مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
سبتمبر – أكتوبر | 2021

المرونة المعرفيّة
لازمةُ عصرِ الذكاء الاصطناعي وما بعده


أمين‭ ‬نجيب ونتالي المر

ما هو السبيل إلى النجاح في عصر الذكاء الاصطناعي؟ وهل تختلف شروطه عما قبله؟ وما هي البوصلة التي يسترشد بها الأفراد والجماعات؟
انتشرت ظاهرة التخصُّص وتقسيم العمل مع انطلاق الثورة الصناعيّة في أواخر القرن الثامن عشر، وشكّلت منذ ذلك الحين، أحد السبل الرئيسة لكسب المهارات، ولنجاح الأفراد والمؤسّسات. لكن تغيُّراً كبيراً دخل إلى هذا الواقع في عصر التكنولوجيا الذكية؛ إذ تتّجه التخصّصات إلى التداخل فيما بينها، ويتّجه العمل نحو التكامل بدل الانقسام. يبرز ذلك في دمج التقنيّات الميكانيكيّة والرقميّة والبيولوجيّة، فيما يُعرف بالثورة الصناعيّة الرابعة.

كما يبرزُ هذا التغيرُ في التطوُّر النوعي، قيد الانطلاق، في الإنترنت والمتمثل بـ”الميتافيرس”، القائم على دمج الواقع المعزَّز والواقع الافتراضي والواقع المختلط الثلاثي الأبعاد. الذي من المتوقع أن يصبح الوسيلة الرئيسة للتواصل وللنشاطات الفردية والاجتماعية والتجارية؛ ويُحدثَ تغيراً في المجتمع والصناعة، بنفس القدر الذي أحدثه الهاتف المحمول.

ونظراً إلى الطبيعية المتغيّرة والمتجدِّدة باستمرار لهذا العصر، أصبح النجاح منوطاً بكسر قوّة العادات، وإقران المهاراتِ بمَلَكة الخيال والإبداع.

أبعد من الذكاء
والحال أن النجاح قد ارتبط في أذهان الناس، حتى وقت قريب، بمعدّل الذكاء. فلدى كثير من الناس افتتانٌ بمعدلات ذكاء المشاهير والمخترعين وأصحاب الأعمال، على أنها شيءٌ معطًى “دماغيٌ” شبه ثابت. لكن أسباب النجاح تختلف بين عصرٍ وآخر. فالذكاء، وخاصّة الذكاء الفرديّ، الذي لعب دوراً كبيراً فيما مضى، لم يعد كافياً بحد ذاته.

لذلك عبَّر عن هذه الانتقادات عالِم الأركيولوجيا ستيفن جاي جولد: “أنا، بطريقة ما، أقل اهتماماً بوزن دماغ أينشتاين وتلافيفه، من أن أشخاصاً من مستوى الذكاء نفسه، أو ربما أكثر، قد عاشوا وماتوا في حقول القطن”. إنه يشير إلى أبعادٍ أخرى للنجاح وللاكتشافات العلميّة، كما أثبت، قبل ذلك، أستاذ علم اجتماع المعرفة العلمية في جامعة هارفارد، توماس كون في كتابه “بنية الثورات العلميّة”، 1962م. فالمعرفة، وخاصّة المعرفة العلميّة، كالشجرة التي تمتدّ جذورها إلى قاع المجتمع. فلو ولد أينشتاين، على سبيل المثال، في أحد الأمكنة النائية التي تفتقر إلى المكتبة والمختبر والجامعة والبيئة العلميّة والتمويل اللازم، لعاش ومات دون أن يعرفه كثيرٌ من الناس.

ويتأكّد هذا البُعد أكثر فأكثر في الأبحاث العلميّة الحديثة. إذ بدأ العلماء ينظرون إلى ما هو أبعد من الدماغ الفرديّ لدراسة الإدراك والمعرفة، وظهر إلى التداول في الأوساط الأكاديمية مصطلح “العقل الجماعيّ”. فقد جاء في دراسة لباحثين من جامعة إلينوي، نشرت في مجلة “فرونتيرز إن سيستمز نيوروساينس”، في 21 أكتوبر 2021م: “تشير الأدلّة المتراكمة إلى أن الذاكرة، والتفكير، واتخاذ القرار، والوظائف الأخرى الرفيعة المستوى، تَحدُث عبر الأفراد. إن الإدراك يمتد إلى العالم الماديّ وعقول الآخرين”.

هذا بالإضافة إلى أن الذكاء المنطقيّ أو الرياضيّ (نسبة للرياضيّات) وما شابه، ليس الشكل الرئيس لتميُّز الجنس البشريّ. إذ تبيّن من دراساتٍ عديدة، أن لدى معظم الفنّانين ورجال الأعمال وبعض العلماء الآخرين، مستويات ذكاءٍ متوسطٍ؛ لأن النظام المعتمَد لقياس نسبة ذكاء الفرد لا يقيس الإبداع، والخيال، والتشاعر (empathy)، والإحساس بالألوان والملمس، وغير ذلك.

ريتشارد فاينمان، وهو من أعظم علماء الفيزياء في التاريخ، سجل رقم 124 على مقياس الذكاء IQ، وهو رقمٌ متواضع لا يتناسب مع إسهامه الكبير في صوغ نظرية الديناميكا الكهربائية الكمية. وعندما علم بهذه النتيجة، سخر من الاختبار.

كذلك يشير البعض إلى أن لودفيغ فان بيتهوفن، المؤلّف الموسيقي المشهور، بعدما ترك المدرسة في سن الحادية عشرة، للمساعدة في إعالة الأسرة، لم يتعلَّم أبداً الضرب أو القسمة في الحساب. وكان حتى يومه الأخير، إذا اضطُرّ إلى أن يضرب، مثلاً 65 × 52، يضع 65، 52 مرة ويجمعها. والمؤكد أنه كان ليحصل على معدل ذكاءٍ منخفضٍ جداً.

يقول عالِم الفيزياء ميتشيو كاكو: “في علم الفيزياء، كلما ذهبنا عميقاً إلى العناصر الأساسيّة لتكوين الأشياء، يصبح الفهم أسهل فأسهل”، ويستطيع عندئذٍ أياً كان فهمها.

تحوُّل في النموذج الفكري
لبحث المهارات المطلوبة في عصر الثورة الصناعية الرابعة، أعلن المنتدى الاقتصادي العالمي أن “المرونة المعرفيّة” (cognitive flexibility) هي واحدة من المهارات الأولى اللازمة للتميُّز في مكان العمل عام 2020م. وظهرت في الآونة الأخيرة دراسات عديدة تلقي الأضواء على هذا المفهوم، الذي لا يزال قيد التبلور.

وعلى الرغم من أن الباحثين قد عرفوا منذ مدّة طويلة أن المرونة المعرفية هي سمةٌ مهمةٌ لوظيفة الدماغ البشري، لكنهم لم يُوْلوا الاهتمام الكافي إلا بعد التقدُّم الكبير في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعيّ، وظهور العلوم الإدراكيّة cognitive sciences، التي تضم معاً عديداً من الحقول العلمية المختلفة التي تتطلّبها هذه التكنولوجيا. وهي تفترض، على الخصوص، التكيُّف مع بيئة علميةٍ وبحثيةٍ وتقنيةٍ جديدة؛ والقدرة على التعلُّم الذاتيّ، والتنقّل من حقلٍ علمي أو فني لآخر بسرعةٍ على الفور؛ والقدرة على القيام بأكثر من مهمة في الوقت عينه. ويتطلّب هذا على وجه الخصوص مهارة التشاعر، ليصبح عمل الفريق فعَّالاً.

على العاملين في الذكاء الاصطناعي مثلاً، الانتقال من موضوع علم الأعصاب والدماغ فوراً إلى موضوعات مختلفة في الألسنية الحاسوبية أو الرياضيّات أو علم النفس.

وعند السؤال عن مدى قدرة الدماغ البشريّ على الإحاطة بهذه المجالات كلّها، يقول إدوارد دي بونو، الطبيب والفيلسوف وعالِم النفس المالطي، الذي اشتهر بكتابه، “قبعات التفكير الست”، 2018م: “يمكنك السعي إلى تطوير الأفكار في أي مجال تقريباً”. أو كما يقول عالم الفيزياء ميتشيو كاكو: “في علم الفيزياء، كلما ذهبنا عميقاً إلى العناصر الأساسيّة لتكوين الأشياء، يصبح الفهم أسهل فأسهل”، ويستطيع عندئذٍ أياً كان فهمها.

ويعتقد كثيرٌ من الباحثين، أن من الأسباب الوجيهة لتنمية مهارة المرونة المعرفيّة، أن الذكاء الاصطناعي لا يستطيع حتى الآن، وربما لن يستطيع في المستقبل، من اكتسابها. وتبقى هي من المجالات الحيوية التي على الإنسان القيام بها، إذ ستتمحور حولها معظم وظائف المستقبل.

هذه الصورة من بيانات التصوير بالرنين المغناطيسيّ، تظهر تطوّر المرونة العصبيّة بمرور الوقت منذ الولادة. الصورة من مركز تصوير البحث الطبيّ الحيويّ في جامعة كارولينا الشماليّة.

ما هي المرونة المعرفية؟
يُشار في علم الأعصاب إلى المرونة المعرفية على أنها التكيُّف مع متطلّبات المؤثرات الخارجية؛ أي بعبارة أخرى التكيُّف مع أي شيء جديد أو بيئة جديدة؛ من بيئة البيت مثلاً إلى المدرسة وغيرها، والقدرة على تغيير قناعاتنا بسرعة. كذلك يُشار إليها أحياناً بمصطلحات مثل “تبديل الانتباه”، و”التحوُّل المعرفيّ”، و”المرونة العقليّة”، و”المرونة الإدراكيّة”، و”تبديل المهام”.

ولربما بعض التشبيه يفيد: إذا فكرنا في المرونة المعرفية على أنها مماثلة لتغيير القنوات على التلفزيون، واعتبار القنوات على أنها “تيارات من الفكر” أو مفاهيم، والتلفزيون على أنه “الدماغ”؛ إذا كنا عالقين في قناة واحدة ولا يمكننا تغييرها، تكون معرفتنا غير مرنة؛ فلا يمكن تحديث تيار أفكارنا ومعتقداتنا أو تغييرها. لكن إذا كنا نمتلك جهاز تحكّم من بُعد، أو “مرونة”، ونستطيع تغيير القناة بسرعة كما نشاء، فنحن نتمتّع بالمرونة المعرفيّة.

عندما نبدأ بالانغماس في بيئة جديدة من أي نوع وفي أي سن، نواجه تحدّياً لفك شفرة المعلومات الحسيّة المتدفّقة وغير المفهومة في البداية. في هذه الحالة يحاول الدماغ العثور على بنية معيّنة ومعنى للإشارات الواردة، من أنماط بسيطة متكرّرة إلى توليفات احتماليّة معقّدة، ليساعدنا على التنبّؤ بما سيأتي.

والتعريف الأشهر للمرونة المعرفيّة هو لأستاذ التقنيّات التعليميّة في جامعة ميتشيغن راند سبيرو: “قدرة المرء على إعادة هيكلة معرفته جذرياً، وبطرق عديدة، والتكيُّف استجابةً لمتطلبات المواقف والظروف المتغيِّرة”.

وغالباً ما ترتبط المرونة المعرفيّة بمتعدّدي جوانب الثقافة الذين يتمتّعون بتفوُّق في مجالات متعدّدة تبدو غير مرتبطة فيما بينها، مثل ليوناردو دافنشي أو بنجامين فرانكلين أو إيلون ماسك وغيرهم. أما نقيض المرونة المعرفيّة فهو الصلابة المعرفية، التي توجَد في عدد من مظاهر اضطراب الصحّة العقليّة كاضطراب الوسواس القهري Obsessive-compulsive disorder وغيره.

وهذه بعض الأمثلة على المرونة المعرفيّة:
• قدرة المرء على القيام بمهمتين أو أكثر في الوقت عينه: القدرة خلال التفكير أو البحث الاستراتيجيّ بالشؤون الكبرى لشركة أو مصنع أو جامعة مع مديري الأقسام، على إعطاء أوامر للعاملين بالتنفيذ التكتيكيّ لمسائل تقنيّة بسيطة في الوقت عينه.

• القدرة على الانتقال من التفكير في مفهومٍ أو بُعدٍ إلى آخر بسرعة خلال ثوان، كأن ينتقل المرء من تحليل لون الشيء إلى شكله. أو خلال اجتماع الأصدقاء يبدأ أحدهم في الحديث عن التغيُّر المناخي، فجأة يبدأ آخر بالحديث عن شعر المتنبي؛ في هذا السيناريو، تُعدُّ القدرة على الانتقال بين المفهومين في الحال، مرونة معرفيّة.

• الترجمة بين لغة وأخرى تتطلَّب مرونة معرفيَّة عالية للتنقل السريع بين كل كلمة وجملة من قاموس وقواعد وثقافة لغة معيَّنة، وبين قاموس وقواعد وثقافة لغة الترجمة باستمرار.

• لنفترض أن أستاذاً سأل الطلاب تعداد الطرق التي يمكن بها تصنيف الطلاب في مجموعات مختلفة، وأين يمكن أن نجدها معاً. قد يقول أحد الطلاب الذي يعاني من صلابة معرفية: “الذين ينتمون إلى نفس الصف”، ويقف خياله هنا. وقد يقول آخر أفضل منه: “الذين حصلوا على معدل فوق الـ 70 وأولئك تحت الـ 70″، أو “الذين يتكلّمون في الصف والذين لا يتكلّمون”. الواضح أن ذهن هذين الطالبين عالق داخل الصف. يقول آخر يتمتع بمرونة معرفيّة أفضل: “الذين يناقشون الأستاذ”، أو “الذين يمارسون رياضة كرة القدم”، أو “الذين يفضّلون تويتر والذين يفضلون تيك توك”. ثم يقول آخر أفضل ممن سبقوه: “هناك تصنيفات لا تُحصَى ولا أستطيع تعدادها في وقت قصير”. ويقول آخر يتمتع بمرونة معرفيّة فائقة: “نعم، يوجد عددٌ كبيرٌ من التصنيفات، ويمكن أن نجدها معاً في “لامكان” اللغة: في الصوت عند تعدادها أو الصفحات التي كُتبت فيها”؛ مستعيراً تعبير الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو في مستهل كتابه “الكلمات والأشياء”، 1966م. واضح هنا أن جميع مَن سبقوا الطالب الأخير لم ينتبهوا إلى الشطر الثاني من السؤال لضعف المرونة المعرفيّة.

المرونة المعرفية والطفولة
بدأت العلاقة بين المرونة المعرفيّة والطفولة المبكّرة تحوز اهتماماً كبيراً في المحافل التربوية؛ وذلك على ضوء نتائج الأبحاث العلميّة الأخيرة، التي تشير بوضوح إلى أن هذه المهارة يمكن تنميتها وتطويرها في وقتٍ مبكرٍ جداً.

كشف التحليل الإضافيّ لمناطق الدماغ ذات المرونة العصبيّة العالية على نحو خاص، وجود علاقات ضعيفة وغير مستقرّة نسبياً بين هذه المناطق وأجزاء أخرى من الدماغ، ويُحتمَل أن يُظهر هذا، كيف يمكن لهذه المناطق تبديل وظائفها بسرعة بين الشبكات المختلفة.

فعندما نبدأ بالانغماس في بيئة جديدة من أي نوع وفي أي سن، نواجه تحدّياً لفك شفرة المعلومات الحسيّة المتدفّقة وغير المفهومة في البداية. في هذه الحالة يحاول الدماغ العثور على بنية معيّنة ومعنى للإشارات الواردة، من أنماط بسيطة متكرّرة إلى توليفات احتماليّة معقّدة، ليساعدنا على التنبّؤ بما سيأتي.

يعتقد علماء الأعصاب والدماغ أن هذه السمة تتحدَّد بمستوى المرونة العصبيّة التي نمتلكها، وهي تكمن وراء المرونة المعرفيّة. فقد تبيَّن من دراسة واسعة قام بها علماء من كليّة الطبّ في جامعة كارولينا الشمالية، أن قدرة الدماغ على التبديل بين العمليّات العقليّة استجابة للمنبّهات الخارجيّة ومتطلّبات المهام المختلفة، تبدأ في التطوّر خلال العامين الأولين من عمر الإنسان، وهو وقت سابق بكثير لما كان يُعتقَد سابقاً. وأكدوا أن هذه السمة يمكن أن تتنبّأ بالقدرة على القراءة، والنجاح الأكاديمي، ومقاومة التوتر، والإبداع، وتقليل مخاطر الإصابة بالاضطرابات العصبيّة والنفسيّة المختلفة.

كذلك أظهر الباحثون أن مناطق الدماغ ذات المرونة العصبيّة العاليّة، الموجودة في مناطق الدماغ الأماميّة، تظهر متّسقةً مع مناطق الدماغ الأساسيّة التي تدعم معالجة المرونة المعرفيّة لدى البالغين. ففيما تُظهِر مناطق الدماغ التي تحكم وظائفه الأساسيّة، مثل المهارات الحركيّة motor skills، مرونةً عصبيّةً أقل لدى البالغين، يدلّ ذلك بوضوح على أن المرونة الدماغيّة الوظيفيّة تتطوَّر خلال الطفولة المبكّرة. 

وقال وايلي لين قائد فريق البحث الذي نشر هذه الدراسة في دوريّة “بناس” في 31 أغسطس 2021م: “المرونة العصبيّة في مناطق الدماغ هذه قد تُبيِّن عمليّات النمو المبكّرة التي تدعم ظهور المرونة المعرفيّة فيما بعد. ما صوّرناه، في جوهره، هو مرونة الدماغ التي تمهّد الطريق لنضج لاحق لوظائف الدماغ الإدراكيّة العليا”.

وكشف التحليل الإضافيّ لمناطق الدماغ ذات المرونة العصبيّة العالية على نحو خاص، وجود علاقات ضعيفة وغير مستقرّة نسبياً بين هذه المناطق وأجزاء أخرى من الدماغ، ويُحتمَل أن يُظهر هذا، كيف يمكن لهذه المناطق تبديل وظائفها بسرعة بين الشبكات المختلفة. على نقيض ذلك، ظلّت المرونة العصبيّة في مناطق الدماغ المرتبطة بالوظائف البصريّة منخفضة نسبياً طوال العامين الأولين من العمر، ويشير هذا إلى أن هذه المناطق قد نضجت فعلاً، بينما بقيت المرونة المعرفيّة المرتبطة بالمرونة العصبيّة قيد النُّضج.

وبناءً على النتائج التي أظهرتها هذه الأبحاث، تقع اليوم مسؤولية كبيرة على الأهل لتنمية هذه المهارة باكراً في العام الثاني من عمر الأطفال. فالمهم أن يكونوا قادرين على امتلاك التغيير والقدرة على الارتجال والتكيُّف مع المواقف الجديدة لمواجهة أنواع مختلفة من التحديات. وقد بدأ بالظهور فعلاً عديد من الأدبيات التربوية في هذا الشأن ليساعد الآباءُ أطفالَهم في فهم تطبيقات هذه المهارة باستخدام بعض النشاطات البسيطة والممتعة لتنمية مهارات المرونة المعرفيّة لدى الأطفال.

والحال أنه فيما يسعى الباحثون جاهدين للحصول على فهم علمي أوسع للمرونة المعرفيّة، يقول راند سبيرو، السالف ذكره، يمكننا البدء بإصلاح جذريّ لنظام التعليم. في الوقت الحاضر، يُكيَّف الطلاب لرؤية المعرفة على أنها مواد مدرسيّة مجزّأة ومفكّكة، وبالتالي يعانون عندما تتطلّب مشكلات العالم الحقيقيّ المعقّدة بطبيعتها والمتعدّدة التخصّصات استجابة ما. على هذا النحو، هناك حاجة ملحّة لأنظمة تعلُّم تعزِّز “اكتساب المعرفة المتقدِّمة في المجالات المعقَّدة وغير المنظَّمة”.

عوائق
ترى الباحثة الألمانية ساغا بريغز، أن هناك عوامل عديدة تعيق المرونة المعرفيّة؛ ويمكن عند الإضاءة عليها، تخفيف أثرها لا سيّما على صغار السن. من هذه العوائق:

• التحيُّز. نحن معتادون على أن نعيد تشكيل المعلومات المقدَّمة إلينا لتتناسب مع نظرتنا إلى العالم، أو نبحث عن المعلومات التي نتّفق معها.

• الاختناق بالمعلومات. حين يكون أمامنا الكثير الذي علينا معالجته، نفقد القدرة على النظر بوضوح إلى المعلومات الموجودة أمامنا، لذلك فإما نتردّد أو نتخذ قراراً سيّئاً.

• قوّة العادة. نحن نتّبع الخطوات نفسها ونتّخذ القرارات نفسها كما في الماضي لأنها مألوفة ومريحة.

أخيراً، وبالتوازي مع ذكاء الآلات وتطوّره، ومن أجل مواكبة عالم المستقبل، لن نحتاج فقط إلى ابتكار أفكار ومنتجات جديدة، بل سنحتاج قبل كل شيء إلى إعادة ابتكار أنفسنا على الدوام؛ هذا يجعل المرونة المعرفية مفتاحاً للّحاق بالعصر. إنها اللمسة البشرية في مستقبلٍ تسيطر عليه الروبوتات والذكاء الاصطناعيّ، وهي أيضاً فرصتنا
للتحكُّم بهذا المستقبل. 


مقالات ذات صلة

في عام 2077م، شهد معظم سكان أوروبا كرة نارية تتحرك في عرض السماء، ثم سقطت كتلة تُقدّر بألف طن من الصخور والمعادن بسرعة خمسين كيلومترًا في الثانية على الأرض في منطقة تقع شمال إيطاليا. وفي بضع لحظات من التوهج دُمرت مدن كاملة، وغرقت آخر أمجاد فينيسيا في أعماق البحار.

نظرية التعلم التعاضدي هي: منهج تتعلم عبره مجموعة من الأفراد بعضهم من البعض الآخر من خلال العمل معًا، والتفاعل لحل مشكلة، أو إكمال مهمة، أو إنشاء منتج، أو مشاركة تفكير الآخرين. تختلف هذه الطريقة عن التعلم التعاوني التقليدي، فبين كلمتي تعاون وتعاضد اختلاف لغوي بسيط، لكنه يصبح مهمًا عند ارتباطه بطرق التعليم. فالتعلم التعاوني التقليدي […]

حتى وقتٍ قريب، كان العلماء مجمعين على أن الثقافة هي سمةٌ فريدةٌ للبشر. لكن الأبحاث العلميّة التي أجريت على الحيوانات، منذ منتصف القرن العشرين، كشفت عن عددٍ كبيرٍ من الأمثلة على انتشار الثقافة لدى أغلب الحيوانات. وعلى الرغم من الغموض الذي يلفّ تعبير الثقافة، حسب وصف موسوعة جامعة ستانفورد الفلسفيّة، هناك شبه إجماعٍ بين العلماء […]


رد واحد على “المرونة المعرفية”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *