بيئة وعلوم

الكومبيوتر يصنع الموسيقى.. لكنّه لا يأسِر أحاسيسنا

  • 43314
  • laptop-music2

لم تعد الموسيقى بمنأى عن التطور التكنولوجي السريع الحاصل فـي العالم، فالكومبيوتر الذي كان الوسيلة المفضَّلة لتحسين كافة أنواع الخدمات بما فيها الموسيقى، دخل فـي صلب «الصناعة» الموسيقية تأليفاً وتلحيناً. المهندس جورج نحّاس٭ وافانا بهذا العرض لأبرز سمات عالم الموسيقى الجديدة.

فـي مكان ما من وسط مانهاتن جلس عدد من الموسيقيين الشبّان، يحتويهم جوّ حالم، وتجمعهم برامج الكومبيوتر والمعدات الإلكترونية والتوصيلات وأقراص الليزر المدمجة وكل ما تحتاجه موسيقاهم الجديدة. كانوا يتبادلون الملفات الصوتية وليس النصوص. تلتقي أعينهم ببعضها، ثم تفترق لتحملق فـي شاشات الكومبيوترات النقالة «اللاب توب».

إن الموسيقى التي تُؤلَّف هنا هي نفحة من موسيقى المستقبل، كما يتبين من إيقاعاتها المركَّبة وطعمها الحادّ. إنها موسيقى إلكترونية، فقد دخل الكومبيوتر عالم الموسيقى موزعاً ومسجلاً ومصححاً لنشاز أو بروز أصوات آلات دون غيرها، أو خافضاً لأخرى ومختصراً وقت التسجيل وإعادة التسجيل، من دون أن ننسى قدرته على تقديم المؤثرات الصوتية وحتى التحكم فـي نوعية صوت المغنِّي.

أسسه العامة
تدخُّل الكومبيوتر فـي الموسيقى يتم بواسطة عاملين أساسيين هما: بطاقات الصوت (Sound Cards) الموجودة داخل الكومبيوتر أو المتصلة به، وبرامج الكومبيوتر واسعة الإمكانات التي تسهّل كثيراً التوزيع الموسيقي والتسجيل الرقمي فائق الدقة، من دون حاجة المؤلف الموسيقي فـي أكثر الأحيان إلى دراسة موسيقية عالية لوضع عمل موسيقي بتقنية عالية وصحيحة والذي كان في الماضي القريب، صعباً حتى على المحترفين القيام به.

تتلقى بطاقة الصوت نوعين من التسجيلات: «ميدي» (Midi) و«ويف» (Wave) على درجة مختلفة من الحساسية، أي من 61 بايت إلى 42 بايت وعلى ذبذبة تصل إلى 84 كيلو هيرتز (مع العلم أن الأقراص الرقمية المدمجة المتوافرة فـي الأسواق تسجل عادة على 61 بايت و 44 كيلوهيرتز). وهذا ما يسمح بالتسجيل على عدد كبير من المسارب. والبرامج المهنية المتوافرة تسمح بتسجيل ما لا يقل عن 652 مسرباً، وتتيح تسجيل صوت كل آلة على مسرب معين، ثم يعاد جمعها وخلطها بواسطة المازج (Mixer)، والتحكم بها وإخراجها على شكل ستيريو محيطي (Surround)، وهو شكل حديث يوزع الأصوات على سبعة مكبرات ومضخمات للصوت. ولعل من أشهر البطاقات المستعملة تجارياً لهذه الغاية هي فـي الوقت الحاضر «ديجي ديزاين بروتولز» (Digidesign Protools) و «كرييتيف» (Creative).

وللإفادة من البطاقة الصوتية، من الضروري وجود برامج تقوم بعملية التسجيل والتوزيع الموسيقي. ومن أشهر هذه البرامج: Cakewalk, Logic, Turtle, Beach, Cubasis, Audio Protools وغيرها الكثير.

أمثال هذه البرامج صارت تنتجها شركات صغيرة يؤسسها أصدقاء باستثمارات قليلة ومن دون تدخل رأس مال ضخم، فهناك مثلاً فـي برلين شركة صغيرة أسسها زوجان ألمانيان عام 6991م، تخصصت فـي تصميم البرامج الموسيقية للعامة. وقد تجاوزت إصداراتها العشرة برامج، إضافة إلى الموسيقى الإلكترونية على أقراص مدمجة عبر أوروبا. ويدّعي الزوجان الألمانيان أنهما ينظران إلى برامج الكومبيوتر كعمل فني إبداعي أكثر منه صناعة آلة.

إن هذه البرامج الموسيقية التي تتضمن بدورها عدداً هائلاً من المسارب (Tracks)، تسمح بتسجيل كل آلة أو صوت على مسرب، بحيث يمكن التحكم بكل خط فيها من ناحية القوة والضعف والسرعة والبطء، وتغيير الطبقة الصوتية إلى أعلى أو أسفل وتطبيق عملية التناغم (الهارموني)، حتى وإن كان المؤلف الموسيقي لا يعرف عنها شيئاً، وكذلك إدخال المؤثرات الصوتية عليها، المعروفة بالجوق والصدى والترداد.. وإضافة إلى ذلك، يمكن التحكم بنوعية الصوت، حتى صوت المغني مثلاً، وتحويله إلى صوت أرفع أو أعرض، وتصحيح النشاز فـي حال حصوله عند العزف أو الغناء من دون أن يضطر العازف أو المغني إلى إعادة التسجيل، كذلك نقل التسجيل من مسار إلى آخر.

وفـي تسجيل «ميدي» يكفـي العازف أن يسجل اللحن الموسيقي مرة واحدة ثم يتم بواسطة هذه البرامج اختيار نوع الآلة (كمان، فلوت، ساكسفون أو حتى أوركسترا كاملة) التي يريدها الملحن من دون أن تعزف مرة ثانية، ويطبق هذا الاختيار على أي مقطع من اللحن المسجل. ويبقى أمرٌ مهم آخر هو أن هذه المسارات المسجلة يجمعها ويخلطها الـ (Mixer) الموجود فـي هذه البرامج، مع التحكم بكل مسار من حيث إبراز الصوت أو خفضه، إضافة إلى المؤثرات التي تحدثنا عنها سابقاً وإخراجها للمستمع بالشكل الذي يريده المؤلف الموسيقي والموزع.

أما تسجيلات الموجات الصوتية «ويف» التي تقوم على التسجيل المعروف بواسطة ميكروفون، فالبرامج المتوافرة تعطي ميزات كثيرة، منها قدرة عامل الكومبيوتر على زيادة أو خفض سرعة العزف أو الغناء من دون أي تغيير فـي الطبقة الصوتية، أو تغيير طبقة الصوت من دون المساس بالسرعة، وتركيز الموقع الملائم للصوت من حيث قوته، أي قربه أو بعده من الميكروفون وغير ذلك.

وتسمح البطاقة الصوتية والبرامج الخاصة بها بالقيام بعملية (التوليف) بدقة فائقة. وكانت عملية التوليف تعتبر من أصعب المهام التي يقوم بها مهندس الصوت للحصول على تسجيل لا يفقد فيه الحرف أو الوزن الموسيقي شيئاً من نوعيته، أو يؤثر فـي التوقيت الزمني عند حذف أي جملة أو كلمة أو مقطع من اللحن.

تسارع تطورها .. مشكلة
منذ فترة طويلة توقع الكثيرون ظهور هذا النوع من الموسيقى، وها هي اليوم تبدو حقيقة، ولكنها مشكلة، فبرامج الآلات والأصوات صارت سيلاً لايتوقف، وقد تتجاوز سرعة الاختراع استيعاب الناس وتفهمهم للأعمال نفسها. ونشير فـي هذا الصدد إلى أن اكتشاف أسرار العزف على الجيتار واكتساب أسلوب خاص يتطلب من العازف سنوات من الدراسة والتجريب، ولكن برنامجاً واحداً من هذه البرامج يتيح عدداً غير محدود من المؤثرات القوية على مماثل الجيتار الخيالي، فيتساءل روبرت هانكه من فريق «مونوليك»: «هل أذهب إلى الأستوديو لأعمل أغنية، أم أجلس لأصمم برنامجاً لعمل الأغنية التالية؟»، غير أنه يجيب بنفسه عن هذا السؤال باقتراح القيام بالعملين معاً.

أما ميغيل دي بيدرو، الذي يدير مجموعة تايغر بيت فـي كاليفورنيا، فيتذمر من تسارع التطورات على صعيدي إنجاز برامج جديدة وقدرات هذه البرامج. ويقول: «ما إن نتعلم برنامجاً جديداً حتى تظهر عدة برامج جديدة وقوية أخرى.. كم أتمنى أن يتوقف كل شيء ولو لعامين فقط.. لا برامج جديدة، ولا كمبيوترات أسرع ولا تقدم آخر، ثم ننظر ماذا يحدث!» فكلما كانت الخيارات واسعة، كلما كان ذلك مدعاة للتغاضي عنها ونسيانها. ولهذا يتخوف الموسيقيون المستخدمون لهذه التقنية من المستقبل الذي يصنعونه بأنفسهم الآن.

وأخيراً، قد يظن المرء أن قدرات الكومبيوتر محصورة بالموسيقى الغربية، وأنها عاجزة عن التأثير فـي موسيقانا الشرقية، التي تتميز بالأوزان الموسيقية والآلات غير المستعملة فـي الموسيقى الغربية، كالعود والقانون والناي والآلات الإيقاعية، والأهم (الربع تون) الذي يميز أهم المقامات العربية كالرست والبيان والسيكا وغيرها، إلا أن برامج الكومبيوتر الموسيقية تتيح استعمالها جميعها من دون أي عائق.

لكن على الرغم من المنافع الجمّة التي أمّنها الكومبيوتر للموسيقى، يبقى شيء واحد لا ولن يستطيع الكومبيوتر أن يوفّره، وهو التفاعل النفسي والإحساس الإنساني الذي يضيفه الغناء والعزف الحي الجماعي منه والفردي، وكذلك أصوات الآلات الطبيعية التي على الرغم من التطور الهائل فـي الإلكترونيات إلا أنه لم يستطع أن يلامس الحس الطبيعي لها والدخول من خلالها إلى أعماق الوجدان.

—————————

كادر

غياب المضمون أشد خطراً على الموسيقى

يتعرض قطاع الموسيقى المسجلّة إلى عوامل تهدّد وجوده، وذلك لعزوف الناس عنه إلى مجالات ترفيهية أخرى. وربما يفسّر هذا تهافت المطربين العرب الجدد على ما يُسمّى «الفيديو كليب» في محاولة لإيجاد منافذ أكثر جاذبية لأعمالهم، إضافة للسمع.

لكن مساحات الموسيقى المسجلة، التراثية أو الكلاسيكية الغربية، آخذة في الانحسار، خاصة في الغرب. وأول أسباب هذا الانحسار على مستوى الدخل، للجهات المنتجة، كانت القرصنة بشكلها القديم والجديد.

وقد أدت هذه الظاهرة في (الأسواق الضعيفة) نسبياً مثل أسواق بلادنا، إلى إحجام بعض الفنانين عن الإقبال على التسجيل خوفاً من أن يتكلفوا التسجيل، ثم يجدوا أن الرابح هو الجهات غير المخولة.

بدأت مشكلة القرصنة الموسيقية، وهي نسخ ألحان وأغانٍ دون دفع حقوق ملكية، تظهر خاصة مع شيوع الكاسيت في الستينات. ومع مرور الوقت، هبطت أسعار الكاسيت غير المسجل، مما جعل شراؤه مسجلاً يهبط بشدة. وتكررت القضية مع ظهور الفيديو وظهور الأفلام المسجلة بدون حقوق نشر، وغدت ظاهرة شائعة خاصة في بلدان العالم الثالث، وعادت وظهرت مع الـ CD الموسيقي كذلك.

هنا استفحلت حجماً مع دخول دول جنوب شرق آسيا، بما في ذلك الصين، إلى هذا المجال بأحجام إنتاج ضخمة. وفشلت أغلب الحملات في التأثير على حجم انتشار ظاهرة القرصنة.

وبينما كانت المعركة أشدّ ما بين شركات الإنتاج الغربية «والقراصنة» المنتشرين في كافة أنحاء العالم، إذ بمسرح الأحداث تطفو عليه ظاهرة لم تكن على الخاطر والبال، وهي القرصنة من خلال الإنترنت.

اليوم تعاني شركات الإنتاج من أزمة كبيرة، لأنها عجزت إلى الآن عن أن تجد أية صيغة تستطيع من خلالها أن توفر خدمة، خاصة للجيل الأكثر إقبالاً على الموسيقى وهو جيل الشباب، يكون لها فيها مقابل ولو بسيط، وهي الآن تجد نفسها فعلاً مهددة في بقائها، وقد زاد من تهديد قطاع الموسيقى المسجلة (القانونية) على ما يبدو، أن الناس يميلون هذه الأيام إلى تخصيص قدر أكبر من ميزانيتهم (الترفيهية) إذا جاز التعبير لـ DVD والكمبيوتر، أو الذهاب إلى المسرح والسينما بدلاً من شراء الأقراص الموسيقية المدمجة CD’s.

لكن الأهم من كل ما سبق على ما يبدو أن الضعف المتزايد في المضمون الثقافي هو السبب المباشر الذي أخذت شركات الإنتاج الكبرى في الغرب تقف أمامه بجدية شديدة، ولا زلنا هنا نعلق عليه من منطلقات ثقافية وحسب، وقد اكتشفت هذه الشركات أنها أهملت لسنوات طويلة المضمون الإبداعي للأعمال الفنية مما أدى مع الوقت إلى انحسار الإقبال العام عليها وابتعاد قطاع كبير من المشترين الحقيقيين عن الشراء.

وبينما تنصبّ الجهود على محاولة إيجاد صيغة لمقاومة «رشح» الإنترنت، توضع جهود أكبر في البحث عن المعنى في اللحن والكلمة.

أضف تعليق

التعليقات