قول آخر

من أعماق الذات.. وإليها!

الإبداع هو إعطاء ما لا معنى له شيئاً من المعنى، أو اكتشاف المعنى فيما يُعتقد أن لا معنى له. وبذلك فإن الإبداع ليس شيئاً متاحاً لكل أحد، رغم أنه في متناول أي أحد، وذلك مثل الفلسفة تماماً، والفلسفة نوع من الإبداع في أية حال، فالدهشة هي مفتاح الفلسفة، كما قال أرسطو، والدهشة بداية السؤال، وفي البحث عن إجابة يكمن الإبداع. الكل يندهش في هذه اللحظة أو تلك، ولكن قلة هي من تبقى على اندهاشها وبحثها عن جواب، ومن هنا يكمن الفرق المبدئي بين الفيلسوف والعامي، بل وهنا يكمن الفرق الأولي بين المبدع وغيره. قد يكون الإبداع هبة من السماء منحها الخالق لهذا أو ذاك من الناس، ولكنها في اعتقادي هبة كان الرحمن فيها عادلاً مع الجميع، ولكن هناك من يقدر هذه الهبة ويمنحها قدرها، وهناك من يتجاهلها لهذا السبب أو ذاك. الحياة ذاتها من حولنا إبداع، لمن ملك العين وأصاخ السمع وأطاع العقل والروح معاً.

زرقة وخضرة وصفرة وحمرة. أزهار وبلابل، أشجار وبحار، سماء وأرض، ليل ونهار، وبشر في كل ذلك يتدافعون. والمبدع حقيقة لا يفعل شيئاً سوى أنه يعيش هذا الإبداع، ويحاول أن يرتشف روحه، ويخترق الحجب كي يدرك معنى ما يبدو لعين من ليس له عين وكأنه بلا معنى ولا روح. والإبداع، والحالة هذه، لا يحده حدود، ولا تقيده القيود، فقد تجده في كل ما تعارف عليه البشر من تقسيمات في علم أو فن أو أدب. اكتشاف المكتشف إبداع، واختراع المخترع إبداع، وسرد الروائي، وجماليات الناثر والشاعر، ولوحة الفنان، كلها إبداع، وكلها في جوهرها استكناه للطبيعة وما حوته من إبداع أصلي وأصيل. الحياة هي الإبداع، ومن حاول فهم معنى الحياة، فهو مبدع بالضرورة لأنه يستقي من النبع الأصيل، وعين الحياة المتدفقة.

من هنا يمكن أن نتحدث عن الرواية وجماليات السرد بصفتها جزء من جماليات الحياة. لست ناقداً أدبياً. ولا أملك من أدوات النقد إلا تذوق الجمال، والإحساس بالإبداع حيثما كان، وأحمد الله كثيراً على ذلك، إذ كثيراً من الأحيان ما تكون محاولة الحكم على الإبداع نوعاً من القيد على الإبداع، وأنا لا أحب القيود كائناً ما كانت. لذلك فإن حديثي هو حديث من يعيش في خيمة الإبداع، وليس حديث من يصف الخيمة ويقوّمها من خارجها. ومن هذا المنطلق أقول: الرواية هي ديوان الحياة، فهي انعكاس للحياة ذاتها بكل ما تحمله من تناقضات ومتناقضات، صعود وهبوط، نجاح وفشل .. بإيجاز العبارة، بكل ما تحمله التراجيديا البشرية من معان خفية لا تسلم نفسها إلا لمن بحث عنها.
الحياة ذاتها رواية أو ملحمة طويلة، وما الروائي إلا مقلد للحياة ذاتها، وباحث عن معناها في هذه الجزئية أو تلك اللقطة أو ذلك الموقف أو ذلك الإحساس. وكلما كان الروائي، أو الباحث عن المعنى، أو اللا معنى، من كل طيف وجنس مخلصاً ومحترقاً بنار الأسئلة في غوصه في أعماق الحياة وسراديبها، كان عمله أكثر قدرة على الإسهام في كشف الحجاب عن لغز هذه التراجيديا البشرية.

وحين يكون المبدع مخلصاً ومحترقاً بلهيب الأسئلة، فإن ما يبدعه يخرج من أعماق الذات وإلى أعماق الذات يعود، وذلك حين تتشربه ذوات أخرى، وهنا تكمن قيمة الإبداع في هذا المجال. أن تكون للنقاد مقاييس أخرى للحكم على العمل، وتصنيفه أو تقويمه بصفته من هذا الجنس الأدبي أو ذاك، أو حتى لا جنس له على الإطلاق، مسألة لا ترد على الخاطر حين التعامل مع الرواية وكتابتها، المهم هو أن تكون نابعة من الذات، مصورة لتراجيديا البشر في معمعة الحياة. هذا ليس تقليلاً من قيمة النقد وأدواته، بقدر ما هو القول أن الإبداع سابق على نقده، ومن معين الإبداع ينبثق النقد ويتغذى، وليس من الضروري أن يكون العكس. والمبدع الذي يضع نصب عينيه أن يتقيد بهذا المذهب الأدبي أو ذاك مثلاً، فإنه في النهاية لن يكون مبدعاً، لأن الهدف والحالة هذه ليس سبر الحياة بقدر ما هو التقيد بقالب أو نص قد لا يكون منتمياً إلى زخم الحياة. فللشعر بحور وأوزان مثلاً، وقد يكتب أحدهم قصيدة تلتزم بكل ذلك، ولكنها لن تكون قصيدة روحاً وإن كانت شكلاً. فالشعر من الشعور، وما لا يعكس الشعور لن يكون شعراً حتى وإن بدا أنه كذلك، إذ لا جسد دون روح في النهاية.

وبالمثل يمكن القول عن الرواية، أو أي إبداع فني أو أدبي آخر. فحين كتب دوستويفسكي أو تولستوي أو ديكنز أو هوجو رواياتهم الخالدة، لم يكونوا يبحثون عن أي قالب يضعون فيه إبداعاتهم، بقدر ما كان الهم هو البحث عن المعنى في كل ما يجري هنا أو هناك من حولهم، ثم أتى النقاد من بعد ذلك وصنفوا. وعندما كتب جيمس جويس أو لورنس أو كافكا أعمالهم، كانت غير منسجمة مع قوالب نقاد ذاك الزمان، ولكنها حددت قوالبهم بعد ذلك. المعيار الأول لأي إبداع أدبي هو الخروج من الذات واختراق الذات، دون قيد من قالب جامد، وذاك لا يكون إلا حين يكون العمل متشرباً لزخم الحياة، كما قيل آنفاً، ومن بعد ذلك تأتي بقية الأشياء.

القضية هنا، وإذا أردنا التشبيه مع الفارق، شيء مثل مقولة المسيح عليه السلام: «هل خُلق السبت للإنسان، أم خُلق الإنسان للسبت»، وبإجابة هذا السؤال يتحدد المعيار.

أضف تعليق

التعليقات