبدالله آل عياف وطارق الخواجي وفهد الأسطا وحسام الحلوة الذين سيصبحون فيما بعد من الأعمدة الرئيسة في الموجة السينمائية الجديدة في المملكة.
كان موقع “سينماك” نقطة مضيئة في تاريخ السينما السعودية، بمقالات كُتّابه الشباب التي تضارع مقالات أهم النقَّاد السينمائيين العرب. حتى أصبح الموقع مرجعاً للقرّاء من مختلف الدول العربية، ومارس دوراً شبيهاً بالدور الذي لعبته مجلة “كراسات السينما” في فرنسا.
وبفضل النقد السينمائي العميق الذي نشره شباب “سينماك” قبل نحو 18 عاماً، تبلورت فكرة صناعة أفلام سعودية بروح سينمائية تخرج عن القالب التلفزيوني المألوف، فخرج من رحم هذه الموجة مخرجون مبدعون مثل هيفاء المنصور وبدر الحمود، إلى جانب عبدالله آل عياف الذي صنع عام 2006م فِلماً وثائقياً مهماً بعنوان “السينما 500 كم” يرصد فيه أحلام ذلك الجيل السينمائي الاستثنائي.
في الألفية الجديدة:
من التلقي إلى الإنتاج
تمثّل السنوات العشر الأولى من الألفية الجديدة نقطة تحوّل مهمة في مسيرة السعوديين مع السينما، انتقل فيها السعوديون من مرحلة المشاهدة والتلقي إلى مرحلة الإنتاج. وكان لانتشار الإنترنت وتطور التقنية وسهولة الحصول على المعلومة دور في تأسيس جيل كامل من السينمائيين السعوديين الذين صنعوا أفلامهم وشاركوا في المهرجانات الدولية بجهود فردية يحركها الحماس والشغف السينمائي. وقد مثلت مهرجانات مثل “أفلام من الإمارات” و”الخليج” و”دبي” محطات أولى لاستقطاب إبداعات المخرجين السعوديين الشباب، قبل أن يأتي أحمد الملا ليؤسس في عام 2008م مهرجان “أفلام السعودية” في مدينة الدمام شرقي المملكة، وليصبح هذا المهرجان بدوراته المتتابعة الإشارة الأوضح على جدية المشروع السينمائي السعودي. ولا بد هنا من الإشارة إلى مبادرة روتانا عام 2006م لإنتاج الفلم الطويل “كيف الحال” التي تزامنت مع مبادرة عبدالله المحيسـن لإخراج فلمـه الطويل “ظلال الصمت”، للتأكيد على أن السينما في السعودية دخلت بالفعل طوراً جديداً أكثر جدية وأعمق وأوسع.
في السنوات الست الأخيرة أصبح حضور السينما السعودية حقيقة لا يمكن تجاهلها، سواء عبر وفرة الأفلام القصيرة التي يتم إنتاجها كل سنة، والتي تبلغ نحو 70 فلماً سنوياً، أو عبر الإنجازات التي حققها المخرجون السعوديون في الخارج، ومن أهمها بالطبع الترشيح الأولي للأوسكار الذي حققه فِلم “وجدة” للمخرجة هيفاء المنصور عام 2012م، وفِلم “بركة يقابل بركة” للمخرج محمود صباغ عام 2016م، أو من خلال المهرجانات التي أقيمت في الداخل، مثل مهرجان جدة للعروض المرئية، أو مهرجان الأفلام القصيرة بالرياض، أو مهرجان “أفلام السعودية” الآنف الذكر. كل هذا النشاط، بكل هذا الزخم، لم يكن ينقصه سوى صالة سينمائية حقيقية تتوّج هذه الجهود وتنقلها نحو آفاق احترافية أعلى.
لقد بدأت حكاية السينما في السعودية بلقاء عابر في هوليود قبل ثمانين سنة، وعبرت القرن العشرين على استحياء وتحت السطح بسينما “الأحواش” ومحلات الفيديو، حتى وصلت إلى الألفية الجديدة مع ظهور الإنترنت لتعلن عن نفسها بقوة في موجة سينمائية أخذت بالنمو، إلى أن وصلت إلى النقطة التي لا بد منها لتواصل نموها؛ وهي تأسيس صالات السينما التجارية التي كانت حُلماً لجميع السينمائيين السعوديين. لذا كان يوم 18 أبريل 2018م تاريخياً بكل المقاييس بالنسبة لهذا الحـراك السينمائي الكبير، لأنه تتويج لكل هذه الجهود الاستثنائية، وهو في الوقت نفسه بداية مهمة لصناعة سينمائية سعودية احترافية.
————————————————
عناويين فرعية:
————————————————
تعليق الصور:
اترك تعليقاً