حمل إلينا البريد الوارد من باريس ملفاً خاصاً أصدرته مجلة «العلم والحياة» الفرنسية وعلى غلافه عنوان بالخط الرفيع يقول: «عالم ألف ليلة وليلة.. تحقيق في عصر ذهبي»، وبالخط العريض: «العبقرية العربية».
بتقليب صفحات هذا الملف تَملّكنا شعور بالغبطة رغبنا في نقله إلى قرّاء القافلة. ولكن كيف؟ وهنا اختلطت الغبطة بالارتباك، أو قل بشعور أفسدها علينا.
ولنبدأ بالجانب الجميل من الموضوع.
في الافتتاحية إشارة واضحة إلى أن الاهتمام في هذا الملف تركّز على العصر العباسي ودعوة إلى «اكتشاف معالم الرقي في ذلك العصر الذهبي».
وبعد مقالة أولى حول زمن الخلفاء الراشدين، رضوان الله عليهم، ومن ثم خريطة جغرافية للوطن العربي في زمن العباسيين أُرفقت بجدول زمني مختصر حول أهم الأحداث التاريخية بين القرنين السابع والثالث عشر الميلاديين، طالعتنا أول مقالة مُوسّعة حول «ألف ليلة وليلة» بعنوان «شهرزاد: استراتيجية المسلسل»، ومن ثَمَّ تكرّ سبحة الدراسات والمقالات العلمية. وتضم هذه السبحة ثماني عشرة مقالة تتوزع على خمسة فصول رئيسة هي: العمران المدني، العلوم، التجارة، الطب وعالم الخيال.
طبعاً يمكن للقارئ الذي يُركّز نظره على النصف الفارغ من كوب الماء أن يتحفظ على بعض ما ورد في هذا الملف، فالافتتاحية تتضمن كلاماً قابلاً للنقاش، كما أن الطابِعَ الاستشراقي – شكلاً على الأقل – يظهر واضحاً في عدة صفحات، إذ يبدو أن الأوروبيين لا يزالون حتى اليوم أسرى السحر الذي تمارسه عليهم رواية «ألف ليلة وليلة» فنرى مقاطع أدبية من هذه الرواية تتصدر على صعيد إخراج المقالات والأبحاث العلمية حول مختلف الموضوعات. وكأن كاتب البحث اتخذ فقرة ما من ألف ليلة وليلة منطلقاً أو ذريعة للقيام ببحثه، ولكن لا يمكن للقارئ في النهاية إلا أن يتسامح مع هذه النقاط الصغيرة أمام عمل كبير يستحق الاحترام لرصانته، ولما تَطلَّبه إنجازه من جهود على صعيدي البحث والإخراج الفني اللائق، ولصدقه في الاعتراف العلني وبصوت عالٍ بـ «عبقرية عربية» مفترى عليها إعلامياً وثقافياً.
وعلى سبيل المثال، نشير إلى أن القسم الخاص بـ «العمران المدني» يتضمن ثماني مقالات تتراوح مواضيعها ما بين إعادة تصور بغداد عندما بناها المنصور ورسمِها كما كانت، ودراسة قواعد السلوك الاجتماعي في الحياة المدنية، مروراً بالسمات المعمارية البارزة للمدن العربية في ذلك العصر.
بعض هذه المقالات كان عامّاً ومختصراً. خمس صفحات فقط للحديث عن المساجد والمآذن والقباب.. كأن الأمر واجب لا مفرّ منه في الحديث عن الحضارة العربية الإسلامية. قد يكون هذا التحليل صحيحاً، ولكن دقة النص وجمال الإخراج والرسوم التي أُعِدّت خصيصاً لهذا الملف، وحسن اختيار الصور، يجعل هذه الصفحات ذات بلاغة تكاد تغني عن قراءة كتاب حول الموضوع.
وفي المقابل هناك مواضيع مدهشة لخوضها في التفاصيل التي ما كانت لتأتي لولا البحث الطويل والمضني. ومنها ست صفحات لدراسة استهلاك دمشق للماء وسياسة المدينة في تعاملها التاريخي مع نهر بردى الذي يخترقها. ولم يقتصر تزيين المقال على الصور الفوتوغرافية والرسوم، بل تضمن أيضاً خريطة للمدينة القديمة وموقعها بالنسبة إلى النهر وفروعه.
وفي القسم الخاص بالتجارة عند العرب نجد أيضاً إضافةً إلى الخرائط التوضيحية لتحرك البضائع والسلع تصديراً واستيراداً، مقالةً تتناول صناعة الزوارق البحرية التقليدية عند العرب. وفي متن هذه المقالة دفاع صريح عن جودتها ضد ما روّجه سابقاً بعض البحارة الغربيين من أمثال ماركو بولو، ولدعم هذا الدفاع اعتمد كاتب المقالة على دراسة مفصلة لنمط الزورق العربي التقليدي وطريقة صنعه، وأيضاً على تجربة عملية جرت قبل عقدين من الزمن، تمكن خلالها زورق مبني على النمط التقليدي «كذلك الذي أبحر عليه سندباد في القرن الثامن الميلادي»، من الإبحار بنجاح ما بين عُمان وكانتون.
وإذا كانت المقالات التي تناولت مواضيع العلوم والطب قد جاءت بطابع أكاديمي مبسط إلى حد ما، كما هو متوقع، فإن الملف يفاجئنا «بسبق صحفي» بالمعنى الحرفي للكلمة، إذ تمكنت مندوبة المجلة إلى دمشق من دخول قلعة المدينة المقفلة منذ عقودٍ طويلة، حيث تقوم فيها ورشة ترميم وحفريات أثرية (يتوقع أن تنتهي العام الجاري)، ونشرت على صفحتين رسماً فنياً دقيقاً يظهر مختلف أقسام القلعة بأبراجها وممراتها وأقسامها الداخلية دفعة واحدة، وهو ما نراه للمرة الأولى.
عندما قرّرنا أن نضع قارئ القافلة في أجواء هذا الملف خطرت في البال أولاً فكرة كتابة مقال حوله من صفحة أو اثنتين. وبالتمعن في محتوياته بدقة أكبر، ارتأينا أنه يستأهل أكثر من ذلك. ففكرنا في ترجمة بعض محتوياته.. وربما كلها. وهنا ارتسم في ذهننا سؤال محرج أفسد علينا استمتاعنا بهذا الملف.
أليس أمراً محرجاً أن يقوم عرب بترجمة ملف يتحدث عن عظمة العبقرية العربية من لغة أجنبية إلى لغة ورثة هذه الحضارة؟ بعبارة أخرى، أليس من المفترض أن نكون على علم ودراية مسبقة بكل ما في هذا الملف من معلومات نجهل قسماً كبيراً منها؟ وإذا كان فيه من جديد – وفيه حقاً جديد كثير – أليس من المفروض أن نكون السابقين في الوصول إليه؟
وتجرّ الأسئلة بعضها بعضاً.
ما الذي ينقصنا لإنجاز مثل هذا الملف أو ما هو أفضل منه؟
المصادر التي اعتمدها الملف متوفرة للجميع، وهي أقرب إلينا منها إلى الفرنسيين، لأنها كتبت أصلاً بلغتنا وليس بلغتهم.
المال اللازم والطباعة الراقية متوفران أيضاً.
ما ينقصنا في صحافتنا العربية هو الرسام – رغم كثرتهم – الذي يدرس نصاً تاريخياً حول مدينة بغداد كما كانت عندما بناها المنصور، ليجلس ويرسمها كما كانت آنذاك، بالتعاون مع مؤرخ أو مجموعة مؤرخين، أي العمل ضمن فريق.
ما ينقصنا هو الإصرار.. الإصرار على دخول قلعة دمشق وانتزاع رسم يمثلها مهما تطلب ذلك من جهد ووقت. والإصرار يتطلب وعياً لهذه المهمة وحماساً لإتمامها.. فهل هذا متوفر عندنا؟
يقولون إن أهل البيت أدرى بما فيه. فما الذي حل بنا حتى صرنا آخر من يعلم؟
إن نظرة خاطفة على الطريقة التي تعاملنا بها مع تراثنا الحضاري، منذ بداية عصر النهضة وحتى اليوم، تؤكد لنا أن هذا التعامل – في شقه الإعلامي على الأقل – اتسم في معظم الأحيان بطابع دفاعي في مواجهة الذين حاولوا طمس هذا التراث أو التقليل من أهميته لدوافع مختلفة. وانعكس هذا الطابع الدفاعي انفعالاً ونقاشاً متوتراً أوقفنا عند مستويات المواضيع العامة والأفكار المبدئية. وهذا ما حال دون انصرافنا بهدوء وثقة إلى الغوص في تفاصيل هذا التراث، ودراسته علمياً، في أدق تفاصيله، كما هو حاصل في مواضع كثيرة من هذا الملف الجميل والقيِّم و.. الفاضح لقدراتنا العربية.
ع.ع.
ملفات مجلة «سيانس ايه ڤي»، العدد الواحد والسبعون، 89 صفحة، باريس.