تجتمع في الفنانة التشكيلية الصينية بان شياولين صفات قلمَّا تتوفر لشخص واحد؛ فهي مبدعة ملهمة ومديرة أعمال ناجحة وفاعلة سياسية بارزة ومناضلة جمعوية نشيطة. وتُعدُّ بحق سفيرة الفن الصيني القروي، إذ تسهم في برامج التبادل الثقافي الدولي، وتحضر بانتظام في أهم الوسائل الإعلامية الموجَّهة لتسويق مظاهر الثقافة الصينية عبر العالم.
أبدعت السيدة بان شياولين (Pan Xiaoling) في فن تشكيلي يسميه الصينيون “صباغة القرويين” أو “رسم المزارعين”، والتيار الإبداعي نفسه نجده في باقي البلدان تحت تسميات مختلفة، فيطلق عليه الفن الساذج (art naïf) بالفرنسية، بينما نستعمل في اللغة العربية مصطلح “الفن الفطري”. ومن الواضح أن كل هذه المصطلحات تنطلق من خلفيات اجتماعية وثقافية مختلفة؛ ومن المؤكد أن تفضيل الصينيين لإسم “صباغة القرويين” له ما يبرِّره إيديولوجياً وتاريخياً.
تُعدُّ الفنانة بان شياولين مثالاً حياً للنجاح بالمواصفات الصينية، بعد أن تحوَّلت إلى “نجمة” ونموذج مُلهِم لغيرها من المبدعين. وساعدها نجاحها الفني في نيل اهتمام السلطات الصينية. ويكفي أن نشير في هذا الإطار إلى أن الإدارة العامة الصينية للبريد طبعت عشرة من أعمالها التشكيلية كبطاقات بريدية عام 2000م، كما وضعت السلطات صورتها على طابع بريدي تكريماً لها في عام 2005م. ومن مظاهر العناية التي تحظى بها هذه الفنانة كذلك، حرص المسؤولون على برمجة زيارة ورشتها للوفود الأجنبية الرسمية التي تأتي إلى الصين.
ومن المفيد أن نتطرَّق في البداية إلى الظروف التاريخية التي رافقت ظهور “فن المزارعين” الذي تُعد بان شياولين من أهم أعمدته، قبل أن نذهب للقاء الفنانة في بلدتها.
تيار فني ذو نشأة سياسية
يستمد جذوره من الفن القديم
كانت الصين من أقدم الأمم التي اهتمت بفن الرسم والصباغة على حوامل مادية مختلفة من جدران وورق وحرير. وكانت إبداعات الفنانين تتمحور، بشكل عام، حول ثلاثة موضوعات: الأشخاص (البورتريه)، والمناظر الطبيعية كالأنهار والجبال، وأخيراً، الزهور والطيور. وتميَّز هذا الفن ببعده الروحي والرمزي العميق. فلم يكن المبدع يسعى إلى محاكاة الطبيعة أو تصويرها بشكل دقيق، بل كان يحاول خلق علاقة وجدانية مع موضوع اللوحة، ويسعى إلى النفاذ إلى أبعادها اللامادية الخفية. وتنسجم هذه المقاربة مع الذهنية الصينية التي تضفي على كل منظر طبيعي أو كل زهرة أو فاكهة أو طير أو حشرة، حمولة رمزية أسطورية وفلسفية يتم استحضارها أثناء الرسم.
ظل التشكيل الصيني وفياً من حيث مواضعـه وتقنياته للموروث الفني الذي تراكمت خبراته ومعارفه منذ القِدم. وفي بداية القرن العشرين، شرع المبدعون في الانفتاح على تجارب الرسم الغربية التي استهوت مجموعة من الفنانين، فأنجزوا لوحات متأثرة بالتشكيـل الأوروبي. وبعـد الثـورة الشيوعية في الصين، اهتم الفنانون بإبراز مظاهر الحياة اليومية، والإنجازات التي تحققها الثورة في مختلف الميادين، وذلك انسجاماً مع الوظيفة الجديدة التي كان من المفروض أن تضطلع بها الفنون في تلك الفترة التاريخية.
وفي الخمسينيات من القرن الماضي، ظهر أسلوب جديد في فن الرسم، أطلق عليه اسم: “تشكيل القرويين”، وكان ذلك في إطار “الثورة الثقافية” التي أطلقها الزعيم الصيني ماو تسي تونغ. ففي تلك الفترة، شجعت السلطات الشيوعية سكان الأرياف المزارعين على التعاطي مع فن الرسم في إطار سياسة: “الشعب بحاجة إلى الفن، والفن بحاجة إلى الشعب”. وتجنَّدت السلطات لتوفير التأطير اللازم “للقرويين”، وكلفت فنانين محترفين بالإشراف على دورات تكوينية في تقنيات الرسم والصباغة لفائدة المزارعين. ويبدو جلياً أن ظهور هذا التيار كان استجابـة لإرادة سياسيـة، ولكنـه، من الناحية الإبداعية لم ينطلق من فراغ، بل استفاد من “ممارسات تشكيلية” تقليدية متوارثة مستمدة من جذور الثقافة الصينية.
يمكن للمسؤولين أن يخططوا، وأن يبادروا لوضع السياسات في مختلف القطاعات. وباستطاعتهم أن يوفِّروا الشروط التنظيمية والتقنية والموارد البشرية اللازمة لتنفيذ تلك السياسات. غير أن نجاح تلك الأفكار رهن بقدرة المستهدفين على التشبع بفلسفتها، واقتناعهم بجدواها، وانخراطهم الواعي في تنزيلها وتفعيلها. وتنطبق هذه المسألة على رسم القرويين في الصين. فالنظام كانت له الإرادة السياسية لتشجيع هذا الفن، وأقصى ما كان يمكنه القيام به هو توفير الإمكانات والتأطير، لكنه لا يستطيع أن يخلق مبدعين. وحدهم الأشخاص الذين تتوفر لهم الموهبة والرغبة تمكنوا من أن يشقوا طريقهم نحو التألق والإبداع بمثابرة ونجاح، مستفيدين مما توفّر لهم من دعم ومساندة.
بين الفطري والساذج والقروي
عندما كنا نتأمل لوحات السيـدة شياوليـن، لم نستطع مقاومة الرغبة في إجراء مقارنة بين هذا الإبداع الصيني وفن آخر منتشر في المغرب، ونسميه: الفن الفطري.
عرف المغرب حركة فنية مهمة في مجال الفن الفطري الذي استلهم خصائصه من معطيات البيئة الثقافية المغربية، واستفاد روَّاده من الخبرات “التشكيلية” المتوارثة في مجالات النسيج والحنَّاء والوشم. ونشأ فن فطري بلمسة محلية خالصة باعتباره جزءاً من المشهد التشكيلي الوطني. وظهر فنانون بصموا الساحة الفنية الوطنية بإبداعاتهم الخالدة. وتعدّدت الأروقة التي تعرض الأعمال الفطرية لعشاق يسارعون إلى اقتنائها. كما استأثرت هذه الظاهرة باهتمام النقّاد الذين عملوا على رصد خصائصها الفنية والاجتماعية.
ونستعمل في اللغة العربية مصطلح: الفن الفطري، وهو مصطلح “مهذب” لا يعكس بالضرورة حكماً سلبياً على هذه الظاهرة الإبداعية، بل يركّز على طابعها التلقائي وعلى تحررها من “قيود” الفن المدرسي. فمصطلح “الفطرة” يحيل إلى إبداع “خام” ناتج عن تجربة عصامية.
ويفضّل الفرنسيون استخدام مصطلح: “الفن الساذج” (art naïf)، باعتباره فناً عفوياً يفتقر إلى الدقة واحترام الأبعاد، ولا يستجيب للضوابط التشكيلية الأكاديمية المعهودة في التجارب الأوروبية. غير أن هذا المصطلح قد يأخذ بعداً قدحياً، بل قد يوحي بنظرة دونية إلى هذا الإبداع باعتباره فناً سطحياً وساذجاً لا يحمل بُعداً جمالياً أو فلسفياً عميقاً.
أما الصينيون، فهم، وكما رأينا، يطلقون على هذا الفن اسم: “صباغة المزارعين” أو “القرويين”. وتتجاوز هذه المصطلحات الدلالة الفنية إلى الأبعاد الإيديولوجية والسياسية؛ فالصين وفي قمة “ثورثها الثقافية”، أرادت تشجيع المزارعين على إبداع فن جديد يثور على القيم الفنية “الاقطاعية” التي كانت ترعاها السلالات الحاكمة في البلاد منذ القديم.
“الشعب بحاجة إلى الفن، والفن بحاجة إلى الشعب”
بلدة المبدعين
تقع الورش العائلية للفنانة شياولين في مركز هوشيان بالقرب من مدينة “شيان” التاريخية، في شمال غرب للصين؛ وقد سنحت لنا فرصة زيارتها في إطار بعثة منظمة لفائدة الفاعلين الثقافيين ببعض الدول الإفريقية. ويبدو أن السلطات الصينية تحرص على برمجة ورشتها ضمن الأنشطة الرسمية بهدف تقديمها كنموذج للمرأة المبدعة الناجحة، وتقديم قريتها كنموذج ناجح لمشاريع الثورة الصينية في مجال النهوض بأوضاع الفلاحين.
أثناء زيارتنا للمنطقة، سلكنا طريقاً بين حقول المزروعات المختلفة. ووصلنا إلى مركز سكاني يتوسطه شارع عريض نبتت على جانبيه عمارات شاهقة. وأثار انتباهنا وجود مساحات متناثرة من الذرة الصفراء الموزعة على طول الأرصفة، نشرها المزارعون لتجف قبل أن تنقل إلى المخازن. تعطي هذه البقع الصفراء لمسة جمالية شاعرية للنسيج العمراني، وتشكِّل رابطاً بصرياً يقودنا إلى قريتين مجاورتيـن: إحداهمـا قديمـة تعــود إلى زمن الاستقرار الأول في المنطقة، والثانية تعود إلى أواسط القرن العشرين.
كانت القرية القديمة مكوَّنة من منازل صينية تقليدية مغطاة بسقوف مزدوجة منحنية، أغلبها مهجور بعد أن تخلَّى عنها سكانها؛ فزحفت عليها النباتات والأشجار، وتداعى أغلبها المبني من التراب. أما القرية الحديثة فتقع بمحاذاة التجمع التقليدي القديم، وتتميَّز بمنازلها الحديثة الطراز ذات السقوف المستوية المبنية بالأسمنت.
يشكِّل الإطار الطبيعي والمجالي للمنطقة إطاراً ضرورياً لفهم الظروف الاجتماعية والتاريخية التي أسهمت في تطور النوع الفني الذي تتميَّز به البلدة. إذ تنتمي القرية القديمة المتداعية والمهجورة إلى فترة “الإقطاع” التي كان فيها المزارعون يئنون تحت وطأة الاستغلال. أما القرية الجديدة فهي مبادرة من الدولة لإعداد تجمع سكاني “نموذجي” يوفِّر الظروف الملائمة لعيش المزارعين. وتعكس المدينة المقامة حديثاً على أطراف البلدتين الوجه الجديد للصين: بلد المبادرة الحرة، والمشاريع العمرانية الضخمة. وتحضر بقع الذرة الصفراء المنتشرة في كل تلك الفضاءات بجماليتها لتشكل روابط بصرية ونفسية تدمج مختلف هذه المكوّنات المتباينة تاريخياً وعمرانياً وأيديولوجياً داخل لوحة واحدة.
صحيح أن القرية القديمة المهجورة فقدت وظيفتها الأساسية، وتحوَّلت إلى مجال هامشي بالنسبة لاهتمامات السكان، ولكنها ما زالت تشكِّل المنهل الأساسي الذي ألهم الفنانين الريفيين، فوثقوا بالريشة احتفالاتها وعاداتها وأنشطتها الاقتصادية والاجتماعية، واحتفوا بأساطيرها ومعتقداتها، واهتموا بإبراز قيمها الجمالية والرمزية. لقد انتقلوا للسكن في مكان مجاور، لكن القرية القديمة بقيت أطلالها تلعب دور المنبع الذي لا ينضب للصور التشكيلية التراثية.
كان من الممكن أن تبقى “صباغة الفلاحين” مجرد ظاهرة فنية عابرة تختفي باختفاء الظروف السياسية والثقافية التي أفرزتها، غير أن ظهور عدد متزايد من عشاق جمع التحف الفنية، مكّن الفلاحين من بيع إبداعاتهم، وشجَّعهم على الاستمرار وعلى مزيد من العطاء. وهنا نصل إلى العمارات الشاهقة التي بدأت تزحف على المكان، فهي من رموز النهضة الجديدة، وعنوان لظهور فئة جديدة من رجال الأعمال الذين جمعوا ثروات كبيرة سمحت لهم بالاعتناء بالفنون وجمع التحف.
في الخمسينيات من القرن الماضي، ظهر أسلوب جديد في فن الرسم، أطلق عليه اسم: “تشكيل القرويين”
فنانة ومديرة أعمال و… مناضلة
تحرص السيدة شياولين على العناية بصورتها ومكانتها كفنانة متميِّزة. ولا تتردّد في الاستعانة بالوسائل التي تيسِّر لها تسويق صورتها الإبداعية. وعرفت دائماً كيف تتخذ المبادرات المناسبة في الوقت المناسب، فكانت أول من أدخل الهاتف الثابت بين سكان قريتها. وكانت سبَّاقة إلى اقتناء جهاز كمبيوتر. كما كانت من بين أوائل الفنانين الصينيين الذين أصدروا ألبومات لأعمالهم الفنية بقصد التعريف بها. وفي إطار انفتاحها المستمر على التقنيات الجديدة، سارعت إلى تسويق أعمالها عبر الإنترنت بمجرد ما توفرت لها الوسائل الضرورية لذلك. وبهذا العمل الجدي والمتواصل استطاعت الفنانة أن تعيش من فنها.
وإضافة إلى نشاطها الإبداعي الفني، تنخرط السيدة شياولين في الممارسة السياسية والعمل الاجتماعي. فقادها نضالها ضمن الهيئات السياسية لتشغل مكانها بين أعضاء المجلس الوطني للشعب. ولم تتخلّ عن العمل ضمن إطار المجتمع المدني، فنجدها تشغل منصب نائبة رئيس “جمعية الفنانين القرويين” في مقاطعة شانشي، بالإضافة إلى عضويتها النشيطة ضمن “جمعية الفنان الصيني”. وعلى الرغم من كثرة مشاغلها تعدد مهامها، فهي لا تهمل ورشتها العائلية في الريف الصيني التي تحوَّلت إلى قبلة للزوار من مختلف القارات.
عندما نغادر ورشة الفنانة بان شياولين، تبقى لوحاتها التشكيلية مرسومة في أذهاننا نظراً لما تتميَّز به من تناسق الألوان البرَّاقة الزاهية، ومن قوة تعبيرية آسرة. لوحات ورغم بساطتها الظاهرة، تحيل إلى أبعاد رمزية عميقة، لأنها تستمد قوتها من استلهام الموروث الثقافي الشعبي الصيني الغني بتعدد روافده الحضارية.
في الورشة
ولدت الفنانة عام 1956م، وشرعت في تعاطي الرسم بدءاً من عام 1974م. كانت بلدتها تشتهر، في تلك الفترة، بوجود عدد كبير من الورشات العائلية التي تنشط في هذا المجال. واستطاعت بان شياولين أن تصنع لها مساراً خاصاً، وأن تفرض نفسها كمبدعة متميِّزة. فتجاوز إشعاعها قريتها واستطاعت أن تكسب شهرة على صعيد بلادها. ثم وصلت إلى العالمية من خلال مشاركتها في تظاهرات فنية بالخارج، دشنتها بزيارة للولايات المتحدة الأمريكية عام 1996م.
فتحت السيدة بان شياولين ورشتها العائلية للزيارة منذ 1996م، وأقامت فيه معرضاً دائماً لإبداعاتها، وجهَّزته لاستقبال الوفود من داخل الصين وخارجها. حيث تستقبل فيه ما يقارب عشرة آلاف زائر سنوياً من مختلف بقاع العالم. كما أعدت فيه جناحاً للتدريب موجهاً إلى الشبـاب الذين يرغبــون في معرفــة خبايـا فن الرسم القروي.
تستقبل الفنانة الزوار في قاعة واسعة زينت جدرانها بنماذج من إبداعاتها التشكيلية، بعد ذلك تقدم لهم لمحة تاريخية عن قريتها، وعن خصائص رسم الفلاحين. وتقدِّم لهم كذلك معلومات حول فنون صينية أخرى، وخاصة فن قص الورق.
وفي الختام، تقوم ببيع بعض لوحاتها التشكيلية للراغبين في اقتنائها. وقد لاحظنا أن اللوحات المعدَّة للعرض كانت معلقة على الجدران، أما اللوحات المعدَّة للبيع فبعضها كان ملفوفاً. اعتقدنا في البداية أن لف اللوحات هو مجرد إجراء عملي يسهل على الزبون نقل لوحته إلى المدينة التي يقطن بها، وبعد ذلك يمكنه أن يضع لها اٍطاراً، ولكننا فهمنا لاحقاً أن الإبداعات التشكيلية في الصين كانت تحفظ ملفوفة، ويتم فتحها عند الرغبة في تأملها ثم تلف من جديد.
اترك تعليقاً