بيئة وعلوم

الصحراء.. شريكتنا في بلدنا
نُعزز خيراتها .. نَدرأ أخطارها

  • 3
  • Badawi-cover
  • Grey-Pic-copy
  • scanned-pic09
  • scanned-pic108
  • slides01-copy
  • slides04

توجد الصحارى في بلاد كثيرة، غير أن للصحراء في المملكة وضعاً مختلفاً.. إنها تحتل حيزاً هائلاً مستقلاً، تشاطرنا بلدنا وتشاركنا فيه كتفاً بكتف. أثَّرت فينا وفي تكويننا وتفكيرنا وخيالنا أكثر مما أثرنا فيها.. ومن ذا الذي يستطيع فعل الكثير مع مثل هذه البحار من الرمال الممتدة إلى ما لا نهاية.. اليوم تحتاج الصحراء منّا إلى التفاتة جديدة بمفهوم جديد. الزميل حبيب محمود من فريق القافلة، يحاول في هذا الموضوع أن يستبطن علاقتنا ببيئة الصحراء وعلاقتها بنا.

نجح الإنسان على امتداد تاريخه فـي ترويض الصحارى واستخلاص احتياجاته من أشد أحوالها شحاً وجفافاً. اضطُرَّ إلى أن يكون واقعياً فـي أخطر أشكال الواقعية وأقساها، وحالماً فـي ألذّ حالات الشاعرية خيالية. وتجاوز أزمات رمالها الجافة وصخورها الجرداء مسّلحاً بغريزة حب البقاء.

لكن العلاقة المعقدة ما بين الإنسان والصحراء انعطفت فـي الحضارة الحديثة إلى نوع من الاعتداء يهدد جذور الحياة فيها، تلك الجذور ذات الصلة بحياة البشر أنى كانت سكناهم وحضارتهم.

تستحوذ الصحارى على خُمس مساحة العالم. ولنا – نحن العرب – نصيب وافر من هذا الخُمس القاسي، فالصحراء الكبرى الممتدة من أقصى غرب القارة الأفريقية إلى تخوم أقصاها الشرقي، هي أكبر صحارى العالم على الإطلاق، وتصل مساحتها الشاسعة إلى 8 ملايين و 004 ألف كيلومتر مربع، وتدخل فـي حدودها الهائلة أجزاء عريضة من مساحات خمس دول عربية على الأقل.

ثم هناك الصحراء العربية، ثالث أكبر صحراء فـي العالم مساحة، وهي تحتل مليوناً و 003 ألف كيلومتر مربع. وتتوزع على ثلاثة بحار رملية، هي: الربع الخالي والنفوذ والدهناء.

أحب الإنسان العربي صحاراه على ما هي عليه من قسوة، ورعب، وشح، وجفاء. وتكيّف معها محاولاً مساواة نفسه بأي كائن حي آخر يعيش فيها. وقادته الدوافع الغريزية إلى البحث عن أسباب الحياة في أنحائها المترامية، حاطَّـاً رحاله وأحماله في أية «يهماء» ذات غدير ماء وعشب أخضر صالح لاستهلاك أغنامه وجماله.

وأتقن العربيّ الأول فن الخلطة الحميمة في علاقته بالأرض الصحراوية. كان يعشقها لأنها تجود بالماء والكلأ، ويُشَبِّب بها وبحيواناتها حتى حين تشحّ بالمطر. ولم يُضِع حالة واحدة في التعاطي مع سرّ تعلقه بهذه الشريكة التي أعطى لكل بقعة من بقاعها البخيلة اسماً، أو صفة، أو إشارة.

كانت بيئته ومصدر رزقه، ومضمار رهانه على البقاء. ولذلك أتقن الصيد، والرعي، وخاض الحروب كلما استدعى الأمرُ الحفاظ على مصدر «ماء» خاص بالقبيلة، أو الحصول على ماء قبيلة أخرى. ومن بيئته هذه استلهم الصناعة الأولية التي أمّنت له: اللباس، والسلاح، والدواء.. فضلاً عن الغذاء.

إذن كان العربيّ البدوي يعرف كيف يعايش طبائع الصحارى الشرسة. إنها صديقته الأولى، إن لم تكن أمه البخيلة الحنونة.

المضارب تهرول نحو المدينة..!
غزت المدنية الحديثة الصحراء، وهرول كثير من «المضارب» المتنائية إلى المدن التي تجري من تحتها أنابيب المياه، وتتوزع الخضرة في شوارعها من دون مطر، وتتوفر فيها أسباب الرخاء والحضارة بلا حاجة إلى «انتجاع» أرض أخرى، أو غزوة تسفك الدماء في سبيل كلأ أو غدير..!

جاءت الحضارة الجديدة بالعمارات العالية، وافترشت الشوارع الفسيحة، وأضاءت الليالي بالكهرباء، وربطت القاصي والداني بالهاتف الجوال. صنوف التحضر غيّرت وجه الحياة البدوية.. وأنزلت الفرسان من على ظهور الخيول والجمال، وأركبتهم السيارات المتفوقة في قطع الصحارى المنقطعة التي «تكذب فيها العينُ والأذن» حسب إشارة شعرية شفافة للمتنبي.

وإذا كان العربيّ الأول يفزع جائعاً بناقته أو فرسه إلى مهمهٍ بحثاً عن ظبي يشوي لحمه ويتغدى به، فإن العربي الجديد أصبح يخرج في نزهة مترفة بسيارته ذات الدفع الرباعي وسلاحه الناري ليطارد الظباء والحباري على نحو اقترب من إفناء عدد كبير من أنواع الحيوانات البرية.

ومثلما كان للعربي الأول آلاته البدائية التي يحتطب بها، فإن العربي الحديث اشترى آلات أحدث، وصار الاحتطاب أسهل وأوفر. وبالنتيجة صار الغطاء النباتي أكثر عرضة للتآكل والفناء على نحو أبسط ما يقال عنه: إنه خطير جداً.

وربما كان ذلك من الأسباب الداعية إلى تشديد الرقابة على أعمال الاحتطاب، وآخرها ما صدر عن وزارة الداخلية في المملكة العربية السعودية، مطلع محرم الماضي، حيث وصل التنظيم الجديد إلى إعفاء الفحم والحطب المستورد من الرسوم الجمركية لتسهيل دخوله البلاد وإنقاذ الغطاء النباتي المحلي من الاحتطاب الجائر.

الغطاء النباتي
وتحتضن أرض المملكة ما يقارب 0012 نوع من النباتات، 2٪ منها فقط نباتات متوطنة، و53٪ نباتات معمرة. وتتركز النباتات في المناطق الجافة، وبصفة رئيسة في المناطق المنخفضة كالروضات والأودية ومسارب المياه التي تتجمع بعد الأمطار.

وعلى الرغم من شح الماء والمطر، فإن الباحثين رصدوا ما يزيد عن 08 نوعاً من الزهور البرية في مناطق يُظن أنها قاحلة تماماً. وكم هو مدهش أن تكتسي رمال ضائعة في الربع الخالي أو صحراء الدهناء أو متاهات النفود بمفارش خضراء تتخللها عطريات شذية في قلب الجفاف الذي يبدو خالياً من أية إشارة إلى وجود حياة.

سياحة مهدرة.. وغابات مهددة..!
كوّنت النباتات الطبيعية ذاتياً متنزهات طبيعية لم يتدخل فيها الإنسان، فعلى سبيل المثال هناك «شعيب التنهات»، السهل الرملي الذي يبعد عن العاصمة الرياض بحوالي 581 كيلومتراً، ويرتاده الزوار في فصل الربيع، وتحاصره من الشرق رمال الدهناء، وهو كثير الشجر تصب فيه أودية أهمها الشوكي الذي يسقيه فيرويه لينزّه سكان نجد.

وفي حدود هضبة نجد، وحدها، الكثير من المتنزهات الأخرى، مثل: الحيسية، وصلبوخ، وغيانة، والخمرة، وحريملاء، وبعيثران، ومحرقة، ودقلة، والبسيتين، وروضة نورة، وفيضة الحقاقة، والخشم، والثمامة، والخفس، ووادي الطوقي، وروضة خريم، ووادي السوط، وروضة المحلية.. هناك أيضاً الروضات والأودية المبلّلة المخضرّة على عتبات الصمّان، أو في أعماق الدهناء، أوتخوم النفود الغنية بالحياة الفطرية التي تحتاج إلى المزيد من الحماية.

مئات من المواقع وجدت نفسها، تلقائياً، منتجعات سياحية طبيعية يرتادها السعوديون في مواسم الصيد والاحتطاب حيث تبرد الشمس المدارية وتنمو الأعشاب بعد هطول الأمطار أو أثناءها. هذه التلقائية أملت على المسؤولين عن السياحة والحياة الفطرية، في البلاد، التعاطي مع الواقع تعاطياً إيجابياً. وحالياً هناك أشكال كثيرة من التعاون بين الهيئة الوطنية لحماية الحياة الفطرية وإنمائها والهيئة العليا للسياحة لتنمية هذا النوع من السياحة.

وبما أن السياحة مطلب وطني يدعم الاقتصاد، فإن حماية الحياة الفطرية مطلب استراتيجي يحمي الوجود البشري في المقام الأول. وما فعلته السياحة الصحراوية في السابق أضرّ كثيراً بالغطاء النباتي جرّاء الاحتطاب، مثلما أضرّ بالعديد من الأنواع الحيوانية جرّاء الصيد الجائر..!

المها العربي في مقدمة الحيوانات التي هدّدها الانقراض على نحو خطر للغاية، ويعيش هذا الحيوان في المناطق الصحراوية والوديان الجافة والكثبان الرملية والمناطق ذات الغطاء النباتي الخفيف، في صحراء النفود وصحراء الربع الخالي وكثبان الدهناء، وشبه جزيرة سيناء والأردن والبادية السورية وجنوب العراق وحضرموت وعدن. وقد جار الصيد على هذا الحيوان حتى اختفى تماماً، أو كاد، الأمر الذي استدعى إنقاذ ما يمكن إنقاذه بإعادة توطينه، فكان ذلك على يد الهيئة الوطنية لحماية الحياة الفطرية التي نجحت في توطينه وحمايته.

وتكررت الحالة ذاتها بتفاوت نسبي مع أنواع أخرى من الحيوانات البرية في المملكة، مثل: حيوانات الريم، والإدمي، والعفري، والوعل، والأرنب البري، والوبر. وطيور: الحباري، والكروان، والدجاج الحبشي، والسلوى، والخضيري، والشهرمان، والصواي، والشولر، والبلبول، والحذف، والحجل، والقطا، والحمام المطوق.. وقائمة طويلة من الحيوانات والطيور الأليفة والمتوحشة..!

المحميّات الطبيعية
كانت هذه الحيوانات شريكة الإنسان العربي في مواجهة ظروف حياة الرمال والصخور الشحيحة، لكنه – مستعيناً بآلات الحضارة – سعى إلى تدميرها ومحاصرة بيئتها الآمنة، وهذا هو الخطر الذي أحدق بصحراء المملكة في حياتها الفطرية، وهو ما استدعى تطويق هذا الخطر على نحو استراتيجي حاسم يساعد على استدامة الحياة بالحفاظ على أسبابها النباتية والحيوانية.

وعبر التشريعات التي استحدثتها الحكومة بدأت الدولة في مساعدة البيئة والحياة الفطرية على الصمود ومواجهة التصحّر والفساد البيئي. وهناك أنظمة متعددة وُضعت لهذه الغاية، مثل: نظام الهيئة الوطنية لحماية الحياة الفطرية وإنمائها، ونظام المناطق المحمية للحياة الفطرية، ونظام صيد الحيوانات والطيور البرية، ونظام الاتجار بالكائنات الفطرية المهددة بالانقراض ومنتجاتها.. الخ.

وألحّت الضرورة على إيجاد المحميات الطبيعية لتهيئة الظروف للغطاء النباتي والحياة الحيوانية للنمو، فكانت محمية (حرة الحرة) أولى المحميات التي أقامتها الهيئة الوطنية لحماية الحياة الفطرية. وهي تقع إلى الشمال الغربي من المملكة، وتمتد بامتداد شرق وادي سرحان، وتبلغ مساحتها 57731 كيلومتراً مربعاً. ويتألف سطحها من هضبة بركانية تكثر فيها الصخور البازلتية السوداء اللون، إضافة إلى جبال بركانية منخفضة يتراوح ارتفاعها بين 008 و0511 متراً. وتمتاز (حرة الحرة) بتنوع غطائها النباتي الذي يتشكل من نباتات معمرة وحولية تكثر في مجاري السيول وعلى جوانبها. ومن أهم الأشجار فيها: (الطرفا) و(الأثل) و(الأرطي) و(العوسج)، كما تحتضن المحمية أنواعاً من الشجيرات والأعشاب الحولية.

ومن أهم الحيوانات في هذه المحمية: غزال الريم، وغزال الإدمي، والذئب، والثعلب العربي، وثعلب الرمال، والضبع المخطط، والأرنب البري، واليربوع، إضافة إلى الحبارى وأنواع أخرى من الطيور المستوطنة والمهاجرة مثل: النسر الذهبي، والكروان العسلي، وتسعة أنواع من القنابر وعدد من أنواع الزواحف.

بعد (حرة الحرة) تتابعت المحميات الطبيعية التي توزعت على مناطق مختلفة من المملكة، هي: الخنفة في صحراء النفود، والطبيق في شمال البلاد، محمية الوعول غربي حوطة بني تميم، ومحازة الصيد في الشمال الشرقي لمدينة الطائف، وجرف ريدة في جبال السروات، وجزر فرسان وجزر أم القماري في البحر الأحمر، وعروق بني معارض، ومجامع الهضب، والتيسية، والجندلية، ونفود العريق، وسجا، وأم الرمث، فضلاً عن محمية الجبيل للحياة البحرية في الخليج العربي.

وتبلغ المساحة الإجمالية لهذه المحميات 93618 كيلومتراً مربعاً، أي ما يعادل 76.3٪ من مساحة المملكة، وتغطي 9.33٪ من النظم البيئية، و8.44٪ من الأنواع الفطرية الرئيسة، و05٪ من المناطق الفيزيوجرافية، لكن الخطط الوطنية في هذا الشأن تطمح إلى تحويل 8٪ من مساحة المملكة إلى محميات بحيث يصل عددها، في المستقبل، إلى 301 محميات، منها 65 برية و 74 بحرية.

وتحاول هذه التنظيمات ومثيلاتها، أن تقول للمجتمع: «يجب عليك أن تكفّ عن محاصرة الحياة الفطرية بمدنيتك وآلاتها، يجب أن تبقى بمنأى عن تهديد نباتاتها وحيواناتها»، من أجل أن ينال التنوع الإحيائي حقّه الطبيعي في دورة الحياة. وهو ما يؤدي، أخيراً، إلى استمرار الصداقة الودودة بين الإنسان والكائنات الأخرى..!

إن استمرار حياة البشرية مرهون ببقاء أسباب الحياة على الأرض. والصحراء – التي لا يبدو لنا منها إلا رمالها أو صخورها – غنية بأسباب الصمود والإصرار على البقاء. إنها جزء من بيئتنا الحية، وصداقتها ضرورة بقاء، وحيواناتها أمانة في أعناق الأجيال، ونباتاتها جزء من رهان الحفاظ على نوعنا البشري من الانقراض..!

————————

صباي.. في الصحراء
أجمل ما في ذاكرتي من صباي المبكر والمتأخر رهبة الصحراء وشاعريتها.. كان أهلي بدواً يشتاقون لصحرائهم فيعودون إليها كل سنة.. يقيمون في ربوعها، إقامة دائمة، ثلاثة أو أربعة أشهر.. ينصبون الخيام وبيوت الشعر بلذة عارمة.. ويطلقون أغنامهم على هواها في ظل (رعايتنا) نحن الصبيان بالتناوب. كنت أسرح في الغنم وأطلق عليها ما أشتهي من الأسماء: الصهباء.. العجفاء.. أم ضلوع.. المرنقطة.. الجماء.. أم قرون.

أحياناً، وكان هذا من أهم مغانمي الصحراوية، أعود بالغنم إلى (مراحاتها) محملاً بوليد جديد من إحداها: (طلي) إن كان ذكراً و(رخلة) إن كانت أنثى. وبينما أنا أحمل الوليد العزيز الذي لا يقدر على الوقوف بعد، يسيل لعابي لأننا الليلة سنتعشى (اللباة)، تلك الوجبة اللبنية التي لا تُطال إلا إذا ولدت إحدى شياهنا.

شيء آخر لا يقل طعماً عن قدوم وليد الشاه الجديد، ذلك هو سقوط المطر في أيام الربيع، كانت العواصف تهز خيامنا هزاً من شدتها، إلى درجة أنه يخيّل لنا أنها ستقتلعنا نحن، ثم ماذا يحدث؟ تسكن العواصف والرعود والبروق ويكف المطر.. نخرج من خيامنا مثل كل الكائنات الصحراوية نتشمم رائحة المطر ونملّي عيوننا بالشعبان والغدران التي تجري مياهها رائقة عذبة. حياة هادئة بعد حياة صاخبة.. منتهى السكون بعد منتهى العواصف، ومنتهى الفرح بعد منتهى الخوف.. تلك هي الصحراء: ليس أقسى منها حين تعصف أو تهددك بالتيه، وليس أحن منها حين تهب نسائمها العليلة بعد عواء الريح العاتية.

وليس بعد ذلك أجمل من تلك (السواليف) على مائدة العشاء البسيطة، أو تلك الألغاز التي كان أبي وأبناء عمومته يتحدون ذكاءنا بها. كنا ننام مبكراً بعد تلك السواليف والألغاز، ونصحوا مع أغنامنا طلعة النجمة كما كانت أمي تقول وهي تحلب إحدى أغنامها لتطعمنا حليبها مع خبزة الفرن أو قرص الجمر. هل ذقتم قرص الجمر؟ إنه، حين يغمس في السمن البري، ألذ من الكافيار في برج العرب.

أضف تعليق

التعليقات