مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مايو - يونيو | 2018

ذكاء الراوي والبطل في الرواية الفرنسية
“كيف أصبحت غبياً”


مشاعل العمري

منذ أن ظهرت قبل بضع سنوات، لا تزال رواية “كيف أصبحت غبياً” للأديب الفرنسي مارتن باج موضع خلاف بين النقاد حول تصنيفها. فمنهم من يكتفي بتصنيفها على أنها رواية ساخرة، ومنهم من يسارع إلى وصفها منذ السطر الأول بأنها رواية فلسفية، وكأنه يخشى على قيمتها الأدبية من أن تتدنى إذا ما وصفت بالساخرة. ولربما كانت وجهتا النظر هاتين على حق في آنٍ واحدٍ. أما بالنسبة إلينا، فقد حضر إلى أذهاننا أثناء قراءة هذه الرواية بيت المتنبي القائل:

ذو العَقْلِ يَشْقَى فِيْ النَّعيم بِعَقْلِهِ
وأَخُو الجَهَالَةِ فِيْ الشَّقَاوةِ يَنْعَمُ

العقل قوة تقود حياة الإنسان، وهو أداة للنعيم وللشقاء، وقد يلقي بصاحبه في متاهات لانهائية. ولكن هل من الممكن أن تتحول إلى شخص لا يفكر؟ هل بإمكانك أن تنتقل من زمرة الأشخاص الذين يحتقرون الحياة الاستهلاكية التي تسطّح الفكر، إلى من يمكنه الانغماس فيها بدون أي شعور بالسخف؟ وهل فكرة الانغماس في حياة الملذات والاستهلاك هي حقاً طريق إلى الغباء؟ وهل يمكن للإنسان أن يتغير بهذه السهولة والسرعة ويعيش في تناقض بين إيمانه الداخلي وتصرفاته الخارجية؟ هل حقاً يوجد مفتاح يمكن إدارته في أي اتجاه والتحكم بمدى قدرات العقل؟ هذا الكتاب يلعب حقاً بالمفتـاح الخـاص بعقل القارئ، فالفكرة والأسلوب على قدر شاهق من الذكاء، تتزاحم على إثره التساؤلات، وتصبح كرّاسة القارئ مليئة بسطور استبدلت فيها نقاط النهاية بعلامات الاستفهام.
رواية الكاتب الفرنسي مارتن باج ساخرة وفلسفية من الطراز الرفيع. فازت بجائزة أدب المدارس، وهي جائزة تعطى من قبل الطلاب في ألمانيا وبلجيكا وهولندا، وترجمت إلى 24 لغة، من بينها العربية، وصدرت عن المركز الثقافي العربي عام 2013م.

الموت أو الغباء؟
تنقسم الرواية إلى قسميــن. حيث يتمحــور الأول حول رغبة الشاب أنطــوان في إنهـاء حياة الجحيم التي يعيشها بذكائه، ومن ثم الخروج من دوامة التعاسة – كما يعتقد- بالموت. بدأها بالإدمان على الكحول لتنتهي بانتظامه في مدرسة لتعليم الانتحار. وهو الجزء الأكثر سخرية في الرواية، الذي يمكن للقارئ أن يفهمه برمزيته ويضحك بصوت عالٍ، ثم يتوقف ليفكر..
أما القسم الثاني، فيتضمن قرار أنطوان أن يسير مع التيّار بحثاً عن راحة العقل والفكر، وهنا تأتي المفارقات.
رغبة البطل في أن يصبح غبياً جعلته يسخّر كل قدراته العقلية لتحقيق هذا المبتغى! ولأنه ذكي كما يعلن في مواقف كثيرة خلال سير أحداث الرواية، فإنه يهرب من الذكاء مستخدماً الذكاء نفسه! أبدى البطل رغبةً واضحة في أن يكون طبيعيّاً يعيش ويتماشى بشكل كامل مع المجتمع. الأمر الذي قرَّره بعد مراجعته لذاته واكتشافه لتعاسته مقارنة بكل الأشخاص حوله ممن صنفهم أنطوان بالأغبياء، وقليلي الحظ من الناحية الفكرية، أو ممن لم يرغب ببساطة بتشغيل عقله. العقل الذي يقول الكاتب عن دوره:

رواية الكاتب الفرنسي مارتن باج ساخرة وفلسفية من الطراز الرفيع، فازت بجائزة أدب المدارس، وهي جائزة تعطى من قبل الطلاب في ألمانيا وبلجيكا وهولندا، وترجمت إلى 24 لغة، من بينها العربية

“لم يكن عقله يتيح له أي راحة ، كان يمنعه من النوم بتساؤلاته المستمرة ويوقظه في عز الليل بشكوكه ونقمته وسخطه. روى أنطوان لأصدقائه بأنه منذ زمنٍ طويل لم يعد لديه لا أحلام ولا كوابيس لفرط ما تخيّم أفكاره على فضاء نومه. كان أنطوان لفرط التفكير، وتورُّم الوعي، يحيا حياةً بائسة. وهو يريد الآن أن يكون أقل وعياً وأكثر جهلاً بالقضايا والحقائق والواقع.. لقد عانى ما يكفي من حدة النظر التي منحته صورة رديئة عن العلاقات الإنسانية. يريد أن يعيش، لا أن يعرف حقيقة الحياة، أن يعيش فقط”.

حينما يكون الذكاء عائقاً
قرر أنطوان – والقارئ يعيش معه هذه الرحلة – أن يضع حداً للشقاء. ولكن ذكاءه كان بالمرصاد يقف ك حجر عثرة في طريقه. حاول التماهي مع المجتمع الذي يعيش فيه، في حين أن كل ما كان يريده هو الهرب. ويستطيع القارئ بسهولة رؤية شخصيات الكتاب في فِلْم، رغم أن الرواية -مع الأسف- تُعد قصيرة. إذ إن الكاتب نجح في شرح فكرته بشكل وافٍ، وتقديم شخصياته بذكاء تام دون زيادات لا حاجة لها.
فهذه الرواية هي محاولة لتفنيد الواقع الذي نعيشه والتصرفات الإنسانية، ومحاولة للإشارة بشكل غير مباشر إلى المنحدر الاستهلاكي الضارب بالعمق في حياتنا، الذي وصلت إليه البشرية، والفريق المضاد لهذه الحياة، بحس ساخر يصل بالقارئ إلى الضحك على مواقف كثيرة تضمنتها الرواية. وهذا فن من نوع خاص لا يجيده الكثيرون.

أنطوان وكابتن فانتاستك
يُعيد هذا الكتاب إلى الذاكرة فِلْم “كابتن فانتاستك”، الذي تدور أحداثه حول عائلة أمريكية قرَّر فيها الوالدان الابتعاد عن العالم المتمدن، والنجاة بأطفالهما من خلال حياة بدائية مطعَّمة بجرعات من المعرفة مستوردة من العالم الذي نعيشه، لكنها منتقاة من كل زمان ومكان، ابتداءً بالموسيقى وانتهاءً بالكتاب والمعرفة، لينشأ أطفالهما – كما يعتقدان- متحررين من سلطة المجتمع، بعيداً عن التعليم النظامي والتلفزيون والأجهزة الإلكترونية. ويظهر الفِلْم كيف أن ذلك أسهم في تأسيس عقول نيرة وشخصيات فذة، بموازاة عدم إغفال الجانب المفقود من الحياة البدائية واستحالة الاندماج مع المحيط الخارجي حينما يكبر الأبناء. إذ لا يمكن بأي شكل تجاهل الواقع والتغاضي عن متطلباته.
في فكرتي الكتاب والفِلْم شيء من التطرف. إمَّا أن أكون من هذا الفريق أو ذاك. في حين أن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: هل من الممكن التوسط في ظل العالم الذي نعيشه؟ وكيف تعرف بأنك قد جانبت الوسط؟ وما هو الحد الذي يصف خط النهاية والبداية؟ المسألة ليست فقط إما السواد الحالك أو البياض الناصع، هناك عالم متكامل من الألوان بينهما، وهذا ما يدفع القارئ إلى الشك بإمكانية البقاء في المنطقة المحايدة.

الغباء في إطلاق الأحكام
في بحث بطل الرواية عن حقوقه في اتخاذ مواقف مغايرة مما ينتظره المجتمع منه، نسمعه يقول:
“- لماذا لا يحق لنا أن ننتقد ونَعُدُّ الناس مغفلين ومعتوهين؟ بذريعة أننا سنبدو مغتاظين وغيورين؟ يتصرف الجميع على أننا متساوون، على أننا أثرياء مثقفون، أقوياء، بيض، صفر، وسيمون، ذكور، سعداء، بصحة جيدة، لدينا سيارة ضخمة.. ولكن هذا ليس صحيحاً. وبالتالي، لدي الحق في أن أحتج وأن أكون في مزاج سيء، وألا أبتسم بسذاجة طيلة الوقت، وأدلي برأيي حينما أرى أموراً غير طبيعية ومجحفة، وحتى شتم بعض الناس. هذا حقي في الاعتراض.
– أوافقك الرأي، ولكن… هذا متعب. ربما علينا أن نفعل شيئاً أفضل من هذا، أليس كذلك؟
– أنت محق. من الغباء أن نهدر طاقتنا في أمور لا تستحق عناء ذلك. من الأفضل أن نوفر قوانا للتسلية”
يمكننا من خلال كتاب ” كيف أصبحت غبياً؟” أن نتتبع حياة البطل أنطوان ونحدِّد ملامح المنحدر الذي وصل إليه، لأنه كان يعيش الحياة التي بحث عنها والتي يعتقد بأنه ومن خلالها سيصبح غبياً في المجتمع الاستهلاكي المعاصر. قد يكون ذكاء أنطوان وصل إلى حد جعله يحاول أن يضع نفسه في زمرة الأغبياء من خلال إطلاق الأحكام جزافاً على الأشخاص الاستهلاكيين. وقد تكون هذه طريقته الذكية في أن يكون غبياً. فللغباء أشكال عديدة، ولا يمكن لتفاصيل الحياة المعقدة أن تكون بالسهولة التي تسمح لشخص ما أن يحصر كل الحالات والتفاصيل ويفندها ويصنفها بين ذكية وغبية. هذه رواية التساؤلات في الدرجة الأولى، ورواية إعادة التفكير بكل التفاصيل لتكون مطبة فكرية للقراء.
كلنا سنجد شيئاً منا في هذا الكتاب. ليس بالضرورة التعاسة الناجمة عن الذكاء، بل أيضاً البحث عن الاندماج في مجتمع ذي بعد واحد يقتل التعددية وإن كان يدعي استيعابها كلها داخل حواجزه. وإذا كنا على قدر كافٍ من الوعي، فهل يمكننا أن نخلق عالماً خاصاً بنا ونبقى في الوقت نفسه على اتصال مع الواقع والعالم المحيط؟

 


مقالات ذات صلة

يستطيع المتأمل في تجربة محمد الفرج بسهولة ملاحظة ملمح يتكرَّر في أعماله، وهو أن الفنان لا يتورَّع عن كشف الذهنية التي أوصلته إلى تنفيذ عمله الفني.

صاحب حركة النهوض التي عاشتها الثقافة العربية، أثناء القرن التاسع عشر وامتدادًا إلى العقود الأولى من القرن العشرين، تدفق عدد من المفاهيم أوروبية المنشأ التي قُدّر لها أن تغيّر مسار الثقافة العربية نتيجة لجهود العديد من المترجمين والباحثين والمفكرين لا سيما من تعلم منهم في أوروبا أو أجاد لغات أجنبية. وهذه المفاهيم كثيرة ومتنوعة تمتد […]

من الملاحظات المهمة التي سمعتها من عدد من الفلاسفة الذين شاركوا في مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة في ديسمبر 2021م، أن الحضور الغالب كان من غير المحترفين في الفلسفة. والمقصود بالمحترفين هنا هم أساتذة الجامعات وطلاب الدراسات العليا تحديدًا. فالمعتاد في مؤتمرات الفلسفة في العالم هو أن يحضرها أسـاتذة الجامعات الذين يقدمون أوراقًا علمية في المؤتمر […]


رد واحد على “ذكاء الراوي والبطل”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *