الثقافة والأدب

معهد العالم العربي في العاصمة الفرنسية، أيقظ ذكرى:
“باريس.. مربط خيلنا”

  • trace-2

فـي زمن يشهد إرباكات عديدة ناجمة عن جهل شعوب العالم بثقافات بعضها البعض، تتخذ مراكز الحوار الثقافـي والحضاري ما بين هذه الشعوب أهمية كبرى، لما يناط بها من مسؤوليات على صعيدي التنوير واختصار المسافات ما بين الحضارات المختلفة. مراسلنا ماجد نعمة يحدثنا هنا عن واحد من أبرز هذه المراكز:

«باريس مربط خيلنا..» كثيراً ما ترددت هذه المقولة العنترية على ألسنة العرب فـي حديثهم عن العاصمة الفرنسية، أو من خلال إقامتهم فيها. ولكنّ زوار باريس فوجئوا مؤخراً، وتحديداً بالقرب من «حديقة النبات» الواقعة على الضفة اليمنى لنهر السين، بلوحة عملاقة تغطي كل الواجهة الأمامية لمعهد العالم العربي، وتمثّل حصاناً عربياً أصيلاً كما رُسم فـي إحدى المنمنمات التقليدية. وكانت هذه اللوحة الرائعة المنتصبة بفخر ووقار إعلاناً عن المعرِض الذي نظّمه واحتضنه المعهد بعنوان «الفروسية العربية فـي فنون الشرق والغرب». ضمّ هذا المعرض مجموعة من أجمل القطع الأثرية والتحف الفنية المتعلقة بالحصان العربي المُعارة من متاحف العالم فـي أوروبا وأمريكا والوطن العربي. وهو الأول، بهذا الحجم وهذا الطموح، الذي ينظم حول هذا الموضوع. ويكفي لإيضاح ذلك أن نشير إلى أن عدد زائريه خلال ثلاثة أشهر فقط فاق نصف المليون زائر.

إن كان الجيل الحالي من الفرنسيين قد استكشف من خلال هذا المعرض بعض ملامح الفروسية العربية، فإن أجدادهم قد سبقوهم إلى ذلك ميدانياً. وفـي هذا المجال يقول فيليب كاردينال أحد كبار المسؤولين عن المعهد: «إنّ الحروب الصليبية كانت فـي هذا المجال، كما فـي مجالات عديدة أخرى، سبباً فـي صدمة ثقافية حقيقية، حيث وجد النبلاء الصليبيون فـي مواجهتهم فرساناً عرباً ومسلمين يملكون مهارات كبيرة فـي الكَرّ والفَرّ. وبفضل هذه الحروب، لم يتعلم الأوروبيون من العرب قواعد القتال والفروسية فقط، بل أخذوا أيضاً مفاهيمها وقيمها الأخلاقية مثل الشهامة والشجاعة والكرم واحتقار الغدر والجبن وما إلى ذلك». وها هو معهد العالم العربي يذكّر الفرنسيين وزوارهم من سياح أجانب بعالم الفروسية العربية، ويهمس فـي آذانهم بما للعرب من فضل عليهم.

بضاعتنا ردّت إلينا. وهذا يقودنا إلى تسليط الضوء على هذه المؤسسة الحضارية الثقافية العاملة بنشاط كبير على تعريف الغرب الأوروبي بالحضارة العربية الإسلامية.

جذوره التاريخية
الواقع أن فكرة تأسيس هذا المعهد ترتبط فـي شكل ما بطموح تاريخي لدى فرنسا الملكية أولاً، ثم الثورية، فالإمبراطورية، ثم الاستعمارية لاحقاً، فالجمهورية العلمانية حالياً، بالانفتاح على العالم العربي والإسلامي انطلاقاً من الفكرة القائلة بأن هذا العالم يشكل عمقاً حضارياً واستراتيجياً، تستطيع من خلاله تدعيم مواقعها فـي مواجهة خصومها داخل أوروبا أو ما وراء البحار. وهذا ينطبق على سياسات كل حكام فرنسا التاريخيين، من شارلمان ومراسلاته مع هارون الرشيد إلى نابليون الثالث فـي تحالفه الشهير مع الخديوي اسماعيل باشا وخوضهما معاً الحرب فـي المكسيك، مروراً بالصليبيين الذين حكمت ممالكهم مناطق من المشرق العربي لقرنين من الزمن قبل أن يُهزموا أو يندمجوا فـي شعوب المنطقة، ونابليون الأول الذي راوده حلم بناء إمبراطورية إسلامية انطلاقاً من مصر.

وعلى سبيل المثال نشير إلى أن الحملة النابليونية على مصر، والتي يعتبرها بعض المؤرخين، عن حق أو خطأ، بداية النهضة العربية الحديثة، لم تكن مجرد حملة عسكرية، فقد رافق نابليون جيش من العلماء قاموا بأوسع مسح جغرافـي وتاريخي وعمراني لمصر، ونشر هذا المسح فـي عدة مجلدات ضخمة، ابتكرت فـي سبيل طباعتها آلات خاصة، وكان نشرها حدثاً ثقافياً وعلمياً وتقنياً، دوّت أصداؤه فـي العالم بأسره آنذاك.

وبعد أن تخلصت فرنسا من إرثها الاستعماري المشين بتحرر الجزائر عام 2691م، بدأت فـي المرحلة الديغولية تعيد تأسيس سياستها العربية. وبما أن هذا الانفتاح كان يتطلب تأييداً شعبياً لم يكن متوافراً آنذاك، كان لا بد من إنشاء مؤسسة ثقافية طموحة تتوجه إلى الناخب الفرنسي لإقناعه بقدر ما تتوجه إلى المهاجر العربي وعبره إلى الرأي العام العربي لاستمالته.

لم يكن تنفيذ مثل هذا المشروع فـي البداية سهلاً، خاصة وأنه كان محاطاً بمعارضة شديدة من بعض أطراف الدولة ومن قسم من الرأي العام. ونذكر على سبيل المثال أنه عندما وقع اختيار الأرض المخصصة لبناء المعهد فـي الدائرة الخامسة عشرة، جوبه هذا الاختيار بموجة من الاحتجاجات الشعبية، مما دفع برئيس بلدية باريس آنذاك جاك شيراك إلى اختيار موقع آخر ملاصق لجامعة «جوسيو» فـي الحي اللاتيني، وتمرير المشروع على أنه مجرد مؤسسة أكاديمية بحثية، إذ كان كل ما يُذكرّ بالعرب والإسلام فـي نظر معارضي المشروع، مرتبطاً بالتخلف الاجتماعي والبؤس الحضاري.

بطاقة هويته
افتتح معهد العالم العربي فـي باريس رسمياً فـي ديسمبر 7891م، ومهمته الأساسية التعريف بالثقافة العربية والمساهمة فـي انتشارها وتطويرها وتكوين جسر ثقافـي حقيقي بين فرنسا والوطن العربي. ورسم المعهد لنفسه ثلاثة أهداف أساسية هي:

– تطوير دراسة العالم العربي والمساهمة فـي التعرف إليه والتعريف به فـي فرنسا لغة وحضارة وثقافة.

– تشجيع المبادلات الثقافية والتواصل الحضاري بين فرنسا والوطن العربي فـي مجالات العلوم والتقنيات الحديثة.
– تمتين العلاقات بين فرنسا وأوروبا من جهة والوطن العربي من جهة أخرى.

وعلى الرغم من أن المعهد يُدار مناصفة بين الدولة الفرنسية والدول العربية عبر مجلس السفراء العرب، فإنه ليس مؤسسة دولية مثل اليونسكو، بل هيئة خاضعة للقانون الفرنسي.
المعهد فـي دوره الفريد
أدّت جملة من الأحداث السياسية والعسكرية فـي العقود الأخيرة إلى انطواء مُدمِّر على الذات على ضفتي البحر الأبيض المتوسط. وفـي العام 1991م، سُئل ميشال جوبير أحد أقطاب الديغولية التاريخيين عما بقي من سياسة فرنسا العربية؟ فأجاب: «باربيس روشيشوار» .. وقد استحق على هذه الجملة التهكمية جائزة أفضل عبارة سياسية لذلك العام. ولفهم ما كان يقصده نشير إلى أن حي باربيس روشيشوار الباريسي، الذي تقطنه غالبية عربية إسلامية، يكاد يختصر كل مآسي الهجرة العربية الفاشلة فـي فرنسا من فقر ومتاعب اجتماعية ومهنية وتهميش ثقافـي واقتصادي وسياسي.

وفـي تلك السنوات كانت الجالية العربية والإسلامية التي تضم نحو ستة ملايين نسمة، تشعر، حتى أولئك الذين حصلوا على الجنسية الفرنسية، أنها ما زالت بعيدة جداً عن الحصول على حقوق المواطنة الكاملة، نظراً للاختلافات الثقافية ما بينها وبين محيطها.

وفـي هذا المجال الخطير، لعب معهد العالم العربي دوراً كبيراً فـي ردم الهوة الكبيرة التي كانت تتسع يوماً بعد يوم بين الجالية العربية والإسلامية فـي فرنسا من جهة وبين المجتمع الفرنسي من جهة أخرى.

فعلى مدى خمسة عشر عاماً، أصبحت المعارض الكبرى التي ينظمها المعهد ذات مقاييس ثقافية عالمية تجذب إليها مئات الآلاف من الزائرين، مثلها مثل المعارض الكبرى التي ينظمها متحف اللوفر أو مركز جورج بومبيدو، أو القصر الكبير .. من مصر الفرعونية إلى مصر الفاطمية أو القبطية، أو سوريا مهد الحضارة الإنسانية، والسعودية بمدنها وتراثها الإسلامي، إلى اليمن القديم والمغرب وتونس والجزائر .. كل هذه الدول استطاعت أن تعرض كنوزها الفنية والجوانب المضيئة من تراثها على جمهور متعطش.

وقد وَلّدت هذه المعارض الكبرى لدى الجاليات العربية فـي فرنسا شعوراً بالاعتزاز بالانتماء إلى حضارة عظيمة كانت لها إسهامات أساسية فـي مسيرة الحضارة الغربية التي تعيش اليوم فـي أحضانها. كما أنها من جهة ثانية قدّمت للجمهور الغربي عامة والفرنسي خاصة، صورة مشرقة عن الحضارة العربية التي كانت فـي أساس الحضارة الغربية علمياً وفكرياً وفنياً. ولم يقتصر نشاط المعهد على المعارض الكبرى فقط، بل ساهم فـي طبع مئات الكتب و(الكاتالوجات) الفنية الراقية عن العالم العربي، وساهم فـي ترسيخ فكرة واضحة عن الثقافة العربية فـي أذهان جيل كامل من الفرنسيين والأوروبيين.

وليس من المبالغة فـي شيء القول أن هذا المعهد بهندسته المعمارية الرائدة وخدماته الثقافية الثرية والمتنوعة أصبح اليوم معلماً بارزاً من معالم باريس الثقافية الأكثر ارتياداً وجاذبية. وفوق هذا وذاك، أصبح معهد العالم العربي فـي باريس خلال هذه الأيام العصيبة معقلاً من معاقل الحوار بين الحضارات التي لا بد من الحفاظ عليها وحمايتها مهما غلا الثمن.

—————

كادر

المبنى.. الأقسام والنشاطات
منذ القرن الثامن عشر وحتى اليوم اغتنت العاصمة الفرنسية بأكثر من مائة معلم معماري وفني مستوحى من الفن العربي الإسلامي. ولكنّ مبنى معهد العالم العربي بهندسته الرائدة المجددة وبموقعه المتميز يعتبر بحق أهم معلم معماري عربي فـي الغرب، إذا ما استثنينا بالطبع الكنوز المعمارية التي خلّدها العرب فـي الأندلس.

صمم المعهد الذي يرتفع فـي قلب باريس التاريخية والثقافية العريقة مجموعة من المهندسين المبدعين: جان نوفيل، جيلبير ليزنيس، بيير سوريا وارشيتكتور ستوديو. وقد جاء جامعاً لتأثيرات ثقافية وفنية متعددة، فهو يزاوج بشكل متناسق بين التقليد والحداثة، بين «الجوانية» التي تميز الهندسة المعمارية فـي الوطن العربي وبين التأثيرات والانفتاحات الغربية على هذه الهندسة.

واجهة البناء الشمالية تتوجه نحو باريس التاريخية وترمز إلى العلاقة مع المدينة القديمة الحاضرة فـي رسومات مُعبِّرة، فـي حين أن الواجهة الجنوبية تستوحي وتستعير النماذج والأنساق التاريخية للهندسة المعمارية العربية من خلال 042 مشربية تنفتح وتنغلق بتغيّر الساعات.

ويضم المعهد متحفاً متميزاً للفن العربي الحديث ومكتبة ومركز توثيق ومعلومات وقاعات محاضرات وعرض ومتحفاً للسينما العربية وقسماً للموسيقى العربية وقسماً للفن الفوتوغرافـي وقاعة للصوت والصورة ومكتبة لبيع الكتاب العربي أو المتخصص بالوطن العربي وقسماً للنشر ومركزاً لتعليم اللغة العربية.

ويقوم المعهد بتنظيم معرض دوري للكتاب العربي ومهرجان للسينما والشعر وتنظيم نشاطات للأطفال وندوات ومؤتمرات متعددة واستقبال العروض الفنية العربية، إضافة إلى إصدار مجلات متخصصة أبرزها مجلة «قنطرة».

أضف تعليق

التعليقات